فضيلي جماع

مثل الكثيرين من أبناء الهامش العريض ، كنت أعرفُ أنّ الرّاحِلة التي تسير مائلةً لن تصلَ بحملها نهاية المشوار. فما يصنع جيلٌ من أجيال السودان ثورة ، آملاً في بداية عهدٍ جديد، حتى يقفز من ثكنات جيش السودان ضابط أو شلة ضباط ليجلسوا على سُدّة الحكم، بحجّة أنّ البلادَ على حافة الهاوية أمنياً واقتصادياً.

وأنّ الجيش هو صمامُ الأمان! وهكذا تغرق بلادُنا في مستنقعٍ جديد من الفوضى. جيش يعرف الضابطُ الخريج فيهِ طريقه إلى مايكرفون الإذاعة ليتلو بيان الإنقلاب أكثر مما يعرف واجبه تجاه تأمينِ حدود السودان المتاخمة لسبع دول. ويعرف جنده تصويبُ البندقيةِ إلى صدر المواطن الذي يدفع من عرق الجبين راتب الجندي وثمن الرصاصة التي توجّه إلى صدره بحجة التمرّد على الدولة إن هو طالبَ بحقِّه في الحياة الكريمة.

ثمّ أطلّ طائرُ الشؤم. فالسقوطُ في تاريخ العسكريّة الحديث كله “كوم” ، وما رُزئت به بلادنا في 30 يونيو 1989 كومٌ آخر – يوم أن خرج من الدبابة من أشعل نارَ الحروب الجهويّة في كلِّ رقعةٍ من الوطن حتى لحظة كتابة هذه السطور. هل نحتاج تذكير القارئ بتحويل الإسلامويين حرب الجنوب إلى حربٍ جهادية ليكونَ حاصلُها فصلَ شقنا الجنوبي؟ وهل نحتاج إلى التذكير بحرب الإبادة التي حصدت ثلاثمائة ألف في دارفور؟ ولا أظننا بحاجةٍ لتذكيرِ القارئ بحرب جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق وقصفِ المواطنين بالبراميل المتفجرة – الحرب التي توقفت مؤقتاً بسبب حرب (خراب سوبا) الدائرة الآن في الخرطوم!

جاء الإسلامويون إلى السلطة على ظهر دبابة. ويعلمون أنهم لن يحكموا هذا البلد ساعةً واحدة إن سكت هدير الدبابة. ثم ابتكروا سياسة (فرّق تسد). البداية في دار فور – أكثر الأقاليم وفرة في الثروة وأكثرها تهميشاً. أخذوا في تطبيق سياسة فرّق تسد .. حرب ما عرف بالحمرة ضد الزرقة (عرب ضد الأفارقة) !! صرت أتحسس جلدي – كلما سمعت هذه العبارة الفجّة – أنا الأسود المولود في عشيرة تتحدث العربية بلهجة فيها من مفردات قديم العربية ما فيها!
ولأن الجيش كأي مؤسسة يصيبها الرهق والتمزق فقد قاموا بصناعة مليشيا الجنجويد لتقوم بما عجز عنه جيش البلاد المتهالك بسبب خوضه حرباً دامت نصف قرن. كان أحد المشرفين على فظائع تلك المليشيا في حرب الإبادة في دار فور هو عبد الفتاح البرهان الذي يتلقى الأوامر من قادة تنظيم الكيزان في الخرطوم (راجع إفادات علي كوشيب الذي يمثل حالياً أمام محكمة الجنايات في لاهاي)!

وكان لابد أن يولد من رحم المعاناة التي عاشها شعبنا طوال 30 عاماً جيل جديد ، يعرفُ كيف يديرُ دفّة التاريخِ في اتجاهٍ مختلف. فالثورات على مدى تاريخ البشرية هي نقطة تحوّل في تفكير الإنسان ومنهج حياته. وعلى الجانب الآخر ظل الكيزان منذ الإنفجار الكبير لثورة 19 ديسمبر حتى اليوم في صراع مستميت للعودة إلى سدة نظامهم المباد. ظلوا يستخدمون إثنتين من الأدوات ، إذ لا يستطيعون دونهما سرقة السلطة ، ولا البقا ء على كرسيها ونهب مقدرات هذا البلد. ذانك الأداتان هما الدبابة وسياسة (فرّق تسد) !! وبقراءة خالية من التشنّج والإنفعال لما قام ويقوم به المجلس العسكري – ممثل تنظيم الأخوان المسلمين في الجيش بقيادة البرهان في عرقلة مساعي حكومة الفترة الإنتقالية بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك بعد النجاح الذي أحدثته حكومة حمدوك بإزالة إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ، وإعفاء مليارات الديون من نادي باريس واستقرار سعر صرف الدولار مقابل الجنيه السوداني.. بقراءة هادئة لردود الفعل نرى كيف جن جنون الكيزان حينها. نقرأ أفعال دولة الكيزان العميقة لإفشال ثورة ديسمبر: قفل طريق بورتسودان، إخفاء المواد التموينية، استخدام الشرطة والقناصة للرصاص الحي ضد الشباب المتظاهرين سلمياً. وأخيراً إنقلاب 25 أكتوبر 2021م حيث لم ينصلح الحال بعده حتى قيام حرب البسوس الحالية!!

وباندلاع هذه الحرب بين جيش الكيزان والدعم السريع الذي صنعوه ليحميهم ويكون ذراعهم اليمنى للعودة للحكم آن للكيزان أن يدركوا أنهم خسروا الرهان. فالتاريخ لا يعيد نفسه كما يقول البعض بغباء. فها هو صديق الأمس الذي صنعوه لحمايتهم قد أتقن فن اللعبة. أعلنت قيادته أنها مع مدنية الدولة..ربما ليس حبًاً في هذا الخيار لكن لأنّ بقاءهم مع الكيزان يعني نهاية وجودهم. واليوم تدل كل القرائن بعد مضي نصف السنة على الحرب أن الكيزان خسروها .. ولم يبق لهم غير سياسة (فرّق تسد)، يروجون لها عبر وسائط التواصل – سلاحهم الذي بات لا يصدقه إلا واهم !!

 

في المجلد .. الوَعْي يهزم سياسة (فرِّقْ تَسُدْ ) !!

لم يمر بخلدي أن أكتب كلاماً مباشراً عن المنطقة التي ولدت ونشأت في أحضانها. لكنّي مواطن من هناك.. وما يحدث للناس في تلك البقعة من العالم يهمني كثيراً وكثيراً جداً. لقد قرأت لأصحاب أقلام كثر إبان هذه الحرب اللعينة ، كلاماً خلاصة ما أصفه به أنه لا علاقة له بالأدب والكتابة المعافاة. بل يمكنني إدراجه في باب (قلة الأدب). فالكاتب الذي يصف سكان مساحة من الأرض هي بحجم بلجيكا أو أكبر ، وتضم في بواديها وسهولها مختلف الإثنيات والشعوب- الكاتب الذي يصف مواطنين سودانيين من أمثال هؤلاء بأنهم حاضنة قوات الدعم السريع، وأنهم الذين دخلوا الخرطوم ونهبوا واغتصبوا.. بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك بما يمكن تسميته تحريضاً لجيش الكيزان بأن يفعل بهم ما فعله في نيالا وفي أطراف الخرطوم من قصف بالطائرات للمدنيين.. أقول حين تصل كراهية الآخر المختلف بالبعض حد التحريض على الإبادة فإنّ السكوت يصبح جريمة.

حاول الكيزان – حين فشلوا في إلحاق الهزيمة بالدعم السريع في الحرب الدائر رحاها – أن يمارسوا لعبتهم القذرة – سياسة فرّق تسد في ولايات غرب السودان وآخرها غرب كردفان. خلقوا الفتنة بين قبيلتي حمر والمسيرية ، فسالت دماء وذهبت أرواح. وجربوها في جنوب دار فور بين بني هلبة والسلامات.. ونجحوا في إشعال الفتنة وخراب البيوت !! وفعلوا ذلك في مدينة الفولة عاصمة ولاية غرب كردفان ، وقبلها في لقاوة بين المسيرية والنوبة. وفي اب زبد بين المسيرية وحمر. المؤسف أنّ مواطني هذه العشائر يكتشفون مؤخراً من هو إبليس الذي قام بالتحريض ، وأشعل فتيل الحرب!

وأمس الأول حاول الكيزان ممارسة سياسة (فرّق تسد) في مسرح طالما تمنوا أن يطأوه. سبقت التجربة سلسلة “لايفات” ومقالات لبعض عضوية الكيزان من أبناء المنطقة. الحديث كله عن دعوة أبناء المسيرية بالدعم السريع أن يتركوه حتى لا يخربوا منطقتهم! النصح لمن يعرف هؤلاء ليس شفقة على المنطقة ولكن لحاجة في نفس يعقوب !! كانت ردة الفعل على اللايفات قوية من جانب أبناء المنطقة داخل وخارج السودان، مستنكرين الزج بأهلهم في حرب ليسوا هم من أشعلوها ، وليس بالضرورة أن تكون مجموعة من أبناء المنطقة جنوداً في الدعم السريع أن تكون المنطقة حاضنة لفصيل من الفصيلين المتحاربين. ما أزعج الكيزان منذ وقت طويل – ونحن نعرف ذلك – هو الكم الهائل من الوعي الذي عمّ المنطقة ، والذي بموجبه هدأ الشد والتنافر بين عشائر المسيرية وجيرانهم دينكا نقوك. بل ازدهرت التجارة في المنطقة بصورة لافتة للنظر. فقد أصبحت مدن المجلد والميرم وسوق أميت (النعام) قبلة لبضائع تفد للمنطقة من جنوب السودان بل من تشاد وأفريقيا الوسطى. وبموجب ذلك انصرف الشباب للعمل التجاري ، حيث عرفوا ماذا يعني السلام والإستقرار. لذا حاول الكيزان كما أسلفنا أن يعودوا لتخريب المسرح وحرق الأخضر واليابس. ظلت المجلد – أكبر المدن وأغنى أسواقها بالبضائع، والتي تضم سودانيين من غرب السودان ومن وسط وشمال السودان – ظلت هدف الكيزان هذه المرة.

بدأت الفتنة دون سابق إنذار. ثلاث عربات جيش تصل فجأة من حامية بابنوسة. يبدأ العسكر في محاولة رفع 2 موتوسايكل. قالوا بأنهم جاءوا بقصد جمع الدراجات النارية. ولعلم القارئ فإن في المنطقة أعداداً ضخمة من الموتوسايكلات يستخدمها المواطنون أداة مواصلات، وفي الطواف التجاري. حاول العسكر مصادرة الدراجتين – وكأني بحامية بابنوسة لم تجد من عمل لها غير مصادرة الدراجات النارية. هنا وقعت الحادثة. إطلاق النار على مواطن ، ليكون حصيلة تبادل إطلاق النار في مدة قصيرة جداً مقتل الرائد – قائد المجموعة وجندي آخر واغتيال الشاب جمّاع المدني صاحب إحدى الدراجتين..وسيدة توفيت لاحقاً متأثرة بجراحها. انصرف عسكر حامية بابنوسة حاملين جثتي القتيلين ، واحتوت لجان المنطقة الموقف وعلى رأسها الناظر مختار بابو نمر وبعض حكماء المنطقة. كما لعب الموقف العقلاني لأسرة القتيل الشاب جمّاع المدني دوراً كبيراً في احتواء الموقف. رفضت أسرة القتيل في المجلد أي إثارة أو شحن مما قد يتسبب في أي خسارة للأرواح.
وفي الحشد الكبير الذي حضره ناظر العشيرة وأعيان المنطقة ولجان الشباب اتفقوا جميعاً على عدم التصعيد. كما رفضوا بشدة أي وجود عسكري بالمجلد. بل وجهوا تحذيراً قوياً لعضوية الكيزان الذين – حسب معلوماتهم – وراء كل هذا المخطط. وهنا يجدر تسجيل صوت شكر لحكماء المنطقة ونخص منهم على سبيل المثال: الناظر مختار بابو نمر والشيخ دينق بلايل بحر والشيخ عبد الرحمن عبد الكريم جبريل والسيد دقشم وأسرة الشاب القتيل جمّاع المدني الذين بموقفهم الإنساني والحضاري قد حقنوا الدماء !

بذا كسب الوعي في المنطقة الرهان. مشكلة الكيزان كما أسلفنا في مقال سابق أنهم يحسبون أنّ التاريخ يعيد نفسه، وأنهم بنفس آلياتهم القديمة يمكنهم أن يعودوا للسلطة ويفعلوا في السودان ما يشاءون! إن عقارب الساعة لن تعود القهقرى. ولن يتوقف مجرى نهر التاريخ وميكانيزم التغيير على ظهر هذا الكوكب!

فضيلي حمّاع
لندن
6 أكتوبر 2023

الوسومالسودان فضيلي جماع

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: السودان

إقرأ أيضاً:

في شهرها العشرين وقف الحرب واستدامة الديمقراطية؟

في شهرها العشرين وقف الحرب واستدامة الديمقراطية؟

تاج السر عثمان بابو

1

تدخل الحرب اللعينة في السودان شهرها العشرين، مع استمرار جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الدعم السريع في شرق الجزيرة ودارفور وبقية المناطق وقصف الجيش للمدنيين بالطيران، مع تزايد مآسي الحرب، والمزيد من فقدان الأرواح والتهجير القسري وما يتبعه من نهب الأراضي الزراعية والممتلكات، وماسي إنسانية، اضافة للقمع الوحشي والتعذيب حتى الموت للمعتقلين السياسيين ولجان المقاومة والناشطين في لجان الخدمات في سجون طرفي الحرب، والمحاولة السافرة  لظهور المؤتمر الوطني في الحياة السياسية ومخاطبة مجرمي الحرب مثل: احمد هارون والبشير لاجتماعه، مما يؤكد ان هدف الحرب تصفية الثورة، وإعادة التمكين للإسلامويين مرة أخرى، الأمر الذي وجد رفضا وَاستنكارا شديدا من الجماهير.

كما فشلت الحلول الخارجية في منابر جدة واخرها منبر جنيف في وقف الحرب، وتجلى التدخل الدولي الهادف لنهب ثروات البلاد والداعم لطرفي الحرب، وإطالة أمدها، في مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن لحماية المدنيين الأخير، الذي اوقفته روسيا باستخدام حق” الفيتو”، وهو تعبير عن الصراع الدولي لنهب الموارد بين المحاور الداعمة لطرفي الحرب، وشن الحروب من أجل ذلك كما في الحرب الروسية- الاوكرانية وحرب غزة، الهادفة لنهب الموارد وتمزيق وحدة بلدان المنطقة.

كما برزت الدعوات للتدخل العسكري الدولي لوقف الحرب، علما بأن تجارب التدخل كانت غير حميدة  كما حدث  في: دارفور، اليمن، ليبيا، العراق وسوريا. الخ. العامل الحاسم هو وحدة وصمود الحركة الجماهيرية في الداخل، والعامل الخارجي مساعد، فوحدة السودانيين كما أكدت التجربة الماضية لعبت دورها  في اسقاط النظم الاستعمارية والديكتاتورية، كما حدث في الاستقلال 1956، ثورة أكتوبر 1964، انتفاضة مارس- أبريل 1985، وفي ثورة ديسمبر 2018.

التدخل الدولي الداعم لطرفي الحرب بالسلاح والعتاد بات معروفا بهدف نهب الذهب وبقية المعادن والأراضي وغيرها من ثروات البلاد، وإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، مع اشتداد حدة الصراع الدولي على الموارد في السودان وأفريقيا، وشن الحروب لتحقيق ذلك الهدف.

كما يستمر التدهور في الأوضاع المعيشية والصحية، مع خطر المجاعة الذي يهدد 25 مليون سوداني حسب بيانات الأمم المتحدة، واستمرار تدهور الاقتصاد السوداني كما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير متوقع تراجع الاقتصاد السوداني إلى 20% بنهاية العام 2024، مع استمرار انخفاض الجنية السوداني وارتفاع الأسعار، وتعطيل الزراعة والصناعة والخدمات بسبب الحرب، اضافة لعدم فتح المسارات الآمنة لوصول الأغاثات للمتضررين.

2

كما فشلت الحلول الخارجية في تحقيق الديمقراطية والسلام العادل والشامل، كما حدث بعد اتفاقية نيفاشا التي أدت لفصل الجنوب، وبعد ثورة ديسمبر 2018 في التسوية على أساس الوثيقة الدستورية “المعيبة” وانقلاب 25 أكتوبر 2021 عليها الذي قاد للحرب الحالية، ومحاولة إعادة التسوية والشراكة مع العسكر والدعم السريع التي تعيد إنتاج الحرب بشكل أوسع من السابق وتقود لتمزيق وحدة البلاد، بينما المطلوب استدامة الديمقراطية بخروج العسكر والدعم السريع من السياسة والاقتصاد، والترتيبات الأمنية لحل الدعم السريع ومليشيات المؤتمر الوطني وجيوش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية، إضافة للمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.

بالتالي هناك ضرورة للاستفادة من التجارب السابقة، في استدامة الديمقراطية، َتحقيق السلام العادل والشامل، ووقف الحرب ومواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية وأهمها عقد المؤتمر الدستوري الذي يقرر شكل الحكم، وإقرار دستور ديمقراطي وقانون انتخابات يفضي لانتخابات حرة نزيهه في نهاية الفترة الانتقالية.

3

كما اشرنا سابقا، بعد الاستقلال كانت جماهير شعبنا تتطلع لاستكماله بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية ومعالجة مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية لا الانقلاب عليها ، وانجاز التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد، بإنجاز الدستور الدائم، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو الفكر السياسي والفلسفي، ولكن ذلك لم يتم مما أدى لدخول البلاد في حلقة جهنمية من انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية شمولية أخذت 58 عاما من عمر الاستقلال البالغ أكثر من 68 عاما، وأسهمت تلك الأنظمة العسكرية في تكريس قهر الجنوب وانفصاله، اضافة للمناطق المهمشة، والتنمية غير المتوازنة ومصادرة الديمقراطية والحقوق الأساسية، وتكريس التنمية الرأسمالية والفوارق الطبقية والتبعية للدول الغربية حتى بلغت ديون السودان حاليا أكثر من 60 مليار دولار، مما يتطلب الاستفادة من تجارب فشل الديمقراطية الأولي والديمقراطية الثانية والثالثة التي تناولناها بالتفصيل في الدراسات السابقة بنجاح الفترة الانتقالية الحالية التي نشأت بعد ثورة ديسمبر 2018، في ترسيخ السلام والحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور الأزمة، ولا يعيد إنتاج المظالم والقهر والحرب، والديمقراطية المستدامة والتنمية المتوازنة، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقيام علاقات خارجية متوازنة تكرّس السيادة الوطنية.

4

ويفيد ان نعيد هنا نشر أهم ملامح تجارب الفترات الانتقالية التي تم اجهاضها:

ا – تجربة الفترة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر 1964م

بعد ثورة أكتوبر، ونجاح الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي قادته جبهة الهيئات، تمّ تكوين الحكومة الانتقالية الأولي بعد مفاوضات بدأت في البداية بين جبهة الأحزاب وقيادات من القوات المسلحة ، وفي وقت لاحق انضم اليها مندوبو جبهة الهيئات، وحزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي.

كان برنامج الفترة الانتقالية للحكومة الجديدة :

– حل مشكلة الجنوب ووقف الحرب الأهلية، ومكافحة الفساد.

– حل مشاكل الجماهير المعيشية والاقتصادية

– اعداد قانون انتخابات لانتخاب جمعية تأسيسية في نهاية الفترة الانتقالية لاعداد دستور دائم للبلاد.

لكن تم الفشل في انجاز مهام الفترة الانتقالية بسبب الضغوط من حزب الأمة والأحزاب التقليدية علي حكومة سر الختم الخليفة ، لدرجة تسيير المواكب من المليشيات المسلحة ضدها لاسقاط الحكومة، واشتدت ضغوط حزب الأمة علي سرالختم الخليفة رئيس الوزراء ، فاضطر لتقديم استقالة حكومته في 28 ديسمبر1965، بعد أن اشتدت الضغوط عليه.

بعد استقالة سرالختم الخليفة ، تمّ تشكيل حكومة جديدة في 24 فبراير 1965 ، كان نصيب كل من حزب الأمة والوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وكتلة الجنوبيين بثلاثة وزراء ، وتمثيل كل من الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين بوزير واحد، بالتالي اصبح للأحزاب التقليدية الأغلبية فيها ، وتمّ الاسراع في الانتخابات المبكرة التي تقرر عقدها في يونيو 1965.

حتى الانتخابات المبكرة لم يتم الصبر عليها ، وتم حل الحزب الشيوهي الذي قاز فيها ب 11 نائبا ، وطرد نوابه من البرلمان ، مما قاد للازمة الدستورية وتقويض الديمقراطية ، والي انقلاب 25 مايو 1969.

ب – الفترة الانتقالية بعد انتفاضة مارس – ابريل 1985

بعد انتفاضة مارس – ابريل ونجاح الاضراب السياسي العام الذي قاده التجمع الوطني لانقاذ الوطن،جاء ميثاق التجمع الوطني الذي حوي النقاط التالية:

– فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، مهامها تنظيم العمل السياسي بموجب دستور 1956 المعدل 1964.

– كفالة الحقوق والحريات الأساسية.

– الحل السلمي الديمقراطي لقضية الجنوب في اطار الحكم الذاتي الموحد.

– التحرر من التبعية الاقتصادية والاصلاح الاقتصادي بخلق بنية اقتصادية تحقق العدل والكفاءة، ومواجهة المجاعة وشح المواد التموينية والغلاء، السيادة الوطنية والتحرر من التبعية للقوى الخارجية.

– قيام علاقات خارجية متوازنة.

– تصفية أثار مايو وقوانيتها القمعية، والطبقة الطفيلية المايوية.

– اصلاح الخدمة العامة، وتصفية المؤسسات المايوية الخربة، تأكيد مبدأ الحكم الامركزي.

– حكم البلاد بعد الفترة الانتقالية بواسطة دستور يقره برلمان منتخب ديمقراطيا .

لكن انقلاب الفريق سوار الذهب قطع الطريق أمام الانتفاضة ،مما أدي لتخوف التجمع من هيمنة الحكم العسكري ، فبادر بتقليص الفترة الانتقالية من ثلاث سنوات الي سنة واحدة، بعد ها يتم تسليم السلطة في انتخابات لممثلي الشعب وتمت انتخابات 1986 المعروفة، ولم تصير الجبهة الإسلامية علي الديمقراطية، وكان انقلاب 30 يونيو 1989.

ج – الفترة الانتقالية بعداتفاقية نيفاشا

جاءت مهام الفترة الانتقالية بعد اتفاقية نيفاشا في الاتي:

– تغليب خيار الوحدة علي أساس العدالة ورد مظالم شعب جنوب السودان، وتخطيط وتنفيذ الاتفاقية بجعل وحدة السودان خيارا جاذبا وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلا (بروتكول مشاكوس).

– كما جاء في بروتكول مشاكوس، هو التحول الديمقراطي وقيام نظام ديمقراطي يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنسي واللغة والمساواة بين الجنسين لدي شعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية الحقوق والحريات الأساسية، وأكدت علي أن يكون جهاز الأمن القومي جهازا مهنيا ويكون التفويض المخول له هو تقديم النصح والتركيز علي جمع المعلومات وتحليلها (المادة: 2-7 -2-4)، وتم تضمين ذلك في وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي لسنة 2005م، علي أن يتوج ذلك بانتخابات حرة نزيهة تحت اشراف مفوضية للانتخابات مستقلة ومحايدة(المادة: 2-1-1-1)، واستفتاء علي تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية يدعم ويعزز خيار الوحدة.

ا- كما جاء في بروتكول مشاكوس: ايجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام، بل أيضا بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الانسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني.

كانت تلك الأضلاع الثلاثة الحد الأدني الذي بنت عليه جماهير الشعب السوداني الآمال العراض و تأييدها للاتفاقية التي اوقفت نزيف الحرب، رغم عيوب الاتفاقية التي لا تخطئها العين، التي كانت ثنائية ،وتم استبعاد ممثلي القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخري، ولا سيما أن الاتفاقية تناولت قضية أساسية تتعلق بمصير السودان ووحدته فلا يمكن ان تترك لشريكين، فالمؤتمر الوطني لايمثل الشمال ولا الحركة الشعبية تمثل الجنوب، وكانت الحصيلة شراكة متشاكسة كّرست الشمولية والديكتاتورية.

اضافة للثغرات الأخري في الاتفاقية مثل تقسيم البلاد علي أساس ديني، واقتسام السلطة الذي كرّس الصراع بين الشريكين وهيمنة المؤتمر الوطني في الحكومة المركزية والمجلس الوطني من خلال الأغلبية الميكانيكية والتي افرغ بها المؤتمر الاتفاقية من مضمونها وتم إعادة إنتاج الشمولية والديكتاتورية، اضافة لوجود نظامين مصرفيين والذي اكدت التجربة العملية فشله، اضافة للخلل في توزيع عائدات النفط بين الشمال والجنوب والتي لم تذهب الي التنمية وخدمات التعليم والصحة والزراعة والصناعة والبنيات الأساسية.الخ.

لكن، كما هو معروف لم يتم تنفيذ الاتفاقية بالشكل المطلوب، وكانت النتيجة انفصال الجنوب.

د – تجربة الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018

تناولنا هذه الفترة بتفصيل في دراسات ومقالات سابقة التي كانت أهم معالمها قطع انقلاب اللجنة الأمنية الطريق أمام الثورة، ومجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة والولايات لتصفية الثورة، اضافة لتراجع قوى الحرية والتغيير عن ميثاق إعلان الحرية والتغيير الذي وقع في يناير 2018 الذي ركز على قيام الحكم المدني الديمقراطي، بالتوقيع على الوثيقة الدستورية التي كرّست الشراكة مع العسكر وقننت الجنجويد دستوريا، وحتى الوثيقة الدستورية تم الانقلاب عليها بالتوقيع على اتفاق جوبا الذي تحول لمحاصصات ومناصب ،والهادف لتصفية الثورة، وانقلاب 25 أكتوبر، بعد ذلك تم الانقلاب على الاتفاق الإطاري بعد صراع العسكر والجنجويد على فترة دمج الجنجويد في الجيش، مما أدي لانفجار الحرب الراهنة التي قضت على الأخضر واليابس.

مما يتطلب وقف الحرب ومواصلة الثورة ، واستلهام الدروس السابقة والخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية وتنفيذ المواثيق التي يتم الاتفاق عليها، وهذا ما نعنيه بترسيخ الحكم المدني الديمقراطي واستدامة الديمقراطية الذي يبدا بقيام نظام ديمقراطي مستدام، وتنمية متوازنة، وسلام عادل وشامل، وقيام علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم، وضمان السيادة الوطنية، وحماية ثروات البلاد، وانجاز أهداف ثورة ديسمبر ومهام الفترة الانتقالية.

الوسومالاقتصاد السوداني التدخل العسكري الحرب السودان العراق الفترة الانتقالية تاج السر عثمان بابو ثورة ديسمبر سوريا ليبيا مشروع القرار البريطاني

مقالات مشابهة

  • حرب السودان والأسئلة الصعبة
  • حرب الكيزان – مليشيات الكيزان: المشهد الختامي لنهاية الحركة الإسلامية في السودان 
  • كيف عطلت الحرب تقاعد والدي؟
  • الحرب من وجهة نظرهن.. سعاد الفكي: نتائج الحرب أمر وأسوأ حالًا على النساء
  • مابعد الفيتو!!
  • سفير السودان يؤكد استقرار معدلات التبادل التجاري مع مصر
  • السودان.. الجهود الدولية متعثرة ولا أفق لوقف الحرب
  • في شهرها العشرين وقف الحرب واستدامة الديمقراطية؟
  • المساعدات .. الحرب تفاقم الأزمة الإنسانية في السودان
  • من بحري إلى بيالي: قصة الموسيقار اللاجئ الذي يبحث عن الأمل في المنفى