لقد وصف روبرت بولت استراتيجيَّته في كتابة السِّيناريو بأنها «الوجود على الأقل في مدى الحقيقة الفعليَّة... والوجود كذلك في مدى الحقيقة الفعليَّة عن الرجل نفسه» (34). وهكذا فإن النَّتيجة النهائيَّة لتلك «الاستراتيجيَّة» هي هويَّة جنسيَّة مُبْهَمَة وإشكاليَّة تضيف المزيد من نكهات الغموض، والضَّبابيَّة، والانسحار بـ«فاشيٍّ رومانسيٍّ» كما يصفُ بولت نفسه لورَنس (35).

بيدَ أنه ينبغي التَّوكيد على أن اهتمامي بالمثليَّة الجنسيَّة هنا إنَّما يتعلق بما هو موجود في الواقع السردي (diegetic) في الفيلم، وليس بالمعنى البيوغرافي/ التَّاريخي في حياة لورَنس العرب؛ فما يجعل الإحالات إلى المثليَّة الجنسيَّة ضروريَّةً هو حقيقة أن الفيلم يَسْتَوضِعُ أسئلة تخص الرَّغبة، والذُّكوريَّة، والاستيهام، والأنثويَّة. وفي هذا السِّياق يذهب مارك دي جوردَن Mark D. Jordan إلى هذه المحاججة: «لأن الذُّكورة مَقُولَةٌ من مقولات الجَنْدَر وليست من مقولات الجنسانيَّة، فإن مقولة «المثليَّة الجنسيَّة» تعمل على مستوى الجَنْدَر وليس الجنسانيَّة على الرغم من أنها تتظاهر بأنها مقولة للجنسانيَّة» (36). إن المثليَّة الجنسيَّة، والدَّورَ، والرَّغبة، والهويَّة كلها مُخَلَّقة في الفيلم بوصفها أداءً، وتحديدا هي أداء للجمهور الغربي المتعطِّش لهكذا تجريبيَّات. والحقيقة هي أن الجنرال أللنبي Allenby General يقبض على جوهر هذا المظهر المُحدَّد من ثيماتِيَّات الفيلم في لقائه الأول بلورَنس بأن يعلِّق على غطاء رأسه (الحطَّة والعقال) وبقية مكوِّنات زيِّه العربي قائلا: «ما الذي تعنيه بالمجيء إلى هنا مرتديا هذه الثِّياب؟! مَسْرَحَانِيَّاتُ هواة»؟! يجيب لورَنس عن هذا السؤال على نحو له مغزاه: «أوه، نعم، بالكامل»! هذه «المَسْرَحَانِيَّاتُ» إنَّما تكمن في قلب الميكانِزمات التي تنتج التَّمثيل (representation) الاستشراقي.

لقد أصرَّ إدوَارد سعيد على طول الخط أن الاستشراق ليس مجرد «حقلٍ معرفيٍّ» تنجُم عنه التَّمثيلات، ولكن كذلك أن «فكرة التَّمثيل فكرة مسرحيَّة» (37). وعلى الرَّغم من أن هذا يبدو من نافلة القول: إنه يكتسب المزيد من وثاقة الصِّلة بالموضوع والرُّسوخ حين يُطبَّقُ على التَّمثيلات التي تتضمَّن أسئلة تتعلَّق بالسِّياقات السِّياسيَّة والأيديولوجيَّة كما هو الحال في فيلم «لورَنس العَرَب». وحقًّا فإن تومَس إدوَارد لورَنس نفسه، الكولونيل في مكتب الاستخبارات البريطانيَّة في القيادة العامَّة في القاهرة، كان دقيقا بصورة واعية، ومُحَدَّدة، حول الهويَّة المَسْرَحَانِيَّة. لقد ألَّف الكولونيل لورَنس، على سبيل المثال، دليلا ميدانيًّا لزملائه من الضُّباط السِّياسيِّين البريطانيِّين العاملين في الشرق الأوسط حول كيفيَّة التَّعامل مع العرب عنوانه «سبعة وعشرون بندا». فلنقرأ بعض النَّصائح التي يزجيها لورَنس في ذلك الدَّليل: إن «التَّعامل... فَنٌّ وليس عِلما». وانطلاقا من هذا الحذق في التَّمييز فإنه ينصح زملاءه الضُّباط هكذا: «إذا ما استطعت أن ترتدي زيَّا من الطَّقم العربي عندما تكون مع القبائل فإنك ستظفر بثقتِهم وحميميَّتهم إلى درجة يستحيل التَّأتي عليها فيما لو كنت مرتديا زيَّك العسكري... ستكون مثل ممثِّل في مسرح غريب، تؤدي دورا ليل نهار على مدى شهور بلا استراحة لأجل غَرَضٍ توَّاق... إذا ما ارتديتَ ثيابا عربيَّة على الإطلاق فاذهب إلى آخر الطَّريق بارتداء كامل الزِّي العربي من قمَّة الرأس إلى أخمص القدمين. اترك أصدقاءك وأزياءك الإنجليزيَّة على الشاطئ وانغمِس في العادات العربيَّة بالكامل. إن من الممكن للأوروبي، بدءا من هذا المستوى، أن يغلب العرب في لعبتهم» (38).

سيكون من نافلة القول إن نصيحة لورَنس لأقرانه من ضُبَّاط الاستخبارات البريطانيَّة العاملين في المنطقة العربيَّة، إضافة إلى خبثها الطَّافح، مكتوبة بلغة كولونياليَّة، وإمبرياليَّة، وعنصريَّة، واستشراقيَّة جليَّة. وفوق ذلك فإنها تفيض بـ«المسرحانيَّة». لكن قد يكون من المفيد هنا تذكُّر أن فيلم «لورَنس العَرَب» يؤكِّد بكل الطُّرق الممكنة الصِّراع والالتباس اللذين يَخبِرهما لورَنس في رحلته الحَرفيَّة، والوجوديَّة، والسِّياسيَّة، والأيروسيَّة. ولا شك أنه من المفيد، أيضا، استحضار أن لورَنس قد خبِرَ في الحياة الفعليَّة تصارعا واضحا في الهويَّة بحيث إن أحد زملائه في المكتب العربي في القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة، وهو هاري سينت جون بي فِلبي Harry St. John B. Philby، وصفه بأنَّه «خليط مثير للفضول من حساسية امرأة ورجولة ذَكر» (39). والحقيقة هي أن هناك صورة نادرة لِلورنَس نراه فيها مرتديا ثياب امرأة عربيَّة. ويقول تعليق تلك الصُّورة: «يتنكَّر لورَنس أحيانا في هيئة امرأة غجريَّة من سوريا» (40).

هكذا فإن رحلة لورَنس في الفيلم تتمرأى بوصفها مجازا لاستكشاف الذَّات والبحث عن هويَّة. وهذه الثَّيمة مألوفة جدا في الأدب والسِّينما الكولونياليَّين والاستشراقيَّين، حيث يُباحُ بفضاء الآخر بوصفه شاشة مُتاحَة ينعكس عليها قلق الذَّات، وفنتازيَّاتها، ومكبوتاتها، ورُهاباتها، ورغباتها، وعُقَدها. في هذا السِّياق فإن الفيلم يُرينا لورَنس بوصفه مأسورا في طَوْرٍ أوديبيٍّ دائم، غير قادر على حسمه أبدا (41).

--------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(34): Robert Bolt, quoted in Gary Crowdus, Lawrence of Arabia: The Cinematic (Re)Writing of History, Cineaste 17, no. 2 (1989): 17.

(35): Robert Bolt, quoted in Alain Silver and James Urisini, David Lean and His Films (Los Angeles, Silman-James, 1992), 154.

(36): Mark D. Jordan, «Making the Homophile Manifest,» in Swinging Single: Representing Sexuality in the 1960s, ed., Hilary Radner and Moya Luckett, 200.

(37): Edward Said, Orientalism, (New York, Vintage, 1979), 63.

(38): T. E. Lawrence, The Essential T. E. Lawrence: A Selection of His Finest Writings (New York: Oxford University Press, 1992), 136, 139-49.

(39): Harry St. John B. Philby, quoted in Robert D. Kaplan, The Arabists: The Romance of an American Elite (New York: Free Press, 1995), 51.

(40): تلك الصُّورة مُتَضَمَّنَة في هذه المادة، وقد نشرت للمرة الأولى في:

Lowell Thomas, With Lawrence in Arabia (New York: Century, 1924), facing 251.

من نافلة القول إنني لا أتوافر على وسيلة تجعلني أؤكد أو أنفي مصداقيَّة هذه الصُّورة بعد مرور قرن من الزَّمان على التقاطها.

(41): «وفقا لِسِجمُند فرويد Sigmond Freud فإن عقدة أوديب يمكن أن تُحَلَّ بعدد من الطُّرق، وما لم تُحل فإنه يمكن لذلك أن تكون له عواقب وخيمة». أنظر:

Malcolm Bowie, Bisexuality, in Feminism and Psychanalysis: A Critical Dictionary, ed., Elizabeth Wright (Oxford: Blackwell, 1996), 28.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ة الجنسی

إقرأ أيضاً:

«رواد الإمارات» يحصد برونزية «جولف العرب»

عجمان (الاتحاد)

أخبار ذات صلة الجزيرة وعجمان.. «السلسلة الإيجابية» بـ«المعنويات العالية» عمار بن حميد: تحسين جودة التعليم وتنفيذ مبادرات تحقق التنمية

حقق منتخب «الرواد» الإماراتي المركز الثالث، وحصل على الميدالية البرونزية، في ختام مشواره في البطولة العربية الـ 43 للرجال، والثانية لرواد الجولف التي يحتضنها نادي الزواء للجولف في عجمان.
وحصل على الذهبية المنتخب المغربي بـ 310 ضربات، وحل ثانياً المنتخب اللبناني 317 ضربة، وجاء المنتخب الإماراتي ثالثاً بنتيجة 325 ضربة، بواقع 37 ضربة فوق المعدل، والعُماني رابعاً بنتيجة 325، بواقع 37 ضربة فوق المعدل، وضم المنتخب الإماراتي اللاعبين سالم بن دسمال، وسعيد المالك، وجمال بن مرغوب.
وفي منافسات فردي «الرواد»، فاز بالمركز الأول المغربي سليمان برادا 151 ضربة، بواقع 7 ضربات فوق المعدل، والمركز الثاني اللاعب اللبناني سميح الزين 158 ضربة، بواقع 14 ضربة فوق المعدل، والمركز الثالث تعادل فيه اللاعبان اللبناني رشيد عقل، والمغربي جمال مانا 159 ضربة، بواقع 15 ضربة فوق المعدل.
وفي منافسات منتخبات الرجال، حافظ المنتخب المغربي على الصدارة لليوم الثاني على التوالي بتحقيقه 408 ضربات، بواقع 24 ضربة تحت المعدل، وحل ثانياً منتخبنا الوطني 427 ضربة، بواقع 5 ضربات تحت المعدل.
وفي منافسات فردي، الرجال جاء بالمركز الأول المغربي آدم بريسنو 133 ضربة، وفي المركز الثاني تعادل المغربي هوجو تروميتر، والقطري علي الشهراني 138 ضربة.
وبالنسبة لنتائج لاعبي الإمارات بهذه الفئة، حقق المركز الخامس اللاعب الإماراتي أحمد سكيك 140 ضربة، بواقع 4 ضربات تحت المعدل، وزميله ريان أحمد 142 ضربة، ومن ثم زميله اللاعب سام مولين 146 ضربة، ولاعبنا جوناثان سلفاراج سجل 148 ضربة.

مقالات مشابهة

  • «رواد الإمارات» يحصد برونزية «جولف العرب»
  • الخيل فى رحاب البادية
  • العراق يدعو العرب إلى اجتماع طارئ لمواجهة تهديدات إسرائيل
  • "الصحفيين العرب يتضامن مع النقابة اليمنية فى عدن ضد الإجراءات التعسفية من السُلطة
  • باحث فلكي: علاقة العرب مع النجوم علاقة وجود وحياة
  • الزعاق : علاقة العرب بنجوم السماء علاقة وجود وحياة..فيديو
  • "المصرفيين العرب” يكرم وزير التموين بجائزة التميز والانجاز المصرفي العربي للعام 2024
  • بصراحة
  • انتخاب علي أبو سيف أمينًا عامًا لاتحاد الأطباء العرب.. وعبد الرحمن كامل أمينًا للصندوق
  • «الشطرنج» يعتمد المشاركات الدولية