سيف الدين ولائي.. الشاعر الذي فضح صدام دون ان يكتب كلمة واحدة ضده !
تاريخ النشر: 8th, October 2023 GMT
بقلم: فالح حسون الدراجي ..
كنا ولم نزل نواجه صعوبة عند اللقاء بالمواطنين العرب في عواصم الأردن ومصر والمغرب وتونس واليمن وبقية العواصم والمدن العربية. والصعوبة التي نواجهها تكمن في كيفية إقناع هذا (الشقيق) بحقيقة صدام حسين .. إذ ما أن يعرف المواطن العربي أنك من العراق حتى ينهال عليك بكلمات المديح وعبارات الإطراء، ليس لأنك مواطن قادم من بلاد الحضارات، والتاريخ والأمجاد، بلاد نبوخذ نصر وسرجون وحمورابي، و( أبو حنيفة)، والشيخ احمد الوائلي، والشيخ شعلان أبو الجون وعبد المحسن السعدون ويوسف سلمان (فهد)، وكامل الچادرچي وعبد الكريم قاسم وسلام عادل والسيد محمد باقر الصدر والسيد محمد صادق الصدر، وجلال الطالباني، وعزيز شريف، والكاردينال لويس ساكو، وغيرهم من الشخصيات العراقية الكبيرة.
وحين تقول لهذا المواطن العربي، إن صدام حسين قاتل، ودكتاتور، قتل وذبح الملايين من العراقيين في حروبه المجنونة وزنزانات الموت المظلمة، والإعدام شنقاً أو الاغتيال أو الإذابة في أحواض التيزاب، وما تجفيف الأهوار، والمجازر الشنيعة التي ارتكبها بحق أبناء الشيعة بعد انتفاضة ١٩٩١، ومجزرة الدجيل، وما ارتكبه بحق عشيرة الجبور، ومأساة الأنفال، وضرب حلبچة بالأسلحة الكيمياوية، وضحايا المقابر الجماعية، إلا بعض الأدلة على دموية صدام. لكن هذا الشقيق العربي، ومعه بعض البعثيين والسذج المخدوعين، سيقولون لك إن صدام ليس الحاكم الوحيد الذي قتل أعداءه وأعدم (المتآمرين) على حكمه، إنما ثمة غيره الكثير من الحكام أيضاً ..!
وهنا ستصل معهم الى طريق مسدود، لذا يتوجب عليك وقف النقاش والتوجه الى حلول أخرى.. أنا شخصياً، أعرض هنا أنموذجاً واحداً كمثال للإقناع لاغير، وهذا النموذج يمثل عدداً كبيراً من العراقيين الذين تعرضوا لبطش صدام دون ان يكونوا معارضين له، أو (متآمرين) على حكمه ! والنموذج الذي اقصده يتمثل بالشاعر العراقي الفذ سيف الدين ولائي، ذلك الشاعر الذي صنع بيده جمال الأغنية العراقية، والعراقي المترع بالوطنية من الوريد الى الوريد، و (الفتى) الذي خرج مع المنتفضين على زيارة (الفريد موند ) الى بغداد، وهو في الثالثة عشر من عمره، ليفصل على إثرها من المدرسة !
سيف الدين ولائي العراقي المولود في الكاظمية عام ١٩١٥، ابن فاضل المولود في العراق عام ١٨٨٥، ابن فرج المولود في الكاظمية عام ١٨٥٨،اتهمته عصابات صدام بالتبعية الإيرانية، وألقت به مع أسرته على الحدود العراقية عام ١٩٨٠ لمجرد أنه اعتذر عن كتابة الأغاني التي تمجد صدام.
وفي طهران، وبعد أن دققت وزارة الداخلية الإيرانية كل سجلاتها وكل قيودها منذ مئات السنين حتى لحظة التدقيق، لم تعثر على أي قيد لسيف الدين فاضل لديها، ولا لجده فرج، أو لأجداده وعشيرته واقاربه، مما دفع بسلطات طهران الى إعادته لخيمته في معسكر الحجز على الحدود، بعد أن اخبرته بشكل واضح بأنه عراقي وليس ايرانياً قط.. وللحق فإن الحكومة الايرانية منحته فرصة اختيار البلد الذي يرغب اللجوء اليه، فاختار سوريا.
وعندما سأله المسؤول الايراني عن سبب اختياره لسوريا دون غيرها، قال: سوريا قريبة من العراق، واستطيع أن أشمّ الهواء القادم من بلادي !
وهكذا لجأ مع عائلته الى سوريا، ليكون قريباً من العراق، ويشم هواء بلده الذي طرده، والقى به الى ذئب المجهول المفترس !
وبعد ثلاث سنوات قضاها في العوز والفقر والصمت والكآبة في سوريا، مات الشاعر سيف الدين ولائي، عام ١٩٨٤ ليدفن في مقبرة الغرباء الى جانب قبر (الغريب) محمد مهدي الجواهري وبقية (الغرباء) العراقيين. لقد رحل ولائي حزيناً دامعاً بعد أن ترك لنا الف أغنية، وكل اغنية أحلى من الأخرى، حتى لقب بشاعر الألف أغنية.. ومن بين أغنياته: سمر سمر، غريبة من بعد عينچ ييمه، عروسة والحبايب زافيها،جيرانكم يهل الجار، حگ العرفتونه وعرفناكم، سبعة ايام من عمري حلالي، مكدر أگولك مع السلامة روح للمطربة سميرة توفيق، وحركت الروح لمن فاركتهم/ وهذا مو انصاف منك / هلهلي بلله يا سمره/ يا حلو كلي شبدلك كلي/ هل ليله ليله من العمر/ على بالي أبد ما چان فركاك / أخاف أحجي وعليّ الناس يكلون/ على الميعاد أجيتك /أسألوه لاتسألوني اسألوه/ من علمك ترمي السهم ياحلو بعيونك،ياغريب اذكر هلك ياعمه ياعمه /الله الله من عيونك / الردته سويته / أدلل عليّ أدلل/خاله شكو. كما غنت له فائزة أحمد أغنية ميكفي دمع العين، وغنت له نرجس شوقي اغنية شدعي اعليك يلي حركت كلبي، والمطربة راوية اغنية ادير العين ما عندي حبايب, والمطربة نهاوند أغنية يابه يابه شلون عيون عندك يابه. وكتب لأحلام وهبي أغنية عشاگ العيون وغيرها من أحلى الاغنيات، كما كتب الروائع لعفيفة اسكندر وزهور حسين ومائدة نزهت ولميعة توفيق وصبيحة ابراهيم وغيرهن، حيث لا يسع هنا المجال لذكرها جميعاً.. ختاماً أسال الجميع وأقول : أيستحق مثل هذا الشاعر الوطني الأصيل والجميل، أن ينتهي في مقبرة الغرباء، وعينه ترنو صوب أرض وطنه الحبيب وهل سيعترف العرب بحقيقة صدام الفاشية؟!
المصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات من العراق من بلاد
إقرأ أيضاً:
رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
صديق عبد الهادي
(1)
للشاعر الألماني "برشت" او "بريخت" كما ينطقه آخرون، قصيدة بليغة، محتواً ونصاً، وخاصة عند الإطلاع على تلك النسخة من ترجمتها البديعة التي بذلها صديقنا ومربينا العزيز دكتور محمد سليمان. ولتلك الدرجة التي يحار فيها المرء في أي لغةٍ أصلٍ كتبها "برشت"؟! وقد جاءت القصيدة تحت عنوان "أسئلةُ عاملٍ قارئ".
إنه لمن الصعب الإقتطاف منها، لأن الإقتطاف يهدمها مبناً ومعناً، أو يكاد! ولكن، لابد مما ليس منه بد. إذ يقول/
"منْ بنى طيبة ذات الأبواب السبع
الكتب لا تحوي غير أسماء الملوك
هل حمل الملوك كتل الصخر يا ترى؟!
وبابل التي حُطِمتْ مرات عديدات
منْ أعاد بناءها كل هذه المرات؟!
وفي أي المنازل كان يسكن عمال ليما
الذهبية المشرقة؟!
وفي المساء - حين إكتمل سور الصين العظيم –
أين ذهب البناؤون؟!
روما الجبارة مليئة بأقواس النصر
منْ شيَّدها؟
وعلى منْ إنتصر القياصرة؟!
وهل كانت بيزنطة الجميلة تحوي قصوراً
لكل ساكنيها؟!".
كلما أطلَّتْ هذه القصيدة أمامي ساءلتُ نفسي، ألا تنطبق تلك التساؤلات، الثرة والغارقة في الجدل، على النشاطات الإنسانية والنضالية في حقول الحياة الأخرى؟، وبالطبع، دائماً في البال أولئك "الفعلة" "المجهولين" "تحت الأرض"، الذين كلما تحطمت "بابلنا"، أو كادت، أعادوها لنا في كامل عافيتها وبهائها!
كان الراحل محمد حسن وهبه، وعن جدارة، أحد أولئك الــــــــ"تحت الأرض"، ولشطرٍ كبيرٍ من حياته.
(2)
تعرفت على رفيقنا الراحل في تقاطعات "العمل العام"، بعد عودة الحياة الديمقرطية إثر إنتفاضة مارس/أبريل في العام 1985. فمن الوهلة الأولى لا يعطيك الإنطباع بحبه للعمل العام وحسب وإنما، وفي يسر، بأنه إنسانٌ صُمم لذلك. رجلٌ سهل وودودٌ وذو تجربة صلدة، تتقمصه روحٌ آسرة ومتأصلة لا فكاك للمرء من إيحائها، بأنك تعرفه ومنذ زمن طويل. كان يتوسل المزحة ودونما تكلف في تجاوز المواقف المربكة، وكم هي غاصةٌ بها الحياة ومسروفةٌ بها غضون العمل العام ومطارفه!
عملت في صحبته وصحبة صديقنا المناضل الراحل محمد بابكر. والأثنان كانا يمثلان مورداً ثراً في التصدي لقضايا العمل العام، وخاصةً النقابي. طاقات مدهشه يحفها تواضع جم، أكثر إدهاشٍ هو الآخر. تعرفت على الراحل محمد بابكر في قسم المديرية بسجن كوبر إبان نظام المخلوع نميري ولفترة امتدت لأكثر من عام. وهو الذي قدمني للراحل "محمد حسن وهبه"، ومنذها كانت صداقة ثلاثتنا.
جرتْ انتخابات النقابات الفرعية منها والعامة في العام 1988، وفازت "قوى الإنتفاضة"، التي كانت تضم كل الإتجاهات، ما عدا الإسلاميين الذين كانوا يمثلون او بالأحرى يطلق عليهم "سدنة مايو". فازت "قوى الإنتفاضة" بما مجموعه 48 من عدد 52 نقابة عامة لاجل تكوين الإتحاد العام للموظفين في السودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تمّ بعد إنتفاضة مارس/ ابريل 1985 في شأن إستعادة النقابات وفرض شرعيتها من خلال الإنتخاب الحر والديمقراطي هو ما لم تنجح في فعله قوى الثورة عقب ثورة ديسمبر 2018 مما كان له الأثر الكبير في كشف ضعف الثورة وفي وتأكيد غفلتها. فلقد ظلت كل القوانين كما هي وكأن ثورة لم تكن!
كان "محمد حسن وهبه" أحد الذين كانوا من وراء إنجاز قيام الإتحاد العام للموظفين، والذي تمً على إثره إنتخاب الراحل محمد بابكر وبشكل ديمقراطي أميناً عاماً له. كان "محمد حسن وهبه" مسؤولنا الأول عن إدارة تلك الحملة وقيادة ذلك العمل. كان أحد المعنيين بإعادة "بناء بابل"، وقد فعل ذلك على أكمل وجه. والآن جاء يوم شكره المستحق.
(3)
لم يجمع بيننا العمل العام لوحده وإنما جمعت بيننا "البراري" بكل تفردها وزخم "قواها الإشتراكية" التليدة إن كان في ترشيحها لـ"فاطمة" أو في تكريمها لـ"سكينة عالم"، والذي كان وبعقودٍ طويلة قبل تجشم "هيلاري" و"كاميلا" لمصاعب المعاظلة مع عتاة الرأسمال!.
كنت أغشاه كثيراً، وليس لماماً، للتزود من معارفه الحياتية ومن فيض روحه السمح، ومن لطائفه كذلك. كنت أسكن "كوريا" ويقطن هو في "إمتداد ناصر". ذات مساء وجدت في معيته المناضل الراحل "يوسف حسين"، وكما هو معلوم فهو رجل صارم القسمات وللذي يراه لأول مرة لا شك أنه سيظن أن هذا الرجل بينه والإبتسام ما تصنعه القطيعة البائنة!. أنهما صديقان، ولكن للمرء أن يعجب كيف تسنى ذلك، فــ"وهبه" سيلٌ متدفق من "الحكاوي" و"المِلَح" والضحك المجلجل؟!
إن لوهبه قدرة فائقة على صناعة الأصدقاء، إن جاز القول.
وهبه حكاءٌ بإمتياز، لا يدانيه أحد. كان يبدع حين يحكي عن طُرَفِ زميله الراحل الأستاذ "أبو بكر أبو الريش" المحامي، الذي تميز هو الآخر بالحس الفكه والروح اللطيف، والطيب. كانت طرفته الأثيرة لوهبه، وهما طلاب في المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين سأل أحد الأساتذة "ابوبكر" عن إسمه بالكامل فقال له :إسمي أبو بكر أبو الريش. فأردف الأستاذ: هل فعلاً اسم أبيك أبو الريش؟، فرد عليه أبو بكر: "بالمناسبة يا أستاذ أمي ذاتها إسمها أبو الريش!"، فإنفجر الطلاب بالضحك. حينما يحكي وهبة هذه الطرفة يحكيها وكأنها حدثت بالأمس، وحتى حينما يعيد "حكوتها" يعيدها بشكلٍ مختلف، في كل مرة، عن سابقتها. فتلك موهبة لا يتوفر عليها الكثيرون!
إن في مرافقة رواد العمل العام من أمثال وهبه، والذين يجمعون كل تلك المواهب، يصير العمل العام وبكل صعوباته وتعقيداته متعة، فضلاً عن كونه في معيتهم يمثل مدرسة حياتية نوعية ترقى إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يكون المرء على إستعدادٍ كاملٍ للتضحية بحياته من أجلها.
(4)
إن رفيقنا الراحل "محمد حسن وهبه" هو أحد الذين قدموا التضحيات الجسام بدون منٍ او سعيٍ مبغوضٍ للشهرة. عاش بسيطاً بين الناس وكريماً ذا "يدٍ خرقاء" حينما يطلب الناس بيته. إنه أحد أولئك الذين هم "زيت القناديل"، الذين تساكنوا، " تحت الأرض "، وتآلفوا مع الحرمان من طيب العيش والأهل، ولردحٍ طويلٍ من حيواتهم! إنه أحدُ منْ عناهم "برشت" أيضاً، حين قال/
"والعظمة تبرز من داخل أكواخٍ بالية
تتقدم في ثقة
تزحم كل الآماد
والشهرة تسأل حائرة - دون جواب –
عمنْ أقْدَمَ، أفْلَحَ، أنْجَزَ هاتيك الأمجاد!
فلتتقدم للضوء وجوهكم، لحظات
فلتتقدم هاتيك المغمورة مستورة
فلتتقدم كي تتقبل من أيدينا
كل الشكر
وكل الحب" (*)
فلك كل الشكر، رفيقنا "محمد حسن وهبه"، ولك كل الحب.
ولتخلد روحك في عليين.
___________________.
(*) من قصيدة "تقريظ العمل السري".
نقلا من صفحة الاستاذ صديق عبد الهادي على الفيس بوك