معركة طوفان الأقصى.. لماذا بادرت حماس بالهجوم وبهذا الشكل؟
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
عبّرت حماس في أكثر من موضع عن إدراك دقيق ومسبق بطبيعة التحولات في المجتمع الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية، فالمجتمع يميل نحو اليمين المتطرف بشكل متسارع، وبدأت مؤسسات إسرائيل العسكرية والسياسية تأخذ تدريجيا سمة المجتمع المتطرف.
وفي ظل هذا المشهد، ترعى الولايات المتحدة مسار تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل، وهو تحول جيوسياسي كبير سيؤدي إلى تجاوز القضية الفلسطينية وترك مصير الفلسطينيين تحت تصرف حكومة نتنياهو المتطرفة.
في مواجهة ذلك، كان لدى الفلسطينيين خيارات محدودة لمنع تصفية القضية وحسم الصراع لصالح إسرائيل، والتصدي لمسار دمج إسرائيل في المنطقة، ومنحها وضعية قيادتها وتقرير مصيرها. والخيار الأكثر فاعلية هو المقاومة العسكرية من غزة، والتي صممت شكل المعركة الحالية كي تعطل مسارات تصفية القضية وتجاوز الفلسطينيين عبر مسارات محلية وإقليمية ودولية.
تضم الحكومة الإسرائيلية الحالية أحزابا يمينية دينية قومية متطرفة، ولهذه الأحزاب برنامج أيديولوجي ديني يتعلق بتهويد القدس والسيطرة عليها بشكل كامل وهدم المسجد الأقصى أو إجراء تغييرات حقيقية على وضعه، ولم يعد هذا البرنامج يمثل شعارات لمجموعات سياسية ودينية معزولة في المجتمع الإسرائيلي، بل أصبح برنامجا تتبناه الحكومة وتقرر له ميزانيات وأدوات.
فزعيم التيار الديني سموتريتش هو اليوم وزير المالية، ووزير في وزارة الدفاع، وله صلاحيات شبه مطلقة في الضفة الغربية، وهو في نفس الوقت زعيم مجموعات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية كفتيان التلال وغيرهم، وهم يكونون مليشيا شبه عسكرية يمكن أن تشكل تهديدا حقيقيا في الضفة الغربية وتنفذ برنامجها بشكل مستقل، كما أن لدى سموتريتش برنامجا للسيطرة على الضفة ومضاعفة عدد المستوطنين فيها وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وقد عبر عن رؤيته للصراع عبر مؤلفات ومقالات عديدة نشرها منذ بداية بروزه كزعيم استيطاني متطرف.
في الوقت ذاته، يرأس الوزير المتطرف إيتمار بن غفير وزارة الأمن الداخلي، وله صلاحيات تتعلق بالقدس وبفلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، وبالأسرى في سجون الاحتلال، وهو يوظف صلاحياته لتحقيق برنامج متعلق بطرد فلسطينيي الداخل وفلسطينيي شرق القدس من أراضيهم وبيوتهم، وقد استطاع في ظل قدرته على ابتزاز نتنياهو تشكيل ما يسمى الحرس الوطني، وهو جهاز فوق شرطي يرتبط به بشكل مباشر، وسيسيطر عليه متطرفون من حلفائه في المنظومة الأمنية والعسكرية.
ونظرا لكون نتنياهو لا يملك سوا البقاء في الحكومة والتحالف مع هذه المجموعات المتطرفة، في ظل ما يواجهه من قضايا فساد وانقسام سياسي حاد، فإنه يمنح حلفاءه المتطرفين كل ما يرغبون فيه، من أجل ضمان تماسك حكومته، حصنه الأخير قبل ذهابه للسجن، وعليه، فإن مسار تصفية القضية الفلسطينية على يد هذه الحكومة هو برنامج حقيقي وله خطط عمل حكومية.
وضع الهجوم الباغت لحماس دولة الاحتلال الإسرائيلي في مأزق من الخيارات المتاحة، فالخيارات العسكرية الإسرائيلية باتت تقليدية، وسبق تجريبها مرارا دون أن تحدث فارقا في المعضلة التي تواجهها مع المقاومة في قطاع غزة، فالهجمات الجوية بالطائرات والقصف المدفعي قد تكون قادرة على إلحاق أضرار في البنية التحتية والمباني في قطاع غزة، ولكن الاحتلال يدرك أن هذا لن يجدي نفعا في دفع حماس للتراجع.
لكن الحكومة الإسرائيلية ستعمد في كل الأحوال لهذا الخيار ابتداءً، نظرا لحاجتها لاستعادة صورتها وثقة الجمهور بالجيش والمنظومة الأمنية، اللذين تعرضا لضربة كبيرة سيكون لها تداعيات على ثقة الأطراف الدولية والجمهور الإسرائيلي.
أما الخيارات الأخرى المتاحة فتتعلق بعمليات برية جزئية أو شاملة ضد قطاع غزة، إلا أن ذلك يعتريه جملة من التحديات؛ أبرزها العدد الكبير من الأسرى الذين استطاعت حماس جلبهم إلى قطاع غزة، وهم حسب تقديرات أولية بالمئات، وهو ما سيعرضهم لخطر كبير قد لا تستطيع حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي تبريره.
وثاني تحديات العمليات البرية أن جيش الاحتلال الإسرائيلي سيعمل في مناطق سكنية مكتظة، وسيسبب ذلك ضحايا بين المدنيين يصعب تحمله على صعيد المجتمع الدولي، مما ينقل الإدانة الدولية ضد دولة الاحتلال وربما الولايات المتحدة، التي تعلن عن دعمها لإسرائيل وتسعى لإرسال مساعدات عسكرية.
وإن كان الأداء القتالي النوعي الذي ظهرت به حماس في هجومها على المواقع العسكرية والمستوطنات في محيط قطاع غزة سيوضع في حسبان صانع القرار العسكري والسياسي لدى إسرائيل، فإن الخسائر البشرية الكبيرة، والتي بلغت حصيلتها في اليوم الثاني من العملية أكثر من 700 قتيل و 2500 مصاب بالإضافة للأسرى، قد تقلل بدورها من تخوف صناع القرار الإسرائيلي.
احتماليات التصعيدتصاعد الأحداث في غزة والإقبال الإسرائيلي على ارتكاب مجازر ضد السكان، قد يدفع أطرافا أخرى للانخراط في المواجهة، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته برسالة حزب الله باستهدافه مواقع عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا، وتصريحات رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، الشيخ صفي الدين، أن الحزب لا يقف على الحياد في هذه المواجهة.
ومما يعزز التخوف من هذا الاحتمال التصريحات الأميركية منذ اللحظات الأولى، والتي جاءت على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن، أن واشنطن تحذر من استغلال الوضع الذي تمر به إسرائيل من قبل أطراف أخرى، يقصد بها على وجه التحديد حزب الله، وهو ما عاد وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن للتعبير عنه بكل وضوح، وذكر حزب الله على وجه الخصوص.
يأتي هذا التصعيد في المنطقة على خلاف الرغبة الشديدة لإدارة بايدن منذ توليها الحكم في واشنطن، فهي سعت وبذلت جهودا كبيرة لاستقرار المنطقة ومنع اندلاع صراعات فيها، نظرا لحاجتها التركيز على الصراع في روسيا، وإعادة ضبط إستراتيجيتها الدولية في الشرق الأوسط، في سياق تنافسها المحموم مع الصين ورغبتها في تكريس قيادتها الدولية.
تعقد هذه التحديات من خيارات دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي أخرجت خيار الاجتياح البري من تفكيرها الإستراتيجي للتعامل مع غزة بعد حرب عام 2014، وجنحت بدلا من ذلك لخيارات احتواء غزة، وتنفيذ إستراتيجية المعركة بين الحروب، والتي تستند على الجهد العسكري الجوي.
وعليه، فإن وضع خيار العمليات البرية ضد غزة سيكون بمثابة مقامرة كبيرة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي أظهر هشاشة غير مسبوقة في أدائه الاستخباري والعملياتي، كما تثبت التجربة مع نتنياهو أنه يميل للحذر في التعامل مع مثل هذه النوع من التحديات، وسيكثف جهده للوصول للوضع السابق، ما قبل السابع من أكتوبر، من خلال محاولة التنسيق مع الولايات المتحدة ومصر وقطر، للتأثير على حماس للقبول بوقف لإطلاق النار.
ماذا كسب الفلسطينيون حتى الآن؟حتى اللحظة، استطاعت حماس أن تقلب الطاولة في الوضع الفلسطيني وفي المنطقة برمتها، وأن تؤكد صعوبة تجاوز الفلسطينيين في أي محاولة لتصفية قضيتهم، كما تؤكد حماس على ريادتها في البيئة السياسية الفلسطينية وأنها تكرس قدراتها العسكرية والسياسية في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الفلسطينيين، على مستوى المساس بالمقدسات واستفراد الجيش والمستوطنين بالضفة الغربية.
إن تمكن حماس من أسر هذا العدد الكبير من الجنود والمستوطنين سيجعل لها اليد العليا في تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، الأمر الذي سيعزز من مكانتها وشعبيتها بشكل شبه مطلق، في ظل تراجع كبير للسلطة الفلسطينية التي تعاني انسدادا مطبقا في مشروعها السياسي الذي لم يتبقَ منه شيء، وتراجع في شعبيتها في الضفة الغربية.
إن مشاريع التطبيع مع دول عربية وازنة وإسرائيل تحتل بلا شك مكانة في عقل حماس، وهي حريصة على تعطيل هذا المسار، أو في الحد الأدنى منع تداعياته من الإضرار بالقضية الفلسطينية.
نجحت حماس في دفع جميع الأطراف لإعادة حساباتها، ووجهت صفعة كبيرة لإسرائيل، وكسرت صورتها في تصورات صناع القرار الدوليين والإقليميين، ومن المتوقع أن يكون لذلك تداعيات داخل إسرائيل نفسها وفي المنطقة وعلى مسارات التطبيع، ولا تزال المعركة في غزة وما حولها في بدايتها ولم تأخذ شكلها النهائي المفتوح على احتمالات عديدة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی الولایات المتحدة فی الضفة الغربیة دولة الاحتلال فی المنطقة قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
لماذا لا يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واختيار المقاومة؟
قالت مجموعة الأزمات الدولية إن الأزمة الوجودية الحادة التي تعاني منها السلطة الفلسطينية تفاقمت، ويلومها الفلسطينيون إما لضعفها في مواجهة عدوان الاحتلال أو بسبب تنسيقها الأمني معه. في حين تتهمها إسرائيل بعدم الفعالية في قمع المسلحين الفلسطينيين، وفرض الأمن على عناصر المقاومة بالضفة الغربية.
جاء ذلك في تقرير نُشر الأسبوع الماضي لكبير محللي فلسطين في مجموعة الأزمات الباحثة تهاني مصطفى بعنوان "توغلات إسرائيل في الضفة الغربية تسلط الضوء على معضلات السياسة الفلسطينية".
وقد بدأت إسرائيل عملية "الجدار الحديدي" في 21 يناير/كانون الثاني الماضي، بعد يومين فقط من دخول اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيّز التنفيذ، مما أدى إلى تصعيد عسكري واسع النطاق لقمع المقاومة المسلحة الفلسطينية في الضفة.
وتسببت عمليات الاحتلال في دمار واسع للمخيمات والمناطق الحضرية المجاورة لها بالضفة، حيث وصف السكان أحياءهم بأنها "غزة مصغرة". وأدى هذا الدمار إلى تشريد ما لا يقل عن 40 ألف شخص، في وقت يؤكد فيه الإسرائيليون أنهم لن يسمحوا بعودة هؤلاء إلى مخيماتهم، حسب ما جاء في التقرير.
الجزيرة نت حاورت محللين وباحثين مختصين في الشؤون الفلسطينية لتسليط مزيد من الضوء على هذه القضية، وخلاصة ما وصلوا إليه يمكن إجمالها في النقاط التالية:
إعلان السلطة الفلسطينية تتحمل الجزء الأكبر مما يحدث في الضفة الغربية. السلطة لم تقدم البدائل الحقيقية لتحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني، وخلقت حالة من الترهل داخل المنظومة السياسية الفلسطينية. السلطة مسؤولة عن انسداد الأفق السياسي واستمرار الانقسام الداخلي بوصفها السلطة الحاكمة والمسؤولة عن إدارة البيت الفلسطيني. تخلي السلطة عن مسؤوليتها الوطنية في قيادة الشعب نحو التحرير وإقامة الدولة يدفع الشعب نحو قوى وطنية أخرى أقدر وأجدر على حمل تطلعاته الوطنية. السلطة لا تعتمد على الشعب الفلسطيني في البقاء، فهي لا تحتاج إليه ماليا أو سياسيا، بل تحتاج إلى دعم كل من الولايات المتحدة وإسرائيل. لا يوجد في الواقع أي بديل حاليا للسلطة الفلسطينية، ورغم الاستياء الشعبي من أدائها الذي تعكسه استطلاعات الرأي فليس هناك دافع للإصلاح. السلطة واقعيا أشبه بإدارة مدنية تُعنى بشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال حيث توفر الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والاقتصادية. السلطة لا تملك أي رؤية سياسية بديلة عن اتفاق أوسلو، بعد أن فقدت أوراق المفاوضات، في وقت يعمل فيه الاحتلال الإسرائيلي منهجيا على نزع الصفة السياسية عنها وتقليص دورها. السلطة ما زالت تعوّل على اتفاق أوسلو رغم أنه انتهى سياسيا وواقعيا، وهناك قرارات من الكنيست تمنع تطبيق بنوده. السلطة تتحمل مسؤولية انهيار المنظومة الأمنية أمام توحش الاحتلال وتنكيله بالفلسطينيين، وعدم الاعتراض على ذلك. السلطة تخشى مواجهة الاحتلال أو غض الطرف عن نشاط المقاومين في الضفة خوفا من فقدانها الامتيازات المادية والسلطة المكتسبة عبر ديمومة التنسيق الأمني. الوجود العسكري الإسرائيلي المتكرر في الضفة حوّل السلطة إلى شبه بلدية تتحمل الأعباء الصحية والتعليمية الثقيلة، وباقي الملفات المصيرية ذهبت لإدارة الاحتلال العسكرية. إسرائيل تنوي تحويل المخيمات في الضفة الغربية إلى "غزة مصغرة"، أي تدميرها بالكامل. ليس من الصحيح أن السلطة الفلسطينية كانت تحتكر السيطرة في الضفة، فمنذ نشأتها وهي تواجه صعوبة في فرض إرادتها على كامل الضفة، فهي كيان نشأ في الخارج أولا ثم فُرض على الفلسطينيين. يجب على السلطة أن تأخذ قرارا حاسما بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال وأن تتحول إلى مربع النضال والثورة ضد الاحتلال. يجب فصل السلطة الفلسطينية التي تقدم الخدمات للمواطنين عن منظمة التحرير الفلسطينية المعنية بتحقيق تقرير المصير.
تقول تهاني مصطفى -في مقابلة مع الجزيرة نت- إن السلطة الفلسطينية تتحمل جزءًا من المسؤولية عما حدث، إما من خلال تقديم بدائل محدودة جدًا لمعظم الفلسطينيين في الضفة الغربية، مثل فرص اقتصادية ضعيفة، وتدهور مستويات المعيشة، وعدم القيام بأي شيء لمحاولة التخفيف من حدة العنف في الضفة الغربية من قبل المستوطنين والجنود الإسرائيليين، وعدم الدفاع عن الفلسطينيين بشكل صحيح سياسيًا على الساحة الدولية.
إعلانلا أعتقد أن السلطة الفلسطينية تعتمد على الفلسطينيين للبقاء، فهي لا تحتاجهم ماليًا أو سياسيًا، إنها تحتاج دعم الولايات المتحدة وإسرائيل، فهما الكيانان القويان اللذان يحددان بقاء السلطة، وهي تعرف ذلك، ورغم الاستياء الشعبي الكبير الذي عبرت عنه استطلاعات الرأي مرارًا وتكرارًا فليس لديها أي دافع للإصلاح.
ما دامت الولايات المتحدة مستمرة في توفير البقاء للسلطة، وتستمر أوروبا في تقديم الدعم، وإسرائيل تسمح لها بالبقاء، فإنها ستبقى. وهذا شيء كان واضحًا جدًا خلال 16 شهرا الماضية، فالسلطة الفلسطينية لا تريد التعامل إلا مع الأميركيين والأوروبيين.
لم يحاول قادة السلطة حتى القيام بالكثير فيما يتعلق بما يحدث في قطاع غزة أو حتى في الضفة الغربية، حتى أن الوسطاء الإقليميين مثل قطر كانوا يقولون إن المشكلة ليست أن السلطة الفلسطينية لم تُدعَ إلى طاولة المفاوضات لوقف إطلاق النار، بل لأنها ترفض الحضور.
طبيعة الاحتلال قد تغيرت، فإسرائيل لن تتحمل أي مسؤولية تجاه 5 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية من حيث توفير الخدمات، والمجتمع الدولي لن يتمكن من القيام بذلك مباشرة، وليس هناك بديل حقيقي للسلطة الفلسطينية.
حتى الفلسطينيين لا يستطيعون تصور بديل الآن، وهو ما يعد أكبر إنقاذ للسلطة الفلسطينية، فبقاؤها بالكامل يعتمد على التنسيق الأمني، وحتى (حركة المقاومة الإسلامية) حماس تدرك أنه يجب أن يكون هناك هذا التنسيق.
السلطة الفلسطينية بشكل عام بدأت تفقد قبضتها منذ فترة طويلة، وهذا ليس لأن الفلسطينيين لا يريدونها أو لأنهم يرون بدائل، ولكن لأنها من الناحية المالية مقيدة جدًا نتيجة ممارسات الاحتلال، بالإضافة إلى الفساد الداخلي للسلطة الفلسطينية الذي يسهم في أن تفقد السلطة قبضتها.
السلطة الفلسطينية لم تكن تحتكر السيطرة على الضفة الغربية طوال الوقت، فعملها كان شاقا للغاية منذ نشأتها، فهي لم تكن كيانًا طبيعيًا نشأ في الضفة الغربية، لقد كانت شيئًا مفروضًا على الفلسطينيين من الخارج.
السلطة الفلسطينية تتحمّل مسؤولية كبيرة عن انهيار المنظومة الأمنية الحامية للفلسطينيين أمام توحّش الاحتلال وتنكيله بالفلسطينيين في عموم الضفة الغربية، ويعود ذلك لعدة أسباب منها:
إعلان التزامات اتفاقية أوسلو التي جعلت الأجهزة الأمنية والأمن الوطني أداة لحماية المستوطنين، وملاحقة النشطاء والمقاومين للاحتلال، بذريعة محاربة الأعمال "الإرهابية" الضارّة بالسلام ومسار المفاوضات المتوقّف منذ عام 2014. مع أن اتفاقية أوسلو انتهت سياسيا وواقعيا، فإن السلطة الفلسطينية تخشى مواجهة الاحتلال وانتهاكاته أو غض النظر عن النشطاء والمقاومين، وذلك خوفا من فقدانها الامتيازات المادية والسلطوية المكتسبة عبر ديمومة التنسيق الأمني الذي يشكّل حاجة إسرائيلية مدعومة من الولايات المتحدّة. استخدام الولاء المطلق لمنتسبي الأجهزة الأمنية في تصفية الحسابات مع المعارضين السياسيين عبر الاعتقال أو الحرمان الوظيفي أو التحييد كما حصل مع المعارض نزار بنات ابن مدينة الخليل الذي توفي بعد ساعات من اعتقاله لدى أجهزة أمن السلطة في يونيو/حزيران 2021.خطورة ذلك أن السلطة الفلسطينية ستفقد شرعيتها في عين المواطن الفلسطيني الذي ينتظر منها الحماية أمام انتهاكات الاحتلال وعبث المستوطنين الذين وصلت بهم الجرأة إلى سرقة الأغنام وقطع أشجار الزيتون وحرق المركبات والبيوت، كما حصل في قرية حوّارة جنوب نابلس في فبراير/شباط 2023، دون أي حراك من السلطة أو دفاع من أجهزتها الأمنية.
التخلي عن المسؤولية الوطنية يُفقد السلطة أهليتها السياسية في قيادة الشعب الفلسطيني نحو التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية، مما يدفع الشعب الفلسطيني إلى الاتجاه نحو قوى وطنية أخرى أقدر وأجدر على حمل تطلعاته الوطنية.
فكرة التنسيق الأمني مع الاحتلال تعد خطيئة من حيث البدء، وكان من المفترض ألا تكون، فمن غير المنطقي أن تعمل سلطة فلسطينية وأجهزتها الأمنية لصالح الاحتلال أو تمنحه معلومات عن النشطاء والسياسيين والعاملين في الحقل الوطني.
الاحتلال تنصّل سياسيا من التزامات اتفاقيات أوسلو، وتبنّى الكنيست الإسرائيلي تشريعا في يوليو/تموز 2024 يرفض فيه قيام دولة فلسطينية بوصفها خطرا وجوديا على دولة إسرائيل ومواطنيها.
إعلانأصبح من الضرورات السياسية والوطنية أن تأخذ السلطة الفلسطينية قرارا حاسما بوقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وأن تتحوّل إلى مربع النضال والثورة ضد الاحتلال بكافة الوسائل وأشكال المقاومة.
واقعيا، السلطة الآن أشبه بإدارة مدنية تُعنى بشؤون الفلسطينيين تحت الاحتلال عبر توفير الخدمات البلدية والصحية والتعليمية والاقتصادية، وبجودة منخفضة، بسبب الفساد الإداري والعجز المالي وغياب معايير الشفافية.
السلطة لا تملك أي رؤية سياسية بديلة عن اتفاق أوسلو بعد أن فقدت ورقة المفاوضات، في وقت يعمل فيه الاحتلال الإسرائيلي منهجيا على نزع الصفة السياسية عنها، وتقليص دورها حتى الإداري بسحب العديد من صلاحياتها التي من المفترض أن تطلع بها، لا سيّما في المناطق المصنّفة "إي" حسب تقسيمات اتفاقيات أوسلو لأراضي الضفة الغربية.
الرئيس محمود عباس يفقد بالتدريج قدرته على السيطرة، ولو على أجزاء من الضفة الغربية، وسيحوّله الاحتلال واقعيا وفي وقت قريب إلى رئيس لسلطة مدنية محلية تحت السيادة الإسرائيلية، إن بقيت السلطة على هذه الشاكلة من دون استدراك عاجل على دورها السياسي والوطني.
لا يختلف اثنان من الفلسطينيين حتى ممن ينتمون لحركة فتح التي انبثقت منها السلطة الفلسطينية على أنها تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية عما حل في الضفة الغربية، نظرا لعدد من الأسباب:
السلطة تتحمل الجزء الأكبر فيما يتعلق باستمرار الانقسام الفلسطيني لأنها في النهاية السلطة الحاكمة والمسؤولة. عدم قدرتها على تجديد الوجوه مما خلق حالة من الترهل داخل أجسام السلطة في كافة المستويات، وهذا الأمر انعكس على رؤية السلطة السياسية نتيجة الاتكاء على فرضية أن الولايات المتحدة معنية بحل الدولتين، وبالتالي لا حاجة لاستحداث وسائل أخرى. السلطة لم تخلق أي رؤية إستراتيجية واكتفت بخط سياسي غير موجود عمليا، مع وجود حالة من البحث عن المصالح الشخصية الضيقة، وبالتالي وصلنا إلى هذا الوضع المتردي أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وبالتالي السلطة الفلسطينية تتحمل الجانب الأهم في ذلك. إعلانجزء من الفلسطينيين يرى أن السلطة عقبة أمام القدرة على مواجهة الاحتلال، وكذلك هناك من يرى أن وجودها بات عبئا على الفلسطينيين كون سلاحها مستخدما ضد الفلسطينيين بشكل أو بآخر.
هذه الحالة من التخلي عن البعد السياسي وقبول البعد الإداري فقط يترتب عليها ما يلي:
السلطة الفلسطينية ستتحول إلى جهاز إداري فقط يتحمل جزءا من أعباء الفلسطينيين لكنه في الوقت نفسه سيستميت من أجل الدفاع عن نفسه. سنكون أمام حالة من السلطة التي وافقت على تحديد صلاحياتها وتقزيم نفسها، لكنها لن تقبل التخلي عن أي دور. سيولد ذلك حالة من اصطدام داخلي إن لم يكن هناك حراك داخلي فلسطيني باتجاه ترسيخ حلول داخلية ووحدة فلسطينية وإنتاج مظلة جديدة تجمع الكل الفلسطيني.
السلطة الفلسطينية يجب أن تتخلى عن التنسيق الأمني منذ سنوات طويلة، وكانت هناك قرارات من المجلس المركزي الفلسطيني نفسه طالب السلطة بضرورة التخلي عن التنسيق الأمني.
في الفترة الأخيرة، لم تعد إسرائيل تكترث بالتنسيق الأمني كثيرا مع السلطة، لأن إسرائيل عمليا باتت تسيطر أمنيا على الضفة الغربية بشكل كبير.
السلطة الفلسطينية فقدت أوراق السيطرة على ما تبقى من الضفة الغربية، فهي اليوم ترمى في زاوية تحمل أعباء الفلسطينيين الصحية والتعليمية وغيرها، وباقي الملفات تسحب منها شيئا فشيئا وتذهب لإدارة الاحتلال العسكرية.
السلطة بذلك تحولت إلى شبه بلدية في الضفة الغربية، وهذا لا يرجع فقط للاجتياح المتكرر لمناطق الضفة، بل لأنها قبلت على نفسها مع مرور الوقت الانحناء كثيرا تحت عنوان "الصبر الإستراتيجي" و"الحكمة في التعاطي"، وتحت عناوين مختلفة ومتنوعة ومتعددة.