تحديات الاستنارة والنهضة ما بين الكتابة والقراءة وما بين شفاهية السوشيال ميديا
تاريخ النشر: 7th, October 2023 GMT
جوبا - 5 أكتوبر 2023م
أكثر من صديق عبروا لي عن فائق رضائهم عن مقابلاتي وتسجيلاتي، بل منهم من يزعم بتفوقها على كتاباتي المطولة والملتزمة لقواعد الكتابة الرصينة ... إلخ. وقد اعتمدوا في حكمهم هذا على واقع الحال من حيث سهولة إيصال المفاهيم لعامة الناس عبر الوسائل السمعية والبصرية للسوشيال ميديا مقابل الكلمة المكتوبة.
***
مع شكري وتقديري لأصدقائي، تثور العديد من التساؤلات حول مدلول كلامهم الذي يتجاوز حد إبداء الإعجاب إلى حد التوصية بما يجب أن تكون عليه آليات تبادل المعرفة في هذا العصر. هذه التساؤلات من قبيل: هل الذين صنعوا تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والسوشيال ميديا استغنوا عن الكتابة؟ ثم هلا دلنا هؤلاء الأصدقاء على الكيفية التي يمكن أن يقوموا عبرها، بخلاف الكتابة، بتوثيق ما نقوله؟ وهكذا دواليك!
***
بمجرد اكتشاف يوحنا قوتنبيرق للطباعة في عام 1440م، أي قبل حوالي ستة قرون فقط، تم نشر مئات الآلاف من الكتب بمختلف الأحجام في أول عامين. هكذا تحققت النهضة في أوروبا وغابت شمسها في الشرق بسبب الطباعة في الغرب وانعدامها في الشرق إلى أن أدخلها نابليون في مصر قبل مائتي عام فقط.
ومن أكثر البلدان التي تُطبع فيها الكتب الآن هي الصين نفسها التي اكتشفت التيك توك.
***
إنه في رأيي، أن تسويق وسائل التواصل الاجتماعي، بين الشعوب المستضعفة، من قبل قوى الإمبريالية غربها وشرقها، حتى أصبحت وسيلة لا غنى عنها في الحصول على المعرفة عبر تجاوز المكتوب، أمر لا يخلو من نوايا مبيّتة من جانب هذه القوى، وهشاشة معرفية من جانب الشعوب المستضعفة. فالهدف منه يمكن أن يكون تكريس حالة الجهل بحبسهم واعتقالهم في التداول الشفاهي للمعلومات، وهو أمر مصيره الفشل ولا يمكن أن يتحقق نسبةً لكثافة تدفق المعلومات في هذا العصر. إذ لا يمكن أن نحتفظ في ذاكرتنا كل ما يمر علينا من مواد سمعية وبصرية.
الآن في مقدور أي شخص أن يحتفظ بالمقالات المكتوبة في ملف بجهاز الموبايل، مع القدرة على مراجعتها وتصنيفها، ثم الاقتباس منها والاستشهاد بأي جملة فيها بكل سهولة ويسر. فهلا شرح لنا المنادون بالانكفاء على الوسائل السمعية والبصرية كيف كان يمكن أن يفعلوا هذا مع التسجيلات والفيديوهات؟ نعم، هناك طرق ومناهج لعمل هذا، ودارسو العلوم الاجتماعية يعلمونها بحكم الضرورة فيما يجرونه من تسجيلات ميدانية لإفادات الإخباريين informants' statements. لكنها أكثر تعقيدا بما لا يقاس عند مقارنتها بالإفادات المكتوبة وبالكتابة عموما.
***
وفي الحقِّ، لم ينجح الكيزان كما نجحوا في تكريس الجهل عبر النظام التعليمي، ذلك عندما لم يولوا أمر اللغة (عربية كان أم إنكليزية أو غيرهما) ومستويات تعلّمها أدنى اهتمام، فتدهورت لدرجة أن نرى طلبة دراسات عليا يُلحنون كتابةً وتحدثاً، ويرتكبون شنيعات الأخطاء النحوية في اللغة العربية بما لم يكن مقبولا قبل نصف قرن من خريجي الخلاوي. أما مستويات اللغة الإنكليزية فحدث ولا حرج، إذ لا يلحنون فيها فحسب، بل يعملون فيها معاول الهدم والتدمير بطلاقة يُحسدون عليها. وكذلك فعل الكيزان بالقيم الإسلامية والمسيحية وبكل مكارم الأخلاق، ذلك عندما تصدّر الساسةُ والمتمسحون بمُسوح الدين منهم مشهد الحياة العامة، فإذا بهم أكذبُ الناس وأكثرُهم إتياناً للباطل وأكلا لمال السحت، وارتكابا للمعصيات والمنكرات، حتى قتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فأضعفوا البلاد والعباد، حتى غشيتنا بأُخرةٍ غاشيةُ الجنجويد، ولا غرو. فمن لا يؤمن بالدولة الوطنية ولا يؤمن بحق الشعب فيها، يدمرها ويُذيقُ الشعبَ فيها الأمرّين.
***
وما يؤسف له أن قادة الكيزان فعلوا هذا وهم يعلمون علم اليقين ما كانوا يفعلون. لقد كانوا يعلمون، فيما رفدت به التجربة البشرية، أن اللغة والدين هما بوابة الاستنارة والنهضة، ذلك ريثما يتم تجاوزها استقلالا، لا استغناءً، ذلك متى استقاما في الناس، واستقام الناسُ بهما.
***
للحيلولة دون هذا عمد مؤسسو دولة الكيزان على اتباع سياسة تجهيل الأجيال الجديدة، ثم تكريس هذا الجهل فيهم. وقد دشن كبيرهم الترابي سياسة ما عُرفت بثورة التعليم العالي بمقولة شهيرة له، وهي أنه قد آن أوان تدمير الصنم! وعندما سُئل عن هذا الصنم، قال إنه "جامعة الخرطوم"! وكنا عذرناه لو أنه قصد من ذلك تدميرها من حيث وظيفتها غير الأكاديمية، كونها مصنع طبقة الأفندية مقطوعي الطاري، ذلك بأن يؤسس لجامعات أخرى لا تقل قدرةً عنها، من قبيل جامعتي الجزيرة وجوبا في السبعينات. لكن الترابي، هذا الرجل الإيديولوق Ideologue، كان ينوي عمل شيء مختلف تماما: فهو كمن قام بتفكيك طوب وحجارة جامعة الخرطوم ليبني منها في المقابل أكشاكا صغيرة ومن ثم قام بتسمية كل كشك باسم جامعة كيفما اتفق. قاموا بهذا بعد أن عبثت أيديهم بالتعليم دون الجامعي، فعاثوا فسادا وإفسادا في مناهجه، ثم أسقطوا عاما كاملا منه، استجابةً لتوصية وزير التربية الذي كان ولا يزال يمتهن المحاماة، ولا علاقة له بعلم التربية. ثم زادوا الطين بلة، ذلك عندما أنقصوا أسبوع العمل من ستة أيام إلى خمسة أيام، دونما أي اعتبار لأي عملية إنتاجية تستلزم ذلك ودون أن يكون هناك إنتاج أصلا لتدميرهم جميييييع المشاريع الإنتاجية في البلاد. فماذا كانت النتيجة؟ ازدحم اليوم الدراسي للتلاميذ، وانتفخت حقائبهم المدرسية حتى ناءت بها ظهورُهم اللينة تحت كلكلها. ولم يعد في مقدور التلاميذ فهم ما يدرسونه إلا باستظهاره، فغلب التلقين على الفهم وعلى كل العملية التعليمية. ولا غرو! فقد صدر الكيزان من معرفة تلقينية، يقينية، غير نقدية، تجاه مجمل التراث العربي والإسلامي، فأضاعوه إلا من خطب جوفاء ومظاهر تديّنية منافقة. وفاقد الشيء لا يعطيه.
***
وبعد؛
إن عملية النهضة هي عملية خلق وإبداع، وبالتالي هي عملية مخاض. ولن تجد في باب الخلق والإبداع بين الناس ما هو أكثرُ مشقةً وإيلاما من عملية المخاض. وإنما هكذا يُصنعُ المجدُ! وقديما قال الشاعر:
لا تحسَبِ المجدَ تمراَ أنت آكلُه ** لن تبلُغِ المجدَ حتى تلعَقِ الصّبَرا
***
وعليه، إن الذين يرومون المجد من أيسر وأسهل أبوابه، إنما هم في حقيقتهم يضلون عن مَحجّتِه الغرّاء، ويلجون عبر أبوابٍ يمكن أن تبلغ بهم أي شيء إلا المجد. وما المجدُ الحقُّ إلا مجدُ الشعوب، وما مجدُ الشعوب إلا نهضتُها.
ويدوم الود والتقدير والاحترام للجميع؛؛؛
*MJH*
جوبا - 5 أكتوبر 2023م
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: یمکن أن
إقرأ أيضاً:
معرض جدة للكتاب يسلط الضوء على علاقة الفن بالفلسفة والقراءة المتخصصة والكتابة الروائية
جدة – صالح الخزمري
شهد معرض جدة للكتاب على مدى أيامه السابقة، مع اقتراب ختام فعالياته لهذا العام، إقبالاً كبيراً من الزوار وضيوف البرنامج الثقافي، الذين تفاعلوا مع فعاليات ثرية، شملت ندوات وورش عمل وأمسيات شعرية وحديث كتاب.
هذا التفاعل أسهم في إبراز المعرض بوصفه منصة ثقافية، تجمع بين الأدب والفن والفكر، وسط حضور مميز لأسماء بارزة من داخل المملكة وخارجها.
ووسط أجواء ثرية بالإبداع والتفكير النقدي، سلَّط معرض جدة للكتاب 2024 الضوء على العلاقة المتشابكة بين الفن والفلسفة من خلال ورشة عمل مميزة قدَّمها الدكتور بدر الدين مصطفى.
الورشة التي كانت جزءاً من البرنامج الثقافي للمعرض جمعت تحت سقفها نخبة من الفنانين التشكيليين المهتمين بالمجال الأدبي والفلسفي، وصُنَّاع الأفلام، في نقاش فكري ممتع وملهم.
وفي حديثه أشار الدكتور مصطفى إلى أن الفلسفة تُعنى بفهم العالم عبر التفكير النقدي والتحليل العقلي المجرد. وأوضح أن القوانين التي تحكم المجتمع هي ذاتها التي تُشكِّل لغته وإدراكاته ومفاهيمه وقيمه وفنونه، وقال: “على ضوء هذه القوانين برزت ثقافتنا مثالاً على وجود نظام متكامل، وجميع معارفنا وفنوننا تدين لهذا النظام”.
وأضفى مصطفى بُعداً عملياً على الورشة من خلال عرض مجموعة متنوعة من الأعمال الفنية، بما في ذلك الرسومات والصور والأفلام، وناقش كيفية تناول الفلسفة لهذه الأعمال لخلق مفاهيم متعددة، وعلَّق: “الفن دائمًا مجال للتأويل؛ إذ تتعدد وجهات النظر حوله. لا يمكننا محاكمة الفن فلسفياً، ولكن من المشروع قراءة الفن من زاوية فلسفية”.
* فيما استعرضت ورشة عمل “القراءة المتخصصة” الأسس التي تجعل من القراءة المتخصصة أداة فعالة لتطوير الفكر والمعرفة.
وركزت الورشة على أربعة عوامل رئيسية، هي: التأسيس، والتركيز، والتراكم، والتكامل، التي تقود القارئ إلى خلاصة التجربة الفكرية.
وأوضح المتحدث في الورشة عبدالرحمن الطارقي أن القراءة ليست مجرد نشاط اعتيادي، بل هي فعل وجودي، يعكس حالة من الانبعاث الفكري.
وأشار إلى دور القراءة الدقيقة في فك رموز النصوص، والوصول إلى أعماقها، مستشهدًا بمقولات الجاحظ التي تؤكد أن القراءة تجربة تفاعلية مع النصوص.
وأضاف الطارقي بأن فهم النصوص يتطلب توظيف المعارف السابقة؛ إذ تصبح القراءة مهارة لغوية، تسهم في بناء بيئة معرفية متكاملة. كما أشار إلى أن الكتابة منذ نشأتها، كانت وسيلة للتطور الفكري، موضحًا أن الكتب الجيدة لا تكتفي بإشباع فضول القارئ، بل تفتح أمامه أبواب تساؤلات جديدة، تعزز البحث المستمر.
وأكَّد أن القراءة المتخصصة تُعد بوابة لفهم أعمق للعالم والعلوم المختلفة؛ إذ تجمع بين تحليل المعرفة المكتسبة وإضافة أبعاد جديدة من خلال التساؤل والبحث، ولفت إلى أن هذه العملية تُفضي إلى تكامل فكري يدفع القارئ إلى استكشاف المزيد.
* وكشفت ندوة (من الهواية إلى الاحتراف: الكتابة الروائية) عن تجارب ملهمة لثلاثة كُتَّاب: رزان العيسى، وغدير هوساوي، وناصر السنان، الذين شاركوا قصصهم عن مواجهة التحديات وتحقيق النجاح بدعم الحاضنات الأدبية.
وقد أجمع المشاركون على أهمية الورش الإبداعية والإرشاد الشخصي في صقل مواهبهم وتوجيههم نحو الاحتراف.
وأوضحت رزان العيسى أن البدايات كانت متعثرة، لكنها تمكنت من تجاوز الصعوبات بفضل الدعم المستمر والرغبة في التطوير، مؤكدة أن الإصرار كان المفتاح للوصول إلى مراحل متقدمة في الكتابة.
أما غدير هوساوي فقد أشارت إلى أن شغفها بالكتابة بدأ منذ الطفولة؛ إذ كانت حصص التعبير المدرسي نافذة لاكتشاف موهبتها، مؤكدة أن القراءة وتوسيع آفاق البحث كان لهما دور كبير في تطوير قدراتها الأدبية.
من جانبه، تحدث ناصر السنان عن التحدي الذي واجهه في تحقيق التوازن بين حياته المهنية كونه مهندساً وحياته الأسرية وشغفه بالكتابة، مشيرًا إلى أنه كان يضطر للاستيقاظ مبكراً لكتابة رواياته.
وأكَّد السنان أن الحاضنة الأدبية لعبت دوراً كبيراً في تطوير شخصيات رواياته وأفكارها، بفضل الإرشاد المستمر والمراجعات التفصيلية.
وأجمعت هوساوي والسنان على أن الدعم الذي قدمته الحاضنات الأدبية كان حاسماً في تخطي التحديات وتحقيق التقدم؛ إذ عمل المرشدون معهم خطوة بخطوة لتطوير أفكارهم وتخطيط رواياتهم بشكل احترافي.