الوطن:
2025-03-31@08:33:47 GMT

أحمد بهاء الدين يكتب: مصر تنهى غربتها

تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT

أحمد بهاء الدين يكتب: مصر تنهى غربتها

شاء لى الحظ أن تقع الحرب فى بلادى مرتين وأنا بعيد عنها:

سنة 1967: فى باريس

سنة 1973: فى بيروت

غربة قاسية فى الحالتين، ووحشة لا يعرفها إلا من يكابدها، وإن كان شتان بين الغربتين، فالغربة الثانية انتهت بها الغربة كلها.

سنة 1967 كانت الغربة ليست بمعناها الجغرافى فقط، ولكن بمعناها الروحى والمعنوى، غربة طالت وطالت، فلم أعد -ولم نعد جميعاً منها- إلا ظهر السبت 6 أكتوبر 1973، ساعتها زالت غربتى، وأنا ما أزال بعيداً فى بيروت، تفصلنى عن بلدى بحار وأخطار، وزالت غربة 35 مليون مصرى، بل ومائة مليون عربى، كما تنقشع السماء كلها فى لحظة واحدة.

سنة 1967، فى باريس، كانت غربتين.

غربة المكان البعيد، والعداء الذى تلمسه من الناس، والشماتة التى تملأ رائحتها الجو، وتحس مذاقها حتى فى لقمة الخبز: غربة أن أرى باريس تحتفل حتى الفجر بسقوط القدس، وتمر المواكب فى شوارعها خلال النهار هاتفة لاحتلال سيناء، ولا توجد جريدة أو إذاعة أو شاشة تليفزيون إلا وتطل منها صورة لعدو منتصر، أو مصرى قتيل أو أسير.. كنت أخفض رأسى متحاشياً أن تلتقى عينى بعينى السيدة التى تصعد إلى غرفتى صباحاً بفنجان القهوة.. فإلى جوار فنجان القهوة صحف الصباح بعناوينها المذلة المهينة الشامتة..

كان ابنى الطفل قد طلب منى أن أشترى له لعبة مدفعاً رشاشاً، فوصلت إلى باب المحل ثم عُدت على أعقابى: كم ستسخر منى البائعة فى محل لعب الأطفال؟ كم ألف قصة صغيرة، مريرة، يمكن أن أحكيها وأرويها؟

على أن غربة المكان كانت الغربة الصغيرة، فهى تنتهى بالعودة إلى الوطن، ولكن الغربة الكبرى كانت قد بدأت، سبع سنوات والفرد فيها غريب، والوطن فيها غريب، ليس هذا أنا.. ليست هذه مصر، ليست هذه هى الأمة العربية، العالم كله كأنه غير حقيقى، إننى أعرف ما ينقص بلادى تماماً.. وأعرف أننا من البلاد التى تحاول أن تزيح تركة تخلف طويل، ولكننى أعرف أيضاً، وبكل موضوعية غير عاطفية، أن مصر تستحق شيئاً آخر غير هذه الغربة القاتلة عن نفسها وعن عصرها.

المتعلمون فى مصر وحدها أكثر من عدد إسرائيل جميعاً.. التنوير والتطور والاتصال بالعالم عندنا عمره يقرب من قرنين.. بلادنا حافلة بالفنيين والخبراء والمثقفين والعقول من أرقى طراز، وقد أثبتوا جدارتهم فى مواقع شتى من العالم، وحافلة فوق ذلك بالشجعان، وفى أرضها بئر لا قرار لها من حب الوطن وتركة الكفاح ورفض الذل والعناد، وضباطنا وجنودنا ليسوا أقل كفاءة ولا بسالة من كفاءات هذا الوطن.

كانت هذه هى الغربة الكبرى.. وما هى الغربة؟ أليست هى ألا تتعرف على نفسك، ولا على من حولك، أو ما حولك، ولا على وطنك وأمتك؟ أن تكون عواطفك فى عقلك وقلبك صورة وملامح حفرها التاريخ وعمقتها العاطفة والمعرفة معاً، ثم تنظر باحثاً عن هذه الملامح فلا تتعرف عليها.

6 أكتوبر 1973: فى بيروت وبينى وبين بلدى الذى يحارب -بإرادته هذه المرة- بحار وصحراوات.. ولكن الغربة زالت، لقد تم التعرّف من جديد على النفس، فالمسافة الجغرافية لا تهم، والمعركة ليست بعيدة عن بيروت، ومن النوافذ ترى المعارك الجوية والطائرات تسقط فى البحر، ولكن الفرد منا يمشى رافعاً رأسه، فأخبار مقاتلينا تطل -منتصرة هذه المرة- من كل صحيفة وإذاعة وشاشة تليفزيون، بل ومن فم كل بائع سجائر أو سائق تاكسى بيروتى وأنفاس القتال البطولى فى سوريا الملاصقة تحس بحرارتها وتكاد تلمسها وأنت تسمع أخبارها من شهود العيان.

وتكون الرحلة إلى القاهرة تحصيل حاصل.. فهى إنهاء شكلى للغربة التى زالت من الناس ومن الضمير.. ساعات الطائرة إلى بنغازى: ثم أربع وعشرون ساعة متواصلة بالسيارة عبر الصحراء إلى القاهرة تدفعها لهفة واحدة: أن أرى وجه قاهرة أكتوبر 1973، حتى تزول من خاطرى صورتها يوم عُدت من باريس فى يونيو 67 ذات أمسية حزينة.

لقد أنهى الرئيس السادات غربتنا الكبيرة بقرار أكتوبر 1973.. قرار ربما كان كلمة واحدة ولكنه خلاصة لكل الآلام العظيمة والآمال الكبيرة المختزنة منذ سبع سنوات.. وقد أنهت قواتنا المسلحة غربتنا بالطريقة الفذة التى نفّذت بها القرار.. إنهم هناك تحت اللهب والنار وكأنهم حملوا الغبار الثقيل إلى العدو: السماء تنقشع كلها فى لحظة واحدة عن وجه مصر الحقيقى.

«الأهرام» - 15 أكتوبر 1973

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: حرب أكتوبر حرب الاستنزاف ملحمة العبور خط بارليف الجيش الذي لا يقهر أکتوبر 1973

إقرأ أيضاً:

الداخلية السورية: العثور على أسلحة ومتفجرات بحمص كانت معدة لتنفيذ عمليات إرهابية

الداخلية السورية: العثور على أسلحة ومتفجرات بحمص كانت معدة لتنفيذ عمليات إرهابية

مقالات مشابهة

  • السيد الرئيس أحمد الشرع في كلمة بمناسبة عيد الفطر المبارك بقصر الشعب: سوريا يكتب لها تاريخ جديد وأمامنا طريق طويل وشاق، وكل مقومات البناء نملكها على كل المستويات، وما يتطلب منا ان نعمل ولا نختلف.
  • صحة غزة: جثامين المسعفين كانت مقيدة وبها طلقات في الصدر
  • مصادر طبية: جثامين مسعفي الهلال الأحمر كانت مقيدة ودفنت بحفرة عميقة
  • جهاد حسام الدين ينكشف سرها في الحلقة الرابعة عشر من ظلم المصطبة
  • "حين يكتب الحب".. أحمد الفيشاوي يعود بتجربة سينمائية جديدة
  • الداخلية السورية: العثور على أسلحة ومتفجرات بحمص كانت معدة لتنفيذ عمليات إرهابية
  • في مبادرة الأولى من نوعها.. نساء المنيا يصنعن الخبز البتاو للأسر الأكثر احتياجًا محبة في الله.. سيدات بلنصورة: ولادنا ملقيوش اللقمة في الغربة وربنا سخر لهم اللي ساعدهم وكان لازم نرد الجميل لله| صور
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: مقتل قرنق
  • الإسكندرية تنهى استعدادات استقبال عيد الفطر.. وتعامل فوري مع الطوارئ
  • الرئيس السيسي يوفد مندوبا للتعزية في وفاة زوجة الراحل أحمد بهاء الدين