همهمات انتخابية فى فصل دراسى
تاريخ النشر: 7th, October 2023 GMT
ضمن عشرات وربما مئات من حكايات الطفولة تقفز من الذاكرة حكاية ذاك المدرس النابه الذى وقف بين تلاميذه الصبية، وأخرج من جيبه عملة نقدية ورقية تتجاوز مصروفهم اليومى، وقال لهم، من يرد هذه العملة فليأتى ليأخذها، فلم يحرك تلاميذ الفصل ساكنًا، وقد سرت بينهم همهمات مضغمة، إلا تلميذًا واحدًا، ترك مكانه واتجه حيث المدرس وأخذ العملة، وسط صمت مطبق من بقية التلاميذ، لم يقطعه إلا تصفيق المدرس، وعاد الصبى إلى مكانه، فرحًا بهدية الأستاذ الثمينة.
تخيلت نفسى أنه قدر لى أن أعيش زمن الحكاية، ذاك الزمن السحيق والمتخيل، وقد اقتربت من الصبية فى الفترة ما بين عرض المدرس وتقدم ذاك التلميذ الذى "صدّق" المدرس، وأتخيلهم وقد اقتربت رؤسهم فى حلقات يهمهمون فيما عُرض عليهم.
واحدة من الحلقات راحت تشكك فى جدية العرض واستدعى من فيها، خبراتهم السابقة، التى تؤكد نكوص المدرس عن وعده، وتحول المشهد إلى حالة من التهكم على من يتقدم ليحظى بهدية المدرس الذى يشاركهم - بغير إعلان - تهكمهم. فكان العزوف قرارهم، وعندما دق جرس الفسحة، التقى التلاميذ يتندرون على تلك الواقعة بعيدًا عيون المدرس، ويشيدون بذكائهم وصحة قرارهم بعدم الاستجابة.
حلقة أخرى راحت تستدعى تجارب الفصول المجاورة والتى تعيش نفس أجواء المدرسة، بتنويعات مختلفة فى تفاصيل الحكاية، أن المدرس طلب تشكيل لجنة من التلاميذ، تتلقى أسماء من يريد الفوز بما عرضه المدرس، بشروط: الانتظام فى الحضور المدرسى، والنجاح فى امتحانات الشهر، والالتزام بتعليمات المدرسة، والتحلى بالأخلاق وغيرها، ويتقدم لها من تنطبق عليه هذه الشروط، ثم تنظم اللجنة عملية تصويت الفصل على من يرونه الأجدر، وتجمع أوراق التصويت وترتبها، وتعلن من فاز وفق اختيار أغلبية الفصل، خرج التلاميذ من الفصل وبقيت اللجنة، وبعد دقائق تعلن اللجنة اتفاق غالبية التلاميذ على عدم استحقاق أيًا من المتقدمين لعطية المدرس، وبقيت العملة النقدية فى حوزة المدرس.
فيما كانت حلقة ثالثة تستعرض تجربة مدرسة ثالثة، التى اختلف فيها عرض المدرس، وكان هو المشرف على شئون فصله، أن يفسح المجال لاختيار أحدهم ليحمل عنه مهمة الإشراف، ويكون اسم المدرس مطروحًا ضمن الاختيارات، وهو عرض متكرر بشكل دورى، اللافت أن النتيجة كانت واحدة، مع بقاء الإجراءات وطقوس التصويت كما هى فى كل دورة، كان المدرس هو الفائز. كان وراء فوزه نشاط بعض من التلاميذ مهمتهم خلق حالة من الخوف من عواقب عدم اختياره، وتتعدد المبررات والحكايات، ولا تختلف النتائج.. فى تأكيد لدور الخوف.
التجارب السلبية والمتكررة هى التى تحاصر محاولات المدرس فى اكتساب ثقة التلاميذ، ويدعم هذا الحصار من يخشون من نجاح عرضه، فيطلقون قنابل دخانهم عبر ترويج إشاعاتهم، وهم يسعون لعدم نجاح مسعاه خشية أن تنتقل إلى فصولهم، وبعضهم يدرك مردود قيادة هذا الفصل الذى ينعكس فى تقارير إدارة المدرسة ومفتشى الوزارة بمزيد من الترقيات الدورية والاستثنائية له، وتأكيد جدارته ليس فى فصله وحسب بل وفى استحقاقه لإدارة المدرسة، أو على الأقل الاقتداء بتجربته.
كان للمدرس، بطل حكايتنا، أدواته التى يحرص على تفعيلها؛ منها حرصه على تنمية مداركه فى فهم احتياجات فصله، وتوزيع مسئوليات تدبيرها على النبهاء من التلاميذ، وحرصه على الحوار الايجابى معهم، وتدريبهم على قبول التعدد والتنوع، باعتبارهما سر قوة فصله ونجاحه، ويدعم كل هذا قدرة المدرس على عدم الميل لفصيل منهم بسبب تميز شخوص هذا الفصيل فيما يعتقدون أو يملكون أو خلفياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو قوتهم أو قدرتهم على فرض اختياراتهم، باعتبار أن هذه كلها هى دعامات لما يسعى لبنائه فى تكوين جيل يعيش الديمقراطية فى أبسط معانيها، وحين ينتقل الجيل من مرحلة دراسية لأخرى تنتقل معه الخبرات الايجابية هذه، وتصبح نسق تفكير وأسلوب حياة، تنتقل منهم إلى مجتمعاتهم الصغيرة، ومنها إلى دوائر أوسع، بهدوء لكن بقوة، ببطء لكن إلى الأمام.
كان سر نجاح هذا المدرس المتخيل فى أمانته وتجرده، وحبه لفصله وتلاميذه، ووضوح الهدف عنده، واهتمامه بأن يسجل دفتر أحوال المدرسة تجربته الباقية لأجيال قادمة، فللزمن أحكامه وللتاريخ تقييماته، الحازمة والمتجاوزة للمصادرة والمنع، وقدرته على التوثيق تقفز وتتأصل بتطور أدوات التواصل والانتشار.
*كاتب معنى بالشأن العام
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
كيف أنهى قانون العمل الجديد عهد الفصل التعسفي.. تفاصيل
وافق مجلس النواب نهائيًا على مشروع قانون العمل الجديد، والذي ينتظر الآن التصديق الرسمي من رئيس الجمهورية ليصبح ساريًا، ومن ثم إحالته إلى الحكومة لوضع لائحته التنفيذية خلال مدة لا تتجاوز 6 أشهر من تاريخ النشر بالجريدة الرسمية.
القانون الجديد يأتي استجابة لمطالب طال انتظارها من العاملين، خاصة في القطاع الخاص، ويهدف إلى تعزيز الاستقرار الوظيفي، وتحقيق التوازن في العلاقة بين العامل وصاحب العمل، من خلال وضع ضوابط قانونية تضمن العدالة وتكافؤ الفرص.
من أبرز ما تضمنه القانون، إلغاء الفصل التعسفي الذي كان يمثل أحد أكثر المخاوف انتشارًا بين العاملين، حيث نصّ على حظر فصل أي عامل إلا بعد الرجوع إلى المحكمة العمالية المختصة، كما أقرّ صرف تعويض يعادل أجر شهرين عن كل سنة من سنوات الخدمة للعامل الذي يتم فصله تعسفيًا.
كما أقرّ القانون تحويل العقود المؤقتة إلى عقود دائمة بعد مرور 4 سنوات من تاريخ بداية التعاقد، بشكل تلقائي، بهدف توفير الأمان الوظيفي للعمالة المؤقتة.
في جانب الحقوق المالية، ينص القانون على علاوة دورية سنوية لا تقل عن 3% من أجر الاشتراك التأميني، بالإضافة إلى إجازة سنوية لا تقل عن 21 يومًا قابلة للزيادة بحسب سنوات الخدمة.
وشدد القانون على منع تشغيل الأطفال دون 15 عامًا، مع النص على إنشاء صندوق لحماية وتشغيل العمالة غير المنتظمة، لتأمين فئات كثيرة كانت خارج مظلة الحماية القانونية.
وألزم القانون أصحاب العمل بتضمين خمسة بنود رئيسية في كل عقد عمل، تشمل: تاريخ التعاقد، بيانات طرفي التعاقد، طبيعة العمل، الأجر، وموقع تنفيذ العمل، لضمان الشفافية وتنظيم العلاقة التعاقدية.
القانون الجديد يمثل خطوة استراتيجية نحو بيئة عمل أكثر أمانًا وعدالة، ويعزز مناخ الاستثمار عبر ضمان حقوق جميع الأطراف.