بأكثر من مائة عمل ووثيقة، تُجمع للمرة الأولى في مكان واحد، يُعاد الفنان حسين قاسم السني (1938-1998) إلى الحياة إرثًا فنيًا متمثلًا في اشتغالاته التي نفذها بمختلف مراحل حياته الفنية، منذُ البواكير الأولى، وحتى لوحاته الأخيرة. عقودٌ من الاشتغال التشكيلي الكاشف عن مدى الحلم، والشغف، والسعي لمواكبة الحركات الفنية الحديثة، أوجزها معرض عُنون بـ «حسين السني.

. معرض استعادي»، وهو كوضوح تسميته، استعادة للتركة الفنية للراحل، مقدمةٌ بين يدي المتلقي لإلقاء نظرةٍ شاملة على أحد رواد الحركة التشكيلية في مملكة البحرين. المعرض الذي نظمته «هيئة البحرين للثقافة والآثار»، واحتواه «متحف البحرين الوطني»، انطلق في الأول من أكتوبر 2023، ليستمر حتى اليوم ما قبل الأخير من العام الجاري، كاشفًا عما ما وراء هذا الاسم الفني البارز في تاريخ الحركة الفنية، والذي بزغ باشتغالاته بعد منتصف القرن الماضي، بمعية صحبه من الفنانين الرواد الذين كان لهم الدور الكبير في خلق الحركة التشكيلية وتأسيس لبناتها الأولى، لتأخذ منحىً رياديًا على مستوى الخليج العربي، عبر اشتغالات فنية بسيطة، تطورت على الصعيد المعرفي، وعلى صعيد الاشتغال في الفضاءات العامة التي حولت إلى محترفات، إلى جانب التنظيم المتمثل في تأسيس الجماعات الفنية والجمعيات.

إرث السني.. نظرة شاملة بحق
المعرض الذي أعدّ باحترافية واتقان على يد فريق من «هيئة الثقافة»، وبتعاونٍ من عائلة الفنان الراحل، يجلي ما جاء في بيانه، بوصفه «أول استطلاع متحفي متخصص للفنان، والمعرض الأكثر شمولًا لأعمال السني»، إذ بذل الفريق جهدًا بينًا في جمع أعمال الراحل، ومحاولة توثيقها، والعمل على ترميم بعضها، والحرص على تمثيل مختلف محطاته الفنية، بالإضافة لعرض بعض اللوحات النادرة التي لم يسبق عرضها، وعدد من الوثائق، والصور الفوتوغرافية والشخصية، والكتب الخاصة، والمطبوعات، والمواد الأرشفية المتعددة...
الأمر الذي يبرر للمعرض أن يقول عن نفسه، كما جاء في بيانه، «نظرةٌ شاملة»، عززها بفيلم وثائقي قصير، يسجل شهادات أصدقاء السني وأقرانه من الفنانين والكتاب: الفنان عبدالكريم العريض، والشاعر حسن كمال، والدكتور محمد الخزاعي، والفنان عبدالرحيم شريف، وأحمد النشابة، ليمر من خلال شهاداتهم على نشأته، ومسيرته الفنية، وأبرز محطاته، واشتغالاته.
السني.. متقدمًا في زمن الشحّ
إن التجوال في أروقة المعرض، كفيلٌ بإدهاشك بمديات البراعة الفنية، ممزوجة بفجائية تنوع ما أبدع هذا الفنان، المولود في ثلاثينيات القرن الماضي، وتحقيقه هذا الكم من التقدم على المستوى الفني، والجرأة في التجريب.. فأعمال السني لا تقل أهمية عن تلك الأعمال التي قدمت في أمكنة تحظى بتاريخٍ تشكيلي عريق، يعود لقرون، فيما هي في البحرين وليدة زمانه. تكشف الأعمال الفنية المعروضة عن الانتقالات الفنية التي حققها السني على مدى سنوات من الاشتغال؛ بدءاً بالبواكير المتمثلة في الاشتغالات الانطباعية الواقعية، التي تعكس البيئة البحرينية وحياة أُناسها، وهي اشتغالات متقاربة لدى جيل الرواد، مروراً بالتجريب الذي أفضى إلى اشتغالاتٍ تكعيبية، وتجريدية جزئية، وسريالية، وتنقيط، وتجريد مطلق، وتجريد هندسي، وحروفية، وتعبيرية... هذه الانتقالات تفصح عن شخصية طامحة، لا يبدو بأنها ارتكنت لواقعها الشحيح فنياً آنذاك، بل كانت تتطلع إلى مجارات الفن العالمي، بما فيه من حركات ومدارس، وصولاً إلى الحداثة الفنية.

وتميز السني خلال كل ذلك، بتقنياته الفنية، التي أسسها برؤىً متعددة، منها الواقعية، ولمسات مما ينتمي إلى الرومانسية. كما يجد المتلقي شيئاً من الوحشية، عبر الكيانات البسيطة، والكائنات المجردة، وربما اتجهت بعض الاشتغالات نحو المستقبلية، وهو ما تشي به بعض الأعمال. ما يجعل الحديث عن السني، حديث عن فنانٍ متعدد، صُقلت موهبته منذُ البواكير الأولى، على يد أخيه الفنان أحمد السني، ووسط منطقة ولادةٍ للفنانين، مسقط رأسه (رأس الرمان). هذا إلى جانب ما سيصير إليه من تكوين أكاديمي، عبر دراسة الفنون في بغداد على يد كبار الفنانين العراقيين آنذاك، وما تحقق له من بيئة تنافسية واحتكاكية مع أقرانه من الطلبة، الذين تحولوا فيما بعد لفنانين كبار، كما يشير الفنان عبر الرحيم شريف في جزء من الوثائقي.
تعزز ذلك بما كان لدى السني من شغف اطلاع وقراءة ومتابعة للحركات الفنية، وربما يستغرب جيل الإنترنت، أن يكون فناناً من عصر ما قبل الإنترنت بعقود، ورحل قبل شيوعه بسنوات، على اطلاع واسع بمختلف التوجهات الفنية، لينتج أعمالاً لا تقل حرفية عما أُنتج في الغرب، كما أشرنا سلفاً، ويؤكد ذلك ما مارسه من اشتغال تجريبي قاده لتوليد اشتغالات متعددة المدارس، حتى المتأخرة منها، كما في أعماله التي توحي على تأثر واضح بالفنان (فاسيلي كاندينسكي)، والتي تمتاز بتسطيح الشكل الثنائي البعد، والافتقار للظل، ولطافة اللون. كذلك عمله على اشتغالات تجريدية هندسية، مقاربة لأعمال (بيت موندريان)، حيثُ العناصر البسيطة، المكونة من الخطوط والألوان. وأعماله التنقيطية التي تقارب اشتغالات (جاكسون بولوك)، بوصفها تعبيرية تجريدية.
ولم يهمل السني في اشتغاله الجانب الشرقي، المستوحى من الفن الإسلامي، إذ مارس الحروفية، وقدم فيها اشتغالات لتكييف الخط العربي الحر في العمل الفني. هذا إلى جانب التجريب على خلق أسلوب خاص، ومن كل ذلك نخلص إلى ما أشارت إليه بعض اللوحات التعريفية، التي لفتت إلى أن السني حقق «تعمقاً في حقل الألوان والتكوينات اللونية... قدم خلالها عدداً كبيراً من الصور والعواطف».
إعادة الروح..
إلى جانب الاشتغالات الفنية، احتوى المعرض على مساحة معاد تمثيلها لغرفة الفنان السني، ومحترفه، وضمت إلى جانب أدوات اشتغاله، وكتبه، ولفافات الكانفس، عملاً غير مكتمل للراحل... أما معروضات الوثائق فضمت مجموعة من الشهادات، والصور، والكتابات، ومشاريع الأعمال المدونة...
كما عرضت قُصاصة لحوار أُجري معه في زاوية الأدب والفنون بجريدة «الخليج العربي»، جاء فيها، في سياق الحديث عن تأثره الفني، آنذاك، إذ قال «أنا الآن متأثر بالمدرسة السريالية التي تزعم قيادتها (دالي)، بعد الحرب العالمية مباشرة، وهي تمثل التعبير عن الأشكال التي تنطبع في الذهن لما وراء الطبيعة. أما في السابق، فقد كنت متأثراً بالمدرسة الانطباعية التي نشأت في أواخر القرن التاسع عشر، ويمثلها (سيزان، و بيسارو، ومانيه، وفان جوخ، و غوغان)».
تكشف هذه القصاصة مدى تأثر السني بالفنانين الغربيين، كما تجلي ذلك اشتغالاته، وعلى الرغم من هذا التأثر الكبير، إلا أنهُ لم يُهمل (محلنة) اشتغالاته على اختلاف توجهاتها الفنية، ذلك من خلال الأنماط المخبأة في اللوحة، تلك التي تستدعي تأملاً متروياً لإماطة اللثام عنها؛ فالعديد من لوحاته، تحمل جانباً عبقرياً في قدرته على جعل تلك الأنماط خفية على الناظر المتعجل، بينما تتجلى شيئاً فشيئاً للناظر المتأمل.

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا إلى جانب

إقرأ أيضاً:

«التماثيل الميدانية في مصر» على مائدة مستديرة بمعرض الكتاب

استضافت قاعة المؤسسات اليوم الأحد، ضمن فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56، المائدة المستديرة السابعة تحت عنوان «التماثيل الميدانية في مصر» حيث حضر الجلسة نقيب التشكيليين؛ الفنان والنحات طارق الكومي، والنحات المصري عمر طوسون، بالإضافة إلى مجموعة من الفنانين المصريين والمهتمين بمجال الأعمال الميدانية.

وافتتح الفنان عمر طوسون الجلسة؛ بشرح مفهوم العمل الميداني، موضحًا أن ليس كل تمثال ضخم يُعتبر تمثالًا ميدانيًا؛ كما أشار إلى أن هناك تصنيفات عدة تشمل الأعمال الميدانية؛ والأعمال التذكارية، وقدم توضيحًا لبعض المعتقدات الخاطئة حول هذا النوع من الأعمال الفنية؛

كيفية بدء فكرة العمل الميداني في مصر القديمة

واستعان طوسون؛ بمجموعة من الصور التوضيحية؛ لشرح كيفية بدء فكرة العمل الميداني في مصر القديمة؛ ومن أبرز الأمثلة التي عرضها تمثال محمد علي؛ والذي أُقيم عام 1872م؛ في عصر الخديو إسماعيل، حيث تناول كيف تم تجسيد وفاة محمد علي في الحرب عبر التمثال، على عكس تمثال إبراهيم باشا؛ بن محمد علي؛ الذي يُعرف بـ أبو أصبع، حيث يعبر الحصان في هيئته المستقرة عن الطريقة الطبيعية لوفاته؛ كما تطرق إلى تمثال سليمان باشا، مؤسس الجيش المصري في عصر محمد علي، الذي كان واحدًا من الأعمال التي هُدمت بسبب تغير أنظمة الحكم، ليُقام مكانه تمثال طلعت حرب للفنان فتحي محمود.

وقدّم طوسون؛ أيضًا؛ مجموعة أخرى من الأعمال الفنية الميدانية التي تضم الصروح الأولى في معبد الكرنك، تمثال عمر مكرم؛ للفنان الراحل فاروق إبراهيم، والنصب التذكاري للجندي المجهول في مصر؛ للفنان سامي رافع، وهو عمل جامع ما بين كونه صرحًا؛ وعملًا ميدانيًا.

تمثال نهضة مصر

كما تحدث الفنان طارق الكومي؛ عن تمثال نهضة مصر؛ للفنان محمود مختار، الذي يُعد أول نحات مصري يصمم عملًا ميدانيًا في مصر؛ حيث حجم التمثال يبلغ 8 متر، بينما يصل حجم قاعدته إلى 11 مترًا؛ وأكد الكومي؛ أن تمثال نهضة مصر؛ يُعد رمزًا للحضارة المصرية ويمثل العمل الميداني الدائم؛ كما تناول الحديث؛ كذلك؛ تمثال إبراهيم بك؛ الذي صمم معه الفنان الكومي جداريتين لمعركة عكة ومعركة نزيب؛ وبسبب تحفظ الأتراك على الجداريتين، لم يتمكن الفنان من عرضهما، رغم محاولات الحكومة المصرية الحصول عليهما بعد وفاته.وفي سياق الحديث عن إشكالية هدم الأعمال الميدانية؛ والمباني ذات المكانة الأثرية المهمة، تطرق طوسون؛ إلى قضية هدم منزل؛ كوكب الشرق أم كلثوم، الذي صمم له الفنان طارق الكومي؛ تمثالين؛ أحدهما بتصميم حديث؛ والآخر بتصميم كلاسيكي.

مقالات مشابهة

  • «التماثيل الميدانية في مصر» على مائدة مستديرة بمعرض الكتاب
  • محافظة جدة تستضيف الأربعاء القادم معرض ومنتدى الأعمال “صُنع في باكستان 2025” في نسخته الأولى
  • ماجدة إبراهيم تشارك بمجموعتها القصصية «الرقصة ‏الأخيرة» في معرض الكتاب
  • ‏«الشعر الآن.. مشكلات ومساءلات».. معرض الكتاب يجمع ‏شاعرين من إنجلترا وكندا
  • "الشعر الآن.. مشكلات ومساءلات".. معرض الكتاب يجمع شاعرين من إنجلترا وكندا
  • الشعر الآن.. مشكلات ومساءلات.. معرض الكتاب يجمع شاعرين من إنجلترا وكندا
  • جنسيات الركاب الـ6 بطائرة رجال الأعمال الخاصة التي سقطت وانفجرت في فيلاديلفيا
  • عميد معهد الفنون المسرحية: الأعمال الفنية تقوم بدور هام وقت الأزمات
  • مفاجأة وراء سبب وفاة شقيق مصطفى شعبان.. والده يكشف "تفاصيل" ساعاته الأخيرة
  • تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة شقيق الفنان مصطفى شعبان.. سهر مع أهله حتى الثانية صباحا