جدعون ليفي يواجه قومه بالحقائق .. لقد دفعنا الثمن ومُزِّقت عباءة غطرستنا
تاريخ النشر: 8th, October 2023 GMT
#سواليف
لقد دفعنا الثمن ومُزِّقت عباءة غطرستنا
كتب .. #جدعون_ليفي
منذ 1948 و #اسرائيل تعاقب #غزة.. أمس رأت اسرائيل صورًا لم تتوقعها في حياتها، بسبب غطرستها
وراء كل ما حصل، #الغطرسة #الإسرائيلية. فكرنا أنه مسموح لنا أن نفعل أي شيء، وأننا لن ندفع ثمنًا ولن نعاقب على ذلك أبدًا. نواصل دون تشويش. نعتقل، نقتل، نسيء معاملة، نسلب، نحمي مستوطِني المذابح، نزور قبر يوسف، وقبر عثنيئيل، ومذبح يشوع، وكلها في الأراضي الفلسطينية، وبالطبع نزور جبل الهيكل – أكثر من 5000 يهودي في العرش-.
نبني حاجزًا هائلًا حول القطاع، كلفت بنيته تحت الأرض ثلاثة مليارات شيكل، ونكون آمنين. نعتمد على عباقرة وحدة 8200 وعملاء الشاباك الذين يعرفون كل شيء، وسيحذروننا في الوقت المناسب. ننقل نصف الجيش من غلاف غزة إلى غلاف حوارة فقط لتأمين احتفالات #المستوطنين بالعرش، وسيكون كل شيء على ما يرام، سواء في حوارة أو إيريز. ثم يتضح أنه يمكن لجرافة بدائية وقديمة اختراق حتى أكثر العوائق تعقيدًا والأعلى تكلفة في العالم بسهولة نسبيا، عندما يكون هناك حافز كبير للقيام بذلك. انظروا، يمكن عبور هذا العائق المتغطرس بالدراجات الهوائية والنارية، رغم كل المليارات التي صرفت عليه، ورغم كل الخبراء المشهورين والمقاولين الذين كسبوا المال الكبير.
اعتقدنا أنه يمكن ان نواصل التحكم الدكتاتوري بغزة، ونرمي عليها هنا وهناك من فتات المعروفية المتمثل ببضعة آلاف من تصاريح العمل في إسرائيل – وهذه قطرة في محيط، وهي أيضًا مشروطة دائمًا بالسلوك السليم – ونقابل ذلك نبقيها سجنًا لهم. نصنع السلام مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة – وتنسى قلوبنا الفلسطينيين، حتى يتم محوهم، كما كان يرغب عدد غير قليل من الإسرائيليين. نواصل احتجاز آلاف الأسرى الفلسطينيين، ومن بينهم أسرى بدون محاكمة، وأغلبهم سجناء سياسيون، ولا نوافق على مناقشة إطلاق سراحهم حتى بعد عقود في السجن. ونقول لهم إنه فقط بالقوة يمكن لأسراهم ان يحصلوا على الحرية. لقد ظننا أن نواصل بغطرسة صد أي محاولة للحل السياسي، لمجرد أنه لا يناسبنا الانشغال فيه، ومن المؤكد أن كل شيء سيستمر على هذا النحو إلى الأبد. ومرة أخرى ثبت أن الأمر ليس كذلك. اخترق عدة مئات من المسلحين الفلسطينيين السياج وغزوا إسرائيل بطريقة لم يتخيلها أي إسرائيلي. لقد أثبت بضع مئات من المقاتلين الفلسطينيين أنه من المستحيل سجن مليوني إنسان إلى الأبد، دون دفع ثمن باهظ. وكما هدمت الجرافة الفلسطينية القديمة المدخّنة بالأمس الجدار، وهو الأكثر تطورًا بين كل الجدران والأسوار، الا انها مزقت أيضاً عباءة الغطرسة واللا مبالاة الإسرائيلية. كما أنها مزقت فكرة أنه يكفي مهاجمة غزة بين المرة والأخرى بالطائرات الانتحارية بدون طيار، وبيع هذه الطائرات لنصف العالم، من أجل الحفاظ على الأمن.
بالأمس، رات إسرائيل صورا لم ترها في حياتها: سيارات عسكرية فلسطينية تقوم بدوريات في مدنها، وراكبو دراجات هوائية من غزة يدخلون بواباتها. هذه الصور يجب أن تمزق عباءة الغطرسة. قرر الفلسطينيون في غزة أنهم على استعداد لدفع أي شيء مقابل الحصول على لمحة من الحرية. هل هناك رجاء من ذلك؟ لا. هل ستتعلم إسرائيل الدرس؟ لا.
بالأمس كانوا يتحدثون بالفعل عن محو أحياء بأكملها في غزة، وعن احتلال قطاع غزة ومعاقبة غزة “كما لم تتم معاقبتها من قبل”. لكن اسرائيل تعاقب غزة منذ عام 1948، دون توقف للحظة واحدة. 75 عاماً من التنكيل، والأسوأ ينتظرها الآن. إن التهديدات بـ “تسطيح غزة” تثبت أمراً واحداً فقط: أننا لم نتعلم شيئاً. إن الغطرسة موجودة لتبقى، حتى بعد أن دفعت إسرائيل مرة أخرى ثمنا باهظا.
يتحمل بنيامين نتنياهو مسؤولية ثقيلة جداً عما حدث، وعليه أن يدفع الثمن، لكن الأمر لم يبدأ معه ولن ينتهي بعد رحيله. وعلينا الآن أن نبكي بمرارة على الضحايا الإسرائيليين؛ ولكن علينا أيضاً أن نبكي على غزة. وغزة، التي معظم سكانها لاجئون خلقتهم أيدي إسرائيل؛ غزة التي لم تعرف يومًا واحدًا من الحرية. مقالات ذات صلة تخفيض رسوم البث الإذاعي والتلفزيوني 50% 2023/10/08
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: سواليف اسرائيل غزة الغطرسة الإسرائيلية المستوطنين کل شیء
إقرأ أيضاً:
ثورة الزمن الكمومي.. هل يمكن للمستقبل أن يغيِّر الحاضر؟
مقدمة الترجمة
ماذا لو لم يكن المستقبل ذلك الأفق البعيد الذي ننتظره، بل كان حاضرا خفيا ينسج خيوطه في تفاصيل يومنا؟ ماذا لو كانت اللحظة الراهنة ليست إلا صدى لحدث لم يقع بعد؟ في عالم ميكانيكا الكم، لا تخضع الأشياء دوما للمنطق الذي اعتدناه، حيث يمكن أن يتبدّل ترتيب الزمن، ويصبح للمستقبل دور في رسم ملامح الحاضر، بل وربما التأثير في الماضي ذاته.
في هذا الكون المراوغ، تذوب الحدود بين ما كان وما سيكون، وتظهر فكرة "السببية الرجعية" بوصفها واحدة من أكثر المفاهيم غرابة وجدلا: أن تكون النتيجة هي من تخلق السبب، وأن يُعاد ترتيب الزمن كما يُعاد ترتيب الكلمات في قصيدة. فهل نحن على أعتاب ثورة جديدة في فهمنا للزمن؟! وهل تملك "آلة الزمن الكمية" مفاتيح هذا اللغز المحيِّر؟
لو أنك كسرت ذراعك غدا بعد الظهر، فهل من الممكن أن تجدها معلّقة في جبيرة هذا الصباح؟ بالتأكيد لا، فالسؤال بحد ذاته منقطع الصلة بالمنطق، فالسبب دائما يسبق النتيجة. لكن، ربما لا تسير الأمور وفق هذا النسق من البساطة بالنسبة للفوتون، ففي عالم الجسيمات دون الذرية، حيث تحكم قوانين ميكانيكا الكم وتحدث أمور تبدو مستحيلة بمنطقنا اليومي، قد يكون الشيء الوحيد الذي كنّا نظنه مستحيلا (أي حدوث النتيجة قبل السبب*) ممكنا بالفعل.
إعلانالفكرة التي تشير إلى أن المستقبل يمكن أن يؤثر على الحاضر، ويمكن للحاضر أن يؤثر على الماضي، تُعرف باسم "السببية الرجعية"، وهي فكرة ضاربة في القِدَم، تسكن زوايا الفكر منذ زمن بعيد، لكنها ظلت حبيسة الهامش، لم تجد من يمنحها اهتماما جادا، ولا من يفسح لها مكانا في فضاء الفكر السائد.
والسبب واضح، وهو أننا لا نعتاد في حياتنا اليومية رؤية نتيجة تظهر قبل السبب. ومع ذلك، ظهرت مستجدات حديثة تكشف عن خلل جوهري في الأسس النظرية لميكانيكا الكم، وهو ما قد يدفعنا إلى إعادة النظر فيما اعتبرناه يوما من المسلّمات.
ما من أحد يزعم أن السفر عبر الزمن بات واقعا ملموسا، فهو لا يزال حبيس الخيال لم تطأ قدماه أرض الواقع بعد. ولكن، إذا تمكن أصحاب نظرية السببية الرجعية -الذين يذهبون إلى المستقبل ليعيدوا النظر في الماضي- من ترسيخ فكرتهم وإثباتها، فإن العواقب الناتجة ستؤجج فينا شعورا بالدهشة والذهول.
هذه الفكرة قد تفسر العشوائية التي تبدو متأصلة في سلوك العالم الكمي، بل وقد تُعيد تشكيل هذا العالم بطريقة تجعله -أخيرا- متوافقا مع أفكار أينشتاين عن الزمان والمكان، وهو إنجاز ظل غائبا عن عالم الفيزياء لعقود، رغم الجهود المتواصلة التي بذلها العلماء في سبيل تحقيقه.
وتأكيدا على ذلك، يقول "ماثيو ليفر" من جامعة تشابمان في أورانج بكاليفورنيا: "إذا قبلنا بفكرة السببية الرجعية (أي أن المستقبل يمكن أن يؤثر على الماضي)، فإن هذا قد يفتح الباب أمام تطوير نظرية جديدة للواقع تكون أكثر انسجاما وتوافقا مع المبادئ والأفكار التي يعتقد العلماء أنها يجب أن تكون صحيحة (لكنها لا تتماشى تماما مع نظرية الكم في شكلها التقليدي*)".
لفهم هذا النوع الغريب من "التلاعب بالزمن"، علينا العودة بالزمن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حينما أطلت ميكانيكا الكمّ برؤاها العجيبة وتصوراتها الغريبة وهي تحمل بين طيّاتها ثورة فكرية تهز أركان المفاهيم العلمية التي ظلت راسخة لقرون من الزمن.
إعلانفوفقا لهذه النظرية، لا تكون الجسيمات دون الذرية (مثل الإلكترونات والفوتونات*) في حالة محددة وواضحة، بل توجد في حالة من الاحتمالات الغامضة إلى أن تُرصَد، وعندها فقط تتخذ وضعا محددا وواقعيا. غير أن ألبرت أينشتاين لم يكن مقتنعا بهذه الفكرة، ورفض أن يكون الكون محكوما بالعشوائية، وأعرب عن اعتراضه بقوله: "لا يمكن للكون أن يكون محكوما بالصدفة وحدها، ولن يتركه الله لعبث الاحتمالات".
ورغم رفض أينشتاين لفكرة العشوائية في فيزياء الكم، فإن ما استوقفه بحق في هذا العالم العجيب لم يكن عشوائيته، بل ما هو أعجب منها في تجاوزه لحدود الإدراك المألوف. ففي تجربة ذهنية شهيرة، أوضح أينشتاين أنه إذا كان ما تقوله فيزياء الكم عن الاحتمالات صحيحا، فذلك يعني أن هذا هو بالفعل شكل الواقع الحقيقي.
ومن ثم، فإن قياس أي جسيم دون ذري يمكن أن يؤثر فورا على حالة جسيم آخر، حتى وإن كان الجسيمان متباعدَين بمسافات شاسعة. وأصبح يُعرَف هذا التأثير الغريب والمباشر فيما بعد باسم "التشابك الكمّي".
عندما يتجاوز الحاضر حدود الزمنتصوَّر أن جسيمين اصطدما ببعضهما وانطلقا في اتجاهين متعاكسين، وفي أعماق هذا التلاقي، نشأت آصرة غريبة بينهما، حيث أصبحا متشابكين وفقا لقوانين الكم. في هذه الحالة، لا يمكن تحديد سرعة الجسيمين بدقة قبل القياس.
ومع ذلك، إذا قررت قياس سرعة أحد الجسيمين، فإنك ستتمكن فورا من معرفة سرعة الجسيم الآخر، وكأن هناك اتصالا فوريا بينهما رغم أنه لا وسيلة كانت متاحة لمعرفة ذلك سابقا.
ستواجه خلال هذه اللحظة خيارين: إما أن الجسيمين يؤثران على بعضهما بعضا فورا عند القياس، أو أن كلا منهما يحمل سرعة محددة منذ البداية، حتى وإن كانت فيزياء الكم عاجزة عن تحديدها.
راهن أينشتاين على الخيار الثاني، لاعتقاده أن الاتصال الفوري بين الجسيمات البعيدة مستحيل وفقا لنظريته في النسبية الخاصة، التي فرضت حدا صارما للسرعة التي يمكن أن تنتقل بها الإشارات بين الأجسام، وهي سرعة الضوء.
إعلانفي ذلك الوقت، أصر أينشتاين على أن جميع النظريات لا بد أن تخضع للحد الذي تفرضه الطبيعة: لا انتقال لحظيا، ولا تجاوز لسرعة الضوء، وهو المبدأ المعروف بـ"المحلية". وبناء على ذلك، وصف أينشتاين ظاهرة التشابك الكمّي بأنها "فعل شبحي عن بُعد"، مشيرا إلى أن هذه الظاهرة ما هي إلا وهم عابر، سيزول حين تبرز إلى السطح نظرية أعمق تُميط اللثام عن الحقيقة الكامنة.
لكن التشابك الكمّي لم يتلاشَ كما ظن أينشتاين، بل خرج من غموض المعادلات إلى نور التجربة. ففي ستينيات القرن الماضي، قدّم الفيزيائي الأيرلندي الشمالي "جون بيل" طريقة بارعة لاختبار ذلك "الفعل الشبحي عن بُعد"، الذي طالما أثار الجدل.
ومنذ ذلك الحين، نجحت التجارب المتعاقبة في إثبات ذلك بوضوح مدهش. وبلغت هذه الاختبارات ذروتها في عام 2015، حينما أُجري اختبار عُرف بـ"اختبار بيل الخالي من الثغرات"، والذي عُدّ بمثابة المسمار الأخير في نعش مبدأ المحلية. وسواء أعجبنا الأمر أم لم يُعجبنا، فقد بات "الفعل الشبحي عن بعد" أو ما يُعرَف بـ"اللامحلية" حقيقة راسخة في قلب الفيزياء الحديثة.
لكن، هل اللامحلية هي بالفعل قدّر لا مفرّ منه؟ ربما لا، فثمّة احتمال آخر يلوح في الأفق قد يبدّل قواعد اللعبة، ونحن هنا نتحدث عن السببية الرجعية التي تُعدّ فكرة جريئة تقول إن الحاضر قد يمد يده ليُعيد تشكيل الماضي.
طبيعي أن يبدو ذلك ضربا من العبث عند الوهلة الأولى لأنه ببساطة يناقض كل ما اعتدناه من تدفق الزمن في اتجاه واحد، حيث تسير الأحداث من السبب إلى النتيجة وليس العكس، لكن ما إن نتأمل الأمر بعمق، حتى ندرك أن فكرة تأثير الحاضر على الماضي ليست أشد غرابة من التشابك الكمّي نفسه، وقد تكون المفتاح لفكّ عقدتين من أعقد ألغاز الفيزياء الحديثة.
في السياق ذاته، يعلِّق "هيوو برايس"، الفيلسوف الذي يدرس الفيزياء في جامعة كامبريدج: "من المؤكد أن جون بيل نفسه اعتقد أن أعماله تكشف عن توتر عميق مع نظرية النسبية الخاصة، وتجسد هذا التوتر في التناقض بين مفاهيم ميكانيكا الكم وقوانين النسبية الخاصة، إلا أن جاذبية السببية الرجعية تكمن في قدرتها على إزالة هذا التوتر".
إعلانفي هذا السياق، فإن فكرة السببية الرجعية قد تمنحنا فرصة لإعادة بناء نظرية الكم بطريقة أكثر توافقا مع نظرية النسبية العامة لأينشتاين، التي تشرح كيف أن الزمكان ينحني تحت تأثير المادة والطاقة، وهو ما يُفضي إلى ظهور الجاذبية.
ويقول "كين وارتون"، عالم الفيزياء النظرية من جامعة ولاية سان خوسيه في كاليفورنيا: "حاول العديد من العلماء إعادة صياغة الجاذبية وفقا لمفاهيم ميكانيكا الكم، لكن ربما من الأفضل أن نأخذ الأمر من زاوية معاكسة، فبدلا من محاولة تفسير الجاذبية وفقا لميكانيكا الكم، ربما علينا إعادة تصور نظرية الكم نفسها في إطار الزمكان (الزمان والمكان) كما فسرته نظرية النسبية العامة. ويبدو أن السببية الرجعية هي السبيل لتحقيق ذلك".
لم تكن فكرة أن الحاضر قد يؤثر على الماضي في عالم الكم إلا ضربا من الخيال حتى أواخر الأربعينيات، حينما اكتشف الفيزيائي الشاب "أوليفييه كوستا دي بويرغارد" وهو في باريس طريقة مبتكرة لتفسير التشابك الكمّي بين الجسيمات دون الحاجة للجوء إلى اللامحلية (أي التأثير الفوري بين الجسيمات البعيدة).
اقترح كوستا دي بويرغارد أن قياس أحد الجسيمين يرسل إشارة إلى الماضي، إلى اللحظة التي اصطدم فيها الجسيمان. وهذه الإشارة قد تُعيد تشكيل مسارها لتسافر مواكبة للجسيم الآخر في المستقبل، لتضمن أن سرعته تتناغم تماما مع القياس الذي أُجري على الجسيم الأول.
وإذا سلكت الإشارة هذا المسار، فيمكننا حينذاك الحفاظ على مفهوم المحلية، دون الحاجة إلى افتراض أن الجسيمات المتشابكة قد حُددت سرعاتها في لحظة التقاء مصيرهما. وبذلك نكون قد تجنبنا التواصل الفوري بين الجسيمات، دون انتهاك مبادئ النسبية التي تقيِّد سرعة أي تفاعل بين الأجسام.
في تلك الحقبة، لم يقدِّم أحد دليلا قاطعا على أن اللامحلية هي حقيقة واقعية، إلى أن ظهر جون بيل وألمح إلى وجود أسباب تدفعنا لإعادة النظر في اقتراح كوستا دي بويرغارد بجدية. ولكن حتى في ذلك الوقت، ورغم توافد العديد من التفسيرات المبدعة التي حاولت تفسير النتائج المحيرة لتجارب بيل، لم تتمكن السببية الرجعية من العثور على موضع قدم راسخ لها أو قبول واسع في الأوساط العلمية.
إعلانلم يحاول برايس إحياء فكرة السببية الرجعية حتى عام 2010، وقد دافع عن هذه الفكرة بناء على مبدأ يُسمى "تناظر انعكاس الزمن"، وينص هذا المبدأ من الناحية الرياضية على أن القوانين الأساسية للفيزياء تعمل بالطريقة ذاتها سواء كان الزمن يسير إلى الأمام أو إلى الوراء.
بالطبع، هذا التفسير لا يتماشى مع تجربتنا اليومية، إذ لا يمكنك مثلا إعادة البيضة المخفوقة إلى ما كانت عليه، أو إعادة الزجاج المكسور إلى حالته الأصلية (ويعتقد العلماء أن السبب في ذلك يعود إلى القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الإنتروبيا -وهي مقدار الفوضى- تزداد دائما مع مرور الزمن عندما يتعلق الأمر بأعداد كبيرة من الجسيمات)".
لكن الحقيقة هي أن الفيزياء الأساسية لا تهتم تقريبا باتجاه الزمن. ويتفق الغالبية العظمى من الفيزيائيين على أن معظم القوانين الأساسية للفيزياء لا تخالف انعكاس الزمن، كما أنهم لا يرغبون في التخلي عن هذا المبدأ.
انطلاقا من مبدأ أن قوانين فيزياء الكم تخضع لتناظر انعكاس الزمن، توصل برايس إلى أن السببية الرجعية ليست مجرد احتمال، بل نتيجة حتمية. غير أن حجته لم تكن محصنة تماما، بل تسلّلت إليها ثغرة خفيّة. فقد افترض برايس أن "الحالة الكمومية"، ذلك التوصيف الرياضي للجسيمات، تمثل كيانا حقيقيا في العالم المادي، وليست مجرد أداة رياضية تعكس جهلنا بماهية الجسيمات. وكان هذا الافتراض وحده كافيا لتجاهل أطروحة برايس ما دام أن الجدل حول حقيقة "الحالة الكمومية" لا يزال قائما، يتأرجح بين الواقع والافتراض.
في عام 2017، وجد كل من "ليفر" و"ماثيو بوسي"، اللذان يعملان الآن في جامعة أكسفورد، طريقة لسد الثغرة في حجة برايس. فقد جمعا بين أفكار برايس حول تماثل انعكاس الزمن وأفكار جون بيل عن التشابك الكمومي.
إعلانوفي هذا السياق، أثبتا أن السببية الرجعية هي ضرورة لا غنى عنها للحفاظ على تناظر انعكاس الزمن بغض النظر عما إذا كانت الحالة الكمومية حقيقية أم لا. وهكذا، طرح كلاهما سؤالا جديدا ومُربكا: هل نتخلى عن هذا المبدأ الأساسي في الفيزياء وهو تناظر انعكاس الزمن، أم نضطر لقبول فكرة أن المستقبل قد يؤثر على الماضي في عالم الكم الغارق في الغموض؟
إن نظرية أينشتاين عن النسبية، والتي تدمج الزمان والمكان في كيان واحد يُعرف بـ"الزمكان"، تهزّ بصورة جذرية فكرة أن هناك "لحظة حاضرة" يعيشها الجميع في الكون. فما يحدث "الآن" في مكان محدد يعتمد على موقعك وسرعة حركتك، لذا قد يرى مراقبان مختلفان أشياء مختلفة في الوقت ذاته وفي المكان ذاته، فالمشهد يتبدل بتبدل الموقع، ويتلوّن وفق السرعة التي تمضي بها.
هكذا يتضح أن "الآن" ليس سوى وهم، وأن الزمن في حقيقته لا "يمر" كما نتخيل، بل يظلّ ساكنا. كما أن شعورنا بانسياب الوقت ليس سوى نتيجة لنظرتنا المحدودة للعالم.
أما الواقع الأعمق، فهو أن الماضي والحاضر والمستقبل يشكّلون معا كُتلة واحدة أبدية. ففي "الكون الكتلي"، حيث يتعايش الماضي والمستقبل جنبا إلى جنب في نسيج واحد لا يتغير، تصبح فكرة السببية الرجعية أمرا أقل غرابة.
خلال هذا التصور، لا يختفي الماضي بمجرد قدوم المستقبل، بل كل الأحداث، سواء كانت في الماضي أو المستقبل، موجودة في الوقت ذاته، ومن ثم يمكن للمستقبل أن يؤثر على الماضي بسهولة.
يرى ليفر أننا بحاجة الآن إلى نسخة جديدة من نظرية الكم، تأخذ بعين الاعتبار مفهوم "الكون الكتلي"، بحيث تسمح للسببية الرجعية بأن تظهر بصورة طبيعية في صياغة النظرية.
ويقترح أننا لا ينبغي أن ننظر إلى فيزياء الكم على أنها تسير في خط زمني يبدأ من الماضي ويمتد إلى المستقبل، بل يجب أن نصوغها بوصفها صورة كاملة واحدة تشمل كل أبعاد المكان والزمان دفعة واحدة، كما لو كنا نعمل على تركيب أحجية، إذ لا نبدأ دائما من الأسفل ونتدرج للأعلى، بل كل قطعة تؤثر على موضع باقي القطع من حولها.
إعلانوبالمثل، يمكن للفيزياء أن تعمل بهذه الطريقة: كل جزء من الزمكان يفرض قيودا وشروطا على الأجزاء المجاورة له، أي أن الأحداث في المستقبل يمكن أن تؤثر على ما يحدث في الماضي، والعكس.
لكن إذا كان عالم الكم يعمل فعلا ضمن إطار "كون كتلي" يخترقه مبدأ السببية الرجعية، فلماذا لا نلاحظ هذا التأثير في حياتنا اليومية، فنحن -في نهاية المطاف- مكوّنون من الجسيمات الكمية ذاتها؟ يكمن الجواب في مبدأ "اللايقين" الذي صاغه هايزنبرغ، وينص على أنه من المستحيل أن نعرف بدقة في نفس اللحظة كلا من موضع الجسيم وسرعته (أو زخمه).
وبسبب هذا الحد الفاصل في معرفتنا، تظل بعض خصائص العالم الكمي خفية عن إدراكنا دائما. هذا الغموض هو ما يفتح الباب لاحتمال أن يكون هناك تأثير رجعي، دون أن يكون بمقدورنا استغلال ذلك لإرسال رسائل إلى الماضي. وعن ذلك، يقول وارتون: "إذا كان قراري بعد دقيقة سيحدد شيئا كمّيا لا أعرفه الآن، فلن أستطيع استخدامه لإرسال رسالة إلى نفسي في الماضي، ورغم ذلك يظل ما حدث شكلا من أشكال السببية الرجعية".
يُعدّ "وارتون" أحد العلماء الذين يرون أن فكرة السببية الرجعية ليست أغرب من التشابك الكمّي ذاته. وبرأيه، فإنها لا تفتح بابا للغرابة فقط، بل تأتي أيضا بمزايا عديدة، أهمها أنها قد تتيح للفيزيائيين فرصة إعادة بناء نظرية الكمّ بطريقة تتناغم مع نسيج الزمكان. فمن خلال استعادة نوع من "المحلية"، يمكن للسببية الرجعية أن تقودنا إلى تفسير طال انتظاره، وهو كيف تنشأ الجاذبية في العالم الكمّي.
تقول "إميلي أدلام"، الباحثة النظرية في جامعة كامبريدج، إن العديد من الفرص والطرق العلمية لم تُكتشَف بسبب اعتماد الناس على الطريقة التقليدية في فهم الكون والزمن المستندة إلى نظرية نيوتن في الحركة والفيزياء.
إعلانفي هذه الصورة، يُعتبر الزمن متسلسلا ومحددا في اتجاه واحد فقط (من الماضي إلى المستقبل). وقد تفتح السببية الرجعية أبوابا جديدة من الاحتمالات التي قد تساعدنا في الخروج من الحالة المأزومة التي نواجهها حاليا.
قد يكون للعشوائية في فيزياء الكم، التي كانت دائما تزعج أينشتاين لأنها تتعارض مع فهمه التقليدي للكون، تفسير من خلال السببية الرجعية. وفقا لإميلي أدلام، قد تقدِّم السببية الرجعية حلا أنيقا لهذه العشوائية: فالفراغ أو العشوائية في فيزياء الكم ليست حقيقة جوهرية، بل هي مجرد وهم ينشأ بسبب أننا نرى جزءا فقط من الصورة الكبيرة في كل لحظة (بمعنى آخر، عندما ننظر إلى الظواهر الكمومية، نحن لا نرى سوى جزء من التفاصيل التي تجعلها تبدو عشوائية، في حين أن الصورة الكاملة قد تشرح تلك العشوائية بطريقة أكثر تنسيقا وترتيبا*).
ما قد يبدو لنا عشوائيا في عالم فيزياء الكم قد لا يكون حقيقيا، بل هو نتيجة لنقص في رؤيتنا الكاملة للمشهد الزمكاني. وتؤكد إميلي أدلام أن اعتراض أينشتاين على خضوع الكون للصدفة لم يكن في غير محله، فقد كان محقا في اعتقاده بأن وراء هذا العالم نظاما دقيقا تحكمه قوانين معقدة، لا فوضى عشوائية.
الأمر أشبه بمن يحاول حل لغز سودوكو من اليسار إلى اليمين. قد تبدو الأرقام التي تُملأ وكأنها تظهر عشوائيا، لكن لو نظرنا إلى الشبكة بأكملها دفعة واحدة، لوجدنا أن هناك قواعد دقيقة تحكم كل خانة، وأن ما بدا لنا فوضويا هو في الحقيقة ناتج عن نظام صارم ومحدد.
وبالمثل، يمكن لما يحدث "هنا والآن" أن يؤثر في الماضي البعيد، حتى في مجرّة بعيدة، لكن هذه التأثيرات لا تكون مفهومة إلا إذا نظرنا إلى الكون من منظور "الكتلة الزمنية الواحدة" أو ما يعرف بـ"الكون الكتلي"، حيث لا يوجد فرق جوهري بين الماضي والحاضر والمستقبل، كلّها موجودة دفعة واحدة.
إعلانورغم أن هذا المفهوم يبدو كأنه خروج جذري عن قوانين الفيزياء التقليدية التي نفهمها، ترى العالِمة أدلام أن هذا ليس أمرا مقلقا، بل على العكس، تشير إلى أن افتراضنا بأن قوانين الطبيعة يجب أن تكون "مريحة" لنا أو منطقية وفق منظورنا البشري هو افتراض ساذج. ومن وجهة نظرها، لا يُعد تبني فكرة السببية الرجعية أمرا غريبا أو متطرفا، بل هو ببساطة رؤية مختلفة لما قد تكون عليه الطبيعة على حقيقتها.
لكن على الجانب الآخر، لا يشاطر الجميع حماس أدلام لفكرة السببية الرجعية. صحيح أن تناظر الانعكاس الزمني يُعد سمة محبوبة ومقدّسة في معظم القوانين الأساسية للفيزياء، إلا أن النسخة التي استخدمها كلٌّ من ليفر وبوسي في حجتهما ليست النسخة التقليدية المتعارف عليها، فبدلا من أن يعكسا اتجاه الزمن في قوانين الفيزياء نفسها، قاما بعكس ترتيب خطوات تجربتهما الذهنية (أي أنهما لم يغيّرا القوانين، بل غيّرا تسلسل الأحداث في التجربة ليروا إن كانت النتائج ستظل كما هي).
وبالفعل، لاحظا أن النتائج لم تتغير. أثار هذا الفرق الدقيق شكوك عدد من الفيزيائيين المتحفظين، ودفعهم إلى التريث قبل قبول الفكرة أو اعتبارها دليلا حاسما على صحة السببية الرجعية.
وعلى الرغم من أن السببية الرجعية تفتح آفاقا جديدة في فهم العالم الكمومي، فإنها ما زالت عاجزة عن تقديم إجابات كاملة لكل الأسئلة المعقدة التي تطرحها فيزياء الكم، على الأقل في الوقت الحالي.
ومن جانبه، يضيف الفيزيائي "وارتون" أن القصة لا تزال في بداياتها، والفصل التالي منها بدأ للتو. ويكمن التحدي الأكبر الآن في بناء نظرية متكاملة للسببية الرجعية، تكون قادرة على تفسير كل ما تفسّره نظرية الكم القياسية المعروفة بدقتها ونجاحها الكبير حتى الآن.
صحيح أن السببية الرجعية في ميكانيكا الكم تُعد واعدة في تفسير بعض الظواهر المحيرة مثل نتائج تجارب بيل، إلا أنها ليست الحل السحري لكل مشكلات التفسيرات الكمومية. ففي عمل بحثي حديث للباحثين "سالي شرابنل" و"فابيو كوستا" من جامعة كوينزلاند في أستراليا، تبيّن أنه حتى نظرية كمومية كاملة قائمة على السببية الرجعية لن تتمكن من تجاوز جميع التحديات المطروحة.
إعلانإحدى هذه التحديات تُعرف باسم "السياقية الكمومية"، وهي فكرة غريبة مفادها أن نتائج التجارب الكمومية لا تعتمد فقط على ما يقاس، بل أيضا على التجارب أو القياسات الأخرى التي تُجرى في الوقت نفسه.
وهذه الفكرة تُربك الفيزيائيين لأنهم يفضلون أن تكون نتائج التجارب مستقلة وواضحة، دون تأثرها بسياقات خارجية. وقد أظهر شرابنل وكوستا أن السببية الرجعية لا يمكنها ببساطة تجاهل مفهوم السياقية الكمومية. بمعنى آخر، حتى لو كانت السببية الرجعية تُقدِّم تفسيرا لبعض الظواهر الكمومية، فإنها لا تستطيع حل مشكلة السياقية الكمومية.
في نهاية المطاف، تدعم شرابنل فكرة السببية الرجعية، وتتفق مع ليفر على أنها تستحق الاستكشاف والدراسة، لكنها تُحذر من الاعتقاد بأنها حل سهل ومجاني لمشكلات ميكانيكا الكم، إذ تقول: "لا يقتصر الأمر على مجرد افتراض وجود تأثيرات تعود بالزمن إلى الوراء، ولكن فهم الواقع الكمّي يتطلب شيئا أبعد وأعقد من ذلك بكثير، شيئا يفوق التصورات التقليدية. ومع ذلك، أرى في ذلك جمالا خاصا، وتحديا يبعث على الدهشة والانبهار".
____________
* إضافة المترجم
هذه المادة مترجمة عن نيوساينتست ولا تعبر بالضرورة عن الجزيرة نت