لا توجد حرب هزّت الكون كما فعلت الحرب العالمية الثانية، اذ قدّمت صورة عالم مليء بالجنون، حرب أزهقت أرواح أكثر من 40 مليون إنسان بل ربما وصل عدد الضحايا إلى حوالي 60 مليونا ولهذا بقيت كوابيسها وقصص مآسيها راسخة في العقول كما واكبتها السينما وسائر الوسائل الإبداعية وصارت جزءا من الثقافة الشعبية.

وعلى الرغم من ركام الأفلام التي أنتجت إبان الحرب وبعدها وحتى يومنا هذا حاملة قصصا عن تلك الكارثة البشرية الكبرى إلا أن السينما لم تتوقف حتى الساعة عن إنتاج المزيد والمزيد من تلك الأفلام حتى وصل عددها إلى ما يقارب 1900 فيلم حتى الآن.

يقول الموقع الرسمي الذي يوثّق للحرب العالمية الثانية في ولاية اورليانز الأمريكية: إنه في سنوات حكم الرئيس الأمريكي روزفيلت (الممتدة بين 1933 و1942) حرص على تشجيع هوليوود على إنتاج المزيد والمزيد من الأفلام عن الحرب العالمية الثانية وسخّر من أجل ذلك ما عرف بمكتب المعلومات الحربية المعروف اختصارا OWI المرتبط به لتقديم كافة المعلومات والمساعدة لأي جهة تقوم بإنتاج فيلم عن تلك الحرب وكان على صلة وثيقة مع استوديوهات الإنتاج السينمائي.

والحاصل أن الوعي والذائقة والثقافة الشعبية قد تشابكت كلّها في فهم طبيعة الفيلم الحربي، ولهذا كانت هنالك كثير من الأفلام التي أدرجت في إطار أفلام التعبئة والدعاية الحربية في مقابل تلك الأفلام التي قدمت قصصا إنسانية وواقعية ولهذا يمكن إدراج أفضل عشرة أفلام في كل حقبة زمنية أو عقد من الزمن ابتداء من الخمسينيات وحتى يومنا هذا.

وها هي السينما الألمانية تمضي هي الأخرى في مسار السينما الهوليوودية نفسه في تقديم أفلام تلك الحرب ومنها هذا الفيلم للمخرج بيتر ثورراث- وهو مخرج ألماني من مواليد 1971 وله عشرة أفلام روائية طويلة.

يبدأ هذا الفيلم بصرخة إدانة ضد الحرب من خلال ملاحقة الجندي الهارب هاينريش – يقوم بالدور الممثل روبرت ماسر، من طرف كتيبة من الجيش النازي يترأسهم جنرال تهشّم جانب من وجهه من جراء عملية حربية وصار يخفي الجانب الآخر بقطعة من الجلد، وهنا على امتداد تلك الطبيعة المفتوحة سوف تتكرّر صورة النازي التي سبق وشاهدناها في عشرات الأفلام لكن في مقابلها صورة الجندي المتمرّد الشجاع الذي لن يتردّد وهو على حافة الهاوي وتنفيذ حكم الإعدام فيه في قول الحقيقة التي كانت السبب وراء هروبه:

«إني لم أرِد يوما هذه الحرب، لم يأخذ أحد رأيي، لقد ألبسوني هذا الزي وقاتلت على أيّة حال، طوال ستّ سنوات عديمة المعنى، لقد سئمتُ هذا الجنون».

أما الجنرال فلسوف يرد عليه قائلا: «لا تزال أمامنا معارك كثيرة ولابد أن نقاتل وننزف ونتألّم ونموت، فدم الآريين يسري في عروقك وصدرك عامر بالنياشين لكنك عارٌ وجبان وخائن».

وفيما يردد الجنرال مقولة: نحن أمة المنتصرين، يردد الجندي الهارب والمتمرد مقولة بل نحن أمة القتلة.

ما بين أمّة المنتصرين وبين أمّة القتلة سوف تنسحق حيوات البشر بين فكّي تلك المعادلة القاسية التي لا ترحم ومنها أقدام الفلاحة الشابة إلسا – تقوم بالدور الممثلة ماري هيك، على إنقاذ الجندي الهارب من الموت وهو معلق على غصن شجرة والحبل يطوّق رقبته ليستعيد أنفاسه في اللحظات الأخيرة، ومن هنا سوف تنطلق تلك الدراما المليئة بالعنف والقتل والعنصرية.

لا أحد يمكن أن يعيش بسلام في تلك البرهة الزمنية الفاصلة ما بين الهزيع الأخير لانتهاء الحرب وانتصار الحلفاء وانتحار هتلر وبين الزهو النازي والغطرسة والغرور التي لا تزال تتملك البقية الباقية من الجنرالات من عتاة مجرمي الحرب.

واقعيا أنهم وهم يصولون ويجولون في أرجاء تلك القرية من الريف الألماني لم يكن يهمهم فرض الطاعة والتمجيد للفوهرر وللرايخ الرابع فقط وإنما جني الغنائم من اليهود الأثرياء الذين تم انتزاعهم من بيوتهم وممتلكاتهم، ومن ذلك الذهاب إلى منزل اليهودي لوفنشتاين للحصول على ألواح الذهب المخبأة في مكان ما من حطام المنزل وباتجاه مزيد من الاستعطاف واستدرار مشاعر المشاهد وهنا يتم تأسيس العديد من الحبكات الثانوية والمضي في الصراع إلى أقصاه فمن جهة هنالك خط سردي يرتبط بالجندي هاينريش والقروية إلسا وهم ملاحقون من طرف الجيش النازي لاسيما بعد الهجوم على المنزل ومحاولة اغتصاب إلسا وتكرار الاشتباكات بين هاينريش وأفراد الجيش النازي، ومن جهة أخرى هنالك مجموعة عمدة القرية وأتباعه الذين يحتفظون بألواح الذهب، بينما الحائز الحقيقي والمجهول فهو القس الذي يخبئ تلك الألواح تحت محراب الكنيسة بينما يتلقى الشتائم المقذعة من النازيين.

على أن من بين أكثر التحولات دراميا وعاطفيا هي عندما يلاحق الجنود شقيق إلسا المعوق الذي يتقرر إعدامه بإلقائه من أعلى برج الكنيسة لكنه ينجح في قتل الجنود الذين أرادوا إلقاءه من أعلى وبقي يمطرهم بالرصاص حتى مقتله ووقوع إلسا أسيرة لدى الجنرال ستارنفيلد (الممثل اليكساندر سشير وهو الذي من فرط فصاميته يسترجع ماضي علاقته بفتاة في الماضي على أنها إلسا نفسها ليقدم لها خاتم الزواج فيما تتمكن هي من دس الزرنيح له وقتله.

ليس مستغربا في وسط هذه الدراما الفيلمية أن نقرأ تقييمات نقاد لامعين لهذا الفيلم في كونه يندرج في نوع تلك الأفلام التي تبحث عن منعطفات ومواقف إنسانية قد تكون مجنزرات الحرب العملاقة قد مرّت عليها وداستها بشراسة ومن دون رحمة وهو ما يذهب إليه الناقد بيتر سوبزينسكي في موقع روجر ايبيرت والناقدة ليسلي فيلبيرن في الجارديان البريطانية والناقد أولي ديتش في موقع موفي ويب وغيرهم، والحاصل أن من بين ذلك ولادة قصص الحب من رحم الصراع والقتل ودخان الحروب ومساحة الظلم الهائلة والبطش الذي يلحق بالفئات الأكثر ضعفا كالنساء والمسنين والمعوقين وهو ما قدمه هذا الفيلم من خلال شخصية القس الكهل الذي أهين وتم التنكيل به ثم قتل في مقابل إلسا وشقيقها المعوق.

ولنتوقف هنا عند البنى السردية التي أسست لدراما الحرب والبحث في التفاعلات الأكثر تأثيرا في بنية الصرع، فمن بين ما تم التأسيس عليه هو انتقاء شريحة مكانية وزمانية محددة لكي تنعكس عليها وقائع الحرب ونتائجها وتداعياتها، مكانيا وجدنا أن أجواء تلك القرية المعزولة كانت ميدانا لشراسة آلة الحرب وبطشها، وأنه لا قيمة لحياة أي بشري فيها، فمن الممكن أن يقتل فورا على يد أي جندي نازي.

وأما زمانيا فقد كنا مع اختيار مساحة زمنية ضيقة للغاية تمثلت في الأيام الأخيرة قبيل التدخل الأمريكي وما بعد معركة بيرل هاربر وبالتالي في الأيام الأخيرة قبل انتهاء الحرب.

ربما كان أيضا مما يلفت النظر هو تكريس شكل من أشكال الصراع من أجل البقاء لدى الأفراد الذين صار وجودهم وبقاؤهم مهددا ولكن ليس من خلال انتظامهم في مقاومة شعبية بل في إسناد بعضهم بعضا ولو خفية.

بالطبع كان لابد من تعظيم دور الشخصية الرئيسية هاينريش ليس بوصفه جنديا هاربا بل ومقاتلا شجاعا فهو في عراكه المتواصل مع كتيبة الجنود وشراسته في مقارعتهم وهي معطيات منحت هاينريش دور مقاتل عنيد وشجاع ومتانة بدنية إلى درجة أنه يستمر في القتال ولو ألقي من أعلى وتهشمت عظامه إلا انه ينهض من جديد مدعوما بروح معنوية عالية وهي من المبالغات المعتادة في مثل هذا النوع من الأفلام.

....

فيلم: الدماء والذهب، Blood and Gold

إخراج/ بيتر ثورراث

إنتاج/ ألمانيا – توزيع/ نيتفليكس

تمثيل/ روبرت ماس، اليكساندر سشير، جورديس تريبيل.

إنتاج/ 2023

التقييم/ موقع روتين توماتو 3.5 من 5، موقع أي أم دي بي 6.5 من 10، موقع ميتكريتيك 6.3 من 10

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: العالمیة الثانیة الأفلام التی هذا الفیلم

إقرأ أيضاً:

حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع

كنت من محبي زيارة متحف السودان القومي..
واكاد اجزم أني احفظ المعروضات في القاعات في الدور الاول والثاني..
واعرف ممر الكباش والضفادع الحجرية علي البحيرة الصناعية والمعابد التي نقلت كما هي ووضعت في ساحة المتحف كمعبد دندرة وحيث اثار العهد الاسلامي في الطابق الثاني كدولة سنار
◾️- الصورة المرفقة صورتها بنفسي بجوالي النوكيا في ابريل 2011 ولازالت احتفظ ببعض الصور من ساحات العرض..

◾️- حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع وتم سرقة مشغولات ذهبية عمرها الاف السنين وبعض الاثار الصغيرة من العاج والحجر والابنوس تعود للعهد المروي ولعهد دولة نبتة

– مع ان السودان اطلق حملة لاستعادة المسروقات بالتعاون مع اليونسكو الا ان الامل ضعيف في العثور عليها لان هناك هواة جمع تحف واثار يشترون مثل هذه المقتنيات ويحتفظون بها في خزائنهم لمدد طويلة ولا يعرضونها ابدا وبذا تقل فرص مطاردتها واسترجاعها..
????- الحل في نظري هو اطلاق حملة قومية للتنقيب عن الاثار مرة اخري.. هناك مواقع اثرية كبيرة ومتعددة متناثرة في السودان..

◾️- مثلا في العام 1998 زرت الولاية الشمالية باللواري في سفرة استغرقت عدة ايام فرايت كثير من الاثار ملقاة علي الطريق قريبا من شواطئ نهر النيل , احجار ضخمة واعمدة معابد لايستطيع اي احد ان يحركها من مكانها وربما هذا سبب حفظها حتي الان.. فلو تم التنقيب حول هذه الاماكن فالبتاكيد سنحصل علي اثار جديدة..

◾️هناك ايضا موقع النقعة والمصورات الاثري الذي يشرف عليه معهد حضارة السودان التابع لجامعة الخرطوكم تحت اشراف البروف جعفر ميرغني – وقد زرته من قبل في العام 2010 – الثلات صور الاخيرة – ففي هذا الموقع تتناثر الاثار علي العديد من التلال والسهول و الموقع ذات نفسه يقع علي نهاية وادي العوتيب وهذا الوادي الان عبارة عن رمال ولكنه حتما في قديم الزمان كان من روافد النيل الموسمية فعلي ضفاف هذا الوادي وحتي موقع النقعة والمصورات هناك احتمال وجود عشرات الاثار التي قد تغير التاريخ ذات نفسه
◾️- ايضا سفح جبل البركل وكثير من المواقع التي يمكن اعادة التنقيب فيها

◾️- في العام 2010 كانت هناك شركة تقوم بحفريات لبناء عمارة في احد الاحياء شرق مطار الخرطوم فعثرت علي ما يشبه المدفن لقرية تعتبر اول اثر علي وجود الانسان في منطقة الخرطوم والمقرن قدرت بالاف السنين..

– وكثير من الاثار هنا وهناك علي ضفاف النيل الذي كان علي الدوام جاذبا للمستعمرات البشرية منذ القدم

????- بهذه الطريقة يمكننا اعادة ملء المتحف القومي مرة اخري والحفاظ علي التاريخ الذي اراد تتار العصر ان يمحوه لهدم رواية الامة السودانية عن عراقتها وحضارتها الممتدة من الاف السنين وحتي الان..

♦️- بهذا يمكننا مرة اخري ان نضع قطع الاحجية جنبا الي جنب ونعيد بناء قصة متماسكة تمتد من الان الي عمق التاريخ ونضع معلما لاطفالنا والاجيال القادمة تحاجج به وتفتخر.
♦️- بعض الدول تحفر في اللاشئ وتعثر علي صخور صماء لايوجد عليها نقش واحد فتضعها في متحف ضخم لتقول للناس ان هذا الحجر استخدمه شخص في هذه البقعة قبل اربعة الف سنة كوسادة او كمسند او مربط لحيوان لتقول للعالم انها دولة ذات تاريخ وذات عراقة..

♦️- نحن كبلد اولي بان تكون لنا قصة لها شواهد وعليها ادلة والاسهل والحل الذي بين ايدينا هو اطلاق حملة جديدة للتنقيب عن الاثار تحت الارض والكشوفات الجديدة هذه توكل كمشاريع لكليات الاثار والدراسات الانسانية كالتاريخ وعلم الاجتماع مع التمويل من الدولة والشركات الوطنية مع مواصلة جهود البحث عن الاثار المفقودة.

النور صباح

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • العثور على سيارة غامضة في حطام حاملة طائرات أميركية من الحرب العالمية الثانية
  • قصص أمل في مواجهة الحرب على غزة
  • شركات وزارة قطاع الأعمال العام تواصل دعمها لمشروعات التنمية في سيناء
  • السِّت.. ماذا تحمل الدورة الـ 9 من مهرجان أسوان لسينما المرأة؟
  • سوق الإنتاج بـ”أفلام السعودية” يختتم أعماله بجوائز تتجاوز 2.5 مليون ريال
  • فاجنكنيشت: يجب دعوة الروس للمشاركة في إحياء الذكرى الـ80 لنهاية الحرب العالمية الثانية
  • تعرف على الأعمال المشاركة في الدورة التاسعة لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
  • 61 فيلم تنافس على جوائز الدورة التاسعة من مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
  • 61 عملا ينافس على جوائز الدورة التاسعة من مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة