بنوك التنمية متعددة الأطراف وضرورة المشاركة في تخفيف أعباء الديون
تاريخ النشر: 8th, October 2023 GMT
تتزايد الحاجة الملحّة إلى معالجة أزمة الديون السيادية في العالَـم النامي على نحو مستمر. فمع ارتفاع درجات الحرارة العالمية وتعاظُـم التهديد بإلحاق أضرار لا يمكن إصلاحها بكوكب الأرض، تعمل أعباء الديون المرهقة على منع عدد كبير من البلدان منخفضة الدخل في أفريقيا وأماكن أخرى من الاستثمار في العمل المناخي.
كان التساؤل حول ما إذا كانت بنوك التنمية متعددة الأطراف لتتحمّل الخسائر إلى جانب غيرها من الدائنين مثيرة للجدال بشكل خاص. ففي حين طلبت مجموعة العشرين من بنوك التنمية متعددة الأطراف العمل على تطوير خيارات لتقاسم الأعباء، لم يُـسـفِـر ذلك عن ظهور أي خطة منهجية. على النقيض من نادي باريس للدائنين السياديين، أصَـرَّت الصين على أن تتحمّل بنوك التنمية متعددة الأطراف خصما من أصل الديون المستحقة لها، قبل أن تخفف موقفها أثناء اجتماعات الربيع المشتركة هذا العام بين مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بيد أن المطالبة بمشاركة بنوك التنمية متعددة الأطراف تكررت في إطار قمة مجموعة البريكس الأخيرة. وهي مطالبة مستحقة. كما نبيّن في تقرير جديد، فإن مشاركة بنوك التنمية متعددة الأطراف في إعادة هيكلة الديون السيادية ليست ممكنة فحسب، بل إنها ضرورية أيضا لكسر الجمود الحالي. بادئ ذي بدء، ما لا يقل عن نصف إجمالي رصيد الديون السيادية الخارجية في 27 دولة مثقلة بالديون -وكثير منها بلدان منخفضة الدخل أو دول جزرية صغيرة نامية- مستحق لدائنين متعددي الأطراف. وعلى هذا فحتى لو ألغيت كل الديون الثنائية والخاصة، قد يتسبب إعفاء بنوك التنمية متعددة الأطراف من إعادة هيكلة الديون في منع بعض البلدان الأكثر ضعفا في العالَـم من تحقيق التعافي الكامل.
ثانيا، الإدراك هنا مهم. ذلك أن مشاركة كل الدائنين الخارجيين، بما في ذلك بنوك التنمية متعددة الأطراف، في إعادة هيكلة الديون من شأنها أن تزيل أي انطباع بالظلم أو الانتفاع المجاني، وهذا بدوره يجعل الدائنين الثنائيين والدائنين من القطاع الخاص أكثر ميلا إلى التفاوض.
ثالثا، يتماشى تخفيف أعباء الديون الناتج عن تقاسم الأعباء مع التفويض الأساسي لبنوك التنمية متعددة الأطراف والمتمثل في دعم التنمية الاقتصادية المستدامة والقضاء على الفقر المدقع. فإذا ظلت الأزمة بلا حل، ستكون البلدان المثقلة بالديون عاجزة عن تحقيق أي تقدم نحو أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة، ناهيك عن تحقيقها بحلول عام 2030. ولن يتسنى للحكومات الاستثمار في مجالات ذات أولوية عالية إلا مع توفر حيز مالي أكبر. أخيرا، من شأن أزمة الديون المطولة أن تعمل على توليد تكاليف كبيرة تتحمّلها أذرع الإقراض الميسر التابعة لبنوك التنمية متعددة الأطراف: فمع ارتفاع مؤشرات ضائقة الديون في البلدان منخفضة الدخل، من المحتم أن يرتفع أيضا عنصر الـمِـنَـح في المساعدات التي تقدمها بنوك التنمية متعددة الأطراف.
لنتأمل هنا المؤسسة الدولية للتنمية، وهي ذراع إقراض البلدان الأكثر فقرا التابعة للبنك الدولي. وفقا لتقديراتنا، ارتفعت الـمِـنَـح التي تقدمها المؤسسة الدولية للتنمية على أساس معايير القدرة على تحمّل الديون من 600 مليون دولار في عام 2012 إلى 4.9 مليار دولار في عام 2021 -أي من 8% إلى 36% من التزاماتها. وبالتالي فإن تسريع وتيرة التقدم في تخفيف أعباء الديون يصب في مصلحة بنوك التنمية متعددة الأطراف.
لا شك أن بنوك التنمية متعددة الأطراف تقدم القروض بشروط أفضل من تلك التي يقدمها دائنون آخرون. وعلى هذا فإن القواعد العادلة للمعاملة المتساوية للدائنين، والتي تضع في الحسبان تكاليف الإقراض، مطلوبة لتحقيق التوزيع العادل للخسائر.
باستخدام القواعد العادلة، تشير تقديراتنا إلى أن شطب ديون بقيمة 55 مليار دولار -أي ما يعادل خصم من أصل الدين بنسبة 39%- مستحقة على 41 من الدول المؤهلة للحصول على المساعدة من المؤسسة الدولية للتنمية والدول الجزرية الصغيرة النامية التي تواجه ضائقة ديون يعني خسارة بنوك التنمية متعددة الأطراف نحو 8 مليارات دولار، مقارنة بخسائر يتحمّلها دائنون من القطاع الخاص بنحو 27 مليار دولار. هذا السيناريو من شأنه أن يكلف المؤسسة الدولية للتنمية ملياري دولار، وهذا أقل كثيرا مما تنفقه على الـمِـنَـح المرتبطة بمؤشرات ضائقة الديون. وإذا حصلت هذه البلدان المدينة على خصم أكثر سخاء بنسبة 64% -وهذا يماثل تخفيف الديون المقدم أثناء مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون- فسوف يبلغ إجمالي خسائر البنوك متعددة الأطراف نحو 25 مليار دولار. وإذا شاركت بنوك التنمية متعددة الأطراف في تخفيف أعباء ديون مجموعة أكبر تتألف من 61 دولة تواجه مشاكل ديون حادة -بما في ذلك بلدان متوسطة الدخل مثل مِـصر، ونيجيريا، وباكستان- فإن الخصم من أصل الدين بنسبة 39% من شأنه أن يكلفها 37 مليار دولار باستخدام القواعد العادلة للمعاملة المتساوية للدائنين. هذا ليس مبلغا بسيطا. ولكن من خلال قبول هذه الخسارة، يصبح بوسع بنوك التنمية متعددة الأطراف تحرير 305 مليارات دولار من إجمالي تخفيف أعباء الديون -بما في ذلك 209 مليارات دولار من دائنين من القطاع الخاص.
بعبارة أخرى، كل دولار يسهم به المانحون من خلال بنوك التنمية متعددة الأطراف قد يُـتَـرجَـم إلى 7 دولارات من إجمالي تخفيف أعباء الديون. الواقع أن تقاسم أعباء تخفيف الديون لا يهدد بالضرورة التصنيفات الائتمانية المرتفعة التي تتمتع بها بنوك التنمية متعدد الأطراف ولا قدرتها المتميزة على الوصول إلى رأس المال منخفض التكلفة. استنادا إلى عمليات أعادة هيكلة الديون السيادية في السابق، تستطيع بنوك التنمية متعددة الأطراف أن تعتمد على مساهمات المانحين والموارد الداخلية لدعم الخسائر الناجمة عن تخفيف أعباء الديون.
علاوة على ذلك، تستطيع بنوك التنمية متعددة الأطراف إحياء ترتيبات مؤسسية مثل الصندوق الائتماني لتخفيف أعباء الديون التابع للبنك الدولي والاستفادة من أرصدتها الاحترازية بمجرد حصولها على تدفقات جديدة من رأس المال. إذا كنا جادين في معالجة أزمة الديون المتصاعدة في الجنوب العالمي، يتعين على بنوك التنمية متعددة الأطراف أن تكون على استعداد لتحمّل الخسارة من أصل الديون المستحقة لها. هذا هو السبيل الوحيد لإحراز أي تقدم نحو إعادة هيكلة الديون. ولكن لضمان تقاسم الأعباء بشكل عادل، يجب أن يجري تحديد الخسائر وفقا للقواعد العادلة للمعاملة المتساوية للدائنين، ويشمل هذا تكلفة الإقراض والعناصر الميسرة.
الحق أن تخفيف أعباء الديون لن يتأتى بلا ثمن، لكنه ثمن يستحق أن نتكبده من أجل وضع البلدان المستضعفة، والعالَـم في عموم الأمر، على مسار يقوده إلى المرونة المناخية والتنمية المستدامة.
أولريش فولز أستاذ الاقتصاد ومدير مركز التمويل المستدام في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن.
مارينا زوكر ماركيز باحثة ما بعد الدكتوراه في SOAS، جامعة لندن، والباحثة الرئيسية في مشروع تخفيف الديون من أجل التعافي الأخضر والشامل.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ملیار دولار ل الدیون من أصل
إقرأ أيضاً:
خبير اقتصادي يقترح ضريبة موحدة لتخفيف أعباء المستثمرين وتحفيز بيئة الأعمال
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
طرح الدكتور عبدالمنعم السيد، مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، رؤية متكاملة تهدف إلى تهيئة مناخ أكثر جذبًا للاستثمار في مصر، من خلال تبسيط الإجراءات المالية على المستثمرين.
وأوضح في تصريحات خاصة لـ"البوابة نيوز" أن من أبرز المقترحات المطروحة استبدال الرسوم التي تفرضها الجهات والهيئات الحكومية المختلفة بضريبة إضافية موحدة تُحسب من صافي الربح، بما يسهم في تخفيف الأعباء الإجرائية عن المستثمرين، وتعزيز القدرة على التخطيط المالي طويل الأجل داخل الشركات.
وقال "السيد" إن هذا التوجه يعكس سعي الدولة المستمر لتحسين بيئة الأعمال وجذب المزيد من الاستثمارات المحلية والأجنبية، عبر إجراءات من بينها تسهيل التراخيص، وتقديم الحوافز، وتطوير المنظومة الضريبية بما يجعلها أكثر وضوحًا واستقرارًا.
نظام موحد لتحصيل الضرائب: مقترح لتقليل التشتت وتحقيق الشفافيةوأوضح الدكتور عبدالمنعم السيد أن الخطة المقترحة تقوم على عدة محاور، أهمها توحيد جهة التحصيل وتدشين "منصة الكيانات الاقتصادية" التي تهدف إلى تحسين مستوى الخدمات المقدمة للمستثمرين، وتيسير الإجراءات المتعلقة بالفحص والتحصيل والرقابة.
وأضاف أن النظام الجديد يتضمن تحديد نسبة ضريبية واحدة تُضاف إلى ضريبة الدخل على الشركات، بحيث يدفع المستثمر رقمًا محددًا وثابتًا يمثل كافة الالتزامات المالية دون الحاجة للتعامل مع تعدد الرسوم والجهات. ولفت إلى أن الشركات في مصر تدفع حاليًا ضريبة دخل نسبتها 22.5% وفقًا لقانون الضرائب رقم 91 لسنة 2005 وتعديلاته، إلى جانب رسوم سنوية ثابتة مثل المساهمة التكافلية (2.5 في الألف من إجمالي الإيرادات)، فضلًا عن رسوم التراخيص والتصاريح والدمغة وتكاليف الفاتورة الإلكترونية وغيرها، وهو ما يمثل عبئًا متكررًا ومعقدًا على الشركات.
البنية الرقمية متوفرة والفرص مواتية للتطبيقورغم أن تطبيق نظام موحد يتطلب بنية تحتية رقمية متقدمة لتحصيل البيانات وتحليلها، أكد السيد أن مصر تمتلك بالفعل بنية رقمية قادرة على دعم هذا التحول، خاصة بعد ما شهدته من توسع في ميكنة الخدمات الحكومية وربط الجهات المعنية.
وأشار إلى أن دولًا مثل كوريا الجنوبية، وفيتنام، وروسيا سبقت إلى تطبيق نظم ضريبية موحدة كأحد السبل لتبسيط إجراءات الاستثمار، معتبرًا أن مصر بحاجة فقط إلى تشريع قانوني يتيح دمج الرسوم في ضريبة واحدة، وهو ما يتطلب تحركًا من مجلس النواب لإصدار القوانين اللازمة ووضع الضوابط التنظيمية.
تحديات تواجه التنفيذ وتحتاج لحلول تشريعية وتقنية
رغم أهمية المقترح، يرى الدكتور عبدالمنعم السيد أن تطبيقه لن يخلو من التحديات، أبرزها ضرورة تحديد حد أدنى للضريبة في حالة الشركات التي تحقق خسائر، لضمان عدالة التطبيق وعدم التهرب من الالتزامات.
كما حذر من تفاوت التأثير على الشركات، فبينما قد تستفيد بعض الكيانات من النظام الموحد، فإن شركات أخرى كانت تتمتع بإعفاءات أو رسوم منخفضة قد تتضرر من فرض ضريبة موحدة، وهو ما قد يثير جدلاً حول العدالة الضريبية.
ولفت إلى أن من أبرز المخاوف أيضًا ما قد ينتج عن تحميل الشركات الصغيرة والمتوسطة أعباء إضافية لا تستطيع تحملها، ما يستوجب وجود آلية تدرجية أو استثناءات مؤقتة لحمايتها من الأثر السلبي.
تحديات فنية وتشريعية تفرض استعدادًا مؤسسيًا دقيقًاوأشار السيد إلى أن تنفيذ نظام موحد للضرائب والرسوم سيحتاج إلى تعديلات جوهرية في القوانين واللوائح الحالية، وتطوير الأنظمة المحاسبية، وتدريب الموظفين المعنيين في الجهات الحكومية، بما يستغرق وقتًا وجهدًا كبيرين لضمان نجاح التطبيق.
كما أبدى تخوفه من احتمالية استغلال بعض الفاعلين الاقتصاديين لثغرات في النظام الجديد للتهرب من الضرائب، وهو ما يستدعي تعزيز أدوات الرقابة والفحص الإلكتروني والتفتيش الضريبي.
وحذر من أن سوء تصميم النظام قد يؤدي إلى انخفاض في الإيرادات العامة للدولة، بما قد يضر بقدرتها على تمويل المشروعات التنموية والخدمات العامة.
تأثيرات محتملة على الحوافز والتنافسيةومن بين التحديات الأخرى التي أشار إليها، التأثير المحتمل على تنافسية بعض القطاعات، إذ أن توحيد الرسوم قد يؤدي إلى إلغاء بعض الامتيازات أو الحوافز التي كانت تمنح لمناطق أو صناعات محددة بهدف جذب الاستثمار إليها.
وشدد السيد في ختام تصريحاته على أن نجاح هذا النظام يتطلب توازنًا دقيقًا بين أهداف التبسيط والعدالة، وأن تكون هناك دراسة تفصيلية شاملة تأخذ في الاعتبار اختلاف حجم الشركات، وطبيعة أنشطتها، وتأثير النظام الجديد على بيئة الأعمال ككل.