بوابة الوفد:
2025-02-27@06:55:30 GMT

المتقوسون بالكلمات

تاريخ النشر: 8th, October 2023 GMT

أشفق عليهم. عند النهايات يتفتتون كزجاج مُهشم. لا نظرة تعاطف تُساندهم، ولا دعاء مُحب يطمئنهم. تقوست ظهورهم من الانحناء، وجفت حلوقهم من الهتاف، فصاروا خرقًا مُهلهلة. أولئك المُثقفون أو أدعياء الثقافة المتملقون للسلطة فى كل عصر، والذين تكاثروا كذرات مُنشطرة حولنا، فضلوا وأضلوا.

أكره المصفقين لكل نافذ. التهليل والتطبيل من سمات الشعوب الراقدة لا الناهضة.

التقدير والامتنان للجميل مقبول، لكن تمجيد الواصلين يحولهم إلى أصنام من عجوة، فلا يتقبلون نقدًا، ولا يرتضون نصحًا. تأليه الحكام آفة من آفات الشرق، وجين من جينات العرب، فكل حاكم فى زمنه فلتة، وكل سلطان وقت حكمه فريد.

ويصل الأمر بمدح الحاكم إلى تشبيهه بالأنبياء، مثلما فعل الشاعر الأندلسى ابن هانئ فى مدح الخليفة الفاطمى المعز إذ قال«ما شئت لا ماشاءت الأقدارُ/ فاحكم فأنت الواحد القهارُ/ وكأنما أنت النبى محمد / وكأنما أنصارك الأنصار./ أنت الذى كانت تبشرنا به / فى كتبها الأحبارُ والأخبارُ».

وفى كثير من الأحيان يتحول المثقف إلى منصة تحريض وتبرير للحاكم للعصف بخصومه مثلما فعل الشاعر سديف مع الخليفة أبى العباس السفاح، بعد أن دانت له البلاد واستقر له الحكم وقرر العفو عن باقى الأمراء الأمويين، فأقام لهم وليمة، وجلسوا فى حضرته يأكلون. وعندها وقف الشاعر مادحًا الخليفة، وأطال ثم قال فى نهاية قصيدته «اقصهم أيها الخليفة واحسم/ عنك بالسيف شأفة الأرجاسِ»، فأمر الخليفة بذبح الضيوف المُعفى عنهم جميعا.

ولم يكن غريبًا أن يسمو بعض المبدعين بممدوحيهم إلى درجة التأليه مثلما فعل أبو نواس يوما فى مديح الخليفة الأمين، إذ قال له :«وأخفت أهل الشرك حتى إنه/ لتخافك النُطفُ التى لم تُخلقُ».

وفى العصر الحديث لم يكن غريبًا أن نسمع قامات وهامات تُسبح بحمد الحاكم وتمدحه بما هو غير أهل له، حتى أن الشاعر على الجارم قال مهنئا بمولد الملك فاروق يقول «مولد الفاروق يومٌ بلغت/ راية الإسلام فيه القمما».

وهذا صالح جودت صاحب الموهبة الفذة يُسخرها للتغنى بالحكام، ويضرب المثل الأكثر إدهاشًا فى النفاق الإبداعى، فيمدح الملك فاروق بأغنية تقول كلماتها «والفن مين أنصفه/ غير كلمة من مولاه. والفن يمن شرفه غير الفاروق ورعاه»، ثم يستجدى الرئيس عبدالناصر البقاء فى السلطة عقب تنحيه بعد هزيمة يونيو 1967 بقصيدة يقول فيها «أنت الصبر على المقدور..أنت الناصر والمنصور..ابق فأنت حبيب الشعب»، ونقرأ له فى مديح الملك عبدالعزيز بن سعود خلال زيارته لمصر، والملك حسين عاهل الأردن، والملك الحسن ملك المغرب قصائد جمة.

ومن بعده رأينا مثقفين تجارًا، ساوموا الأنظمة الديكتاتورية، وشاركوها نهبها، فأثروا وارتقوا، وانقلبت حيواتهم خاصة فى ظل سطوع معمر القذافى، وتجبر صدام حسين، والتمدد البدوى النفطى، وظل بعضهم يتنقل من مائدة إلى أخرى بخفة وحيوية، حتى أن أحدهم رأيناه قريبًا مطلًا علينا دون ذرة حياء لاعنًا المحكومين الظلمة الذين لا يستحقون حكامهم الأفذاذ.

ماكينة التملق مازالت دائرة فى عالمنا العربى، وهذا هو سر تخلفنا، وتقوقعنا، وتدهور أحوالنا، وربما كان المتقوسون بالكلمات هم من أقاموا جدارًا من الجفاء والارتياب بين السلطة والمثقفين الحقيقيين، وهم أيضا من ساهموا فى تفسير كل شئ بنظرية المؤامرة، وتصوير كل صاحب رأى بأنه عدو أو عميل أو خائن.

لكنهم يموتون أيضا، وينطفئ وهجهم الكاذب، وتتندر الأجيال القادمة بما كتبوا وقالوا.

والله أعلم.

 

[email protected]

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: عصر

إقرأ أيضاً:

البردوني ويحيى الحمادي وعامر السعيدي في جلسة شامية  

الليلة الماضية تابعت حلقة بودكاست شعرية شامية في غاية الجمال والروعة، وكان اليمن حاضرًا بشكل ملحوظ في هذه الحلقة الرائعة التي لفتت انتباهي وهي من إنتاج تلفزيون سوريا وتم بثها أيضا على يوتيوب.  

كان عنوان الحلقة: أيهما أشعر: البردوني أم نزار قباني؟!  

تحدث الشاعر السوري أنس الدغيم حول الأدب اليمني وبعض الشعراء اليمنيين، وتحدث وتساءل أيضًا الشاعر السوري حسين الجنيد حول نزار والبردوني. واللافت أنهما يحفظان قصائد البردوني باهتمام عالٍ ورائع… حتى أن الدغيم قال إنه يحفظ للكبير البردوني كما يحفظ لنفسه.  

وفي رده على سؤال: “من أشعر: البردوني أم نزار قباني؟” أجاب الدغيم : “والله يتساويان، أنا لا أريد أن أتهرب من التفضيل بينهما فأقول إن أحدهما من مدرسة والآخر من مدرسة أخرى… نزار استطاع أن يصل بأسرع مما استطاع فيه البردوني، ولكن البردوني شاعر عملاق.”  

جميل… أعجبني بصراحة ردك… رد الشاعر الجنيد على الدغيم.  

ناقشا الاثنان افتخار الشاعر بشعره وتنافس الشعراء فيما بينهم وسبقية هذا على ذاك وبأن هذا أشعر من ذاك، مع الاتفاق أو الاختلاف في التقييم… وبحسب الجنيد لا توجد أحكام مطلقة حول هذا الأمر ، ولكن من النادر أن يعترف شاعر لشاعر إلا في التراث، أما في العصر الحديث فأنتم معشر الشعراء لا تعترفون لبعض!  

سأل الجنيد الدغيم: هل ممكن أن تعترف بأن هناك شعراء حاليًا أشعر منك؟!  

رد الشاعر أنس الدغيم: “أكيد… هناك شعراء كبار نعاصرهم حاليًا… هم أصدقاء لنا… مثل الشاعر جاسم الصحيح من السعودية والشاعر يحيى الحمادي و عامر السعيدي من اليمن.”  

للأمانة، الدغيم والجنيد أبدعا كثيرًا في السرد والحوار والنقاش الرائع وحسن الأداء والإلقاء والإثارة المحمودة. وما أجمل اللغة العربية حينما يتحدث بها من يتقنها… غاية في الجمال والروعة ولذة الاستماع!  

  

 

مقالات مشابهة

  • الحوت: نجاح الحكومات لا يقاس بالكلمات بل بالأفعال
  • أدباء فقراء (1)
  • مصطفى الفقي: ترامب يطلق تصريحات لاختبار ردود الفعل مثلما حدث مع أوكرانيا وروسيا
  • عصام العباسي.. شاعر فلسطيني كتب عن الكثيرين ولم يكتب عنه أحد
  • أنغام تحتفي بالأمير عبدالرحمن بن مساعد قبل حفل تكريمه
  • هل يمكنك وصف بوتين بالديكتاتور مثلما فعلت مع زيلينسكي؟.. ترامب يرد
  • البردوني ويحيى الحمادي وعامر السعيدي في جلسة شامية  
  • ثقافة الإسماعيلية تحتفي بإبداع الشاعر فتحي نجم
  • عنده سرطان .. حقيقة مرض الملحن عمرو مصطفى
  • أحمد ماضي يفتح النار على زياد برجي: "مات بالنسبة لي"