كيف نستعد للتصدي للجوائح في المستقبل؟
تاريخ النشر: 7th, October 2023 GMT
لم تكن البشرية تتوقع تفشي جائحة كورونا (كوفيد-19)، مع أننا كنا نتلقى على مدى عقود من الزمن إنذارات قوية تحذرنا من انتشار سارس، وإيبولا، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وأنفلونزا الطيور على نطاق أصغر. وأنشأ الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، الذي أدرك الطبيعة الحقيقية للتهديد الذي قد تفرضه الأمراض المعدية، هيئة معنية بالأمن الصحي العالمي والدفاع البيولوجي داخل مجلس الأمن القومي.
ونظرا لأن هناك احتمالات قوية بأننا سنواجه وباءً آخر عاجلا أو آجلا، فإن المجتمع الدولي منخرط عن حق في مناقشة كيفية الاستجابة للأوبئة على نحو أفضل في المستقبل. وفي الشهر الماضي، أصدر اجتماع رفيع المستوى للأمم المتحدة بشأن الوقاية من الجوائح والتأهب والاستجابة لها «إعلانا سياسيا» رُحب به بوصفه قرارا معلما. وعلى حد تعبير كارولين رينولدز، المؤسِسة المشاركة لشبكة الإجراءات المتعلقة بالوباء، فإن المسودة المؤلفة من 14 صفحة أقرت أن الوقاية من الجوائح والتأهب والاستجابة لها هي أكثر بكثير من مجرد مسألة صحية وطنية؛ بل إنها قضية أمنية واقتصادية وطنية وعالمية. فعلى غرار قضية تغير المناخ، تشكل الأوبئة خطرا نظاميا عالميا وتهديدا وجوديا للبشرية، ويتعين علينا أن نتعامل معها على هذا الأساس.
ولكن أليس هذا مجرد توضيح لما هو واضح؟ وفي حين أشاد البعض بالاتفاق ووصفه «تاريخيا»، إلا أنه لم يكن مصحوبًا بأي التزامات ثابتة من جانب الحكومات.
إننا نعلم بالفعل ما سيتطلبه الأمر للاستجابة للجوائح على نحو أفضل في المستقبل. فبعد انتشار فيروس كورونا على مستوى العالم، مات الملايين من الناس في البلدان الفقيرة بسبب عدم القدرة على الوصول إلى الأدوية التي كانت تُخزن في البلدان الغنية. وكنا نحتاج إلى التنازلات عن كل حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالتصدي لمسببات الجائحة ــ بما في ذلك اللقاحات، والاختبارات، ومعدات الحماية الشخصية، والعلاجات ــ فضلا على التزامات الجميع بتقاسم ما لديهم من تكنولوجيا، وتوفير كل الأموال اللازمة لمساعدة البلدان الأشد فقرا.
ومع ذلك، خلال أزمة كوفيد-19، لاحظنا أنه حتى أقوى الدول المدافعة عن الحوكمة الدولية، تحديدا الولايات المتحدة، ليست نادمة عن انتهاكها للقواعد والأعراف التي كانت تعتبرها متناقضة مع مصالحها المباشرة. إن الحد من بعض تحركات الأشخاص لاحتواء انتشار الفيروس، وحظر تصدير المنتجات الأساسية المتعلقة بفيروس كورونا كانا أمرين مختلفين تماما.
وفضلا على ذلك، وبفضل الطلب الشجاع المتعلق بحرية الاطلاع على المعلومات في جنوب إفريقيا وتسريبات أخرى مؤكدة، أصبحنا نعلم الآن أن شركات الأدوية الكبرى قد انحدرت إلى مستوى متدن للغاية لدرجة أنها فرضت رسوما على بعض البلدان النامية أعلى مقارنة مع تلك التي فرضتها على البلدان المتقدمة. كما أصر بعضها على تصدير الجزء الأكبر من منتجاتها إلى أوروبا من الأسواق الناشئة حيث تُصَنع، مع أن مواطني تلك البلدان كانوا في أمس الحاجة إلى الأدوية.
والأسوأ من ذلك أنه في حين كانت حكومات البلدان النامية خاضعة لالتزامات تعاقدية صارمة، فقد أعفيت الشركات نفسها حتى من الحد الأدنى للمتطلبات اللازمة لتسليم ما وعدت به من إمدادات في الوقت المناسب. وأصرت على السرية -لأسباب أصبحت واضحة الآن- حتى حين يؤدي ذلك إلى انتهاك قوانين النزاهة في أي بلد. لذا، وضعت العديد من حكومات البلدان النامية أمام خيارين: إما إنقاذ حياة مواطنيها أو الحفاظ على القيم الديمقراطية. واختارت دولة واحدة على الأقل الحصول على اللقاحات من روسيا باعتباره حلا وسطا. واختارت الدول الأخرى الصين باعتبارها المصدر الوحيد الممكن للقاحات.
إن أي نهج عقلاني يجب أن يبدأ بالاعتراف أن السيطرة على الأوبئة تصب في مصلحة الجميع. ونظرا للعجز الواضح للدول الغنية والقوية فيما يتعلق بالوفاء بالتزاماتها أثناء الأزمات، فإن الحل المعقول يتلخص في ضمان القدرة على إنتاج المنتجات المرتبطة بالوباء في كل مكان، وإزالة العوائق المتوقعة التي قد تحول دون قيام البلدان بذلك. وهذا يعني الموافقة على تنازل قوي عن الملكية الفكرية، وفرض عقوبات صارمة على أي شركة أدوية تتدخل تدخلا خاطئا في استخدام شركة أخرى للملكية الفكرية المحددة، بما في ذلك الحالات التي يصَدر فيها الإنتاج إلى دول ثالثة في العالم النامي.
ومن أجل السيطرة على التهديدات المستقبلية، يجب نقل بعض التكنولوجيا ذات الصلة الآن، ويجب أن تلتزم الحكومات والشركات بتسهيل أي عمليات نقل إضافية قد تجعلها مسببات الأمراض المستقبلية ضرورية. وينبغي للحكومات أن تمتلك الأدوات والسلطة القانونية اللازمة لإجبار أو حث الشركات الواقعة ضمن ولاياتها القضائية على تقاسم مثل هذه التكنولوجيا؛ وينبغي أن يكون للدول النامية الحق في رفع دعوى قضائية في حال لم يحدث ذلك. ومع ذلك، فإن آليات التنفيذ العالمية ضعيفة، وقد شهدنا خلال جائحة كوفيد-19 انتهاكًا للقواعد والمعايير الدولية من جانب دول الشمال العالمي- دون أن تترتب على ذلك عواقب. ولهذا السبب من المهم جدًا أن نتوفر على قدرات فيما يتعلق بإنتاج الأدوية وتطويرها في الجنوب العالمي.
ولا يمكننا أن نثق في قدرة الاقتصادات المتقدمة على توفير التمويل الطارئ عندما يتطلب الوضع ذلك. فمجرد إقناعها بتقديم التزامات مسبقة أثناء المفاوضات الحالية، مُهمة صعبة جدا. ومرة أخرى، لكي نسيطر على التهديدات المستقبلية، يتعين علينا أن نعمل على حشد الأموال اللازمة الآن، ووضع قواعد واضحة لتسليمها. وحتى لو كان من غير المرجح أن تقدم بعض الحكومات الأموال على الفور- فلا ينبغي للعالم أن يتوقع شيئا من الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي- إذ لا يزال ممكنا صياغة اتفاق ملزِم لتسليم الأموال عبر قنوات متعددة الأطراف مثل بنوك التنمية وصندوق النقد الدولي.
وهناك مبدأ تبادل المصالح في هذا الصدد. إذ نظرا لأن السيطرة على أي مسبب للأمراض في المستقبل سوف تتطلب الحصول على بيانات، فإننا نحتاج إلى التزام جميع البلدان بتقاسم البيانات. ولكن خلال أزمة كوفيد-19، عوقبت جنوب إفريقيا فعليا عندما حددت متغيرا جديدا من الفيروس: استجابت بلدان أخرى بفرض قيود ضدها فيما يتعلق بالسفر، مع أنه لم يكن مصدر المتغير واضحا، أو ما إذا كان أكثر انتشارا في مكان آخر. إن ردة الفعل هذه سابقة كارثية يحتمل أن تلقي بظلالها على الوباء القادم. فلابد أن تكون لدى البلدان حوافز للانفتاح. ويعد ضمان الوصول إلى التكنولوجيات والتمويل في حالات الطوارئ أمرًا ضروريًا لتحقيق هذا الهدف.
وأثناء التصدي لكوفيد-19، أعطينا الأولوية لأرباح شركات الأدوية على حساب حياة الناس ورفاهيتهم في البلدان النامية، لقد كان ذلك غير أخلاقي، ومخزيا، وأدى إلى نتائج عكسية. وما دامت مسببات الأمراض تتفاقم في أي مكان، فسيكون هناك خطر حدوث طفرات جديدة تهدد الجميع. ومع خوض أمريكا وحلفائها الأوروبيين المعركة لكسب القلوب والعقول في مختلف أنحاء العالم النامي، فقد وضعوا أنفسهم في ورطة وكشفوا عن نقاط الضعف التي تعيب أنظمتهم الديمقراطية. إن ما يراه بقية العالم هو حكومات خاضعة لسيطرة شركات الأدوية الكبرى لدرجة أنها ستعطي أولوية لمصالح هذه الشركات على حساب أمنها الخاص.
يجب أن نمهد الطريق لاستجابة أكثر عدلا وشمولا وعقلانية في المستقبل. وإزاء هذه المهمة العاجلة، كانت اجتماعات الأمم المتحدة الشهر الماضي أقل بكثير من المستوى المطلوب.
جوزيف إي. ستيغليتز حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ جامعي بجامعة كولومبيا، وهو كبير الاقتصاديين السابق في البنك الدولي (1997-2000)، ورئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي، والرئيس المشارك للجنة رفيعة المستوى المعنية بأسعار الكربون.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: البلدان النامیة فی المستقبل کوفید 19
إقرأ أيضاً:
من الإنتاج إلى التمويل... 5 تحديات تواجه قانون الأدوية الحرجة في الاتحاد الأوروبي
كشف الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع عن أحد أبرز مقترحاته في مجال الصحة، وهو قانون الأدوية الحرجة، الذي يهدف إلى تعزيز أمن الإمدادات وضمان توافر الأدوية الأساسية في أنحاء دول الاتحاد.
ورغم أن القانون يتضمن مقترحات طموحة، مثل آلية الشراء الأوروبي وإدراج فئة جديدة من الأدوية، إلا أنه لا يزال يفتقر إلى التنسيق الكافي في مسألة مخزون الطوارئ. كما أن التمويل يظل عقبة رئيسية أمام تحقيق أهدافه، كما هو الحال في العديد من القضايا الصحية.
وفيما يلي، إليك أبرز خمس تحديات رئيسية لا تزال بحاجة إلى معالجة لضمان تأمين الأدوية الحيوية في أوروبا.
يعد مبدأ الشراء الأوروبي من أكثر الجوانب إثارة للنقاش، حيث يمنح الأولوية لأمن الإمدادات على حساب التكلفة في عمليات المشتريات العامة داخل الاتحاد الأوروبي.
وبموجب هذه القاعدة الجديدة، سيتم تفضيل الموردين الذين يقومون بتصنيع نسبة كبيرة من الأدوية الحيوية داخل الاتحاد الأوروبي عند التعاقدات الحكومية.
Relatedالاتحاد الأوروبي يسرّع تشريع الأدوية الأساسية وشركات الأدوية تطالب بإعادة النظر في الجدول الزمنيحصري: وزراء الصحة في الاتحاد الأوروبي يطالبون بتمويل الأدوية الحيوية من ميزانية الدفاعالتعريفات الجمركية الأمريكية تهدد الاقتصاد الأيرلندي وقطاع الأدوية الأكثر تضرراوفي تعليقه على هذه الخطوة، قال مفوض الصحة الأوروبي أوليفر فارهيلي إن هذا الإجراء يتماشى تمامًا مع سياسات الاتحاد الأوروبي الحالية ويهدف إلى تعزيز الصحة العامة عبر تحسين أمن الإمدادات.
ومع ذلك، قد يثير هذا النهج توترات مع الشركاء التجاريين، إذ يقترب من سياسات الصين، التي تقيد دخول الموردين الأجانب إلى السوق المحلية، وهي سياسة سبق أن انتقدها الاتحاد الأوروبي.
وفي حال تنفيذ هذا الإجراء، قد يواجه الاتحاد الأوروبي ردود فعل انتقامية من شركائه التجاريين، مما قد يحد من فرصه في الأسواق الخارجية.
إعادة الإنتاج إلى أوروبالتقليل الاعتماد على الدول غير الأعضاء، يشجع القانون على تعزيز الإنتاج الأوروبي للأدوية الحيوية، ولكن هل يجب تصنيعها داخل الاتحاد الأوروبي بالكامل؟ ليس بالضرورة.
تقترح المفوضية تعزيز التعاون الثنائي مع الدول المجاورة والمرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي لضمان مصادر إمداد أكثر استقرارًا. وفي هذا الصدد قال فارهيلي إنه يعول كثيرًا على الدول القريبة من الاتحاد الأوروبي، سواء المرشحة للانضمام إليه أو المجاورة له، للمساهمة في إعادة الإنتاج إلى أوروبا أو الدول المجاورة.
كما يدرس الاتحاد الأوروبي التعاون مع دول مثل المملكة المتحدة وسويسرا، نظرًا لروابطهما التجارية المتينة وموقعهما الجغرافي القريب.
أحد أبرز الانتقادات الموجهة ضد القانون هو نقص التمويل المخصص له، إذ لم يُخصص للقانون سوى 83 مليون يورو للفترة 2026-2027، وهي ميزانية متواضعة مقارنة بحجم التحديات.
وهذا التمويل سيغطي في المقام الأول جهود التنسيق التي تبذلها وكالة الأدوية الأوروبية والمفوضية، لكنه ليس كافيًا لدعم التحول الكبير في الإنتاج.
ورغم إمكانية الاستفادة من برامج تمويل أخرى مثل Horizon Europe وبرنامج أوروبا الرقمية، إلا أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت هذه المصادر ستسد الفجوة التمويلية.
وفي وقت سابق، طالب 11 وزير صحة أوروبي بتوسيع سياسة تمويل الاتحاد الأوروبي لتشمل الأدوية الحيوية على غرار ميزانية الدفاع، لكن فارهيلي رفض الفكرة، مشيرًا إلى أهمية الاعتماد على التمويل الوطني من خلال تخفيف قيود مساعدات الدولة.
تعزيز دور المشتريات المشتركة في الاتحاد الأوروبييقترح القانون تعزيز آليات المشتريات المشتركة داخل الاتحاد الأوروبي، حيث ستلعب المفوضية الأوروبية دورًا أكثر فاعلية في تنسيق وتأمين الإمدادات.
ووفقًا للقواعد الحالية، يمكن لتسع دول أعضاء على الأقل التفاوض كمجموعة واحدة للحصول على شروط أفضل من الموردين، لكن القانون الجديد يوسع هذه الصلاحيات، مما يسمح للمفوضية بالتصرف كمشتر مركزي عندما تطلب مجموعة من الدول ذلك.
Relatedدراسة: هل يؤدي إيقاف تناول أدوية علاج السمنة لعودة الوزن المفقود؟لا تحارب السمنة فقط.. أدوية إنقاص الوزن قد تحدّ من مخاطر الإصابة بفشل القلب"احذروا الأدوية المزيفة".. يوروبول تكشف عن تجارة بأكثر من 11.1 مليون يورو تهدد صحة الأوروبيينكما يتضمن الاقتراح آلية للمشتريات عبر الحدود، حيث تقدم المفوضية دعمًا إداريًا ولوجستيًا للدول الأعضاء في عمليات التوريد. هذا الإجراء يستند إلى تجارب سابقة، مثل عمليات شراء اللقاحات خلال جائحة كوفيد-19، والتي عززت قدرة الاتحاد الأوروبي على التفاوض الجماعي.
غياب التنسيق بشأن مخزون الطوارئ يشكل ثغرة رئيسيةأثار غياب آلية واضحة لمخزون الطوارئ انتقادات واسعة، في حين أن غياب التنسيق الأوروبي قد يؤدي إلى منافسة غير منظمة بين الدول الأعضاء على الإمدادات، مما قد يفاقم أزمات النقص في أوقات الأزمات.
وأعرب النائب الكرواتي توميسلاف سوكول عن استيائه من الأمر، مؤكداً أنه لا ينبغي السماح بتكرار سيناريو احتفاظ الدول الكبرى بالمخزون الدوائي من دون إتاحته للدول الأصغر التي تحتاجه.
ومع دخول مشروع القانون مرحلة النقاش التشريعي، يتوقع أن يدفع أعضاء البرلمان الأوروبي لتعزيز إدراج تدابير أكثر صرامة لتنسيق التخزين ومنع التفاوتات بين الدول الأعضاء.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية حصري: وزراء الصحة في الاتحاد الأوروبي يطالبون بتمويل الأدوية الحيوية من ميزانية الدفاع التعريفات الجمركية الأمريكية تهدد الاقتصاد الأيرلندي وقطاع الأدوية الأكثر تضررا الاتحاد الأوروبي يسرّع تشريع الأدوية الأساسية وشركات الأدوية تطالب بإعادة النظر في الجدول الزمني السياسة الأوروبيةشركات الأدويةالمفوضية الأوروبيةالاتحاد الأوروبيأدويةأوروبا