- 1 -

... نواصل الحديث عن الترجمة ذلك الفعل المعرفي والحضاري الإنساني، حيث تغدو الترجمة جسرًا يعبر هوة الزمان والمكان واللغة، ويفتح أفقًا جديدًا من التواصل والاتصال، ويحفز على الإنجاز الموازي، وعلى مواصلة السعي من حيث انتهى "الآخر" السابق في طريق التقدم. والهدف هو تحقيق التميز أو تأكيد الهُوية الذاتية في مدى الإضافة التي تنطوي على معنى الخصوصية.

وتاريخنا الحضاري والثقافي خير دليل على ذلك، فقد وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى ذرى نهضتها التي استفادت منها الإنسانية كلها بواسطة تلك الحركة الناشطة في الترجمة (تحدثنا عن جانب من تاريخها العام في الأسبوع الماضي)، حتى من قبل أن ينشئ الخليفة المأمون "مدرسة الحكمة" في بغداد العباسيين.

ونعرف من المصادر التراثية القديمة أن حركة الترجمة العربية الأولى بدأت في العصر الأموي، بالتوازي مع اتساع وتمدد حركة الفتوح الإسلامية التي أسهمت على نحو غير مباشر في الانفتاح بالحضارة العربية على ميراث العالم القديم حولها، خصوصًا بعد أن شعر العرب أنهم ورثوا الحضارات السابقة عليهم، وأنّ عليهم الإفادة منها، والبدء من حيث انتهت إليه.

وهكذا لم يكن من قبيل المصادفة أن يدعو الأمير الأموي المستنير خالد بن يزيد بن معاوية "حكيم بني مروان" إلى ترجمة كتب الطب والنجوم والكيمياء (السيمياء) وغيرها من العلوم العملية التي كانت لها الأولوية في حركة الترجمة القديمة، وذلك لاتصالها بالمشكلات التي فرضها تطور الحضارة العربية الصاعدة، وأكّدها اتساع رقعتها الجغرافية وتعقد أوضاعها البشرية.

- 2 -

وليس من الضروري، كما يقول الدكتور جابر عصفور، أن نصدّق الروايات الشعبية التي تحدثت عن غرام الأمير خالد بتحويل المعادن الخسيسة إلى معادن نفيسة، أو الحلم بتحويل النحاس إلى ذهب، بوصفهما دافعا دفع الأمير إلى استجلاب المترجمين العارفين باليونانية لترجمة كتب الكيمياء القديمة، والكشف عن أسرارها، فالأقرب إلى المنطق التاريخي أن مسعى الأمير كان علامة بارزة في مسعى أعم، يتصل بحاجات الحضارة العربية الصاعدة إلى معرفة ميراث العالم في علوم الفلك التي ترتبط بالامتداد في المكان، وعلوم الطب التي ترتبط بالحفاظ على المسلم الجديد الذي أصبح متعدد الأعراق والأجناس. وأتصور أن الإقبال على علوم الكيمياء وما شابهها من العلوم كان بعض الحاجات العملية التي انطوت عليها مدن إسلامية متزايدة، مدن أخذت تعرف الصناعات والحرف والفنون المدينية متعددة الأنواع والأغراض.

ولذلك لم تكن دعوة الأمير خالد بن يزيد إلى الترجمة عن اليونانية منفصلة عن المحاولات السابقة والموازية في الترجمة عن الفارسية التي كانت لغة "الدواوين".

ويذهب المؤرخون إلى أن "الدواوين" نقلت إلى العربية أيام الخليفة عبد الملك بن مروان في سوريا، وأيام واليه على العراق الحجاج بن يوسف الثقفي.

ولم تكن دعوة الأمير خالد منفصلة بالقدر نفسه، سواء في مغزاها أو سياقها الوظيفي، عن عملية نقل "الدواوين" من القبطية إلى العربية في عهد الأمير عبد العزيز بن عبد الملك والي مصر. ولا تنفصل دلالة هذا النوع من الترجمة عن الجوانب النفعية المباشرة، أو الجوانب العملية المادية التي سبقت الجوانب الفكرية، وفرضت نفسها على عملية النقل التي بدأت بالمعارف العملية والمادية أولًا، ثم انتقلت منها إلى المعارف الفكرية والفلسفية، وذلك في مسعى وثيق الصلة بترجمة الآداب القصصية بالدرجة الأولى، لكن بعيدًا عن ترجمة الشعر الذي ظل العرب على اقتناع بعدم حاجتهم إلى ترجمته، خصوصا بعد أن آمنوا أنهم سبقوا غيرهم من الأمم في مجاله الإبداعي.

- 3 -

ووصل نشاط الترجمة العربية إلى قمتها في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية (العصر العباسي الثاني)، وذلك بعد أن انتهت مرحلة الفتوح الإسلامية، واستقرت الدولة العربية الإسلامية التي جمعت في اتساعها الجغرافي المذهل بين العديد من الأجناس المختلفة والمعتقدات المتباينة والأصول الحضارية المتباعدة..

وأصبحت هذه الدولة في حاجة إلى معرفة كل ما لدى الآخرين لتستكمل المسيرة الإنسانية التي أصبحت وريثة لحضاراتها، والتي أخذت على عاتقها مهمة الإضافة إليها، واعية أن عليها البدء من حيث انتهى السابقون لتضيف إليه من منطلق أهدافها الخاصة ومطامحها المختلفة.

ولذلك، أخذنا نقرأ لفلاسفة العرب ما كتبوه عن "تتميم النوع الإنساني" الذي هو الغاية التي يسعى إليها عقلاء البشر، وأن هذه الغاية تشترك في تحقيقها الأمم جميعها، وتتداولها واحدة إثر أخرى. وأخذ أمثال جابر بن حيان وأبي زكريا الرازي يتحدثون عن المسعى الإنساني المتصل لتحقيق هذا "التتميم" الذي يضيف فيه اللاحق إلى السابق ما يجعل حركة التاريخ صاعدة دائما ومتطورة أبدًا.

وقد كانت أمثال هذه العبارات والتصورات بمثابة تبرير عقلاني لاتساع حركة الترجمة القديمة التي لم تترك شيئا من ميراث الحضارات التي سبقت الحضارة العربية في التقدم إلا وترجمته، لا على سبيل الاكتفاء بما تحقق، وإنما على سبيل الإضافة التي يكتمل بها معنى "تتميم النوع الإنساني" الذي أفصح عنه الكندي الفيلسوف في رسالته إلى المعتصم بالله عن "الفلسفة الأولى".

وفي رسالته إلى المعتصم بالله يوضح الكندي أن غيرنا من السابقين أنسباء وشركاء لنا في ما نفيده من ثمار فكرهم، وأن هـذه الثمار سبل وآلات مؤدية إلى علم كثير مما قصّروا عن نيل حقيقته. ويضيف الكندي إلى ذلك قوله إنه لا ينبغي لأحد أن يستحي من اقتناء الحق مهما كان موطنه أو لغته أو جنسه، فالحق أحق أن يتبّع، وأن يضاف إليه ما لم يقل فيه السابقون.

- 4 -

وقد أسهمت عبارات الكندي وتبريرات أمثاله في تأسيس نوع من التقاليد الخلاّقة التي ظلّت متوهجة بتوهج دوافع معرفة "الآخر" والانفتاح عليه، طوال عصور ازدهار الحضارة العربية التي وجدت في "الترجمة" البداية الأولى للإضافة النوعية في عملية "تتميم النوع الإنساني".

ومن هذا المنظور، كان تشجيع الخلفاء والوزراء في العصر العباسي "الذهبي" على الترجمة، وكان شغف الخليفة أبي جعفر المنصور بكتب الطب والهندسة والفلك والنجوم، وكانت مراسلاته إلى ملك الروم لطلب كتب الحكمة، وكان ما جمعه حوله من المترجمين الذين نعرف منهم طبيبه الخاص جورجيس بن جبرائيل بن بختيشوع، بل كان تشجيعه على الترجمة عن اللغة الهندية القديمة "السانسكريتية" في الرياضيات وعلوم الفلك.

وقس على ذلك ما يروى عن هارون الرشيد من أنه تولى توسيع ديوان الترجمة الذي أنشأه سلفه أبو جعفر المنصور، وأنه عهد بمهمة ترجمة المخطوطات اليونانية القديمة التي وجدها في عمورية وأنقرة وغيرهما من المدن التي غزاها إلى يوحنا بن ماسويه ليشرف على ترجمتها.

ويتصاعد إيقاع دوافع الترجمة في عهد المأمون الذي راسل ملوك الروم، وطلب منهم إرسال ما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه، فيما يخبرنا ابن صاعد الأندلسي في كتابه «طبقات الأمم»، بما حضرهم من كتب أفلاطون وأرسطو طاليس وأبقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، "فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلّفهم إحكام ترجمتها فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حضّ الناس على قراءتها ورغّبهم في تعلمها، فقامت دولة الحكمة في عصره، وتنافس أولو النباهة في العلوم لما كانوا يرون من عطاياه".

- 5 -

وما أكثر ما يُروى عن تشجيع الخليفة المأمون لحركة الترجمة، وإيمانه بها. وتكفي الإشارة -في هذا السياق- إلى أن أحد شروط الصلح بينه والإمبراطور البيزنطي "ميخائيل الثالث" كانت تنازل الأول عن إحدى المكتبات الشهيرة في القسطنطينية، وأن إعجابه بالمترجم حنين بن إسحق كان يدفعه (أي المأمون) أن يعطيه من الذهب وزن ما ينقله من الكتب إلى اللسان العربي، الأمر الذي دفع المترجم الماكر إلى تكثير وزن ترجماته بحيل طريفة ذكرها ابن أبي أصيبعة في كتابه المهم «عيون الأنباء في طبقات الأطباء».

ولم تتوقف حركة الترجمة العربية في الأندلس، بل ظلت مستمرة ومزدهرة، لم تتراجع إلا عندما توقف الدافع الخلاّق إلى "تتميم النوع الإنساني" عن الحضور والتأثير، فتغلبت عوامل الاتّباع والتقليد على دوافع الابتداع والاجتهاد، ونزعت "الأنا" القومية إلى الانغلاق على نفسها، والانكفاء على أوهامها، ففقدت رغبة المبادرة والإضافة، ومن ثم قدرة الإبداع الذاتي، فغربت شمس هذه الحضارة العظيمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحضارة العربیة الترجمة عن

إقرأ أيضاً:

هنو: إطلاق تطبيق "كتاب" لتعزيز الثقافة الرقمية لدى الشباب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أشاد الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، بالإقبال الكبير الذي شهده معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي وصل عدد زوار به إلى أكثر من 5 مليون حتى الآن، مؤكدًا أن نشر الوعي بمثابة الدرع الوحيد لمجابهة الأفكار السلبية التي قد تواجه الشعب المصري.

وأعلن "هنو"، خلال لقائه مع الإعلامي نشأت الديهي ببرنامج "بالورقة والقلم"، المذاع عبر فضائية "TeN"، مساء اليوم الخميس، عن إطلاق تطبيق "كتاب" لتعزيز الثقافة الرقمية بالتنسيق مع وزارة الاتصالات، وذلك للتخفيف على المواطنين والناشرين، في ظل أسعار الطباعة التي أصبحت مكلفة للغاية، مشيرًا إلى أن التحديات الاقتصادية أحد أهم التحديات التي تواجه صناعة النشر، نظرا لارتفاع أسعار المستلزمات الإنتاجية.

وأضاف أن الوزرة تحاول التغلب على ارتفاع تكلفة النشر المطبوع باستخدام الوسائط الحديثة، مؤكدًا ن الوزارة تسعى لتصدير المنتج الثقافي حتى يكون له تأثر إقليمي، وذلك من خلال التوسع في المعارض المتخصصة خارج مصر.

وقال إننا نواجه مشكلة في ضعف الترجمة من العربية للغات الأجنبية، خاصة أن الترجمة للغات الأخرى لابد أن تكون بواسطة الأجانب لأنهم يمتلكون زمام لغتهم، وأنه لابد من وجود من تعاون بين وزارة الثقافة و الملحقين الثقافيين لتشجيع الترجمة للغات الأخرى.

وأكد أن الوزارة تسعى لمواكبة التطور التكنولوجي لنلاحق طموح الشباب، فضلًا عن التكامل بين وزارتي الثقافة، والتعليم العالي، والتربية والتعليم، والشباب والرياضة، والأوقاف، بما يُساهم في تنمية وعي الشباب، معلنًا عن إحياء حفل كبير لأم كلثوم أول فبراير المقبل داخل العاصمة الفرنسية "باريس".

مقالات مشابهة

  • هنو: إطلاق تطبيق "كتاب" لتعزيز الثقافة الرقمية لدى الشباب
  • اعتصام لمالكي الشاحنات العمومية في مرفأ بيروت
  • «بينالي الفنون» يُثري زواره بكنوز الحضارة الإسلامية
  • شيخ العربية الذي حذر من تغييب الفصحى وسجن لمعارضته إعدام سيد قطب
  • قراءة فكرية في التغيرات الكبرى التي صنعها السيدُ حسين بدرالدين الحوثي
  • معرض القاهرة الدولي للكتاب يناقش تاريخ الأدب البولندي وحركة الترجمة إلى العربية
  • معرض الكتاب يناقش تاريخ الأدب البولندي وحركة الترجمة إلى العربية
  • كيف تحولت إسرائيل إلى عبء أخلاقي على الحضارة الغربية؟
  • نداء الى المعارضة المصرية
  • موارد الترجمة الآلية بين اللغة العربية والإنجليزية.. كتاب متخصص في حوسبة اللغات