يتجه الاقتصاد الإسرائيلي نحو المجهول، مع تصاعد المواجهات العسكرية مع فصائل المقاومة الفلسطنية في غزة، بعدما بدأت كتائب القسام، الذراع المسلح لحركة "حماس"، عملية "طوفان الأقصى".

واندلعت الحرب في وقت تنتظر فيه السوق الإسرائيلية قرارات مصيرية، تتعلق بأسعار الفائدة من جانب بنك إسرائيل، وفي وقت تواصل فيه العملة الإسرائيلية (الشيكل) التراجع أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، كما أن بورصة تل أبيب تواصل انخفاضها لليوم الخامس على التوالي.

ووفق مراقبين وخبراء، فإن الاقتصاد الإسرائيلي، والذي يعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا المتطورة والتصنيع، سيتأثر جرّاء زيادة حالة عدم اليقين.

ويتوقّع الخبراء، أن تكون لعملية "طوفان الأقصى"، تأثيرات اقتصادية مباشرة، وأخرى في المستقبل، كما توقعوا أن تضطر إسرائيل إلى إغلاق البورصة، التي افتتحت الأحد أعمالها بهبوط 4%، تجنبا لأي تداعيات مالية محتملة.

وتم إغلاق الشركات التي تفتح عادة أيام السبت، بما في ذلك محلات البقالة والمقاهي والصيدليات، في جميع أنحاء إسرائيل في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" المفاجئة.

وقال أصحاب الشركات إنهم يجدون صعوبة في مواصلة أنشطتهم الروتينية بسبب الحرب.

وشرح أمين صندوق في أحد فروع سلسلة (AM:PM) في تل أبيب لموقع "ذار ماركر": "أنا هنا وحدي، جميع الموظفين غادروا، الجميع يخاف على حياته ولا أعرف أين ذهبوا. الآن المحل مفتوح هنا، ولكن ربما سيغلق خلال ساعة، أنا حقا لا أعرف".

وتم إغلاق بعض فروع السلسلة صباح الأحد.

اقرأ أيضاً

تقديرات عبرية باختطاف 100 إسرائيلي واقتيادهم إلى غزة

والمحلات التجارية في مجمع "مول زخرون" التجاري، كانت مغلقة أيضًا، والمركبات التي تصل إلى المجمع تتوقف عند المدخل وتعود أدراجها.

وقال حارس الأمن في مكان الحادث للموقع الإسرائيلي ذاته: "أنا هنا منذ العاشرة صباحا. كل شيء مغلق. نحن بعيدون عن الفوضى في الجنوب، لكننا لن نخاطر".

كما واجهت فروع سلسلة سوبر فارم أيضًا صعوبات تشغيلية، والفرع الموجود في شارع اللنبي في تل أبيب، والذي يفتح طوال أيام الأسبوع.

وأغلق كذلك مقهى (Betha and Griga) الواقع في شارع لافونتين بالمدينة مغلق، على الرغم من أنه يفتح عادةً أيام السبت والأعياد.

وقال بعض المستهلكين لـ"ذار ماركر"، إنهم سارعوا إلى المحال "لشراء الأغراض، حتى لا نعلق لاحقاً إذا حدث طارئ واضطررنا للبقاء في المنزل".

في المقابل، فإن بعض العملاء ليسوا خائفين، وقال أحدهم: "جئت لشراء بعض البقالة لوصفة رأيتها. لا أعتقد أننا سنصل إلى وضع حيث ستكون هناك مشكلة في شراء البقالة في تل أبيب".

كما أبلغت الفنادق عن كثرة المكالمات إلى مراكز الخدمة، وإلغاء الحجوزات المستقبلية من قبل السياح.

اقرأ أيضاً

صدمة وفشل وكابوس.. كيف رأت الصحف العبرية عملية طوفان الأقصى؟

يقول داني ليبمان، الرئيس التنفيذي لشركة (Atlas Hotels) لموقع "ذا ماركر": "هناك عمليات إلغاء هائلة للحجوزات المستقبلية.. ويبحث العديد من السياح المتواجدين في القدس وتل أبيب عن رحلات جوية للهروب".

يأتي ذلك في وقت ألغت شركات طيران عدة عشرات الرحلات إلى تل أبيب، في نهاية هذا الأسبوع، وفق بيانات الوصول في مطار بن غوريون الدولي.

ومن بين هذه الشركات التي أوقفت رحلاتها إلى مطار بن غوريون، "لوفتهانزا" وطيران "الإمارات" و"راين إير" وخطوط "إيجه" الجوية، وشركات أمريكية، والخطوط الجوية الفرنسية.

كما أعلنت شركة "إل أو تي" البولندية و"إيبيريا" الإسبانية و"آي تي إيه" الإيطالية، رحلاتها إلى تل أبيب "بسبب الوضع في إسرائيل".

ولم تقدم هذه الشركات معلومات بشأن الرحلات في الأيام المقبلة.

وعقب الإلغاءات، أصبح هناك حمل كثيف على رحلات الخطوط الجوية الإسرائيلية، وبات لا توجد مقاعد على معظم الرحلات.

ويقول شاني أوزان، مدير قسم المجموعات في وكالة السفر "جوردون تورز": "لدي مجموعة مكونة من 31 إسرائيليًا عالقين في فرانكفورت، لأن لوفتهانزا ألغت رحلة كانت مقررة السبت.. وحتى الآن لم تتحمل شركة الطيران المسؤولية ولا نعرف ما إذا كانت ستقوم بترتيب الإقامة لهم".

وبعد طلبات من مئات الإسرائيليين، أعلنت شركة "أركيا" أنها ستقوم برحلة إنقاذ ليلية من اليونان.

اقرأ أيضاً

الإضراب العام يعمّ الضفة الغربية وإسرائيل تغلق المسجد الإبراهيمي

وتقول "إل عال" وهي شركة الطيران الإسرائيلية، إنها تلقت آلاف الاستفسارات من إسرائيليين يريدون العودة من الخارج، معظمهم من جنود الاحتياط.

كما لفتت إلى أن الكثيرين يريدون أيضًا مغادرة البلاد، ومعظمهم من السياح.

لذلك، فإن رحلات "إل عال" المغادرة والقادمة خلال هذه الأيام ممتلئة، وتدرس الشركة إضافة المزيد من الرحلات إلى جدولها.

يأتي ذلك في وقت أصدرت قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية، قرارا بتعطيل الدراسة من منطقة تل أبيب الكبرى حتى مناطق "غلاف غزة".

كما ستُغلق مئات المناطق الصناعية وآلاف المنشآت التجارية ومجمعات التسوق، وهي التي تشكل عصب الاقتصاد في المنطقة، وتخدم نحو 3 ملايين إسرائيلي.

من جانبه، قال موقع (Calcalist) العبري، إنه ليس من المستبعد أن تؤدي هذه الأحداث إلى تكاليف تصل إلى مليارات الشواكل.

وفقاً للحروب الماضية، تبلغ تكلفة جولة القتال حوالي 100-250 مليون شيكل (26-65 مليون دولار) يومياً، اعتماداً على ساحة ونطاق القتال.

وتشمل التكاليف المباشرة نفقات الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، من دفع ثمن الذخيرة والمعدات اللوجستية إلى دفع أيام الاحتياط وتكاليف إعادة تأهيل الجرحى.

اقرأ أيضاً

طوفان الأقصى.. لبنان يدخل على الخط وإسرائيل والمقاومة يتبادلان القصف

أما الجزء الثاني من النفقات المباشرة هو تعويض المدنيين المصابين أو الذين تضررت ملكياتهم.

لكن من الصعب قياس التكاليف غير المباشرة، إذ تشمل هذه التكاليف خسائر الشركات التي تظل مغلقة، والأضرار التي تلحق بالسياحة وغير ذلك.

وتعد أكثر الحروب كلفةً في السنوات الأخيرة، هي حرب لبنان الثانية عام 2006، والتي استمرت 34 يوماً.

وبلغت التكلفة الإجمالية من خزانة الدولة، والتي تشمل نفقات الجيش الإسرائيلي على القتال والتعويضات، حوالي 12 مليار شيكل (3.12 مليارات دولار بقيمة اليوم)، منها 9.4 مليارات شيكل (2.44 مليار دولار بقيمة اليوم) في ميزانيات الدفاع، موزعة على 3 سنوات من الميزانية.

وفي عام 2015، قدر بنك إسرائيل أن حرب لبنان الثانية أدت إلى خسارة في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتراوح من 0.5% إلى 0.35%.

وكانت خسارة الإنتاج من عملية الجرف الصامد في عام 2014، والتي كانت حتى الآن أهم جولة من القتال في قطاع غزة منذ فك الارتباط، والتي استمرت 50 يوماً، وكلفت 3.5 مليارات شيكل، حوالي 0.3% من إنتاج ذلك العام.

وحسب تقييم بنك إسرائيل، فإن الخسارة الرئيسية كانت خسارة الدخل من صناعة السياحة في المنطقة بحوالي 2 مليار شيكل.

اقرأ أيضاً

صحيفة عبرية: 750 جنديا إسرائيليا ومستوطنا لا يزالون في عداد المفقودين

وبلغت التكلفة العسكرية لعملية الجرف الصامد نحو 7 مليارات شيكل، بالإضافة إلى تعويضات بقيمة 1.7 مليار شيكل، وبذلك بلغت التكلفة الإجمالية 8.7 مليارات شيكل.

ووفقاً لتقدير معهد دراسات الأمن القومي، رغم أن عملية حرس الجدار استغرقت ربع الوقت الذي استغرقته عملية الجرف الصامد، كانت التكلفة المباشرة لها قبل عامين من 4 إلى 5 مليارات شيكل.

ودُفِعَ أكثر من 300 مليون شيكل إضافية كتعويضات عن الأضرار التي لحقت بالممتلكات.

فيما بلغت الأضرار التي لحقت بالنشاط الاقتصادي 1.2 مليار شيكل، بحسب تقديرات جمعية المصنعين اعتباراً من عام 2021.

من جانبه، يرجح مراسل الشؤون الاقتصادية لصحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية غاد ليئور، أن تعمق الحرب على جبهة غزة من أزمات الاقتصاد الإسرائيلي، وهو ما قد يؤدي إلى استمرار تراجع الشيكل أمام الدولار، والأسهم في البورصة الإسرائيلية.

ولم يستبعد أن تغلق البورصة الإسرائيلية أبوابها في حال استمرت بالهبوط، وتوقع أن يتكبد الاقتصاد الإسرائيلي خسائر فادحة لا يمكن حصرها بهذه المرحلة.

وقدّر حجم الخسائر الإسرائيلية في مواجهات عسكرية سابقة مع المقاومة الفلسطينية بعشرات مليارات الدولارات، للقطاع الاقتصادي والتجاري والسياحي.

اقرأ أيضاً

هكذا قد ترد إسرائيل.. "طوفان الأقصى" ربما يوحد جبهات المقاومة 

كما ويرجح محلل الشؤون الاقتصادية لـ"يديعوت أحرونوت"، أن تعمق الخسائر المالية وكلفة الحرب عجز الموازنة العامة لإسرائيل.

من جهته، يقول المتخصص في الاقتصاد السياسي مطانس شحادة، إن عملية "طوفان الأقصى" سيكون لها تأثيرات اقتصادية مباشرة على إسرائيل بشكل عام، وجنوبها بشكل خاص.

ويضيف أن الضرر الاقتصادي سيكون واضحا، وستتحدد درجة تداعياته مع تطور الأحداث.

لكن المؤكد، برأي مطانس، أن المصالح الاقتصادية ستتعطل بالكامل جنوب إسرائيل، وربما العاصمة تل أبيب تحت تأثير الضربات الصاروخية للمقاومة الفلسطينية.

ويتوقع المحلل الاقتصادي أن تلجأ إسرائيل إلى إغلاق البورصة، مع عودة التداول، تجنبا لحدوث انهيار للأسهم، كما يتوقع ارتفاع الدولار أمام الشيكل عندما تبدأ التداولات.

ودون أن يتحدث عن تفاصيل رقمية، يؤكد مطانس أن "طوفان الأقصى" سيشكل ضربة اقتصادية لإسرائيل، ربما تتكشف فاتورتها مع تطورات الحرب.

بينما يقول الرئيس التنفيذي لشركة الراية للاستشارات المالية هاني أبوالفتوح، إن ما يحدث سيكون له تأثير مباشر على الاقتصاد الإسرائيلي، مشيراً إلى أن التوترات العسكرية ستلقي بظلالها على سوق المال الإسرائيلية.

اقرأ أيضاً

طوفان الأقصى.. ردود فعل دولية منحازة للاحتلال ومنددة بالمقاومة

ويضيف أبوالفتوح إن الحرب ستؤثر "بشكل كبير على قطاع النقل الجوي والبحري"، لافتاً إلى أهميته الحيوية للسياحة والتجارة بشكل عام.

ويتابع أبوالفتوح، أن التأثير قد يمتد إلى قطاع الغاز الإسرائيلي حال توجيه ضربات للبنية التحتية سواء خط تصدير الغاز أو المحطات، و"في هذه الحالة سيؤثر على مصر أيضاً".

قد يكون قطاع الغاز الإسرائيلي أكبر الخاسرين، لكنه لن يكون الوحيد، فهناك أيضاً السياحة، والتي تعتمد بشكل كبير على حالة الاستقرار الأمني.

ولا يزال الاقتصاد الإسرائيلي تحت تأثير تداعيات الإضرابات التي رافقت تعديلات قضائية أقرها الكنيست منذ أشهر.

وفي سبتمبر/أيلول الماضي، قال كبير الاقتصاديين بوزارة المالية الإسرائيلية، شموئيل أبرامسون، إن الاستثمارات الأجنبية سجلت انخفاضا كبيرا في الربع الأول من 2023 بلغ 60%، مقارنة بالمتوسط ​​في كل من الربعين الأولين لعامي 2020 و2022.

وقُدر حجم الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل في 2022 بنحو 28 مليار دولار.

وفي أغسطس/آب الماضي، حذرت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني من أن المخاوف على الاقتصاد الإسرائيلي بدأت تتجسد، بعد إقرار الكنيست (البرلمان) قانونا يحدّ من سلطات المحكمة العليا، ضمن خطة حكومية لـ"إصلاح القضاء".

وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن يتباطأ الاقتصاد الإسرائيلي إلى 2.9% في 2023 من نسبة 3% التي كانت متوقعة، وإلى 3.3٪ في 2024 من 3.4% سابقا.

اقرأ أيضاً

موديز تحذر إسرائيل من عواقب اقتصادية وخيمة بسبب تداعيات التعديلات القضائية

المصدر | الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: فلسطين إسرائيل اقتصاد أزمة اقتصادية تكاليف غزة طوفان الأقصى الاقتصاد الإسرائیلی طوفان الأقصى ملیار شیکل اقرأ أیضا تل أبیب فی وقت

إقرأ أيضاً:

المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا

في ظهيرة يوم شديد الصعوبة من أبريل/ نيسان عام 1975، بثت إذاعة الجيش الأميركي خبراً مفاده أن "درجة الحرارة في سايغون تبلغ 105 درجات وترتفع"، كانت تلك رسالة مشفرة تعني أن الوضع قد وصل إلى حد الانفلات التام في أعقاب هجوم واسع لقوات حكومة فيتنام الشمالية، وأنه قد بدأ الإجلاء الفوري لجميع الأميركيين المتبقين في فيتنام، بعدما كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها القتالية من فيتنام وفقا للاتفاقية الموقعة في باريس عام 1973، تاركة نحو 5000 أميركي في مهام دبلوماسية واستخباراتية.

وخلال ساعات؛ وثقت الكاميرات مشهد عشرات الأميركيين والجنود الفيتناميين الجنوبيين واقفين على سطح مبنى في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)، أعينهم معلقة بطائرة هليكوبتر أميركية تهبط على عجل. رجال ونساء وأطفال يصطفون على درج معدني ضيق، يتدافعون بحذر وخوف نحو الطائرة التي لا تسع إلا عدداً قليلاً.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟list 2 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟end of list

كان ذلك المشهد ذروة عملية الإجلاء السريع التي عُرفت باسم "عملية الريح المتكررة" (Operation Frequent Wind)، وأصبحت رمزًا مريرًا لنهاية أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين.


لكن كيف وصلت فييتنام إلى هذه اللحظة؟ وكيف تحوّل بلد زراعي صغير على هامش خريطة آسيا إلى ساحة صراعٍ دوليّ دمويّ، وإلى اختبارٍ عسير لطموحات القوى الكبرى ومرآة لانكساراتها؟ ولفهم هذه التحولات التي باتت تمثل واحدة من أهم المعارك العسكرية في القرن العشرين؛ لا بد من العودة إلى البدايات؛ إلى الحسابات الجيوسياسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وماقبل ذلك في زمن الاستعمار القديم، تلك الحسابات التي تجاوزت حدود فيتنام الضيقة وجعلت منها ساحةً لصراع استمر أكثر من عقدين من الزمن.

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية (الفرنسية) المحطة الأولى: فيتنام تحت الظل الاستعماري

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية، إلى جانب لاوس وكمبوديا (كانت الدول الثلاث تعرف باسم الهند الصينية). وكانت البلاد أشبه بساحة خلفية للإمبراطورية الفرنسية، حيث نُهبت ثرواتها الطبيعية، وقُمعت حركاتها الشعبية، وزُرعت فيها بذور الانقسام الطبقي والثقافي.

إعلان

لم تكن فيتنام تحديدا مجرد مستعمرة بعيدة، بل كانت عقدة حيوية في خريطة النفوذ الفرنسي في آسيا. ميناء "هايفونغ" التجاري الأهم في فيتنام، والمزارع التي كانت تنتج الأرز والمطاط، وخطوط السكك الحديدية التي تربط الهضاب بالمرافئ، كلها كانت تُدار لخدمة باريس، وليس لخدمة هانوي.

المحطة الثانية: فرصة خاطفة للاستقلال

في منتصف القرن العشرين، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأ التوازن الاستعماري القديم يتصدع. اجتاحت اليابان الهند الصينية عام 1940، تاركة الإدارة الاسمية لفرنسا الفيشية، لكنها عمليًا أضعفت القبضة الفرنسية وأفسحت المجال لنمو تيارات المقاومة المحلية. من بين هذه التيارات، برزت شخصية استثنائية ستغيّر وجه آسيا، ويحمل الفيتناميون صورته اليوم وهم يحتفلون بالذكرى الخمسين لتوحيد بلادهم: هو تشي منه.

أسّس هو تشي منه "رابطة استقلال فييتنام" أو "الفييت مينه"، وهي حركة قومية شيوعية، مزجت بين الكفاح المسلح والتحريض الشعبي. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإعلان استسلام اليابان، كانت الفرصة سانحة أمام هو تشي منه، فأعلن استقلال فيتنام عن الامبراطورية اليابانية في ساحة "با دينه" بهانوي.

جنود فيتناميين خلال حرب الهند الصينية الأولى (غيتي) المحطة الثالثة: عودة الاحتلال الفرنسي

لم يعمر حلم الاستقلال طويلًا. فرنسا، التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، أرادت استعادة "هيبتها" من خلال إعادة بسط نفوذها على مستعمراتها القديمة. تجاهلت إعلان الاستقلال في هانوي، ونزلت قواتها مجددًا إلى الأراضي الفيتنامية، لتبدأ بذلك حربًا دموية جديدة. وبذلك؛ وُلدت حرب الهند الصينية الأولى، والتي ستُشكّل الأساس لحرب فيتنام القادمة.

لم يكن الاستعمار هذه المرة مثل الاستعمار القديم منحصرا فقط في استغلال الموارد؛ بل برز في قلبه صراع أيديولوجي ناشئ حول رؤيتين للعالم: فرنسا التي تمثّل الغرب الرأسمالي الإمبريالي، وفيتنام التي بدأت تتجه نحو الفكر الشيوعي، مدفوعة بإرث الاحتلال، وبحلم العدالة الاجتماعية.

إعلان

كانت التربة الفيتنامية قد تشبعت بما يكفي من الغضب، وكان المشهد الإقليمي والعالمي مهيأً لانفجار طويل الأمد، لن ينتهي إلا بعد ثلاثة عقود من الدم والنار.

المحطة الرابعة: "ديان بيان فو" حيث دفنت فرنسا رايتها وورثت أمريكا عبء الإمبراطورية

في وادٍ بعيد تحيط به التلال شمالي غرب فيتنام، خسرت فرنسا آخر رهاناتها الاستعمارية الكبرى. بدأت المعركة في مارس 1954، واستمرت 57 يومًا من القصف والحصار والنار. حاصرت المقاومة الفيتنامية بقيادة  فو نغوين جياب الجنود الفرنسيين. واعتبرت المعركة لاحقا  أحد الدروس التاريخية المذهلة في فنون وتكتيكات حرب العصابات وقدرتها على التفوق على الجيوش النظامية.

وفي السابع من مايو 1954، استسلمت القوات الفرنسية في ديان بيان فو، بينما كانت قادة فرنسا يبحثون في جنيف عن مخرج مشرّف. وفي يوليو 1954، اجتمع القوى الكبرى في العالم في مؤتمر جنيف، حيث تقرر تقسيم فييتنام مؤقتًا على طول خط العرض 17، الشمال بقيادة هو تشي منه الشيوعي، عاصمته هانوي. والجنوب بقيادة نظام مدعوم من الغرب، برئاسة إمبراطور صوري ثم رئيس فعلي هو نغو دينه ديم. لكن الاتفاق نص أيضًا على إجراء انتخابات وطنية موحدة عام 1956، لكنها لم تحدث، لأن الولايات المتحدة خشيت من فوز الشيوعيين.

من هنا، بدأت واشنطن تتدخل في فييتنام. لم يكن هناك إنزال عسكري بعد، وكانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو": إذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا! وهكذا، تحوّلت فييتنام من ساحة استعمار قديم إلى مسرح للصراع الأيديولوجي العالمي الذي تصاعد بعد الحرب الباردة.

كانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو"، فإذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا (غيتي) المحطة الخامسة: تقسيم البلاد وصعود ديان دينه ديم

انتهى الوجود الفرنسي رسميًا في جنوب فييتنام في أبريل 1956، وبقيت البلاد منقسمة بحكم الواقع بين حكومة “جمهورية فييتنام” في الجنوب، وحكومة “جمهورية فييتنام الديمقراطية” بقيادة هو تشي منه في الشمال.

إعلان

دشن ديان دينه ديم (حليف أمريكي) سياسة أيديولوجية قومية وعنيفة ضد المعارضين داخليًا، معطياً امتيازات واسعة للكاثوليك وهو ما أشعل اضطرابات اجتماعية وانتفاضات بوذية ضد حكمه. عام 1960 تأسست «جبهة التحرير الوطني» المعروفة بـ"الفيت كونغ" لإعادة توحيد كل قوى المعارضة في الجنوب تحت قيادة الشمال​. اعتمدت الفيت كونغ على تكتيكات حرب العصابات وبنية تحتية سرية في الدول المجاورة من الهند الصينية لتأمين الإمداد اللوجيستي.

المحطة السادسة: خليج تونكين؛ الذريعة التي فتحت أبواب الجحيم

في أغسطس من عام 1964، زعمت البحرية الأمريكية أن مدمّرتها يو إس إس مادوكس تعرّضت لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية شمالية في خليج تونكين. لم تكن التفاصيل واضحة، والصور غير حاسمة، لكن الرئيس ليندون جونسون لم يحتج لأكثر من هذه الشرارة لطلب تفويض مطلق من الكونغرس لاستخدام القوة في فييتنام. وهكذا، صدر قرار خليج تونكين، الذي منح البيت الأبيض يدًا طليقة لشن الحرب دون إعلان رسمي.

كانت الحادثة التي لا يزال الجدل قائمًا حول صحتها الكاملة نقطة تحوّل فاصلة، إذ انتقلت أمريكا من دور المستشار والراعي في الظل إلى قوة محتلة، تمطر الأدغال الفيتنامية بعشرات الآلاف من الجنود والقنابل.

وبحلول عام 1965، بدأ التصعيد العسكري الكبير: إرسال أولى وحدات القتال، ثم القصف الجوي المكثف على شمال فييتنام في حملة سُمّيت "رعد متواصل" (Operation Rolling Thunder).

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب (أسوشيتد برس) المحطة السابعة: أميركا ضد نفسها

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب. اللحظة المفصلية جاءت عام 1968، بعد هجوم مفاجئ شنّه الفيتكونغ في رأس السنة القمرية (هجوم تيت) على عشرات المدن في الجنوب، بما فيها سايغون نفسها. ورغم أن الهجوم ألحق خسائر هائلة بالمقاومين الفيتناميين وربما يعتبر خسارة عسكرية، إلا أنه زلزل ثقة الأمريكيين بقدرتهم علي تحقيق النصر. فقد بدا لهم كأن العدو "المنهك" لا يزال قادرًا على الضرب بقوة في عمق المناطق الآمنة، سيظل كذلك.
المحطة الثامنة: "فتنمة الحرب".

إعلان

حين تولّى ريتشارد نيكسون الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1969، كانت فييتنام قد أصبحت كابوسًا سياسيًا وعسكريًا. أدرك نيكسون أن النصر الكامل مستحيل، لكنه لم يشأ الانسحاب فجأة. فطرح استراتيجية سمّاها: "فتنمة الحرب" (Vietnamization)، أي تحويل عبء القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، بينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب التدريجي.

المرحلة التاسعة: رحيل آخر الجنود المقاتلين

لم تكن "فتنمة الحرب" أكثر من محاولة لتأجيل الهزيمة، لا تجنّبها. فالجيش الجنوبي كان ضعيف التدريب، ويفتقر للحافز القتالي، في حين كان الشمال يزداد صلابة. في الوقت نفسه، وسّع نيكسون الحرب عبر قصف كمبوديا ولاوس بحجة ضرب خطوط الإمداد الفيتنامية (طريق هو تشي منه)، ما أدى إلى توسيع رقعة الصراع، وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة، وأشعل المعارضة داخل الولايات المتحدة.

لم يستجب الفيتناميون لرغبة الأمريكان في التفاوض مباشرة، واستمروا في إلحاق الخسائر بهم، حتى عام 1973 حين وقّعت أميركا اتفاقية باريس للسلام مع حكومة فيتنام الشمالية، معلنة انسحابها الرسمي من الحرب، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وأبقت على نحو 5000 آلاف جندي فقط في مهام غير قتالية.

 

المحطة العاشرة: سقوط سايجون

في ربيع عام 1975، بدأ الجيش الشمالي الزحف النهائي نحو العاصمة الجنوبية سايغون. كانت القوات الفيتنامية الشمالية مدعومة بخبرة طويلة، وعقيدة قتالية متماسكة، بينما كان الجنوب، رغم الأسلحة الأمريكية المتروكة، منهارًا معنويًا. سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى، بلا مقاومة تُذكر. أما واشنطن، فقد اكتفت بالمراقبة، بعد أن قطعت المساعدات العسكرية.

في 30 أبريل 1975، دخلت دبابات الشمال سايغون. لم تكن هناك معركة حقيقية. رفع الجنود علمهم الأحمر بنجمة صفراء فوق القصر الرئاسي، وانتهت الجمهورية الفيتنامية الجنوبية إلى الأبد. لم يُعلن عن هزيمة أمريكية رسميًا، لكنها بقيت محفورة ومستقرة في التاريخ العسكري والاستراتيجي: أن الفيتناميين هزموا الولايات المتحدة.

إعلان

 

مقالات مشابهة

  • كيف تلغي الدول أو تستبدل عملاتها؟ ولماذا تنوي إسرائيل إلغاء فئة الـ200 شيكل؟
  • ‏القناة 12 الإسرائيلية نقلًا عن مصدر أمني: الجيش الإسرائيلي قتل عنصرًا من حزب الله جنوبي لبنان
  • لأول مرة منذ ثلاث سنوات.. اقتصاد أميركا ينكمش بالربع الأول
  • المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
  • نمو اقتصاد منطقة اليورو.. فماذا عن أكبر الاقتصادات الأوروبية؟
  • اقتصاد منطقة اليورو ينمو بنسبة 0.4% في الربع الأول من 2025
  • مصدر أمني بدمشق لـ سانا: قواتنا بدأت عملية تمشيط واسعة في منطقة أشرفية صحنايا، بهدف إلقاء القبض على العصابات الخارجة عن القانون التي اتخذت هذه المنطقة منطلقاً لعملياتها الإرهابية ضد الأهالي وقوات الأمن
  • في ذكرى النكبة.. الأعلام الإسرائيلية تغزو القدس والمستوطنون يتوعدون الأقصى
  • بذكرى النكبة.. إغراق القدس بأعلام إسرائيل ومستوطنون يتوعدون الأقصى
  • ترامب يحتفل بـ100 يوم: "استعدنا أعظم اقتصاد في التاريخ"