قلت في مقال لي هنا في "عربي21" في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2021، "أثبتت وقائع كثيرة ان عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة السوداني منذ آب/ أغسطس من عام 2019 حتى انقلب على هياكل وأعضاء الحكومة (في تشرين أول / أكتوبر من ذلك العام)، لا يحسن تصريف الأمور المتعلقة بطموحه الشخصي في الانفراد بحكم البلاد، بمعاونة الضباط ذوي الرتب الرفيعة في الجيش، ومليشيا الدعم السريع التي تقودها عائلة دقلو، وتنعقد قيادتها العليا لمحمد حمدان دقلو (حميدتي) وأخوه عبد الرحيم، وكلاهما ينعم برتبة فريق العسكرية بلا حظ من العلوم العسكرية"، وكان عنوان ذلك المقال "الجاهل عدو نفسه ـ البرهان نموذجاً"، وأوردت فيه أقوالا ووقائع تؤكد أن البرهان يطلق الرصاص على قدمه كلما أقدم على خطوة لتعزيز طموحه، في التحول إلى رئيس جمهورية كامل الدسم، تحقيقا لرؤيا منامية لوالده قبل سنوات بعيدة.
مثل معظم الرؤساء العرب، يعتقد البرهان أن قراءة نصوص مكتوبة خلال مخاطبة المواطنين لا يليق برجل الدولة، وأن ارتجال الخطب دليل على الكفاءة والحذق، ولهذا كثيرا ما يكبو حصانه، ولكنه كحامل لجينات التسلط الرسمي العربي، لا يأبه بأن كلامه بالليل يمحوه نهار اليوم التالي، وتلك شيمة من لا يحترمون مُتلقِّي الخطاب، وهكذا صرح في بواكير جلوسه على كرسي رئاسة المجلس السيادي في السودان، بعد انهيار حكم التيار الإسلامي برئاسة عمر البشير، بأن السلطة التنفيذية، والتي كان قوامها كوادر مدنية، رفضت عرضا منه بـ 300 مليون دولار، قال إنها "حصيلة فلوس أولادنا ال يحاربوا في اليمن" وبهذا نسف تصريحا سابقا له، بأن أولادنا أولئك موجودون في اليمن انصياعا لقرار بذلك من الجامعة العربية (وليس نظير مبالغ مالية).
ومنذ أكثر من شهر بقليل تقمص البرهان دور رأس الدولة، وخلع قميص القائد العام للجيش السوداني، الذي ظل يرتديه وهو يتخندق في مقر قيادة الجيش، محاصرا بقوات الدعم السريع، التي تخوض حربا ضد الجيش منذ منتصف نيسان / إبريل الماضي، وزار بتلك الصفة ست دول لم يعد من أي منها حتى بخفي حنين، ثم شرع في تطواف داخل السودان ولكن بعيدا عن مناطق الاشتباك، حيث أطلق الرصاص على قدمه مرارا، كناية عن الذي يأتي بقولٍ يضعف ويزلزل موقفه، فأمام رتل من الجند في شرق البلاد قال ان الحرب الدائرة في السودان أثبتت حاجة البلاد الى جيش احترافي، وبهذا طعن في كفاءة الجيش، بل ألمح الى انه جيش "هواة".
منذ أكثر من شهر بقليل تقمص البرهان دور رأس الدولة، وخلع قميص القائد العام للجيش السوداني، الذي ظل يرتديه وهو يتخندق في مقر قيادة الجيش، محاصرا بقوات الدعم السريع، التي تخوض حربا ضد الجيش منذ منتصف نيسان / إبريل الماضي،وفي مطلع الأسبوع الماضي زار مدينتي عطبرة ودنقلا، وكان لابد من أن يصرح بشيء ما، فقال إنه لو كان يعلم ان الحرب ستحدث 10% من الخسائر التي تسببت فيها لما خاضها، وبذلك فإنه يقول ـ من حيث لا يقصد ـ إنه كان بمقدوره منع وقوع الحرب، أو ان تقديراته في خوضها كانت خاطئة، ثم كان التصريح الطامة: قوات الدعم السريع هي من قامت بفض الاعتصام، ويتكلم الرجل هنا عن مجزرة حدثت على أبواب القيادة العامة للجيش في 3 حزيران/ يونيو من عام 2019، عندما كان البرهان رئيسا لمجلس عسكري استولى على مقاليد الأمور بعد عزل الرئيس عمر البشير، وكان الحراك الشعبي الذي زلزل الحكومة المبادة قد انتهى باعتصام الآلاف أمام القيادة العامة للجيش، منذ السادس من نيسان/ إبريل من تلك السنة، وحتى داهمت قوات نظامية المعتصمين وهم صيام ونيام، وقتلت منهم ما يربو على 130 وألقت بجثامين بعضهم في النيل، وما زال 38 من المعتصمين في عداد المفقودين، ويرجح انهم صاروا طعاما للأسماك.
في اليوم التالي لتلك المجزرة عقد شمس الدين كباشي الناطق باسم المجلس العسكري مؤتمرا صحفيا قال فيه، إن قيادات الجيش والشرطة والأمن والمخابرات ورئيس القضاء والنائب العام، اجتمعوا وقرروا فض الاعتصام، و"حدث ما حدث" كما قال بالضبط، ثم يأتي البرهان بعد أكثر من أربع سنوات على تلك الجريمة ليقول إن من ارتكبها هي قوات الدعم السريع التي تأتمر بأمر نائبه في رئاسة المجلس العسكري ثم مجلس السيادة حميدتي، وربما غاب عنه أنه بذلك يقر بالتواطؤ في الجريمة، و / أو التستر على المجرمين.
ولا يعتلي البرهان منبرا دون وصم قوات الدعم السريع بأنها تتألف من مرتزقة، ولكنه لا يفصح عما إذا كانت تلك القوات بدأت الارتزاق بعد تفجر حربها مع الجيش قبل خمسة ونيف أشهر، أم ظلت كذلك منذ أن عمل هو على تشكيلها وتدريبها، ثم جاء بقائدها وجعله الرجل الثاني (بعده) في أجهزة الدولة، بل وسلم تلك القوات 45 موقعا عسكريا داخل وحول العاصمة السودانية، وفتح لقائدها قنوات التواصل مع إسرائيل بوصفه (البرهان) عراب تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
وبالمقابل فإن حميدتي ومنذ بداية الحرب قدم ثلاثة خطابات عامة، قرأ محتوياتها بإتقان مدهش، على غير عادته حتى عندما يتكلم بالعامية، ولكنه وفي مقاطع صوتية كثيرة ظهر على النحو الذي عرفه به الناس من حيث إطلاق كلام على عواهنه، وكان مما صرح به بعد بداية الحرب إن البرهان يفتقر للأهلية لاحتضان القوى الإسلامية لتحقيق غاياته "لأنه لا يصلي"، ثم قال عن الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للجيش إنه "بتاع كاسات".
ولا يمكن اعتبار مثل تلك التصريحات والعبارات التي صدرت عن البرهان أو حميدتي زلات لسان وحسب، فإناء كل منهما ينضح بما فيه، وكلاهما لا يعرف كيف يصون لسانه كي لا يخونه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه السوداني السودان مواقف سياسة رأي عبد الفتاح البرهان مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات الدعم السریع
إقرأ أيضاً:
التاريخ العُنصري للدولة السُودانية ، وسيادة عقلية البطش علي أساس عُنصري «الجيش ومليشياته والجنجويد ومليشيا الدعم السريع نموذجاً» .. «١»
التاريخ العُنصري للدولة السُودانية ، وسيادة عقلية البطش علي أساس عُنصري «الجيش ومليشياته والجنجويد ومليشيا الدعم السريع نموذجاً» .. «١»
نضال عبدالوهاب
١٨ مارس ٢٠٢٥
المُمارسات العُنصرية والإستعباد والإسترقاق ظلت موجودة في كُل العالم وعلي مدي التاريخ الإنساني منذ بداياته وحتي اللحظة الحالية وأنا أكتب فيها هذا المقال ، وحتي بعد تطور المجتمعات وإنتهاء مؤسسة “الرق” بشكل رسمي إلا أن مظاهرها ومُخلفاتها وتبعاتها لاتزال موجودة حتي اللحظة ، وقد لاتنتهي بشكل “كامل” في كُل العالم قريباً مع تفاوت درجاتها ، نسبةً لتعمقها في كثير من مظاهر التنشئية والعقليات الموجودة وبعضها ظل مُتجذراً في كثير من المُجتمعات…
بالنسبة لنا في السُودان عانينا ولانزال نُعاني من أثر هذه “العُنصرية والعبودية” ، فالسُودان ظلّ تاريخياً مُرتبطاً بهذه المؤسسة “مؤسسة الرق” ، وقد كتب العديدون عنها ووثقوا لها ، وأنا هنا لست معنياً بالكتابة عنها تفصيلاً ، لعدم التخصصية أو الإلمام الكامل بتفاصيلها التاريخية الصحيحة ، ولكن ما يعنيني منها كاحد المُهتمين والعاملين لعملية التغيير في بلادنا والقضايا المُتعلقة به خاصة في جانبها السياسِي هو آثارها علي بلادنا وكيفية وضع بلادنا في الطريق الصحيح للتخلص من تأثيراتها علي إستقرار الدولة السُودانية وتماسكها وتقدمها.
ولكي نتعلم من كُل أخطاء الماضي وحتي اللحظة ، من المهم الأعتراف التام بوجود تلك المُشكلات التي تُعيق إستقرار و تماسُك وتقدم السُودان ، خاصة في ظل كُل التنوع والتعدد والإختلاف والتباين الموجود به.
ساتناول في هذا المقال البطش المُرتبط بالعنصرية الذي تمت ممارستة من قبل الدولة السُودانية مُمثلة في المؤسسة العسكرية أو الجيش والمليشيات التي تبعت له لاحقاً وأجهزة الامن المختلفة والشرطة والتي مثلت الأنظمة المُتعاقبة منذ الإستقلال في العصر الحديث ولاشك فقد نالت كُل الأنظمة نصيبها في هذه المُمارسات من كُل أجهزة هذ الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية ، وخاصة في ظل الأنظمة الإستبدادية العسكرية والديكتاتورية وللغياب التام لمبدأ المُراجعة والمُحاسبة وإختلالات الدولة وغياب لغة القانون والتساوي عنده والعدالة ، وإنتفاء مقاييس المواطنة المتساوية بالتالي وكافة حقوق الإنسان ، فشهدنا نموذج الدولة العُنصرية الباطشة بدرجات متفاوتة تمثلت ذروتها في نظام الإسلاميين المُمتد من ١٩٨٩ وحتي ٢٠١٩ أي لمدة ٣٠ سنة ، ولكن مع هذا فتاريخ هذا البطش بدأ باكراً ، وهنا اتحدث عن مرحلة مابعد إستقلال السُودان وتولي السُودانيون شؤون الحُكم فيه ، وتركز بصورة أكبر خلال كافة الحروب التي شنتها الدولة المركزية إبتداءً من حرب الجنوب الأولي وحتي الحرب الحالية مابعد ١٥ أبريل ، مروراً بالحروب الأخري في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة وجنوب كردفان والشرق.
فمُمارسات مثل العُنف المُفرط ، والذي يصل إلي حد الإبادة ، والتطهير العرقي ، كله تمت ممارسته وبوحشية خلال حرب الجنوب الطويلة ، من قبل الجيش وعناصره ، حرق القري وقتل جميّع أهلها بمن فيهم الأطفال ، وبقر بطون النساء الحوامل ، وقد تحدث الكثير من الضباط والجنود عن هذه المآسي والمشاهد المؤلمة ووثقوا لها ، وأن الجيش كان يستخدم عنفاً غير مسبوق بناء علي لغة العنصرية والتشفي ، ومن المؤكد أن كُل هذا قد ولد الكثير من الأحقاد والعنصرية المُضادة في أجيال كاملة للضحايا من الجنوبيون وساهم في تقريب فكرة الإنفصال لديهم لاحقاً عندما أُتيحت لهم الفرصة ، خاصة في ظل عدم شعورهم بالترحيب بهم في دولة هم ينتمون لها من المفترض والغياب التام لحقوق مساواتهم فيه ومواطنتهم المنقوصة ، كل تلك عمليات القتل والإبادة كانت تتم بصورة ممنهجة ومقصودة وبعنف ، مقرونة بحالات الإغتصاب والإعتداءات الجنسية والإسترقاق والإستعباد وإستخدام الأطفال والنساء وكل مظاهر الرق غير “المُعلن” من قبل منسوبي الجيش النظامي ، في مناطق الحرب والمدن والقري التي يدخلونها أو يستولوا عليها ، ومع الغياب التام للعدالة في السُودان من خلال مُمارسات الدولة ، إنعكس هذا علي بقية مسؤليات الدولة في التنمية والخدمات في التعليم والصحة والعلاج وحتي مياه الشرب وابسط ضروريات الحياة لتلك المناطق من مدن وقري ، و التي تم تعمّد تهميشيها ونسيانها ، خاصة في أطرافها سواء الجنوب نفسه ، ثم الشرق والغرب ، فلنا أن نتخيّل هذا الواقع ، والذي إذداد سؤاً بظاهرة الجفاف خاصة في الغرب دارفور وكردفان وحركة النزوح ، وإنعدام الوظائف مما حدي بالكثيرين للعمل إما في المهن الهامشية ، أو الإستخدام للعمل في المنازل ، أو حتي المهن غير القانونية في الدعارة وبيع الخمور وغيرها ، كل هذا من مظاهر الدولة العُنصرية في السُودان ، خاصة مع تفشي الفقر وسط هذه المجموعات السُكانية ، وكان طبيعي تمدد الجريمة ، وعمليات السطو والسرقة ، فزاد بطش مؤسسات الدولة الأمنية سواء في الشرطة أو الامن والمُلاحقات ، بما عُرف “بالكشات” ، وكان يتم إستهداف بناء علي الهوية خاصة لابناء وبنات الجنوب ودارفور وجنوب كرفان وجبال النوبة ، مع ملاحقات للنساء من تلك المناطق وكافة أنواع المُعاملة القاسية وغير الآدمية والعنيفة والإعتداءات والإنتهاكات المتكررة لدرجة الإغتصابات والتنكيل وغيرها ، كُل هذه المُمارسات ظلت موجودة وتمثل سلوك الدولة وليس أفراد فيها؟؟؟
النتيجة التي أود الوصول إليها من خلال هذه المقالات هو التاريخ العُنصري للدولة في السُودان مابعد الإستقلال ، من خلال إستعراض نموذج مؤسسة الجيش والقوي الأمنية والشُرطية والمليشيات التي صنعتها الدولة أو ساهمت في إنتاجها وعلي رأسها مليشيات الكيزان والجنجويد والدعم السريع ، خاصة في أوقات الحروب التي أشعلوها ، ومن خلال التعامل حتي مع الخصوم السياسين وفق الدوافع القبلية والإثنية والعُنصرية ، وآثارها السئية علي السُودان حاضراً ومستقبلاً إن لم نستطع وضع حد لهذا العُنف العنصري المُمنهج ، خاصة في ظل إنتشار التشظي الإجتماعي و خطابات الكراهية وتمدد الروح الإثنية والقبلية ، وسنحاول المواصلة في إتجاهات جذور المشكلة وصولاً للمُعالجات والحلول التي تُسهم التعافي لبلادنا وإنتهاء الحروب والصراعات ، و في تماسكها وإستقرارها و إستتباب الأمن والأمان والسلام فيها و في وحدتها وتقدمها…..
ونواصل…