حمود بن سالم السيابي
هذا هو المزرع وعند عاضد ليمونه كانت تنتهي “غيل الدك” لتبدأ “حلّة النبهية”.
وهنا يستريح نهر الفيحاء الخالد بعد تطوافه الأفعواني بين مقاصير العلاية والسفالة إلى أن يضع فلج السمدي صواره الأخير في الساقية.
كان المزرع أكثر من مجرد حقل نخل امتلكه الوالد ، وأكثر من مجرد مال أخضر تغذى بعمره فارتقى مرتبة أجمل الأموال والأحب إلى قلبه.


كان المزرع هو الوحيد الذي يستسقي السمدي حتى الثمالات ، عكس بقية أمواله التي تفتح كفوفها إلى مياه القلعي وبلفاعي لتشرب.
وكما كان أكثر من مجرد مال أخضر للوالد كان بالنسبة لي ولأترابي خزيننا المطرز بالطفولة العذبة.
وحين أقول كانت عند عاضد ليمونه تنتهي غيل الدك ، فلأن العاضد ما عاد مكانه بعد أن تداعى كأيامنا.
وحين أستدكر المزرع أستذكر العاضد أو “الحضار” معه فهو تميُّز المزرع وتفرُّده على سائر الأموال.
وقد اتخذ الوالد عاضد الليمون ساترا أخضر ليحفظ للمكان خصوصيته فلا تخترقه عيون الماشين إلى “بيت الدختر” ولا تنفتح تفاصيله على عيون المصطبحين بكراريسهم وهم ينهبون المسافات باتجاه جامع سمائل الذي يحمل اليوم اسم جامع الشراة.
كما وقف عاضد الليمون والشاموم حائطا لصد الغبار المتطاير من سيارات “العريبيا” و”اللاندروبرات” التي تقطع النبهية مسرعة للحاق بعرصة السوق فتلقي بحمولتها من السلع.
كان المزرع يبعد عن بيوتنا في الصافية بغيل الدك بمسافة ليست بالقصيرة في حسابات طفولتنا.
وكنا نهرب إليه لوجود نارنجة سامقة زَرَعتْ نفسها بجانب “جديل” الساقية.
ويكاديجمع الكل على أن النارنجة هي نتاج ثمرة تساقطت من أحد أموال السفالة أو العلاية فحملتها ساقية السمدي حتى اندفنت في طين المزرع.
ومع الأيام تذكرت البذور سلالاتها فأكملتْ دورة الغرس حتى استطالت لتبلغ غدور النخيل في الجوار.
ولأن النارنج ليس بالبرتقال ليُقدَّمَ “فوالة” للضيف ، ولا بالليمون ليُعْصَر على صحن الغداء لوجود بعض الحلاوة في عصارته ، لذلك تُتْرَك ثماره في أمِّها لتكبر دون أن يعسفها “المحجان”. فالنارنج عند التزهير لأجل روائح “البِلْ” التي لا تضاهى ، وإذا ما اصفرَّتْ ثماره فلها رونقها وسط الدوحة الخضراء ، حتى إذا ما قاربت التيبُّس أسقطتها الرياح وحملها السمدي لمقصورة أخرى ، إلا إذا تسلطت عليها “فلعة” حصاة أو تصويبة “زاجول” فطرحتها أرضاً.
ووحده الشيخ العلامة عبدالله بن عامر العزري من احتفى بنارنجة الأخشبة واستقرَّتْ ألوانها الآسرة وميضا في عينيه :

لله نارنجة أهدتْ مكارمَها
إلى الكرام، فقاقتْ سائر الشجرِ

‏فتارة من رياحِ الطِّيبِ تَنْفَحهم
وتارةَ تُتْحِف الطُّلَّابَ بالثمرِ

فإن رآها اصْفِراراً فهو من خَجَلٍ
تخاف أن يَرْجِعَ الجَاني بلا ثَمَرِِ

كما ردَّتْ طفولتنا الاعتبار للرحيق البرتقالي وأقامتْ وزناً لثمار النارنج وعلى رأسها نارنجة المزرع.
وأتذكَّر أننا كنا نرتاد المزرع فنحمل “قُضَّ” ملح “عريشي” من مطبخ البيت و”هبشة” من دقيق الفلفل الأحمر داخل قريطيسة صغيرة بحجم الحرز.
ولكون نارنجة المزرع تجاور “جديل” الساقية فنتخذ من صفحة الجديل المُصَرَّجة طاولة للوليمة الشهية التي يبدأ التحضير لها “بفلْعَة” لغصن النارنج المثقل فيسَّاقط الثمر ثم تنشب الأظفار في القشر البرتقالي لاستخراج “شناخيل الحار حامض” فيتم تمريغها بفتيت الملح والفلفل قبل أن يبدأ الالتهام.
وبين زيارة وزيارة للظل يبقى الملح مكانه على الجديل المصرَّج فيتخثر ، بينما يترك الفلفل صبغته الحمراء ليفضح من خاتلوا العيون وهزُّوا النارنج وعسفوا بالمحجان الأغصان.
وعودة لعاضد المزرع الذي تنتهي تحت ظله غيل الدك في الجغرافيا السمائلية لأتذكر مواسم قطاف الليمون والشاموم بكل ما تمثله من مهرجان فرحٍ يجمع العائلة فتخرج من بيت الصافية ب”المحاجين” و”القفران” لتَعَسف الثمار.
ويبدأ القطاف بأول هزة لجذع أكبر شجرة من سيد الفرح يعقبها الهجوم الجماعي للشجر الوديع من هزٍّ للأغصان بالأيدي إلى عسف بالمحجان حيث يصعب وصول الأيدي.
ولا يتوقف الاحتراب إلا والشجر قد ألقى بدلاياته الخضراء لينتقل القطاف من ظل العاضد إلى سطوح بيت الصافية ليتشمَّس فيفقد الليمون اخضرار حبَّاته ، بينما تهوي السكاكين على حبَّات الشاموم فتزيل قشرتها الخضراء السميكة لتسمح لوهج الشمس بأن يتعمَّق في مجاهل الثمار لتكتسب لونها القرمزي.
وأتذكَّر أن المزرع كان يقدم نفسه بصف “نغايل” تطل على الرف التَّحْتي ومن النوع “الوليفي” الذي تطول رطيباته وتتميز بهشاشة بِسْرها وهو ما نسميه ب”الفَلْخ”.
لقد فسَلَ الوالد تلك “النغايل” في طفولتنا وكبرت وكبرنا معها فاحتزها الزمن.
أمّا بقية نخيل المزرع فهي بين “الخرايف والمباسلي والفروض” لتغطي القيظ بأكمله وتفيض بتمرها للشتاء.
وينقسم المزرع إلى رفَّين أحدهما أعلى من الثاني لطبوغرافية الأرض.
إلا أن الساقية كانت توحِّد رفوف كل المقاصير منذ شريعتها في الوادي وحتى “الصِّوار” الأخير.
وأتذكَّر يوماً جاء فيه سعيد بن عبدالله السيابي جارنا في الصافية ليستأذن الوالد السماح له بزراعة الرف العلوي ببقوليات المواسم مستثمرا المساحات بين النخيل ، فيما سيزرع الرف التحتي ب”الزّرع” كعلف للدواب.
ولقد رأي الوالد في الطلب منفعة للزارع وللمزرع ، فالنخيل ستستفيد لوجود من يرعاها ، وسيحصل سعيد على مقصورة ذات ماء دون عناء سوى تهيئة المكان والسقي.
لقد اجتهد الرجل فاخضر المكان وأينع الثمر وارتفعت قضيمات الزرع وتبارت الألوان مع نارنجة جديل الساقية.
ولأن لكل فرح خواتيمه فقد رحل سيد المزرع وتيبَّس الليمون والشاموم وانتحرت المواسم ، واستبدلت كل النخيل باستثناء مبسلي ونخلة حنضل من بقايا الزمن الأول فقد اغتال الزمان بعضا من فصول الطفولة وأزهاها.
لقد رحل الوالد ليبقى المزرع تذكاراً للأيام
ورحل سعيد بن عبد الله لتبقى حرقة المواسم.
واغتيلت الطفولة ليبقى اجترار الذكريات وتوسُّل الحنين.
إلا أن ما يطمئن أن المزرع ما زال في الأيادي الأمينة للعزيز أبي عصام ، فقد أطلق عليه اسم “بيت النبهية” بعد أن ضم إليه بيتا اشتراه من جار المكان ، وأضاف سبلة “طمَّاحية” ذات درايش تستشرف أزمنة العاضد وتستقبل “نَسِيمَ الصَّبَا جَاءَتْ بِرِيَّا الْقَرَنْفُلِ”
واستعار أبو عصام من اسم حلة النبهية ليخلعه على المزرع الذي كان.
كما حل جدار بيت النبهية محل عاضد الليمون الذي تيبس بفعل مكنسة العجوز ولم يتجدد رغم موت العجوز وانكسار مكنستها ، ربما لانتفاء الحاجة لصد الغبار بعد أن تم سفلتة الطرق وباتت الريح في غدوها ورواحها هي من يتولى كنس الغبار.
واجتث الزمان كل النغايل ذات الرطب الفلخ بالفسائل المستحدثة ، وأضيفت فسائل أخرى لتعوض النخيل التي تبرعت بنطاق ظلها وأراجيح سعفاتها لصالح امتدادات سبلة بيت النبهية.
وما زال الاخضرار مكانه وربما ازداد.
والساقية مكانها وربما اتسعت.
والشجر مكانه وربما تكاثر.
أما النارنجة المجاورة لجديل الساقية فلم تعد هناك ولا الجديل المتخثر بدقيق الملح والفلفل.
وأجيئ اليوم لزيارة العزيز إسحاق السيابي ولاستذكار ما نسيناه في المكان.
ومن محاسن الصدف أن ألتقي في بيت النبهية بالشيخ المكرم حاتم الطائي الذي جاء هو الآخر ليستعيد حلة الجعفرية على الضفة الثانية للوادي ويستذكر زمن آبائه الذين ارتقوا بيارق على مفارق الزمان.
ورغم أن أفراح العرب من البحر إلى البحر بحرب أكتوبر الثانية وبطوفان الأقصى هيمنت على جلسة بيت النبهية ، إلا أن عُمان وغدها المشرق كان لها النصيب الأهم في الساعات التي أمضيناها في ظل ثلاثين نارنجة مكان النارنجة الأولى.
وكان الشيخ المكرم الطائي حاتميا في الاسم والمسمى فتحدث بغزارة عن عودة الروح للعرب ثم انتقل بحاتمية فياضة إلى وادي سمائل الذي يجمعنا ، وبصفاء الرؤية التي يرأس تحريرها.
وكانت فرصة لنستمع من العزيز إسحاق السيابي عن رؤاه التي وضعها أمام الناخب لأجل الوطن الأكبر عمان ولمظلتنا الأصغر الفيحاء.
وقبل أن أغالب دموع المغادرة كنت أردد : ليت الوالد بيننا لنتابع ظله في المشي الأثير من الصافية إلى المزرع.
ليت سعيد بن عبدالله جاء الآن للاستئذان لبدء الزرع.
ليت صحن رطب فلخ تخرفه الأمنيات فوالة شوق
ليت تلويحة حصاة تفلع النارنجة لتنهدَّ ديمة برتقالية فينتعش الملح والفلفل.
وتبقى الحقيقة أن المزرع مكانه لكن الطفولة هي التي هربت منا ، لذلك نجتر حنين سيدنا الوالد لمرابع صباه باشتعال حنيننا لصبانا:

عهد الصبا هل إلى رجعاك إمكان
فقد تقضَّتْ بذاك العهد أزمانُ

كانت لياليكَ بالسَّرَّاء باسمةً
والكل من مَنْهَلِ اللَّذَّاتِ ريَّانُ

قد كانَ صَفْوُ الليالي فيكَ مُنْبَلجاً
فكدَّرَتْه من الأيامِ ألْوانُ
————————
سمائل في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

شــرعيّـة الإنـجـاز

ما كان ماكس ڤـيـبر مجانبًا للصـواب حين عَـدَّ الشرعية العقلانية -ومنها الشرعية الديمـقراطية- في جملة مصادر الشرعية السياسية التي تتمتع بها السلطة في هذه الدولة أو تلك؛ إذْ هو ما كان -في تصنيفه أنماط الشرعيـة- يفعل شيئًا أكثر من وضْع نَـمْذجـةٍ عامـة للشرعيات ومصادرها انطلاقًا من ملاحظاته عشرات الحالات من أنظمة الحكم وتجاربها في التاريخ. وفي السياق، كان عليه أن يلاحظ كيف أن العقل صار عاملًا مزاحِمًا للنسب وللـدين وللبطولة أو الجاه أو الزعامة في التـأسيس للشرعية السياسية، وبالتالي، كان عليه أن ينتـقل من ملاحظة تجليـات العقل في السياسة (في الديمقراطيـات الحديثة) إلى اشتقاق نمطٍ من أنماط الشرعية هو ذاك الذي أطلق عليه نعْت الشرعية العقلانية. لعله كان وضعيًـا -أو وضعانيًّـا- في هذا الذي فعله، بدليل أنه أتى بالتحديد والتجلية -في الوقت عينِه- على شرعيـتين مختلفتـيْن هما الشرعية التـقليدية والشرعية الكاريزمية. بعبارة أخرى، كان يصف -بلغةٍ مفهوميـة- الواقع كما هو بآلياته المختلفة التي تعتمل فيه. لكنه تنكب عن السيْر في هذه الطريق حين صنف تلك الأنماط الثلاثة على قاعدة المفاضلة بينها منتصرًا للنمط الثالث (العقلاني، الديمقراطي)، مما بات معه نهجُ تفكيره نهجًا معياريًّـا بجانب الموضوعية الوضعانـية!

لكن المشكلة ما كانت مع ڤـيبر، بل مع تلامذته الليبراليـين الذين تعالوا بتلك الشرعيـة الديمقراطيـة تعاليًا أخرجها من نطاقِ واقـعٍ متعـدِد الاحتمالات والاتجاهات إلى حيث صار لها مَـقامٌ ميتا تاريخي! ومع أن أحـدًا لا يملك أن يجحـد قيمة الآفاق الجديدة الرحبة التي فتحتْها الشرعيـة الديمقراطيـة للحياة السـياسية في الدولة الوطنيـة الحديثة، ولا ما زودتْ به الاستقرارَ السياسي والاجتماعي -داخل هـذه الدولة- من موارد...، إلا أن الارتفاع بمقام ذلك النمط من الشرعيـة إلى الحد الذي يُصبح فيه الشرعيـة المعياريـة الوحيدة يخرُج بالمسألة من التاريخ إلى الأيديولوجيا. أكثر من ذلك، ما اكتفى هؤلاء التلامذة بما اكتفى به أستاذهم من تحديد سمات الشـرعيـتين الأخريَـيْن: التـقليديـة والكاريزمية وعَـدِهما في جملة مصادر شرعية السلطة، بل نزعوا عنهما كـل مشروعيـة وسامُـوهُـمَـا خسْـفًا وقدْحًـا إلى الحد الذي ما عادتا -في وعي هـؤلاء- شرعيـتين، كما وصفهما ڤـيبر، بل حالتان سابقـتان لاستواء الشرعية «الوحيـدة»!

الفكر السياسي الليبرالي الغربي فكـرٌ منغلق على كـوْنه السياسي الخاص وليس فكرًا تاريخيًّـا؛ يرى إلى التاريخ في أزمنةٍ مختلفة، وإلى الحاضر في أمكنـةٍ مختلفة. هو، بالأحرى، «فكـر» أيديولوجي يتغيـا -حصرًا- الانتصار لنموذجه السياسي والتبشير به ليس أكثر. لذلك هو مفارقٌ للتاريخ، ومن آيات مفارقته إياه أنه ينسى أن النمط التقليدي للشرعية كان النمط السياسي الوحيد المُتاح في زمن ما قبل الدولة الحديثة؛ حيث مبْنى السياسة على النسب أو الدين أو كليهما معًا، وحيث ظل مُـدْرَكًا بوصفه كذلك منذ ابن خلدون، في بداية القرن الرابع عشر للميلاد، إلى ماكس ڤـيبر في بداية القرن العشرين. كما أن الفكر الليبرالي هذا مفارِقٌ للواقع الراهن، بدليل أن وجوها عـدة من النمط التقليدي ذاك ومن سماته ما تزال، إلى الآن، تُطِـل علينا من وراء أنظمةٍ سياسيـةٍ حديثة ومن وراء شرعياتٍ حديثة. ماذا نقول عن المَلَـكيـات الأوروبية والغربية مثلًا: أَلاَ تتعايش فيها الشرعية التقليدية (علاقات النسب والدين) مع الشرعية العـقلانية؛ فإذن أَلاَ يستمر فيها مفعولُ ذلك النمط القديم الذي استحقت نماذجُه غيرُ الغربية القـدْحَ فيها والتشنيعَ عليها من أيديولوجيي الليبراليـة؟

لا شيء، من جانب آخر، يُقـلل من مكانة الشرعيـة الكاريزميـة للسلطة في تاريخ السياسة والدول ولا من مشروعية وجودها. والأمر في هذا لا يتعلق بمكانة الكاريزما في ماضي المجتمعات والدول، حين كان للأباطرة والملوك والقادة الحربيين ومؤسِسي الدول مقاديرُ هائلة من المهابة، وأحيانًا، من التقديس من قِبل مجتمعاتهم وشعوبهم، بل يتعلق حتى بتبـدياتها الحديثة والمعاصرة؛ حيث تمتَع التعبيرُ عنها في الاجتماع السياسي لبلدان عـدة بما يُسـوِغه ويبرِرُه. وأنا، في المعرض هذا، لا أستحضر حالة السلطة التي تولدت من عمليات تحـرُرٍ وطني في بلدان المستعمَـرات فقط (حيث أُحيط قادة التحرير والثورة بهالة كاريزمية أسطورية في مناطق عـدة من العالم منها الوطن العربي)، وإنما أقصد إلى الإشارة إلى استمرار الظاهرة الكاريزمية في المجتمعات والدول الحديثة، منذ الثورة الفرنسية، بالمقدار عينِه من الحضور في مجتمعات الجنوب. لنتذكر ما الذي كان يعنيه بوناپارت، وجورج واشنطن، وبيسمارك، وأبراهام لنكولن، ولينين، وتشرشل، وديغول في وعي شعوبهم التي أضفت عليهم مسحة أسطورية. ولعلنا، هنا، أمام ظاهرةٍ تحتاج إلى تفسيرٍ وتعليلٍ لا إلا أحكامٍ معياريـة. والمتأمـل في الظاهرة لن يَعْسُر عليه أن يدرك أسبابها ودواعيها؛ فهذه تكمَن في ما قـدمه هؤلاء الرموز لشعوبهم وديمقراطياتهم من عظيم المكتسبات أسوةً بما قـدمه قادةُ التحرير لشعوبهم ودُولهم الحديثة الميلاد من كبير الإنجازات.

لكن الشرعية التي يتجاهلها الخطاب الليبرالي، ولم يُشِـر إليها ماكس ڤـيبر في تصنيفه، هي شرعيـة الإنجاز: الإنجازُ الذي هو مرغوبُ كلِ سياسـةٍ ومَـعْـقِدُ رهان كـلِ جمهورٍ اجتماعي مشارِك في الحياة السياسية أو مـعوِلٍ على السياسة وسيلةً لتحصيل المصالح. إن الشرعيـة الفعلية لأي سلطة ليست ذلك الرأسمال المعنوي الذي تتوكـأ عليه (المَحْـتِد والنِصاب، الجاه والهيبة، التمثيل الشعبي...)، أو هي لا تنحصر في هذه اللحظة الابتدائية التي تقوم بموجبها تلك السلطة فتصير مشروعةً في عيون الناس، وإنما الشرعية- على الحقيقة- هو ما تُـنْجِـزه لمصلحة المجتمع التي تقوم فيه وتدير أموره العامـة؛ والمُنْجَـزُ هذا رأسمالٌ مادي لأن به تُـقْـضَى المصالح وتُـتَـحصَـل الموارد. ومعنى هذا أن مفهوم الإنجاز لا يتناول صورَةَ نظام السلطة (موروثة، منتَـخَبَة، زَعاميـة...)، بل يتصل بمضمونها أشد الاتـصال.

على أن هذه الشرعيـة (= شرعية الإنجاز) ليست مطابِـقة، دائمًا -للشرعية الديمقراطية؛ فقد لا تنجح النخب الحاكمة المنتَخَبة في إنجاز شيءٍ ذي بال في البلدان التي تقوم فيها، كما أن التـنمية والتـقدم ليسا، دائمًا، حصيلة الديمقراطية حتمًا، إنما مرجعهما إلى المشروع الذي تحمله نخبةُ السلطة التي قد لا تكون أتت من طريق الاقتراع الديمقراطي. هل كانت النخب التي أنجزت تحديث روسيا وبناء الاتحاد السوڤـييتي ووضعت أسس الإقلاع التنمـوي، قبل ذلك، في يابان القرن 19، وبعد ذلك في كوريا الجنوبية وتايوان والبرازيل نخبًا سياسية خارجة من رحم صناديق الاقـتراع؟ وهل من سبيلٍ إلى الشـك في قيمة ما أنجزتْـه، أو هل من سبيل إلى الطـعن على شرعيـة السلطة القائمة في الصـين، اليوم، وعلى إنجازاتها المُـذهلة بدعـوى أنها ليست منتَـخَبَة! ما أَبْـأَس هذا الربـط الليبرالي السخـيف بين الشرعـية والديمقراطية (= الانتـخاب)!

مقالات مشابهة

  • بخطوات بسيطة.. طريقة عمل البيكاتا المشوية في المنزل
  • عبد ربه يوسف غيشان / سعيد الصالحي
  • أطباء يحذرون من مخاطر "ترند" فرك الليمون على الشعر
  • بهاء الحريري في بيروت: أتينا لاستكمال مسيرة الوالد (فيديو)
  • طريقة عمل سموذي الليمون بالنعناع المنعش
  • ماذا يحصل عند إضافة الليمون الحامض للفول والعدس؟
  • سُقوط الحركات المسلحة (2/2)
  • طريقة عمل البيكاتا المشوية
  • شــرعيّـة الإنـجـاز
  • وجبات يأكلها العمانيون في الصيف؛ شاركنا إذا كنت تعرف غيرها