ما أبعد من الإسلام السياسي أو الإسلام المذهبي
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
يتردد في السنوات الأخيرة قول لا يمتلك حجته العلمية وإنما يعتمد أصحابه عواطفهم وشهواتهم، وهو القول بـ"نهاية الإسلام السياسي"، ويُبدي كثيرون سعادتهم بهذه "النهاية" بل ويفاخر البعض بأنهم ساهموا في تحقيق هذا "الإنهاء".
وبالعودة إلى مضمون التسمية، نجد أنها تسمية قاصرة، فأصحابها عاجزون عن فهم الإسلام بما هو فلسفة حياة وبما هو دين، إنه ليس مجرد نظرية تتاح لأصحابها فرصة التجريب، إنه عقيدة، وليس عقيدة جماعة أو منظمة أو حزب، إنه عقيدة مئات الملايين من البشر، وفيهم علماء وفلاسفة ورجال قانون وعلماء شريعة ومفكرون ومهندسون وأطباء وإعلاميون ورياضيون وفلاحون ورجال أعمال، وكل هؤلاء يعتقدون بأن الإسلام هو نظرية في الحياة، وهو جملة من الأحكام والقواعد والقيم والمبادئ الكبرى التي تنظم حياة الناس وترسم لهم سبيل السعادة وتنبههم إلى منزلقات الشقاء، وهؤلاء يعتقدون أن كمال الإيمان لا يكون إلا بالتزام عملي بتلك المبادئ والأوامر والنواهي.
إن تسمية "الإسلام السياسي" هي تسميةٌ من وضع من يستعجل إنهاء "ظاهرة" عجز عن فهمها ويتمنى زوالها، فيعتمد أسلوب الأطفال القُصّر حين يصنعون دمية من ورق يسمونها "غولا"، ثم يُجهزون عليها فيقدرون بسرعة فائقة على تمزيقها ويتنفسون الصعداء ويشعرون بنشوة الانتصار، ليكتشفوا لاحقا أنهم لم يصبحوا أبطالا حقيقيين ولم يكبروا بسرعة ولم يتحرروا من عجزهم ومن خوفهم الذي يسكنهم.
إن الإسلام بما هو عقيدة يزداد انتشارا لا في مستواه الشعائري، بل في معانيه التي تُضفي على الحياة معنى وعلى الوجود بهاء وعلى الإنسان قيمة إيجابية في زمن يراد له أن يكون ماديا يتم فيه تشيئة كل "شيء" وسلعنة كل قيمة. إن فلاسفة الحياة وفلاسفة الأخلاق ومنتجي الأفكار والمعاني يدركون جيدا أن العالم يتجه نحو الإسلام العظيم، وحدهم التافهون يتمنون زوال القيم وهيمنة اللا معنى وفناء من يُذكرهم بكونهم أشقياء وتافهين وبُلهاء.
من يتوهمون نهاية الإسلام في تجارب سياسية متعثرة وعن طريق "مشاريع" طوباوية مُقعَدة، سيتفاجأون بولادة تعبيرات للإسلام أشمل من السياسة وأعمق وأقدر، وسيجدون أنفسهم عاجزين ليس فقط عن فهمها بل وعن مواكبتها؛ بسبب أعطابهم النفسية والذهنية وبسبب كونهم أصبحوا غير مؤهلين لمواكبة زمن المعنى وعصر القيمة، حيث ولادة الإنسان الجديد، وستظل حظوظ ترميم ذواتهم متاحة لكون الإسلام العظيم في حركته الداخلية وفي مسار التاريخ باتجاه تقدمي؛ يقذف بالنفايات ويصطحب كل عناصر الحياة ومظاهر الجمال التي لا يخلو منها كائن هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء.
لقد تفاجأ العالم كله، وخاصة من بشّروا بنهاية الوجود الإسلامي، بترجمة للإسلام قوية وحداثية بل وإعجازية، إنها ترجمة "الإسلام المقاوم" الذي بدا معبرا عما هو أبعد من "الإسلام السياسي" وعما هو أشمل وأعمق من "الإسلام المذهبي".
معركة "طوفان الأقصى" أدخلت على العالم الإسلامي هذه الأيام شعورا بنشوة الانتصار، وأنه لم تعد الهزيمة قدرا إسلاميا، ولم يعد الانتصار مستحيلا، لقد قدمت المقاومة درسا تطبيقيا في الشجاعة وفي الصبر وفي المهارات العالية، فباتت يد المقاومين هي العليا وصار عدوهم في وضعية المهزوم المرتعب يستجدي عطف العالم ويطلب دعم حلفائه رغم ما كدّسه من أسلحة متطورة فتاكة.
متصدرو المعركة هم حركات إسلامية نشأت على عقيدة تجعل الإنسان مقصدا محوريا في شريعتها، الإنسان المتحرر من العبودية ومن الاستبداد ومن الاحتلال ومن غرائزه، عقيدة لا تقبل لمعتنقيها المذلة والاستسلام، وتدعوهم لاكتساب مصادر القوة من علم واقتصاد ومهارات تناسب مقتضيات كل مرحلة وكل معركة.
معارك التحرر توفر كيمياء وحدة الشعوب والأمم، وهي معارك تسمو على ما هو ذاتي وما هو حزبي، وما هو أهواء وهويات جزئية من جهوية ومذهبية وعرقية.
بناء الإنسان المقاوم يحتاج ثورة في الأفكار والمعاني والقيم، ويحتاج إعادة النظر في برامجنا التربوية والثقافية وفي خطابنا الديني وفي أداء وسائل الإعلام، وفي دور المنظمات والجمعيات حتى تكون منابت وعي و"مدارس" لتخرّج أجيالا جديدة قادرة على خوض معارك المستقبل.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المقاومة التحرر المقاومة الإسلاميين التحرر مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإسلام السیاسی
إقرأ أيضاً:
كيف يُعاد تشكيل صورة الإسلام في أوروبا؟
في العام 2016، أصدر فولكر كاودر، أحد أبرز وجوه الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، تصريحًا يُعبّر أكثر من غيره عن النظرة الأوروبية إلى المهاجرين من بلاد مسلمة: "المسلمون ينتمون إلى ألمانيا ولكن ليس الإسلام". والواقع أن مثل هذا التصريح يقول الكثير، ليس عن مكانة الإسلام في أوروبا، أو المكانة التي يحق له أن يحتلها أو لا يحتلها، ولكن عن مكانة المسلمين أنفسهم.
ثلاثُ سنوات قبل ذلك، كان فيلسوف ألماني، هو بيتر سلوتردايك، قد عبّر عن موقف مماثل، في كتاب يحمل عنوان: "في ظلال سيناء: هوامش حول أصول وتحولات العضوية الشاملة"، يقول إن المسلم لا يمكنه أن يكون مُسلمًا ومُواطنًا في دولة ديمقراطية في الآن نفسه، ولكنه لن ينبس طبعًا ببنت شفة تجاه المسيحيين أو اليهود.
أما حزب البديل من أجل ألمانيا، فإن قادته ما برحوا يرددون أن الإسلام لا يقبل الاندماج في المجتمع الألماني، وأن الإسلام يمثل خطرًا على ألمانيا.
ولكن ما تقوله كل هذه التصريحات، وما يدركه من عاش في هذا البلد وخبر مؤسساته وسياساته وسردياته الرسمية من قرب، هو أن القوى السياسية في البلاد تفعل كل شيء حتى لا يحقق المسلمون أنفسهم كقوة ثقافية في هذا البلد، أو حتى لا يكون لهم صوت يساهم في تشكيل الفضاء العام.
إعلانوالإستراتيجيات غير المعلنة لمحاربة النخب من أصول مسلمة كثيرة، ومنها تزييف أصواتهم الحقيقية، وحصر حضورهم في طابور خامس، يُكرّر السردية السائدة، ويُزيّف أسئلة الاندماج، ويقف حجر عثرة أمام حوار مجتمعي حقيقي ينتهي بالمسلمين إلى الإحساس بانتماء حقيقي إلى هذا البلد وإلى أوروبا عمومًا.
إن مثل هذه الحملة غير المعلنة، لا تمثل فقط عقبة أمام الاندماج، بل إنها تمثل – في رأيي – عقبة أمام "ثقافة الصراع " Streitkultur، التي يتغنى بها الإعلام الألماني بمناسبة وغير مناسبة، لأن أحد شروط هذه الثقافة هو النقد والنقد الذاتي، والسياسات الثقافية السائدة تحرم المهاجرين من ممارسة حقهم في النقد، وأعني نقد سياسات الاندماج التي تحرمهم من حقهم في لغتهم وثقافتهم ودينهم، وحقهم في النقد الذاتي، وأعني بناء علاقة نقدية ولنقل ديمقراطية بهويتهم الدينية والثقافية، لأنها تحكم عليهم منذ البداية بالإقصاء والتهميش، فلا يجدون ما يتشبثون به سوى هويتهم في شكلها غير النقدي.
قد نبحث طويلًا في أسباب هذا الموقف، ولكن لن نجد له تفسيرًا إلا في نقد سوسيو-اقتصادي بنيوي لظاهرة الهجرة، لا يكتفي بالمقاربة الثقافوية للمسألة. والواقع، فإن الهجرة بشكلها الحالي، ترتبط عضويًا بالنظام الرأسمالي وتحولاته وتناقضاته، تمامًا كما لا يمكننا أن نفهم الحروب الحالية بعيدًا عن طبيعة هذا النظام.
هذا ما عبر عنه المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكه منذ القرن التاسع عشر، وهذا ما أكدته الأدبيات الماركسية أيضًا، ومؤخرًا سيربط الفيلسوف التشيكي سلافو جيجيك ظاهرة اللجوء بالرأسمالية المعلومة، وألعابها الجيوسياسية.
ولكن ما يهمنا هنا هو البعد الثقافي لهذه القضية، وهو الذي يمكننا أن نجد مدخلًا لدراسته فيما كتبه العروي بكتابه: "الإسلام والحداثة"، وخصوصًا وقوفه عند المكانة الهامشية التي يخصصها تاريخ الأفكار الغربي حتى اليوم للمساهمة التي قدمتها الحضارة العربية – الإسلامية.
إعلانيقدم العروي مثالًا مُعبّرًا، يقول الشيء الكثير عن عملية تأريخ تطبعها الأحادية والاختزالية. إنه كتاب: "الأطلس الكبير للمعمار العالمي"، والذي صدر بلغات أوروبية عديدة. يندهش العروي من المكانة التي تم تخصيصها للفن المعماري الإسلامي، ويكتب: "من الواضح أن المؤلفين يهدفون بوضوح إلى الموضوعية، ومع ذلك فإن النتيجة من وجهة نظرنا غير مرضية.
فبينما خُصص أحد الفصول للعمارة القوطية الألمانية، وفصل آخر للعمارة القوطية الإنجليزية، وفصل لعصر النهضة الفرنسية، وفصل آخر لعصر النهضة الإسبانية، وتم التمييز بعناية بين العمارة الدينية الأرمينية والعمارة البيزنطية، لم يخصص سوى فصل واحد للعمارة الإسلامية.
في إحدى الحالتين، يبرز بوضوح التطور في الزمان والتنوع في المكان؛ وفي الحالة الأخرى، يتم التأكيد على الوحدة والاستمرارية، أكثر مما هو الحال في الصفحات المخصصة للصين واليابان".
ثم يتساءل العروي عن الأسباب التي تقف خلف هذه الرؤية اللاتاريخية للحضارة الإسلامية والتي نلتقيها عند المؤرخين والفلاسفة والأنثروبولوجيين والمستشرقين، وستشغل في العقود الأخيرة وسائل الإعلام الغربية، قبل أن يربط ذلك بحكم مسبق يسكن الوعي الثقافي الأوروبي بالإسلام.
ما الذي يقوله هذا الحكم المسبق؟ ما الذي يريد أن يقوله لنا وللعالم هذا الحكم المسبق؟ يجيب العروي: " إذا كان الفن الغربي هو التطور والتنويع، فإن الفن الإسلامي على النقيض من ذلك منهجيًا يجب أن يكون الثبات والتكرار والرتابة، فهو ليس فقط النتاج التكميلي وغير النمطي، بل أيضًا النسل الملون والعقيم للتطور. تصميم بسيط أم خيار إبستمولوجي؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه علينا هذا الكتاب، ومن خلاله كل الإنتاج الاستشراقي".
إنها الصورة نفسها التي سيتم تقديمها للعقل والدين ومجموع الحضارة الإسلامية في الكتابات الغربية، منذ الحقبة الكولونيالية، كما توضح ذلك النصوص التي يضمها كتاب: "جزائر الأنثروبولوجيين" لكل من فيليب لوكا وجون كلود دفاتان، والتي ستستمر إلى اليوم في الكتابات والسياسات الغربية، كما هو الحال، مثلًا، في الموقف المرضي من الحجاب في السياق الفرنسي، والذي ترى المؤرخة جون ولاش سكوت في كتابها "سياسات الحجاب"، أنه استمرار للموقف الاستعماري من المرأة المسلمة في الجزائر، أو في فشل عملية اندماج المهاجرين في السياق الفرنسي، والتي يريطها فيلسوف ألماني هو يان – فيرنر مولر في كتابه "الوطنية الدستورية" بعجز الديمقراطية الفرنسية عن مراجعة ماضيها الاستعماري مراجعة نقدية.
إعلانوحتى نعود إلى العروي وكتابه "الإسلام والحداثة"، فإنه ينتهي إلى تسجيل أن الاستشراق يمتلك تصورًا للتاريخ مُضادًا للتطور، وأنه يزعم أنه يكتشف هذا التصور في المجتمع الذي يدرسه، ولكنه في واقع الأمر يفرضه فرضًا عليه. وفي تعبير آخر، إن المسلمين لا يستحقون جهد التأريخ، لأن تاريخهم كتب مرة وإلى الأبد، ولأن دينهم وعرقهم وطبيعتهم لا تسمح لهم بالتطور.
هل تتجاوز السردية الحالية حول العرب والمسلمين هذا التصور؟ يكفي الاطلاع على شعارات اليمين المتطرف في أوروبا للجواب بالنفي، لكن ذلك الموقف ما برح ينتشر حتى في أوساط تمارس الفلسفة والعلوم الاجتماعية، خصوصًا في ظل "الثورة الرجعية" التي تمر منها أوروبا، والتي لا تتوانى عن إعلان تضامنها حتى مع دولة الإبادة الجماعية.
لكن ألا يرتبط استمرار مثل هذا الموقف أيضًا بوضعنا الراهن كعرب ومسلمين؟ لا شك في ذلك. فهو تصور يتغذى على أمراضنا وصراعاتنا القبلية والطائفية، وممارستنا المشوهة للدين، وارتباطنا السطحي بالحداثة، ورفضنا للمنظومة الحقوقية الكونية، وتأخرنا العلمي والحضاري عمومًا.
وقد تكون الخطوة الأولى في مواجهة تلك الأحكام المسبقة حول الإسلام والمسلمين والتي لا يتوانى الغرب عن نشرها لدى الثقافات الأخرى كالصينية والهندية وفي أميركا اللاتينية وأفريقيا، أن نؤسس لخطاب إسلامي جديد، يحترم الاختلاف ويشجعه، ويؤكد ارتباطه بالمنجز المعرفي والسياسي والحقوقي للحداثة، ويترجم الحدود الأخلاقية للإسلام إلى لغة الحداثة.
إن الوضع الراهن، والحقبة المزرية التي يمر بها العالم العربي اليوم، تتطلب تضافر كل الجهود للتفكير في خارطة طريق ثقافية للعالم العربي، تؤكد المنجز الحضاري للإسلام، وذلك، أولًا، من خلال فهمه من داخل الحداثة وليس من خارجها، وثانيًا، في حوار نقدي مع منجزات الحداثة وما يعنيه ذلك من ضرورة التطور والتطوير، وثالثًا من خلال المساهمة في فكر الجنوب العالمي، والذي وقف ويقف أمام أسئلة شبيهة بأسئلتنا، وإن لم تكن أجوبته شبيهة بأجوبتنا.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية