لجريدة عمان:
2025-03-16@14:04:13 GMT

تأملات في محاكمة العقل العربي (1-2)

تاريخ النشر: 7th, October 2023 GMT

ألفت انتباه القارئ أنني في هذا المقال لست بصدد تقديم دراسة علمية مفصّلة، بل أرى هذا المقال بمثابة تأملات تعكس وجهة نظري الشخصية فيما يخص قضية العقل العربي وأسباب ركوده، وإلا فهناك الكثير من التفصيل العلمي والمنهجي في تشريح هذه القضية وإخضاعها لسلطة البحث العلمي المنهجي الساعي إلى بعث جديد للعقل العربي يُعيده إلى حضن العقل والعلم والإيمان النقي.

رغم أن هذا المقال سيعكس تأملاتي الخاصة؛ لا أنكر -مع ذلك- دور كثير من الكتب وجهابذتها في محاولتي لقراءة حالة العقل العربي ومكامن قوته وقصوره؛ لأبدأ بفحص عقلي -العربي- الذاتي قبل العقل العربي «الجمعي»، واكتشاف ماهيته بعيدا عن الظواهر الجزئية التي تأتي نتيجةً لتكوين هذا العقل وأدواته المعرفية، إلا أنني لست بصدد إعادة ما طُرح في هذه القضية -بشكل مباشر- مثل مشروع الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري عبر مشروعه الكبير «نقد العقل العربي» بأجزائه الأربعة، ولست بصدد توجيه أصابع الاتهام إلى الدور «العثماني» في تسببه في ركود العقل العربي إبان هيمنته على معظم العالم الإسلامي بما فيها معظم الدول العربية، وضياع الهويّة العربية كما يرى البعض من العرب وبعض المستشرقين الغربيين مثل «برنارد لويس»، ولا يمكن أن أضع كل الحمل وأسباب التخلف العقلي لأبي حامد الغزالي الذي يُعزى إليه تهميشه للعقل الفلسفي، وإحيائه للدوغمائية التي قمعت التفكير، والشك المنهجي الذي مارسه الغزالي بنفسه ثم قضى عليه بعد بلوغه لمرحلة اليقين، أو القول بصواب ابن رشد المطلق في دفاعه عن الفلسفة عبر كتبه وأبرزها كتابه «تهافت التهافت»، وكتاب «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، وتصدّيه لمنهجية الغزالي المقاومة لحركة التفكير والعقلانية خصوصا في مباحث الوجود والميتافيزيقا «الإلهيات».

يُرجع البعض كذلك وجود هذه الأزمة للعقل العربي نتيجة الاستعمار الغربي -بشكله المباشر أو غير المباشر عبر التأثير والتدخل-، وما تفرّع منه من المؤامرات التي استهدفت الدين والهوية مثل اللغة والثقافة، ولكن ما كان هذا ليحصل لولا وجود مشكلة تخص العقل العربي ومباحث معرفته التي جعلت من حضارته لقمة سائغة سهلة لقوى حضارية أخرى مارست دورها في الدورة الحضارية التي تعمل على استبدال الحضارة الضعيفة بحضارة أقوى، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في نظريته الاجتماعية والإنسانية. لا يمكن -كذلك- أن ننكر أن مشكلات التراث الديني وفهمنا لتاريخه كما تريد السياسة -حسب طريقتها وزمانها- لا كما يكون في أصله وواقعه التاريخي أحد أسباب تخلّف العقل العربي. يحتاج فهم قضية العقل العربي وانكماشه الفكري والإنتاجي في كثير من مجالات المعرفة -منذ فترة طويلة وحتى وقتنا- إلى جرأة في إقامة محاكمة -مجازية- للعقل العربي، ولتكن المحاكمة منهجية، ليست لمجرد ممارسة النقد لأجل النقد، ولكن لتحليل المشكلة، وكشف كلّياتها، وفحص جزئياتها المندسّة والمُهْملة بقصد أو دون قصد.

يمرّ العقل العربي بأزمة ركود فكرية وعلمية قهقرت حركته الحضارية في نواح كثيرة منها السياسية والاقتصادية والصناعية والتعليمية والصحية؛ فنجد -مثلا- مستويات الأمية في العالم العربي عالية جدا؛ فتشير تقديرات الألسكو «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» -حسب بيانها المنشور في 2023- إلى أن عدد الأميين العرب في عام2030 من المتوقع أن يصل إلى 98.6 مليون أمّي وأمّية. ووفقا لمنظمة اليونسكو هناك مقارنة مخيفة لمعدل القراءة للفرد العربي والفرد الأوروبي؛ إذ تُقدّر نسبة القراءة للفرد العربي بربع صفحة سنويًا، بينما يصل معدل القراءة للفرد الأوروبي 200 دقيقة سنويا حسب دراسة لمؤسسة الفكر العربي أشار إليها تقرير نشرته قناة العربي في موقعها الإلكتروني. يأتي الإنتاج الثقافي والمعرفي عبر نشر الكتب للدول العربية بنسبة مخيفة تُقدّر بكتابين مقابل 100 كتاب تنشره الدول الغربية -حسب التقرير الذي نشرته قناة العربي في موقعها الإلكتروني. لا تقلّ حركة الترجمة في العالم العربي ضعفا عن مشتقاتها المعرفية الرئيسة -القراءة والنشر-؛ فحركة الترجمة في العالم العربي ضعيفة جدا مقارنة بحركة الترجمة الغربية، ومقارنة بحركة الترجمة العربية في العصور الإسلامية الذهبية في الأندلس التي أنعشت العقل الغربي، وأحيت فيه الحركة العقلية والمعرفية، بينما أهملها أصحابها -العرب-، وتعاملوا معها وفق منهجية العقل الجامد والمنفصل عن الواقع وعن المنهج القرآني الداعي إلى إخضاع الظواهر والأشياء إلى العقل وأدواته المعرفية، وليس إلى الدغمائية المطلقة المنتفية من الشكيّة المنهجية دون المساس بالمسلّمات الإيمانية البدهيّة.

مشكلتنا أننا نحاول أن نحاكم الظواهر -الفردية والمجتمعية- وفروع الأسباب مثل ضعف الصناعة والاقتصاد والتعليم والانضباط الأخلاقي والمهني -مثل التي عرضتها آنفًا-، ونُرجع أسباب فشلنا إليها دون أن نلتفت بجدّية وجرأة إلى أنماط تفكيرنا المتعلقة بالمنهج العقلي التي نتبناها سواء وفق إرادتنا الموروثة أو إرادتنا الجمعية غير الواعية -في كلا الحالتين إعمال العقل مغيّب-، والتي تكون سببا لمثل هذه الظواهر السلبية. يزخر التاريخ بتجارب كثيرة في محاكمة العقل سواء على المستوى العام مثل التجربة أو «الظاهرة» القرآنية -كما يسمّيها مالك بن نبي- وما أحدثته من محاكمة في العقل العربي -بداية- والعقل الإنساني -عامة-، وتأثير هذه الظاهرة في التفكير والسلوك الجمعي للفرد والمجتمع، وهناك تفاصيل كثيرة تخص هذه التجربة، لا أرى سطور هذا المقال تتسع لعرضها، ولكن أحيل القارئ إلى قراءة مباحث «الدين والإله والمعتقدات والطقوس الدينية» -الفصل الثاني- و«النشأة والتطور في الحضارة» -الفصل الثالث- في كتابي «هكذا نتطور»، وكذلك مقال بعنوان «التجربة الإيمانية في ضوء الفلسفة والعلم والدين» نشرته في مجلة نزوى العدد «112»، ومن التجارب الأخرى في محاكمة العقل العام التجربة الغريبة التي عبر فلسفتها المادية قادت إلى الثورة الصناعية في الغرب؛ فكانت تجربة عقلية حاول العقل الغربي أن يتحرر من قيوده اللاهوتية الكابحة للتقدم والتطور العقلي والمعرفي، وهنا ينبغي الانتباه إلى أن التجربة الغربية في محاكمة العقل العام تحمل سمات تشبه التجربة الإسلامية من حيث تحرير العقل من سطوة الجمود، ولكنّها تختلف من حيث منطلقاتها التي أسفرت محاكمتهم للعقل تغييبا للجانب الروحي الذي آل إلى تدهور أخلاقي تزداد وتيرته يوما بعد يوم -كما نشهد في وقتنا الحالي-، بينما التجربة الإسلامية أبقت -من حيث المبدأ القرآني، وفي مراحلها الأولى- على جانب روحي «إيماني» يوازن بين مطالب الدين والحياة، ولكل تجربة ظروفها وأدواتها المعرفية المناسبة.

لا يمكن أن نغفل أن التجربة الغربية في محاكمة العقل العام تحققت -بداية- نتيجة محاكمات فردية للعقل مثل منهجية ديكارت -رغم أن أبا حامد الغزالي سابق لديكارت في محاكمة العقل الفردي عبر منهجية الشك المنهجي-، وكذلك كانط ومحاكمته الشهيرة للعقل المحض، وفصله في قضية الصراع بين المنهج العقلاني والمنهج التجريبي، والعودة والموازنة بينهما وفق مثالية تُعيد ترتيب أولويات منهجية المعرفة؛ لتبدأ بالكليات قبل الجزئيات -وهذا ما ينبغي ممارسته مع محاكمة العقل-، وفيها دعوة إلى تبني المنهج الاستنباطي، حيث المعرفة تبدأ بالكليات عبورا إلى الجزئيات. إحدى مشكلاتنا في طريقة فحصنا لأسباب ركودنا عبر تتبعنا للجزئيات -التي لم تكن لتكون لولا الخلل في الكليات التي تنبثق منها تلك الجزئيات- دون البدء بفحص كلّيات المشكلة التي تحدد أنماط العقل والمؤثرات التي تؤثر في تكوينه وتحديد أدوات معرفته. هناك الكثير من القضايا الخاصة بمباحث محاكمة العقل العربي مثل قضايا الاستشراق ودورها في تغييب العقل العربي، والاستغراب والحداثة والقطيعة المعرفية -كما تفاعل معها الجابري-، إلا أنه من الصعب -كما ذكرت سابقًا- أن أناقش كل هذه القضايا في مقال تأملي مثل هذا؛ فقضية عميقة مثل هذه تحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل عبر دراسات تحليلية منهجية تصل بنا إلى فهم أعمق وحلول ناجعة. يتجدد لقاؤنا مع الجزء الثاني في المقال القادم -إن شاء الله-.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا المقال

إقرأ أيضاً:

التجربة الثانية لسباق أستراليا.. لوكلير الأسرع وهاميلتون خامساً

احتل البريطاني المخضرم لويس هاميلتون المركز الخامس في التجربة الحرة الثانية لسباق جائزة أستراليا الكبرى، ضمن بطولة العالم لسباقات سيارات فورمولا1، التي تصدرها زميله في فريق فيراري، شارل لوكلير.

حقق لوكلير أسرع زمن في تلك التجربة، التي تأتي على هامش السباق الذي سيقام بعد غد الأحد بمدينة ملبورن الأسترالية في افتتاح الموسم الجديد، متفوقاً بفارق 0.124 ثانية على أقرب ملاحقيه الأسترالي أوسكار بياستري.

وفي المقابل جاء البريطاني لاندو نوريس، سائق فريق مكلارين، في المركز الثالث، بفارق 0.141 ثانية خلف لوكلير، علماً بأنه تصدر التجربة الحرة الأولى للسباق التي أقيمت في وقت سابق، اليوم الجمعة.

أول ظهور مع فيراري.. هاميلتون في المركز 12 - موقع 24تصدر سائق مكلارين، لاندو نوريس، لائحة الأزمنة في التجارب الحرة الأولى لسباق جائزة أستراليا الكبرى، الجولة الافتتاحية لموسم بطولة العالم لسباقات فورمولا 1، اليوم الجمعة، بينما جاء لويس هاميلتون في المركز 12 في أول ظهور له مع فيراري.

وجاء الياباني يوكي تسونودا والفرنسي إسحق حجار، ثنائي فريق راسينغ بولز، في المركزين الرابع والسادس على الترتيب، بينما اكتفى الهولندي ماكس فيرستابن حامل اللقب في المواسم الأربعة الأخيرة بالمركز السابع مع فريقه ريد بول.

مقالات مشابهة

  • العلاج الجنائزي في كوريا الجنوبية.. الموت 10 دقائق لتخفيف ضغوط الحياة
  • رئيس شؤون الضباط في وزارة الدفاع العميد محمد منصور: الجيش العربي السوري كان وسيبقى عماد السيادة الوطنية، واستعادة الكفاءات والخبرات العسكرية التي انشقت وانحازت للشعب في مواجهة نظام الأسد البائد والتي خاضت معارك الدفاع عن الوطن أمرٌ ضروري لتعزيز قدرات جيشن
  • "أمواج" تُطلق عطرين جديدين من "أوديسي" يُجسِّدان "قوة المالانهاية"
  • من العقل الرعوي إلى المهدية المعاصرة: تأملات في فكر النور حمد والصادق المهدي
  • صندوق مكافحة الإدمان: مصر أصبحت نموذجًا عالميًا في التوعية والعلاج
  • الشقيري يختبر قدرة الرجال على تحمل محاكاة ألم الولادة..فيديو
  • طلب إحاطة بشأن إحكام الرقابة على الأسواق والأسعار
  • اقرأ غدًا في «البوابة».. تأملات وأفكار.. ذكريات رمضانية ولقاءات حول الحاضر والمستقبل وقضايا مهمة لتقدم المجتمع
  • تأملات في الكتابة عن العبقرية
  • التجربة الثانية لسباق أستراليا.. لوكلير الأسرع وهاميلتون خامساً