بمشاركة ١٨٥ دولة، هاكاثون ناسا لتطبيقات الفضاء في صور
تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT
محمد قراطاس يكتب: الأعشى وشيطانه مسحل
أثير – الشاعر محمد قراطاس
تنتشرُ في كتب التراث قصص وروايات عن الشعراء وشياطينهم في العصر الجاهلي، وتظهر في العصور الاسلامية أحياناً، بل وحتى عصرنا الحالي في بعض الثقافات الشعبية. لكن العصر الجاهلي كان ربما الأكثر تداولاً لهذه القصص.
فمجمل الشعراء الذين كانوا يحتلون الأسماع في ذلك العصر يُتهمون أو يشيعون أو يعترفون بوجود شياطين تلقنهم هذه القصائد المذهلة.
وهذه المناصب هي: سيد القبيلة وكاهنها وشاعرها وفارسها. وأكثر الأدوار تقارباً هما الكاهن والشاعر، واللذان يستمدان قوتهما من قوى خارجية، تتمثل بالجن للكاهن وبالشياطين للشاعر. لذلك قد نجد شخصاً واحدا يحمل اللقبين مثل دريد بن الصمّة والذي كان شاعراً وكاهناً. وهاتان الشخصيتان لديهما أهمية كبيرة جداً سواءً داخل القبيلة أو خارجها.
ولذلك حظي الكاهن والشاعر بشهرة منقطعة النظير. فالكاهن يخبر بما سيكون ويتنبأ بالمستقبل عن طريق معاونيه من الجن، ويلقى اللعنات على الأعداء والبركات على الأصدقاء. وكذلك الشاعر الذي يستعين بالشياطين لإبداع قصائد هي بمثابة الخبر العاجل والحصري في عصرنا الحالي. فهو المصدر الإعلامي الضخم والذي من خلاله يمكن للقبائل أو الأفراد الوصول إلى مبتغاهم سواء مدحاً يخلدهم أو ذماً لأعدائهم فيدمرون سمعتهم.
ولكن هل فعلا استعان الشعراء بالشياطين؟ طبعا هذا سؤال يحتمل الكثير من الإجابات. لكني شخصياً أعتقد أن الشعراء يدّعون ذلك فقط لإعطائهم هالة من القدسية والحماية، وفي تلك العصور فإن امتلاكك لقوى خارجية شيطانية تساعدك في صياغة القصائد يعني أن بإمكانها فعل الكثير غير الشعر. لذلك فالشاعر يحتمي خلف تلك الأسطورة من الذين يريدون قتله أو إيذاءه بسبب قصيدة شعرية، ويحصلُ على الحرية المطلقة في قول مايشاء في من يشاء.
ولذلك حسب رأيي لم يتجرأ الملك عمرو بن هند ملك الحيرة على قتل الشاعر طرفة بن العبد في بلاطه، بل أوعز في رسالة أعطاها لطرفة إلى عامله في البحرين بقتله، لتبتعد لعنة هذا الشاعر وشيطانه عن بلاطه قد الإمكان.
ومن أشهر الأخبار التي تحدث فيها الشاعر معترفا بمقابلته شخصياً للشيطان الذي يلقي لسانه الشعر والقصائد. قصةٌ تحدث فيها الأعشى عن ذلك، مؤكدا وجود شيطانه.
يقول الأعشى أنه كان في طريقه ليمدح ملوك حضرموت، فظلّ عن الطريق وداهمه المطر فرأى خيمة أو خباء فلجأ له، فوجد رجلا رحب به. وسأله الرجل عن أمره فأخبره بإسمه وعن سبب سفره إلى حضرموت، فقال له ماذا قلت في مدح قيس ابن معد يكرب؟ فبدأ الأعشى بإنشادها فلم يتعدى البيت الأول الذي يقول فيه
(رحلت سمية غدوة أجمالها) حتى أوقفه الرجل!، ونادى يا سمية، فخرجت فتاة في مقتبل العمر، فأمرها أن تنشد القصيدة التي قالها هو أيضا في مدح قيس، فألقت نفس القصيدة التي كان سيلقيها فما خرمت فيها بيتاً كما يقول الأعشى مع أنه لم يخبر بها أحداً. فسرى الخوف فيه.
فقال له الرجل ألست قلت شعراً في ابن عمك تهجوه؟ قال نعم فطلب منه أن ينشدها، فأنشدها وما كاد ينتهي من البيت الأول
ودع هريرة إنّ الركب مرتحلُ
حتى أوقفه الرجل ونادى يا هريرة، فخرجت فتاة في نفس عمر الأولى. فقال لها أنشدينا ما قلته في ذم فلان. يقول الأعشى فأنشدت قصيدتي كاملة لم تخرم منها بيتاً.
ففزع الأعشى وأخذه خوف شديد، فقال له الرجل لاتخف وأخبره أنه شيطانه مسحل بن أثاثة الذي يلقي على لسانه الشعر.
يقول الأعشى فسكنت نفسي، وسألته عن الطريق فدلني عليه.
القصة هنا قد تكون من وحي الخيال، لكنها حسب رأيي تدلّ على أنّ الشعراء في ذلك العصر يطلبون الحماية والقدسية التي يتمتّع بها الكهان فيخافهم الناس ويزداد نفوذهم وتتسع حريتهم في الشعر.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
صنعة بلا منفعة
سقط من يدي الأسبوع الماضي كتاب قيِّم مجلَّد بواسطة إحدى المكتبات الشهيرة. تذكرت أن التجّليد مهنة نادرة حتى قال أهل الكتب أنك إذا جلَّدت كتاباً، وتريد أن تتأكد من إتقان التجليد، فاقذف به على الأرض. فإن بقي متماسكاً لم يتناثر ورقه، علمت أن الذي جلَّده قد أحسن وأجاد في صنعة التجليد. وكنت أعرف من كبار المثقفين، من كان يحرص على تجليد محتويات مكتبته كلها مهما كلف الأمر.
وقد مررت بتجربة عجيبة وحزينة في ذلك. فقد استشارني صديق عزيز عمن يجلد له نحو مائة نسخة من إحدى الجرائد. فسألت حتى اهتديت إلى شخص ذي خبرة في هذا المجال. وجمعت بينه وبين الصديق لكي يتفقا على الوقت والأتعاب. وقبل أن يبدأ العمل، قال إنه مستعد أن يجلد مئتي نسخة من أي جريدة بالمجان كي يثبت لنا أنه أهل لهذه المهمة. ولما أنجز تجليد هذه النسخة وثق فيه صديقي وسلمه الجرائد. واتفق الاثنان على إنجاز العمل خلال أسبوعين. أما أنا فقد سلمته بضعة كتب نفيسة من مكتبتي كي يجلِّدها ولكن بعد إكمال تجليد جرائد صديقي.
مرت ثلاثة أسابيع، وراجعته، فاعتذر أنه كان مشغولاً. وبعد شهر قال إنه يريد لقاء الصديق. فرتبت له اللقاء الذي كرر فيه الاعتذار بأنه لم يبدأ العمل بعد. ولما مضى نحو شهرين على الموعد، اتصلت به، فقال إنه لم يفعل شيئاً، وإنه يريد لقاء ثالثاً مع الصديق. قلت له: وما الفائدة من المقابلات دون إنجاز ما وعدت؟ فغضب وأرعد وأزبد. ولما مر الشهر الثالث دون الوفاء بالوعد، قال لي الصديق: قل له يعيد الجرائد. لكنه تعلل بأنه يريد مزيداً من الوقت. وفي الشهر الرابع اتصلت به فقال إنه لا زال يعمل على تجليدها. فانتظرت أسبوعا إضافيا وأخيرا ذهبت إلى منزله. وأعطاني الجرائد وقد وضع الغراء عليها لتجليدها. فسلمتها لصديقي.
واتصل بي الصديق -رحمه الله- وقال لي إن الرجل قد عبث بالجرائد وإن تواريخها تداخل بعضها في بعض. واضطر لأخذها الى القاهرة حيث يوجد أهل صنعة التجليد. ولكن الورّاقين في القاهرة قالوا له بعد الكشف على الشحنة إن الغراء الذي استخدمه المجلد في جدة، كان كثيفاً بحيث لم يستطيعوا تفكيك الجرائد وإعادة ترتيبها حسب التسلسل التاريخي. فقال لهم: جلدوها كما هي.
وبعد ثلاث أو أربع سنين، رأيت الرجل داخلاً إلى مقر الجريدة التي كنت أعمل بها، فرحبت به كأن شيئا لم يكن، وأوصلته إلى القسم الذي يريد. وكنت أتوقع أن يفاتحني في الكتب الستة أو السبعة التي سلمته إياها وهي من عيون مقتنياتي. ولكنه لم يذكرها. ولم يذكر الرجل الذي أفسد جرائده ولو بالتحية.
قال الشاعر:
قد عشت تفجع بالأحباب بعدهمْ
وفناء نفسك لا أبا لك أفجعُ