في العمق : إلى بلدية مسقط مع الشكر .. سوق بيع السيارات المستعملة فـي المعبيلة لم يعد فـي موقعه الصحيح ووجب نقله
تاريخ النشر: 7th, October 2023 GMT
يُمثِّل الحديث عن البُعد الجَمالي والحضاري والسيكولوجي لمحافظة مسقط، كمدينة مستدامة محفِّزة للنُّمو ذات جودة عالية للحياة، وموطن آمن للعيش، وتعزيز حضورها في المنافسة العالَميَّة للمُدُن المستدامة التي توظف التقنيَّة وتستفيد من الممارسات الفضلى للتخطيط الحضري حَوْلَ العالَم، وتستوعب جوانب التحَوُّل الحاصلة في المُدُن الذكيَّة واحتياجات الإنسان؛ محطَّة مهمَّة لمراجعة الكثير من الجوانب التي باتت تُشكِّل مظهرًا غير حضاري يؤخِّر تحقيق هذا التوجُّه الوطني، أو يتنافى مع الاستراتيجيَّة العمرانية نَحْوَ مسقط الكبرى، والمنبثقة من رؤية عُمان 2040 التي أعطت محور تطوير المحافظات والمُدُن المستدامة أهمِّية في مُكوِّناتها ومن خلال أهدافها، «مُدُن ذكيَّة ومستدامة نابضة بالحياة وريف حيوي بجودة عمرانيَّة عالية للمعيشة والعمل والترفيه» لضمانِ أنَّ التوجُّه المستقبلي لشكلِ المُدُن الرئيسة في سلطنة عُمان ـ ومِنْها محافظة مسقط ـ، يساعد على تسريع وتيرة النُّمو والانفتاح على الأسواق العالَمية من خلال تهيئة بيئات إنتاجيَّة لجذب الاستثمارات، وزيادة الكفاءة الاقتصاديَّة، وتهيئة بيئات ملائمة للعيش.
وبالتَّالي أن يصحبَ تحقيق ذلك ـ خصوصًا عِند الحديث عن محافظة مسقط الواجهة الحضاريَّة المباشرة لسلطنة عُمان ـ، جهد استثنائي على أرض الواقع، يقوم على مبدأ الشراكة الاستراتيجيَّة مع المواطن وخلق تناغم مُجتمعي يتفاعل مع أبجديَّات التحَوُّل الشامل، والتوجُّه نَحْوَ التخطيط الحضري لتعزيز جودة الحياة والأمان النَّفْسي لسكَّان الأحياء السكنيَّة عَبْرَ معالجة نواتج عشوائيَّة التخطيط وتداخل الصناعيَّات مع الأحياء السكنيَّة ـ كما هو حاصل في منطقة المعبيلة ومنطقة الوادي الكبير، وبالتَّالي إزالة كُلِّ المعيقات والمشوِّهات والمثبِّطات والمُرهقات التي باتَتْ تُشكِّل حجر عثرة أمام استقرار السكَّان وراحتهم وأمنهم وأمانهم، وإنَّ من بَيْنِ العشوائيَّات الناتجة عن غياب التخطيط الحضري والرؤية المستقبليَّة في إدارة المُدُن، وتتعارض من الفرضيَّة التي تمَّ طرحها من خلال أولويَّات رؤية عُمان 2040 والاستراتيجيَّة العمرانيَّة، والتي أصبحت تُمثِّل أحَد هذه المشوِّهات للسلوك الحضاري والتوجُّه نَحْوَ تحقيق الاستدامة في محافظة مسقط، «سُوق السيارات المستعملة في المعبيلة الجنوبية» ـ والذي رغم مطالبات الأهالي وسكَّان المنطقة والمترددين على صناعيَّة المعبيلة بتغيير موقعه، إلَّا أنَّ الاستجابة الخجولة من بلديَّة مسقط وحالة البطء في الإفصاح عن التوجُّه القادم بشأنه باتَ يُمثِّل أحَد هذه النماذج السلبيَّة التي تستدعي اليوم مراجعة مع النَّفْس وتصحيحًا للمفهوم المؤسَّسي حَوْلَ إرادة التطوير والقناعة به، والذي يجِبُ أن يرسمَ أمام المواطن صورة تفاؤليَّة تتيح له مساحة أكبر للتأمل في الصورة المستقبليَّة التي تحدَّثت بها لُغة رؤية عُمان 2040، ومستوى الجديَّة في التفاعل معها وحُسن تأطيرها وتجسيدها في واقع الممارسة والقرار القادم.
ورغم التشاؤم الذي يبديه البعض في تناولنا لهذا الموضوع، نظرًا للتعاطي الخجول من الجهات المعنيَّة للنداءات والمطالبات المتكرِّرة من المواطنين وسكَّان المنطقة المتضرِّرة من وجود هذا السُّوق أو المتَّجِهين إلى المنطقة الصناعيَّة بالمعبيلة، إلَّا أنَّنا ما زلنا نتجمَّل بروح التفاؤل والإيجابيَّة، منطلِقين من النَّهج السَّامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم وعاطر النُّطق السَّامي لجلالته ـ أعزَّه الله ـ في تدشين مدينة السُّلطان هيثم ـ إرث المستقبل ـ؛ لذلك فإنَّ طرحنا لهذا الموضوع ـ أو المطالبة إنْ صحَّ التعبير ـ يأتي في ظلِّ إيمانٍ عميق بأنَّ بناء المُدُن الذكيَّة وتحقيق الاستدامة وتعظيم مفهوم جودة الحياة عَبْرَ التخطيط الحضري يتأكَّد اليوم في قدرة الجهات المعنيَّة على مدِّ جسور التواصل مع المواطن والمُقيم؛ باعتباره شريكًا في المسؤوليَّة وشريكًا في الإنجاز، وأنَّ قياس الرأي العامِّ من خلال المسوحات وأدوات الاستطلاع والبحوث أو من خلال تحليل ما يرد في المنصَّات الاجتماعيَّة والمنتَج الفكري اليومي في الصحف عَبْرَ المقالات والآراء الصحفيَّة والاستطلاعات الدَّوْريَّة، أحَد أهمِّ الممكنات التي تستخدمها المُجتمعات المعاصرة في عمليَّات التطوير والبناء وإعادة هندسة بناء المُدُن، وهو الأمْرُ الذي باتَ يمنحنا الأمل بأن تراجعَ الجهات المعنيَّة ـ ممثَّلةً في محافظ مسقط وبلديَّة مسقط والشركاء ـ هذا الموضوع، وتبدأ بالتفكير في رسم ملامح التحَوُّل فيه بما يُحقِّق الصالح العامَّ، انطلاقًا من الرؤية السَّامية لمولانا جلالة السُّلطان المُعظَّم في بناء عُمان المستقبل وتحقيق رؤيتها الطموحة في تعظيم مسار الشراكة المُجتمعيَّة، وتعزيز اللامركزيَّة والإدارة المحليَّة، وتفعيل دَوْر المجالس البلديَّة ونظام المحافظات وبعض الصلاحيَّات الممنوحة لعضو مجلس الشورى.
وبالتَّالي فإنَّ المعوَّل اليوم على محافظة مسقط والمجلس البدي بولاية السيب وأعضاء مجلس الشورى في تحريك هذا الملف، وإعادة التفكير في الخيارات والبدائل المطروحة واتِّخاذ قرار جريء بنقل هذا السُّوق ـ إن صحَّت تسميته ـ واتِّخاذ قرار بأهمِّية نقل هذا السُّوق من موقعه؛ كونه لَمْ يَعُدْ في موقعه الصحيح نظرًا للمظهر غير الحضاري الناتج عَنْه، وتداعياته السلبيَّة على سكَّان المنطقة ومستخدمي الطريق من حيث: إعاقة الحركة المروريَّة، حيث يقضي مستخدم الطريق الذي ينتصف السُّوق والمُتَّجه إلى منطقة المعبيلة الصناعيَّة ما يقرب من ساعة زمنيَّة أو يزيد في مسافة لا تزيد عن 2كم من دوَّار حيِّ التضامن إلى دوَّار الصناعيَّة المحاذي لبنك مسقط، معاناة يوميَّة تزيد حدَّتها من السَّاعة الرابعة عصرًا ولساعات متأخِّرة من الليل، ناهيك عمَّا باتَ يسبِّبه وجوده في وسط الأحياء السكنيَّة من إقلاق للرَّاحة العامَّة للسكَّان القاطنين في منطقة سُوق السيارات المستعملة والمناطق المجاورة لها، وانتهاك خصوصيَّة السكَّان واستقرارهم وأمنهم في ظلِّ ما باتَ يتردَّد عَلَيْه من جنسيَّات مختلفة، بالإضافة إلى عرقلة حركة تنقُّل سكَّان المناطق التي تستخدم هذا الشارع للوصول إلى المراكز التجاريَّة بسبب الاختناق المروري، وحجم المعاناة المستمرَّة التي يواجهها سكَّان المنطقة، خصوصًا ومستخدمي شارع الإعمار المُؤدِّي إلى المنطقة الصناعيَّة والأحياء السكنيَّة الموصّلة بالشارع مثل: حي البركة وحي المنطقة الثامنة وحي الصناعيَّة وحي العز وحي التضامن وغيرها من الأحياء السكنيَّة التي باتَتْ تُعاني من أثَر هذا الطريق، وما يُسبِّبه غياب التنظيم والتقنين والمواقف من وقوف المَركبات والبائعين والمشترين على جانبَي الشارع، ناهيك عن وجود المطبَّات، والأعمال الإنشائيَّة لمتنزه المعبيلة، وما يظهر أيضًا من السلوك غير الحضاري الذي تُمارسه بعض الجاليات العربيَّة في استيقاف أصحاب المَركبات المارَّة بالطريق ـ دُونَ مراعاة لخصوصيَّة مَن هُمْ في المَركبة ـ للتفاوض معها في عمليَّات البيع والشراء في مظهرٍ باتَ يُشوِّه الصورة الحضاريَّة للسَّمْت العُماني.
من هنا نعتقد بأنَّ نقْلَ هذا السُّوق ضرورة حتميَّة لا تنتظر التأخير ولا تقبل المبرِّرات التي يُمكِن أن تتحدَّثَ بها الجهات المختصَّة في بلديَّة مسقط، بحيث ينقل هذا السُّوق إلى المنطقة المحاذية لمسلخ بلديَّة مسقط على يمين شارع مسقط السريع بالاتِّجاه إلى الخوض؛ كونها منطقة واسعة ومرتبطة بالشارع العامِّ، حيث بدأت بلديَّة مسقط بتأهيلها وتهيئتها لهبطات عيد الأضحى وعيد الفطر، ومع بعض التطوير وإضافة الخدمات الأساسيَّة كدَوْرات المياه أو بعض المكاتب للاستئجار وإعادة تنظيم المنطقة بالشكل اللائق الذي يضْمَن الحدَّ من العشوائيَّة، ويعطي فرصة لنمو العادات الحديثة في التفاوض والبيع والشراء وإيجاد مكاتب لتأمين السيَّارات والوساطة في بيع السيارات المستعملة والمقاهي والمطاعم التي يحتاجها مستخدمو هذا السُّوق، سوف ينعش من منطقة المسلخ، ويقلِّل من حجم الازدحام الحالي باتِّجاه صناعيَّة المعبيلة، خصوصًا أنَّ تلك المنطقة مستقلَّة بذاتِها عن المساكن التي بدأت تنتشر في تلك المنطقة، ويُمكِن إضافة بعض المتطلبات الأساسيَّة لها بحيث تكُونُ مسوَّرة وآمنة وتتناسب مع معايير الأمن والسَّلامة التي يشترط توافرها في أسواق بيع السيَّارات المستعملة، بما يسهل التعامل مع أيِّ حدث طارئ، أو حالة عرضيَّة كحريق أو غيره؛ وخيارات أخرى مِثل نقْلِ هذا السُّوق إلى منطقة السندان أو كذلك خزائن الصناعيتَيْنِ.
أخيرًا، نؤكِّد على أهمِّية أن تراجعَ بلديَّة مسقط قراراتها بشأن هذا السُّوق وتوجيه الاهتمام والتنسيق مع الجهات المختصَّة بنقله إلى هذه المناطق المقترحة، وأن تتَّخذَ وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار قرارًا بشأن تنظيم بيع السيَّارات المستعملة، بحيث يتمُّ التأكيد فيه على جملة من الموجِّهات من بَيْنِها: أن يكُونَ نشاط أسواق بيع المَركبات المستعملة في المُخطَّطات الصناعيَّة بعيدًا عن المنازل والمناطق السكنيَّة أو المؤسَّسات التعليميَّة، ومنع أيِّ سلوك غير حضاري يُمارسه الممارسون لهذا النشاط كإيقاف المَركبات دُونَ مراعاة خصوصيَّة مَن فيها أو التجمُّعات على جانبَي الطريق، وتصبح عمليَّات التقنين والتصحيح ونقْل هذا السُّوق؛ الطريق للمحافظة على السلوك العامِّ والتداعيات الأمنيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المرتبطة بهذا السُّوق والتي أشرنا إلى بعضها، بالشكل الذي يضْمَن القضاء على العشوائيَّة والضوضاء التي باتَ يُسبِّبها موقع هذا السُّوق في الأحياء السكنيَّة، على أنَّه وفي ظلِّ انتشار وجود معارض بيع السيَّارات المستعملة المرخَّصة يطرح وجود هذا السُّوق علامات استفهام كبرى حَوْلَ الصورة التي يقدِّمها، بما يؤكِّد اليوم على أهمِّية في الوقوف على حيثيَّاته والممارسة الحاصلة فيه، وتعزيز نشاط بيع السيَّارات المستعملة وفق ضوابط محدَّدة تُعزِّز من مساهمة المؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة فيها، فإنَّ من شأن ذلك أن يسهمَ في رفع درجة المصداقيَّة والموثوقيَّة في هذه الأسواق من خلال توفير أنشطة الفحص والتأمين ومكاتب بيع وشراء السيَّارات المستعملة أو التوريد والتصدير وغيرها، كما يُمكِن أن يسهمَ إعادة تقييم هذه الأسواق في الحدِّ من التجاوزات أو الإشكاليَّات المرتبطة بالأعطال غير المكتشفة في السيَّارات المباعة في السُّوق، بالإضافة إلى القضاء على التجارة المستترة والأنشطة المنافسة غير المرخَّصة، في ظلِّ جهل مصدر هذه السيَّارات، وضمان التواجد المستمر لدَوْريَّات شُرطة عُمان السُّلطانيَّة والجهات ذات الصِّلة في إدارة وضبط الممارسة التفاوضيَّة في هذه الأسواق. فإنَّ الآمال معقودة على تجاوب بلديَّة مسقط مع هذا الأمْرِ، ونحن على ثقة تامَّة بأنَّ قيادة بلديَّة مسقط، ممثَّلةً في سعادة المهندس رئيس البلديَّة، سوف تتجاوب مع هذا الأمْرِ خدمة للصالح العامِّ.
د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: السیارات المستعملة محافظة مسقط ان المنطقة ة المعبیلة المنطقة ا ل هذا الس التی بات من خلال الم د ن التی ی فی الم ة مسقط ة التی
إقرأ أيضاً:
هل ثنائية النصر والهزيمة المدخل الصحيح لقراءة حرب غزّة؟!
معارك المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة كلّها، بما فيها تلك التي فرضها الاحتلال عليها وعلى مجتمعها، تبعها دائما سجال النصر والهزيمة، بالرغم من اختلافها عن الحرب الراهنة الطويلة والممتدة والتي اتسمت بالإبادة الجماعية المقدور عليها من الاحتلال. فهذا السجال لم يبدأ من هذه الحرب، وهو ما يعني أنّ المقاومة في نفسها، عند أصحاب خطاب الهزيمة، هي التي محلّ السجال، لا نتائجها، وهذا بالتأكيد ليس اكتشافا، ولكنّ الخلل النقدي في غفلة دعاة التيئيس من المقاومة وجدواها؛ عن كون خطاباتهم التي تتقنّع هذه المرّة بالجريمة الإسرائيلية تأتي بالنقض على خطاباتهم السابقة التي عدّوا فيه نتائج المعارك السابقة للمقاومة الفلسطينية هزيمة مؤكّدة لها، وهو أمر يعلّمنا كيفيات أخذ الحدث في سياقاته كاملة، واعتبار ملابساته كلّها.
تختلف المعارك السابقة في أكثرها، في كونها بدأها الاحتلال الإسرائيلي، كما في حرب 2008/2009 والتي افتتحتها طائراته بمجزرة استهدفت بها حفلا لتخريج الشرطة المدنية في قطاع غزّة، وأراد بها اقتلاع حماس بقطف رأسها مرّة واحدة وبضربة تمتاز بالصدمة والترويع وإظهار الإصرار على انعدام الخطوط الحمراء في وجه "إسرائيل"، أو في حرب العام 2012 التي كسر بها تهدئة سابقة واغتال بها الشهيد أحمد الجعبري، القائد السابق لكتائب القسام، أو حتى حرب العام 2014 التي تدحرجت من أحداث في الضفة الغربية بدأت بأسر حركة حماس لثلاثة مستوطنين في مدينة الخليل وصولا إلى الحرب الأطول حتى حينه على قطاع غزّة، وقد استخدمت فيها "إسرائيل" مختلف أسلحتها وقطاعاتها محاولة التوغّل برّيّا في القطاع.
لم تكن مناظير النصر والهزيمة واحدة في التاريخ في المعارك الملتبسة وغير النهائية، وذلك لاختلاف المفاهيم المُؤسّسة لهذه المناظير، ولكن في صراع مفتوح، وكأيّ مشروع تحرري، لا يمكن الحديث عن انتصاره من هزيمته بالمعنى المطلق الماديّ إلا في نهايته الحتمية إن أنجز نفسه بالتحرر من الاستعمار أم لا
إذا كان يمكن لدعاة الهزيمة والتيئيس من جدوى المقاومة، أن يسندوا حجتهم في عدّ الحرب الجارية هزيمة للفلسطينيين؛ إلى أنّ حماس هي التي افتتحتها بقائمة أهداف يمكن استكشافها من خطاب قائدها العسكري محمد الضيف في يوم تنفيذ عملية "طوفان الأقصى"، وأنّها تحوّلت إلى حرب إبادة جماعية تفرض الكارثة على قطاع غزّة بنية مفتوحة ومستمرة لعقود إلى الأمام، فإنّ المعارك السابقة بدأها الاحتلال بأهداف لم يحققها، وبمستويات جُرمية فاحشة ولكنها من حيث الكمّ دون ما اقترفه في هذه الحرب، فهل يمكنهم اليوم العودة إلى تلك المعارك بتقييم جديد؟!
لقد كانت المقاومة، وقيادة حماس لها، دائما مُساءلة في المعارك السابقة عن الاستثمار السياسي لتلك المعارك، وعن الوجاهة في عدّها انتصارا بالرغم من الخسائر الفادحة التي أوقعها الاحتلال بالفلسطينيين في غزّة، بيد أنّ بعضا من أصحاب هذه المساءلات ممن يحتجون اليوم بافتتاح حماس للمعركة وكلفتها الهائلة على الفلسطينيين، لم تكن هذه هي حجتهم في المعارك السابقة في صياغة خطاب الهزيمة، لانتفاء هذه الحجة أصلا.
من غير المفهوم حينها أن يتوقعوا في حرب بدأها العدوّ بقوّته الجبّارة دائمة الاستمداد من الولايات المتحدة؛ أن تفعل هذه المقاومة في إطار المعطيات القائمة؛ أكثر من الصمود وهو ما حصل وقتها بالفعل، وهو مكسب في ذاته على طريق المواجهة الطويل، والذي من الجهة المعنوية يؤكد على القيمة العالية للدلالة على محدودية تلك القدرة الجبارة للعدوّ دون نفي جبروتها، وعلى إمكانات الضعيف المخبوأة في طيّات الصدق والجدّية، ومن الجهة السياسية على إمكان الاستثمار في حالة المقاومة في مناورة العدوّ ومخاطبة العالم وتعزيز عوامل القوّة الذاتية؛ لو امتلكت هذه المقاومة رديفا عربيّا مؤازرا، وتحرّكت على قواعد الإجماع الفلسطيني. ولم يكن لانتفاء هذا الرديف وانعدام هذا الإجماع أن ينفي صوابية المقاومة حينها، فالصواب لا يُنفى بالخطأ المقابل له، بل يُستدلّ به على الخطأ لأجل تصحيح هذا الخطأ.
القصد من هذا الاستدعاء عرض مقولة الهزيمة على ذاتها، لأنّ الحجّة نفسها التي تستخدمها الآن لتأكيد الهزيمة، كانت مفقودة إلى درجة حضور نقيضها فيما سبق، ومع ذلك، ظلّت على حالها مقولة للهزيمة بلا مراجعة مسؤولة، في الوقت الذي تُطالب فيه المقاومة بمراجعة خياراتها، وذلك في حين أنّ مقولة الانتصار في مثل هذا الصراع، وفي جميع المعارك التي تمثل حلقات سلسلته الممتدة، ليست هي نقيض مقولة الهزيمة، ولكنّ قراءة الموقف من جهة طبائع الصراع ومجمل الخطابات المحايثة له، من شأنها أن تعطي تقييما متوسّطا في حدود الجاري والراهن، يقدّر الثمن الفادح المدفوع فلسطينيّا حقّ قدره، ويقدّر صمود المقاومة في الوقت نفسه، ويبحث في الأهداف الإسرائيلية ما أُنجِز منها وما فشل بالنظر إلى فارق القوّة والدعم المفتوح لـ"إسرائيل". وبقطع النظر عن الخلاصات التي يمكن أن يخرج بها تقييم كهذا؛ فإنّها تبقى مستندة إلى رؤية كلّية غير سجالية، أي لا تهدف إلى إثبات مواقف مسبقة، بقدر ما تهدف إلى تحسين الشرط الفلسطيني، والاستفادة من التجربة مهمّا كانت مرّة وأليمة.
لم تكن مناظير النصر والهزيمة واحدة في التاريخ في المعارك الملتبسة وغير النهائية، وذلك لاختلاف المفاهيم المُؤسّسة لهذه المناظير، ولكن في صراع مفتوح، وكأيّ مشروع تحرري، لا يمكن الحديث عن انتصاره من هزيمته بالمعنى المطلق الماديّ إلا في نهايته الحتمية إن أنجز نفسه بالتحرر من الاستعمار أم لا.
ما الذي يحمل الضعفاء وأصحاب القضية على حشر أنفسهم حصرا في ثنائية النصر والهزيمة، بدلا من تحليل المعارك والمحطات الكفاحية التي هي حلقات في سلسلة ممتدة، بهدف الاستثمار والاستفادة والتحسين؟! وفي هذا السياق، ألا يوجد حضور لمفاهيم الهزيمة النفسية؟! حينما يغيب مفهوم الهزيمة النفسية عن التقييم، بالضرورة لن يكون في هذا التقييم أي اعتبار لمفهوم الصمود.
بالتأكيد لم تتحوّل معركة "طوفان الأقصى" إلى معركة تحرير فوريّ شامل، ولم تلتحق بها القوى العربية، ولم تتوفّر لها الشروط الإقليمية والدولية المناسبة، ومع التضحيات الباهظة المُقَدّرة التي قدّمتها قوى الإسناد فإنّ الأخطاء الاستراتيجية في كيفيات الالتحاق بالمعركة أثّرت على مسارات هذه المعركة، وهذه كلّها ملاحظات جديرة بأن تتحوّل إلى مساءلات لا بهدف الإدانة، ولكن بهدف تحسين الشرط الفلسطيني والعربي.
لا يمكن القفز عن كون "طوفان الأقصى" كانت عملية ناجحة في حدودها الزمانية والمكانية، بما دلّ على مقاومة مثابرة وجادّة وصادقة وتُحسِن الإعداد والتخطيط، وهذا النجاح تحديدا، الذي مثّل عارا إسرائيليّا متقيّحا في قلب "الكرامة الوطنية الإسرائيلية"، هو من دوافع حرب الإبادة بهدف مسح العار، وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم
في المقابل لا يمكن القفز عن كون "طوفان الأقصى" كانت عملية ناجحة في حدودها الزمانية والمكانية، بما دلّ على مقاومة مثابرة وجادّة وصادقة وتُحسِن الإعداد والتخطيط، وهذا النجاح تحديدا، الذي مثّل عارا إسرائيليّا متقيّحا في قلب "الكرامة الوطنية الإسرائيلية"، هو من دوافع حرب الإبادة بهدف مسح العار، وتيئيس الفلسطينيين من جدوى مقاومتهم، وحملهم على الكفر حتّى بما أثبتوه من قدرة على الفعل والإنجاز.
تفشل "إسرائيل" في محو عارها، إذ أرادت محوه بالمجزرة والإبادة والجريمة، لتراكم في سجلّها عارا من نوع آخر سيبقى يلاحقها في قادم أيّامها، وتفشل في كسر الفصيل الفلسطيني الذي أصابها بهذا الجرح في قلبها الدامي بالقيح والمرار، وتضطر للتفاوض معه لتبادل أسراها بعدما قالت مرّات كثيرة إنّها سوف تستعيدهم بمحض القوّة العسكرية، ويبدو من حال الصفقة المؤقّتة لهذه المفاوضات، أنّها تتضمن في الوقت نفسه تنظيما لخروج الاحتلال من غزّة في حال لو كتب للهدنة الثبات، وذلك بعدما أخذ الفرصة كلّها إبادة وتدميرا ووقتا مفتوحا وإمدادا لا يبدو متناهيا.
ألا يمكن الاستفادة من ذلك كلّه، في صراع هذا حاله، وهذه تعقيداته، ومن حرب بهذا العمق والاتساع لا يمكن الوقوف على تداعياتها الاستراتيجية على الفور؛ باستخلاص الممكنات الفلسطينية والعربية والتحررية، في وجه الحالة الاستعمارية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية وحالة التردّي العربي، إذ ما كان للإبادة أن تأخذ مداها لولا الاهتراء العربي المتراوح بين العجز والتخاذل والتواطؤ؟! وإذا كانت "إسرائيل" تحمي نفسها من الفلسطيني والعربي الجادّ في مقاومتها بالإبادة، فهل تكون الخلاصة هو كيف نمنع أنفسنا من التقوّي؟! وكيف نتخلّص من الصدق والجدّية؟! أم نبحث في الكيفية التي نحاول بها قدر الإمكان (إذ لا شيء يضمن منع عقيدة الإبادة الإسرائيلية من التجلي الماديّ) عرقلة سياسات الإبادة الإسرائيلية التي تتصدّى بها لعزيمتنا وإرادتنا وصدقنا وجدّيتنا؟!
x.com/sariorabi