الوطن:
2024-12-26@14:21:12 GMT

محمد حسنين هيكل يكتب: محاولة تصور للموقف

تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT

محمد حسنين هيكل يكتب: محاولة تصور للموقف

كانت حالة اللاسلم واللاحرب قد طالت بأكثر مما هو لازم لأى شعب يريد أن يحتفظ بحيويته النضالية، ولكن القرار لم يكن سهلاً، خصوصاً أن الملابسات المحيطة بالعمل الوطنى فى مصر -وربما فى غيرها من بلاد العالم النامى كله- تضع مسئولية القرار على كتفى رجل واحد.

أى أنه بالنسبة لأنور السادات، فإن القرار كان مصيرياً، وفى الوقت نفسه فقد كان عليه أن يتخذه وحده.

وربما كان من حقه وواجبه أن يسمع وأن يناقش، لكنه فى النهاية كان مطالباً بأن يكون وحده، عقلاً وقلباً وضميراً، ثم يصل إلى القرار ويتحمل تاريخياً مسئوليته.

وأتذكر حواراً مع أنور السادات جرى فى مساء يوم الجمعة 21 سبتمبر الماضى فى شرفة استراحة برج العرب المطلة على البحر...

كان جالساً أمامى فى صمت لبعض الوقت، وكان فيما بدا يتأمل منظر غروب الشمس فى هذه البقعة الجميلة من شاطئ مصر الغربى، لكنه فجأة شد نظره عن مشهد الطبيعة المهيب ليقول لى:

- «إن القرار بالنسبة لغيرى تعامل مع الأفكار والتقديرات والاحتمالات، وأما بالنسبة لى فإن القرار تعامل مع الحياة والموت، والمسألة لا تتعلق بشخصى فقد عرفت الحياة وواجهت الموت، ولكنها تتعلق بألوف... مئات الألوف من الرجال سوف يأخذون الكلمة منّى... وفوق ذلك هناك كرامة ومستقبل وحياة أمة فى الميزان».

ولم أشعر أننى أحس بأزمة «الاختيار الإنسانى» كما أحسست بها فى تلك اللحظة. لكن ذلك كان دوره وكان قدره كما قال هو أكثر من مرة...

كان «اختياره» هو «القرار» وكان «القرار» هو التعبير عن «الإرادة» الوطنية والقومية..

وربما كان من الإشارات ذات المعانى أن أنور السادات بعد أن استقر قراره على أنه سوف يقبل أول تحدٍّ يقوم به العدو اختار لما سوف يقوم به اسماً رمزياً لا يخطر بسهولة على البال...

كان الاسم الرمزى الذى اختاره بنفسه لما ينوى أن يفعله هو: «الشرارة».

... كيف خطر له هذا الاسم؟.. ما الإيماءات والإيحاءات الكامنة فيه؟

- إنه وحده الذى يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة ولكن.

الاسم معبأ بالكثير: الأمل... اللهب... البعث... وغير ذلك وغيره!

حققنا بعد ذلك «اجتياز حائط الخوف» وذلك شىء بالغ الأهمية فى حياة أى أمة مهما كانت النتائج.

وكان «حائط الخوف» متمثلاً فى عبور قناة السويس وفى اقتحام خط بارليف.

القناة نفسها حاجز مائى من أصعب الحواجز.

وخط بارليف على حافتها سلاسل متصلة من المواقع الحصينة استفاد بدروس الحصون الشهيرة فى الحرب العالمية الأخيرة: خط ماجينو الفرنسى وخط سيجفريد الألمانى.

وكان كل الخبراء العسكريين فى العالم وبغير استثناء يرون عملية العبور صعبة... كان تقديرهم أنها ليست مستحيلة، ولكن مخاطرها تفرض التفكير طويلاً، ثم إنها تتطلب تضحيات ليس من السهل قبولها.

ولست أظن أن الوقت ملائم لشرح الطريقة التى تمكنت بها القوات المسلحة المصرية من اجتياز حاجز الخوف: عبور القناة تحت النار واقتحام خط بارليف، وإن كنت أقول على الفور إن واحداً من أفلام التليفزيون التى عرضت على الناس قد ظلم هذه العملية المجيدة ظلماً فادحاً؛ فقد ذهبت العدسات إلى مواقع بدء العبور فى اليوم التالى وكان المسرح كله قد انتقل إلى الضفة الشرقية وبدت الصورة كما ظهرت على شاشة التليفزيون أمام الناس وديعة مسالمة كأنها رحلة على بحيرة وهى لم تكن كذلك حقيقة فى اليوم السابق!!

كانت عاصفة برق ورعد، وكانت ملحمة شجاعة وتضحية..

كانت صفحة القناة ناراً ودماً، لكن الرجال لم يترددوا، ويوم تكتب القصة الكاملة لطلائع العبور التى اجتازت القناة -وسط الصواعق- فى قوافل من قوارب المطاط لتمهد لإقامة الجسور على الضفة الشرقية، فإن أمة بأسرها سوف تشعر بأنها عاشت لحظة من أعظم لحظات حياتها.

.. لقد انطلقت الكتائب والألوية والفرق تشق طريقها وسط الخطر إلى الضفة الأخرى وعبرت أجزاء ضخمة من هذه التشكيلات فعلاً إلى الضفة الشرقية ولم تكن جسور العبور قد تم تركيبها.

كان بالرجال شوق إلى الانطلاق.

كانوا يشعرون أنهم تحملوا بما لا طاقة لهم به وبما لا ذنب لهم فيه، وقد أحسوا بالجرح فى أجسادهم وفى جسد مصر، وكأنهم أرادوا أن يؤكدوا، بما لا يدع مجالاً للظن، قدرتهم على القتال واستعدادهم له.

وفى ثلاث ساعات من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، ما بين الثالثة إلى السادسة مساء كانت مصر، وكانت الأمة العربية كلها، قد اجتازت «حائط الخوف»!

«الأهرام» - 12 أكتوبر 1973

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: حرب أكتوبر حرب الاستنزاف ملحمة العبور خط بارليف الجيش الذي لا يقهر

إقرأ أيضاً:

هَشَاشَةُ السُّلْطَةِ وَمَآزِقُ النُّخَبِ السُّودَانِيَّةِ: قِرَاءَةٌ فِي كِتَابِ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ لِفَتْحِي الضَّوْ

إِبْرَاهِيم بَرْسِي

في قلب الخراب الذي خلفته الأنظمة المستبدة، في شوارع مدنٍ ملأها الغبار، وشقوق المنازل التي تحكي تاريخًا من النسيان، وفي صمت العيون السودانية المتعبة، يقف كتاب بَيْتِ العَنْكَبُوتِ كمرآة صافية تعكس هشاشة السلطة وصراعات الإنسان مع واقعه.
الكاتب فَتْحِي الضَّوْ لا يقدم حكاية عن السُّودَانِ فحسب؛ إنه ينسج سردية فلسفية عميقة عن السلطة، الخوف، والإنسان، مستخدمًا بَيْتِ العَنْكَبُوتِ كاستعارة مدهشة لبنية متماسكة ظاهريًا، لكنها سرعان ما تتهاوى تحت أي ضغط حقيقي.

الضَّوْ يرى في السلطة نظامًا يقف على شفا السقوط، ولكنه أيضًا يكشف عن مجتمع يصارع ذاته بقدر ما يصارع القمع. في إحدى جمل الكتاب العميقة يقول: “النِّظَامُ الَّذِي يَخَافُ مِنْ وَعْيِ شَعْبِهِ، يَخَافُ مِنْ ظِلِّهِ.”
هذه الكلمات لا تحتاج إلى شرح طويل؛ فهي تدخل إلى جوهر العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
إن الخوف الذي يعيشه النظام ليس خوفًا من الآخر، بل من الحقيقة التي يمكن أن تزعزع أساساته الواهية. وهنا نتذكر كلمات سَارْتَرْ: “الحُرِّيَّةُ هِيَ مَا تَفْعَلُهُ بِمَا فُرِضَ عَلَيْكَ.”
الحرية ليست في التخلص من القيد فقط، بل في إعادة تعريف العلاقة مع القيود ذاتها.

ولكن النظام السُّودَانِيَّ، كما يصفه الضَّوْ، لا يكتفي بالخوف من وعي شعبه، بل يعيد بناء هذا الوعي ليخدمه، عبر أدواته الناعمة التي تتغلغل في التعليم والإعلام. النظام يحرص على أن تظل العقول مشدودة بخيوطه الدقيقة، تلك الخيوط التي تبدو رقيقة كخيوط العنكبوت، ولكنها قادرة على أن تكبل أجيالًا بأكملها.

في موضع آخر، يؤكد الضَّوْ أن: “الفَسَادَ لَيْسَ فِعْلًا عَرَضِيًّا، بَلْ هُوَ ثَقَافَةٌ.”
هذا الوصف يعري العلاقة المتشابكة بين الفساد وبنية الدولة السُّودَانِيَّةِ. الفساد هنا ليس مجرد انحراف، بل هو جزء من النسيج اليومي للسلطة والمجتمع.

ما يثير الانتباه أيضًا هو قول الضَّوْ: “الشُّعُوبُ تَصْنَعُ ثَوْرَاتِهَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَتَحَكَّمُ فِي نَتَائِجِهَا.”
هذه العبارة تلخص مأزق الثَّوْرَاتِ السُّودَانِيَّةِ، التي رغم نبالتها، كانت دائمًا عرضة للاختطاف من قبل النخب التي، بدلًا من أن تكون حاملة للتغيير، تحولت إلى نسخة أخرى من بَيْتِ العَنْكَبُوتِ.

وسط هذا السواد، يبقى الأدب في رأي الضَّوْ أداة مقاومة.
الكتابة ليست مجرد فعل توصيفي؛ إنها إعادة تشكيل للعالم، محاولة لتحرير المعنى من أسر اللغة القامعة.
بَيْتِ العَنْكَبُوتِ ليس مجرد تحليل سياسي؛ إنه دعوة للتحرر من القوالب الفكرية التي تبقي الفرد أسيرًا داخل دائرة الخوف.

إن قراءة بَيْتِ العَنْكَبُوتِ ليست رحلة سهلة؛ إنها مواجهة مباشرة مع الأسئلة التي غالبًا ما نتجنبها:
ما الذي يجعلنا نقبل بالخوف؟
كيف يمكننا كسر دائرة الفساد إذا كانت جزءًا من حياتنا؟
وكيف يمكننا بناء دولة جديدة إذا كانت النخب التي يُفترض أنها تقود التغيير هي نفسها جزءًا من المشكلة؟

كتب الضَّوْ لا لنقد السلطة فقط، بل لدعوة القارئ لمواجهة ذاته.
فالتغيير لا يبدأ من الثورة على النظام، بل من الثورة على الأفكار المترسخة في العقول. وكما قال فْرِيدْرِيكْ إِنْجِلْزْ: “الحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ التَّحَرُّرِ مِنَ القُيُودِ، بَلْ القُدْرَةُ عَلَى بِنَاءِ العَالَمِ.”

النظام هش، والنخب معطوبة، والشعب مكبل بالخوف. ولكن، كما يقول فَتْحِي الضَّوْ: “حَتَّى أَكْثَرَ البُيُوتِ هَشَاشَةً يُمْكِنُ أَنْ يَسْقُطَ بِخَيْطٍ وَاحِدٍ.”
والسؤال الذي يتركه لنا الكتاب هو: هل نحن مستعدون لقطع هذا الخيط؟

zoolsaay@yahoo.com  

مقالات مشابهة

  • محمد عثام يكتب: رئيس الوزراء ورجال الأعمال.. وطن يسع الجميع
  • 13 قراراً حكوميا في أسبوع.. تصور نهائي لإنشاء المنطقة الاقتصادية في جرجوب
  • تسجيلات فيديو تظهر ثقوبا مجهولة المصدر على هيكل الطائرة الأذربيجانية المنكوبة (فيديو)
  • تسجيلات فيديو تظهر ثقوبا مجهولة المصدر على هيكل الطائرة الأذربيجانية المنكوبة
  • المحامي محمد احمد المجالي يكتب .. ارْجِـعْ إليْنـا سالِمــاً يا أَحمَــدُ
  • محاولة تصفية مواطن خلال تلقيه العزاء بوفاة زوجته بمحافظة إب
  • د. محمد بشاري يكتب: مدونة الأسرة المغربية.. اجتهاد شرعي في ظل التحولات المجتمعية
  • ديوان "كانت هنا امرأة" جديد دار فهرس في معرض الكتاب
  • هَشَاشَةُ السُّلْطَةِ وَمَآزِقُ النُّخَبِ السُّودَانِيَّةِ: قِرَاءَةٌ فِي كِتَابِ بَيْتِ العَنْكَبُوتِ لِفَتْحِي الضَّوْ
  • نبيلة عبيد تبكي مفيد فوزي في ذكرى وفاته: "ملوش زي وكان يعشق أعمالي"