الوطن:
2024-07-03@20:58:19 GMT

أحمد بهاء الدين يكتب: مصر تنهى غربتها

تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT

أحمد بهاء الدين يكتب: مصر تنهى غربتها

شاء لى الحظ أن تقع الحرب فى بلادى مرتين وأنا بعيد عنها:

سنة 1967: فى باريس

سنة 1973: فى بيروت

غربة قاسية فى الحالتين، ووحشة لا يعرفها إلا من يكابدها، وإن كان شتان بين الغربتين، فالغربة الثانية انتهت بها الغربة كلها.

سنة 1967 كانت الغربة ليست بمعناها الجغرافى فقط، ولكن بمعناها الروحى والمعنوى، غربة طالت وطالت، فلم أعد -ولم نعد جميعاً منها- إلا ظهر السبت 6 أكتوبر 1973، ساعتها زالت غربتى، وأنا ما أزال بعيداً فى بيروت، تفصلنى عن بلدى بحار وأخطار، وزالت غربة 35 مليون مصرى، بل ومائة مليون عربى، كما تنقشع السماء كلها فى لحظة واحدة.

سنة 1967، فى باريس، كانت غربتين.

غربة المكان البعيد، والعداء الذى تلمسه من الناس، والشماتة التى تملأ رائحتها الجو، وتحس مذاقها حتى فى لقمة الخبز: غربة أن أرى باريس تحتفل حتى الفجر بسقوط القدس، وتمر المواكب فى شوارعها خلال النهار هاتفة لاحتلال سيناء، ولا توجد جريدة أو إذاعة أو شاشة تليفزيون إلا وتطل منها صورة لعدو منتصر، أو مصرى قتيل أو أسير.. كنت أخفض رأسى متحاشياً أن تلتقى عينى بعينى السيدة التى تصعد إلى غرفتى صباحاً بفنجان القهوة.. فإلى جوار فنجان القهوة صحف الصباح بعناوينها المذلة المهينة الشامتة..

كان ابنى الطفل قد طلب منى أن أشترى له لعبة مدفعاً رشاشاً، فوصلت إلى باب المحل ثم عُدت على أعقابى: كم ستسخر منى البائعة فى محل لعب الأطفال؟ كم ألف قصة صغيرة، مريرة، يمكن أن أحكيها وأرويها؟

على أن غربة المكان كانت الغربة الصغيرة، فهى تنتهى بالعودة إلى الوطن، ولكن الغربة الكبرى كانت قد بدأت، سبع سنوات والفرد فيها غريب، والوطن فيها غريب، ليس هذا أنا.. ليست هذه مصر، ليست هذه هى الأمة العربية، العالم كله كأنه غير حقيقى، إننى أعرف ما ينقص بلادى تماماً.. وأعرف أننا من البلاد التى تحاول أن تزيح تركة تخلف طويل، ولكننى أعرف أيضاً، وبكل موضوعية غير عاطفية، أن مصر تستحق شيئاً آخر غير هذه الغربة القاتلة عن نفسها وعن عصرها.

المتعلمون فى مصر وحدها أكثر من عدد إسرائيل جميعاً.. التنوير والتطور والاتصال بالعالم عندنا عمره يقرب من قرنين.. بلادنا حافلة بالفنيين والخبراء والمثقفين والعقول من أرقى طراز، وقد أثبتوا جدارتهم فى مواقع شتى من العالم، وحافلة فوق ذلك بالشجعان، وفى أرضها بئر لا قرار لها من حب الوطن وتركة الكفاح ورفض الذل والعناد، وضباطنا وجنودنا ليسوا أقل كفاءة ولا بسالة من كفاءات هذا الوطن.

كانت هذه هى الغربة الكبرى.. وما هى الغربة؟ أليست هى ألا تتعرف على نفسك، ولا على من حولك، أو ما حولك، ولا على وطنك وأمتك؟ أن تكون عواطفك فى عقلك وقلبك صورة وملامح حفرها التاريخ وعمقتها العاطفة والمعرفة معاً، ثم تنظر باحثاً عن هذه الملامح فلا تتعرف عليها.

6 أكتوبر 1973: فى بيروت وبينى وبين بلدى الذى يحارب -بإرادته هذه المرة- بحار وصحراوات.. ولكن الغربة زالت، لقد تم التعرّف من جديد على النفس، فالمسافة الجغرافية لا تهم، والمعركة ليست بعيدة عن بيروت، ومن النوافذ ترى المعارك الجوية والطائرات تسقط فى البحر، ولكن الفرد منا يمشى رافعاً رأسه، فأخبار مقاتلينا تطل -منتصرة هذه المرة- من كل صحيفة وإذاعة وشاشة تليفزيون، بل ومن فم كل بائع سجائر أو سائق تاكسى بيروتى وأنفاس القتال البطولى فى سوريا الملاصقة تحس بحرارتها وتكاد تلمسها وأنت تسمع أخبارها من شهود العيان.

وتكون الرحلة إلى القاهرة تحصيل حاصل.. فهى إنهاء شكلى للغربة التى زالت من الناس ومن الضمير.. ساعات الطائرة إلى بنغازى: ثم أربع وعشرون ساعة متواصلة بالسيارة عبر الصحراء إلى القاهرة تدفعها لهفة واحدة: أن أرى وجه قاهرة أكتوبر 1973، حتى تزول من خاطرى صورتها يوم عُدت من باريس فى يونيو 67 ذات أمسية حزينة.

لقد أنهى الرئيس السادات غربتنا الكبيرة بقرار أكتوبر 1973.. قرار ربما كان كلمة واحدة ولكنه خلاصة لكل الآلام العظيمة والآمال الكبيرة المختزنة منذ سبع سنوات.. وقد أنهت قواتنا المسلحة غربتنا بالطريقة الفذة التى نفّذت بها القرار.. إنهم هناك تحت اللهب والنار وكأنهم حملوا الغبار الثقيل إلى العدو: السماء تنقشع كلها فى لحظة واحدة عن وجه مصر الحقيقى.

«الأهرام» - 15 أكتوبر 1973

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: حرب أكتوبر حرب الاستنزاف ملحمة العبور خط بارليف الجيش الذي لا يقهر أکتوبر 1973

إقرأ أيضاً:

رضا فرحات يكتب: الحكومة الجديدة.. رؤية واضحة وتحديات ملحة

فى ظل المرحلة التى تمر بها البلاد تقف الحكومة المصرية برئاسة الدكتور مصطفى مدبولى أمام فرصة تاريخية لتحقيق نقلة نوعية فى مسيرة التنمية والاستقرار لتُلبى احتياجات ورغبات المواطن المصرى الذى يستشعر ويدرك الرئيس عبدالفتاح السيسى مدى تحمّله فى وقت تتزايد فيه التحديات الداخلية والخارجية، وهو ما يتطلب وجود حكومة تتمتّع بالكفاءة والخبرة السياسية، تكون لديها القدرة على تنفيذ سياسات وأفكار جديدة، على أن تراعى الضوابط التى أعلن عنها الرئيس السيسى، فى الحفاظ على محدّدات الأمن القومى ومواصلة تحقيق الأمن والاستقرار والقضاء على الإرهاب وبناء الوعى الوطنى والثقافة وتقديم كل ما يدعم المواطن المصرى خلال المرحلة الجديدة المقبلة.

الحكومة الجديدة لديها عدة مهام، فى مقدمتها الملف الاقتصادى ووضع حلول لكل التحديات التى تواجه الاقتصاد المصرى حتى يكون على قدر تطلعات المواطنين الذين يعقدون الآمال على تلك الحكومة لتستكمل الطريق نحو الجمهورية الجديدة ووضع حلول مستدامة لمواجهة الغلاء وخفض معدلات التضخّم والفقر وتحسين مستوى معيشة المواطن وتحقيق التكامل فى ملفات الاقتصاد والزراعة والصناعة وزيادة التشغيل والإنتاج وحل مشكلات المستثمرين والصنّاع والمنتجين وتقديم كل التيسيرات والمحفّزات الاستثمارية لهم، وهو ما يُسهم فى جذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية والمحلية.

ومن الملفات الاقتصادية أيضاً التى يجب على الحكومة العمل عليها استكمال المشروعات القومية التنموية والتوسّع فى الاستصلاح الزراعى لتحقيق الأمن الغذائى وزيادة مساهمة القطاع الخاص فى الاقتصاد الوطنى وزيادة حصة استثمارات القطاع الخاص وزيادة الشراكة الاقتصادية بين مصر ودول القارة الأفريقية ودول البريكس واستكمال النجاحات فى مجال أمن الطاقة وتحويل مصر إلى مركز إقليمى للطاقة، بالإضافة إلى دعم وتعزيز الصناعة المحلية الوطنية خاصة الصناعات التحويلية والتكنولوجية وتوفير الدعم المالى والفنى للمصانع المحلية، بما يسهم فى زيادة الإنتاجية وتوفير فرص عمل جديدة، إضافة إلى التركيز على تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة ودعمها ببرامج تمويل وتقديم الدعم الفنى لتلك المشروعات وتسهيل الإجراءات اللازمة لتأسيسها وتوسيعها.

ومن الأولويات المهمة خلال المرحلة المقبلة أيضاً أمام الحكومة الجديدة حل مشكلة انقطاع الكهرباء والاهتمام بالاقتصاد الأخضر وتعزيز جهود مواجهة التغيّرات المناخية وتداعياتها، ووضع رؤية واضحة فى ما يتعلق بمشروعات الهيدروجين الأخضر والطاقة النظيفة وغيرها من المشروعات التى تُعزّز قدرة الدولة المصرية على مواجهة تداعيات التغيّرات المناخية والتوسّع فى استخدام مصادر الطاقة المتجدّدة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى وتقليل الانبعاثات الكربونية.

الحكومة الجديدة أمامها مهمة استكمال تنمية المشاركة السياسية، بما يدعم تطوير الأداء الحكومى ويُساند الدولة فى تحقيق أهدافها من خلال آلية الحوار الوطنى، باعتباره مظلة جامعة للحكومة والأحزاب والخبراء والسياسيين فى مختلف المجالات، ونحن مقبلون على انتخابات مجلسى النواب والشيوخ خلال العامين القادمين، فنحن فى حاجة إلى تعديل شكل النظام الانتخابى، خاصة أن لدينا انتخابات المحليات وتحديد الشكل الذى سيخرج عليه القانون وفتح المجال السياسى دون قيود غير مبرّرة من خلال تعديل القوانين والتشريعات لتوفير بيئة سياسية أكثر انفتاحاً وتعدّدية وفتح المجال أمام الشباب والمرأة للمشاركة الفعّالة فى الحياة السياسية وتشجيعهم على الانخراط فى الأحزاب السياسية والحركات المجتمعية.

أيضاً من بين الأولويات وضع نظام تعليمى قوى وفعّال من خلال تطوير المناهج الدراسية وتحديثها لتواكب التطورات العالمية واحتياجات سوق العمل والتركيز على منهج تنمية مهارات التفكير النقدى والإبداعى لدى الطلاب، بالإضافة إلى تأهيل المعلمين وتوفير برامج تدريبية مستمرة للمعلمين، لضمان قدرتهم على تقديم تعليم عالى الجودة والاستثمار فى مستقبل الأجيال القادمة بجانب الاهتمام بالتعليم الفنى لما له من أهمية كبيرة خلال المرحلة المقبلة وتخريج كوادر ماهرة تلبى احتياجات السوق المحلية والعالمية وإنشاء مراكز تدريب مهنية مجهزة بأحدث التقنيات لتدريب الشباب على المهارات المطلوبة.

بناء الإنسان والاهتمام بمجالات الصحة ورفاهية المواطنين على رأس قائمة الأولويات الرئاسية من خلال تطوير وتوفير الخدمات والرعاية الصحية الشاملة فى جميع أنحاء البلاد وزيادة الاستثمارات فى المستشفيات والمراكز الصحية لتقديم خدمات طبية عالية الجودة بالإضافة إلى توسيع نطاق التأمين الصحى الشامل، بما يضمن حصول الجميع على الرعاية الصحية اللازمة دون أعباء مالية كبيرة واستمرار الدولة المصرية فى مبادرة حياة كريمة فى القرى والنجوع، وتقديم الخدمات الحكومية وتوفير مظلات حماية اجتماعية والعمل على تطوير الخطاب الدينى المعتدل وتعزيز الوعى الوطنى من أجل ترسيخ المواطنة والسلام المجتمعى وتعزيز وحدة الصف الداخلى والتصدى لجميع المخاطر والتحديات.

إن مصر تحتاج إلى سياسات جديدة تدعم قوة الدولة فى مواجهة تهديدات الأمن القومى على كل الأصعدة لتنفيذ رؤية مصر نحو تحقيق التنمية المستدامة، وبما يدعم رؤية القيادة السياسية فى بناء الإنسان المصرى، ودعم حقوق المواطن ووجود خدمات تليق به وضرورة فتح الحكومة الجديدة خطوط تواصل مع الشعب لتحقيق رؤية 2030 ومستهدفات الدولة المصرية التنموية من خلال سياسات جديدة تحقّق إنجازات جديدة تخدم تطلعات المواطن المصرى وآماله نحو حياة ومستقبل أفضل.

فى الختام، نحن على أعتاب مرحلة جديدة، والطريق أمامنا ملىء بالعقبات، ويمكننا تجاوزها والوصول إلى مستقبل أكثر إشراقاً، ويجب توجيه الشكر للمواطن المصرى الذى تحمّل الكثير من أجل الوطن، وسيظل الرهان الحقيقى على وعى وإدراك المواطن للتحديات والصعوبات التى تواجه الدولة.

مقالات مشابهة

  • عادل حمودة يكتب: في صحة أحمد زكي
  • تعرف على الدكتور أيمن بهاء الدين نائب وزير التعليم
  • «رئيس جامعة السويدي للتكنولوجيا».. ننشر السيرة الذاتية لـ نائب وزير التعليم الجديد
  • السيرة الذاتية لـ أيمن بهاء الدين نائب وزير التربية والتعليم الجديد
  • من هو أيمن بهاء الدين البصال المرشح لنائب وزير التربية والتعليم بالتشكيل الوزاري الجديد؟
  • إكرام بدر الدين يكتب: ثورة الضرورة
  • رضا فرحات يكتب: الحكومة الجديدة.. رؤية واضحة وتحديات ملحة
  • إسلام الكتاتني يكتب: ثلاث ضربات في الرأس توجع
  • هشام عبدالعزيز يكتب: تغيير نحو مستقبل مستدام
  • «ملوك الجدعنة».. صاحب مطعم مصري يستضيف 3 أصدقاء تايهين في فرنسا