لجريدة عمان:
2024-12-24@01:40:28 GMT

تأملات في محاكمة العقل العربي (1-2)

تاريخ النشر: 7th, October 2023 GMT

ألفت انتباه القارئ أنني في هذا المقال لست بصدد تقديم دراسة علمية مفصّلة، بل أرى هذا المقال بمثابة تأملات تعكس وجهة نظري الشخصية فيما يخص قضية العقل العربي وأسباب ركوده، وإلا فهناك الكثير من التفصيل العلمي والمنهجي في تشريح هذه القضية وإخضاعها لسلطة البحث العلمي المنهجي الساعي إلى بعث جديد للعقل العربي يُعيده إلى حضن العقل والعلم والإيمان النقي.

رغم أن هذا المقال سيعكس تأملاتي الخاصة؛ لا أنكر -مع ذلك- دور كثير من الكتب وجهابذتها في محاولتي لقراءة حالة العقل العربي ومكامن قوته وقصوره؛ لأبدأ بفحص عقلي -العربي- الذاتي قبل العقل العربي «الجمعي»، واكتشاف ماهيته بعيدا عن الظواهر الجزئية التي تأتي نتيجةً لتكوين هذا العقل وأدواته المعرفية، إلا أنني لست بصدد إعادة ما طُرح في هذه القضية -بشكل مباشر- مثل مشروع الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري عبر مشروعه الكبير «نقد العقل العربي» بأجزائه الأربعة، ولست بصدد توجيه أصابع الاتهام إلى الدور «العثماني» في تسببه في ركود العقل العربي إبان هيمنته على معظم العالم الإسلامي بما فيها معظم الدول العربية، وضياع الهويّة العربية كما يرى البعض من العرب وبعض المستشرقين الغربيين مثل «برنارد لويس»، ولا يمكن أن أضع كل الحمل وأسباب التخلف العقلي لأبي حامد الغزالي الذي يُعزى إليه تهميشه للعقل الفلسفي، وإحيائه للدوغمائية التي قمعت التفكير، والشك المنهجي الذي مارسه الغزالي بنفسه ثم قضى عليه بعد بلوغه لمرحلة اليقين، أو القول بصواب ابن رشد المطلق في دفاعه عن الفلسفة عبر كتبه وأبرزها كتابه «تهافت التهافت»، وكتاب «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، وتصدّيه لمنهجية الغزالي المقاومة لحركة التفكير والعقلانية خصوصا في مباحث الوجود والميتافيزيقا «الإلهيات».

يُرجع البعض كذلك وجود هذه الأزمة للعقل العربي نتيجة الاستعمار الغربي -بشكله المباشر أو غير المباشر عبر التأثير والتدخل-، وما تفرّع منه من المؤامرات التي استهدفت الدين والهوية مثل اللغة والثقافة، ولكن ما كان هذا ليحصل لولا وجود مشكلة تخص العقل العربي ومباحث معرفته التي جعلت من حضارته لقمة سائغة سهلة لقوى حضارية أخرى مارست دورها في الدورة الحضارية التي تعمل على استبدال الحضارة الضعيفة بحضارة أقوى، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون في نظريته الاجتماعية والإنسانية. لا يمكن -كذلك- أن ننكر أن مشكلات التراث الديني وفهمنا لتاريخه كما تريد السياسة -حسب طريقتها وزمانها- لا كما يكون في أصله وواقعه التاريخي أحد أسباب تخلّف العقل العربي. يحتاج فهم قضية العقل العربي وانكماشه الفكري والإنتاجي في كثير من مجالات المعرفة -منذ فترة طويلة وحتى وقتنا- إلى جرأة في إقامة محاكمة -مجازية- للعقل العربي، ولتكن المحاكمة منهجية، ليست لمجرد ممارسة النقد لأجل النقد، ولكن لتحليل المشكلة، وكشف كلّياتها، وفحص جزئياتها المندسّة والمُهْملة بقصد أو دون قصد.

يمرّ العقل العربي بأزمة ركود فكرية وعلمية قهقرت حركته الحضارية في نواح كثيرة منها السياسية والاقتصادية والصناعية والتعليمية والصحية؛ فنجد -مثلا- مستويات الأمية في العالم العربي عالية جدا؛ فتشير تقديرات الألسكو «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» -حسب بيانها المنشور في 2023- إلى أن عدد الأميين العرب في عام2030 من المتوقع أن يصل إلى 98.6 مليون أمّي وأمّية. ووفقا لمنظمة اليونسكو هناك مقارنة مخيفة لمعدل القراءة للفرد العربي والفرد الأوروبي؛ إذ تُقدّر نسبة القراءة للفرد العربي بربع صفحة سنويًا، بينما يصل معدل القراءة للفرد الأوروبي 200 دقيقة سنويا حسب دراسة لمؤسسة الفكر العربي أشار إليها تقرير نشرته قناة العربي في موقعها الإلكتروني. يأتي الإنتاج الثقافي والمعرفي عبر نشر الكتب للدول العربية بنسبة مخيفة تُقدّر بكتابين مقابل 100 كتاب تنشره الدول الغربية -حسب التقرير الذي نشرته قناة العربي في موقعها الإلكتروني. لا تقلّ حركة الترجمة في العالم العربي ضعفا عن مشتقاتها المعرفية الرئيسة -القراءة والنشر-؛ فحركة الترجمة في العالم العربي ضعيفة جدا مقارنة بحركة الترجمة الغربية، ومقارنة بحركة الترجمة العربية في العصور الإسلامية الذهبية في الأندلس التي أنعشت العقل الغربي، وأحيت فيه الحركة العقلية والمعرفية، بينما أهملها أصحابها -العرب-، وتعاملوا معها وفق منهجية العقل الجامد والمنفصل عن الواقع وعن المنهج القرآني الداعي إلى إخضاع الظواهر والأشياء إلى العقل وأدواته المعرفية، وليس إلى الدغمائية المطلقة المنتفية من الشكيّة المنهجية دون المساس بالمسلّمات الإيمانية البدهيّة.

مشكلتنا أننا نحاول أن نحاكم الظواهر -الفردية والمجتمعية- وفروع الأسباب مثل ضعف الصناعة والاقتصاد والتعليم والانضباط الأخلاقي والمهني -مثل التي عرضتها آنفًا-، ونُرجع أسباب فشلنا إليها دون أن نلتفت بجدّية وجرأة إلى أنماط تفكيرنا المتعلقة بالمنهج العقلي التي نتبناها سواء وفق إرادتنا الموروثة أو إرادتنا الجمعية غير الواعية -في كلا الحالتين إعمال العقل مغيّب-، والتي تكون سببا لمثل هذه الظواهر السلبية. يزخر التاريخ بتجارب كثيرة في محاكمة العقل سواء على المستوى العام مثل التجربة أو «الظاهرة» القرآنية -كما يسمّيها مالك بن نبي- وما أحدثته من محاكمة في العقل العربي -بداية- والعقل الإنساني -عامة-، وتأثير هذه الظاهرة في التفكير والسلوك الجمعي للفرد والمجتمع، وهناك تفاصيل كثيرة تخص هذه التجربة، لا أرى سطور هذا المقال تتسع لعرضها، ولكن أحيل القارئ إلى قراءة مباحث «الدين والإله والمعتقدات والطقوس الدينية» -الفصل الثاني- و«النشأة والتطور في الحضارة» -الفصل الثالث- في كتابي «هكذا نتطور»، وكذلك مقال بعنوان «التجربة الإيمانية في ضوء الفلسفة والعلم والدين» نشرته في مجلة نزوى العدد «112»، ومن التجارب الأخرى في محاكمة العقل العام التجربة الغريبة التي عبر فلسفتها المادية قادت إلى الثورة الصناعية في الغرب؛ فكانت تجربة عقلية حاول العقل الغربي أن يتحرر من قيوده اللاهوتية الكابحة للتقدم والتطور العقلي والمعرفي، وهنا ينبغي الانتباه إلى أن التجربة الغربية في محاكمة العقل العام تحمل سمات تشبه التجربة الإسلامية من حيث تحرير العقل من سطوة الجمود، ولكنّها تختلف من حيث منطلقاتها التي أسفرت محاكمتهم للعقل تغييبا للجانب الروحي الذي آل إلى تدهور أخلاقي تزداد وتيرته يوما بعد يوم -كما نشهد في وقتنا الحالي-، بينما التجربة الإسلامية أبقت -من حيث المبدأ القرآني، وفي مراحلها الأولى- على جانب روحي «إيماني» يوازن بين مطالب الدين والحياة، ولكل تجربة ظروفها وأدواتها المعرفية المناسبة.

لا يمكن أن نغفل أن التجربة الغربية في محاكمة العقل العام تحققت -بداية- نتيجة محاكمات فردية للعقل مثل منهجية ديكارت -رغم أن أبا حامد الغزالي سابق لديكارت في محاكمة العقل الفردي عبر منهجية الشك المنهجي-، وكذلك كانط ومحاكمته الشهيرة للعقل المحض، وفصله في قضية الصراع بين المنهج العقلاني والمنهج التجريبي، والعودة والموازنة بينهما وفق مثالية تُعيد ترتيب أولويات منهجية المعرفة؛ لتبدأ بالكليات قبل الجزئيات -وهذا ما ينبغي ممارسته مع محاكمة العقل-، وفيها دعوة إلى تبني المنهج الاستنباطي، حيث المعرفة تبدأ بالكليات عبورا إلى الجزئيات. إحدى مشكلاتنا في طريقة فحصنا لأسباب ركودنا عبر تتبعنا للجزئيات -التي لم تكن لتكون لولا الخلل في الكليات التي تنبثق منها تلك الجزئيات- دون البدء بفحص كلّيات المشكلة التي تحدد أنماط العقل والمؤثرات التي تؤثر في تكوينه وتحديد أدوات معرفته. هناك الكثير من القضايا الخاصة بمباحث محاكمة العقل العربي مثل قضايا الاستشراق ودورها في تغييب العقل العربي، والاستغراب والحداثة والقطيعة المعرفية -كما تفاعل معها الجابري-، إلا أنه من الصعب -كما ذكرت سابقًا- أن أناقش كل هذه القضايا في مقال تأملي مثل هذا؛ فقضية عميقة مثل هذه تحتاج إلى إعادة قراءة وتحليل عبر دراسات تحليلية منهجية تصل بنا إلى فهم أعمق وحلول ناجعة. يتجدد لقاؤنا مع الجزء الثاني في المقال القادم -إن شاء الله-.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا المقال

إقرأ أيضاً:

للحفاظ على حدة العقل.. 8 عادات يجب توديعها

المناطق_متابعات

يتطلب الحفاظ على حدة العقل مع التقدم في السن أكثر من مجرد تمارين عقلية، فهو يتعلق بتجنب العادات التي يمكن أن تضعف القدرات المعرفية بمرور الوقت.

ويمكن لسلوكيات معينة، مثل إهمال التحديات الفكرية أو الوقوع في الروتين غير الصحي، أن تعيق الوضوح العقلي والتركيز.

أما بالنسبة لأولئك، الذين يرغبون في اتخاذ هذه الخطوة، فإن هناك ثماني عادات ينبغي التفكير في التخلص منها، بحسب ما نشره موقع Blog Herald.

1. تعدد المهام

التعامل مع مهام متعددة في وقت واحد وتوفير الوقت والشعور بالإنجاز، ولكن عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على الحدة العقلية، فربما يكون تعدد المهام هو أسوأ عدو للمرء. إن دماغ الإنسان غير مجهزة لتعدد المهام.

ومن المفاهيم الخاطئة الشائعة أن التوفيق بين المهام يعزز خفة الحركة العقلية، لكن في الواقع العكس هو الصحيح، حيث إن تعدد المهام يمكن أن يؤدي إلى التوتر والأخطاء ومشاكل في الذاكرة.

كما يمكن لتغييرات صغيرة أن تقطع شوطا طويلا في الحفاظ على الوضوح العقلي مع التقدم في العمر.

2. السهر أمام الشاشات

الإفراط في مشاهدة البرامج المفضلة حتى الساعات الأولى من الصباح أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي بعد منتصف الليل يكون ضارا بالتركيز والقدرات المعرفية.

ومع التقدم في العمر، يمكن ملاحظة وجود صلة واضحة بين الوقت الذي يتم قضاؤه أمام الشاشات في وقت متأخر من الليل وجودة التفكير في اليوم التالي مع شعور بالضبابية وتأثر حدة الذاكرة. تدعم الأبحاث أن الضوء الأزرق المنبعث من الأجهزة الإلكترونية يتداخل مع النوم، وهو أمر ضروري للوظائف المعرفية مثل الذاكرة والانتباه وحل المشكلات.

3. أسلوب حياة الأريكة والبطاطس

فيما النشاط البدني مفيد للجسم وللعقل أيضا وممارسة التمارين الرياضية بانتظام، حتى ولو كانت بسيطة مثل المشي السريع، يمكن أن تعزز صحة الدماغ، ما يؤدي إلى تحسين الإدراك والذاكرة وحتى إبطاء شيخوخة الدماغ.

بمعنى آخر، النشاط البدني يشبه تمرين الدماغ، وكما هو الحال مع العضلات، يحتاج الدماغ إلى الحفاظ على لياقته أيضًا.

4. التوتر

يعد التوتر جزءًا من الحياة، فهو يساعد على الاستجابة للتهديدات ويحفز الشخص، على سبيل المثال، على الالتزام بالمواعيد النهائية، ولكن عندما يصبح التوتر مزمنًا، يصبح الأمر مختلفًا تمامًا.

ويمكن أن يكون للتوتر المزمن تأثير ضار على صحة الدماغ؛ يمكن أن يؤدي إلى فقدان الذاكرة، والتدهور المعرفي، وحتى زيادة خطر الإصابة بمرض الزهايمر. ولذلك يعد التحكم والتقليل من التوتر ضرورة إذا كان الشخص يرغب في الحفاظ على الحدة العقلية مع تقدمه في السن.

5. تجاهل الروابط الاجتماعية

مع التقدم في السن، تلعب الروابط الاجتماعية دورًا أكثر أهمية من مجرد رفع المعنويات، لأنها تبقي الذهن حادًا. إن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية المنتظمة توفر التحفيز الذهني وتقلل من التوتر ويمكن أن تقلل من خطر التدهور المعرفي.

ولا ينبغي التقليل من شأن قوة الروابط الاجتماعية، ويجب الحرص على التواصل والتفاعل مع الأقارب والأصدقاء والجيران.

6. وسائل التذكير الرقمية

في عصر أصبحت فيه الهواتف الذكية قادرة على تذكر كل شيء بدءًا من أعياد الميلاد وحتى قوائم البقالة، فمن السهل تفريغ هذه المهام لمساعدين رقميين. ولكن هنا يكمن الضرر حيث إنه لا يكون الخيار الأفضل لصحة الدماغ.

والقيام بتذكر معلومات خاصة بمهمة أو حدث ما يعد شكلاً من أشكال التمارين العقلية ويساعد في الحفاظ على حدة العقل.

7. نظام غذائي غير متوازن

يحتاج الدماغ إلى مجموعة متنوعة من العناصر الغذائية ليعمل على النحو الأمثل؛ إن اتباع نظام غذائي غني بالأطعمة المصنعة والمشروبات السكرية والدهون غير الصحية يمكن أن يكون له آثار ضارة على صحة الدماغ.

من ناحية أخرى، يمكن لنظام غذائي غني بالفواكه والخضروات والبروتينات الخالية من الدهون والحبوب الكاملة أن يوفر العناصر الغذائية التي يحتاجها الدماغ ليظل نشطًا.

8. إهمال النوم

ويعد النوم ليس ترفا، بل هو ضرورة، خاصة عندما يتعلق الأمر بإبقاء العقل يقظا. أثناء النوم، يعمل الدماغ بجد لترسيخ الذكريات وإصلاح نفسه. إن التقليل من النوم يعيق هذه العمليات الأساسية، ما يؤدي إلى التفكير الضبابي والنسيان وانخفاض الوظيفة الإدراكية.

ويجب التأكد من الحصول على قسط كافٍ من النوم الجيد كل ليلة. إنها واحدة من أفضل الخطوات التي يمكن القيام بها لصحة الدماغ مع التقدم في العمر.

مقالات مشابهة

  • نحو منظور جديد للديمقراطية التمثيلية
  • كرامي: اذا لم نتمكن من تأمين 86 صوتاً لعون فمن الافضل عدم خوض التجربة
  • 27.000.000 يتابعون محمد بن راشد .. صوت العقل
  • التواضع زينة الأخلاق.. تأملات في قول الله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ}
  • حينما تصبح الهوية قيدًا .. تأملات في نسب شجرة الغول لعبد الله بولا
  • العقل يهزم أوكامبو في حدث Usyk2Fury ضمن موسم الرياض
  • رئيس التنظيم والإدارة يستعرض التجربة المصرية في الإصلاح الإداري
  • بعد نجاح التجربة.. طلب برلماني بالتوسع في المدارس اليابانية
  • غيبوبة العقل العربي وتناقضاته
  • للحفاظ على حدة العقل.. 8 عادات يجب توديعها