الوطن:
2024-10-04@23:15:53 GMT

محمد حسنين هيكل يكتب: محاولة تصور للموقف

تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT

محمد حسنين هيكل يكتب: محاولة تصور للموقف

كانت حالة اللاسلم واللاحرب قد طالت بأكثر مما هو لازم لأى شعب يريد أن يحتفظ بحيويته النضالية، ولكن القرار لم يكن سهلاً، خصوصاً أن الملابسات المحيطة بالعمل الوطنى فى مصر -وربما فى غيرها من بلاد العالم النامى كله- تضع مسئولية القرار على كتفى رجل واحد.

أى أنه بالنسبة لأنور السادات، فإن القرار كان مصيرياً، وفى الوقت نفسه فقد كان عليه أن يتخذه وحده.

وربما كان من حقه وواجبه أن يسمع وأن يناقش، لكنه فى النهاية كان مطالباً بأن يكون وحده، عقلاً وقلباً وضميراً، ثم يصل إلى القرار ويتحمل تاريخياً مسئوليته.

وأتذكر حواراً مع أنور السادات جرى فى مساء يوم الجمعة 21 سبتمبر الماضى فى شرفة استراحة برج العرب المطلة على البحر...

كان جالساً أمامى فى صمت لبعض الوقت، وكان فيما بدا يتأمل منظر غروب الشمس فى هذه البقعة الجميلة من شاطئ مصر الغربى، لكنه فجأة شد نظره عن مشهد الطبيعة المهيب ليقول لى:

- «إن القرار بالنسبة لغيرى تعامل مع الأفكار والتقديرات والاحتمالات، وأما بالنسبة لى فإن القرار تعامل مع الحياة والموت، والمسألة لا تتعلق بشخصى فقد عرفت الحياة وواجهت الموت، ولكنها تتعلق بألوف... مئات الألوف من الرجال سوف يأخذون الكلمة منّى... وفوق ذلك هناك كرامة ومستقبل وحياة أمة فى الميزان».

ولم أشعر أننى أحس بأزمة «الاختيار الإنسانى» كما أحسست بها فى تلك اللحظة. لكن ذلك كان دوره وكان قدره كما قال هو أكثر من مرة...

كان «اختياره» هو «القرار» وكان «القرار» هو التعبير عن «الإرادة» الوطنية والقومية..

وربما كان من الإشارات ذات المعانى أن أنور السادات بعد أن استقر قراره على أنه سوف يقبل أول تحدٍّ يقوم به العدو اختار لما سوف يقوم به اسماً رمزياً لا يخطر بسهولة على البال...

كان الاسم الرمزى الذى اختاره بنفسه لما ينوى أن يفعله هو: «الشرارة».

... كيف خطر له هذا الاسم؟.. ما الإيماءات والإيحاءات الكامنة فيه؟

- إنه وحده الذى يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة ولكن.

الاسم معبأ بالكثير: الأمل... اللهب... البعث... وغير ذلك وغيره!

حققنا بعد ذلك «اجتياز حائط الخوف» وذلك شىء بالغ الأهمية فى حياة أى أمة مهما كانت النتائج.

وكان «حائط الخوف» متمثلاً فى عبور قناة السويس وفى اقتحام خط بارليف.

القناة نفسها حاجز مائى من أصعب الحواجز.

وخط بارليف على حافتها سلاسل متصلة من المواقع الحصينة استفاد بدروس الحصون الشهيرة فى الحرب العالمية الأخيرة: خط ماجينو الفرنسى وخط سيجفريد الألمانى.

وكان كل الخبراء العسكريين فى العالم وبغير استثناء يرون عملية العبور صعبة... كان تقديرهم أنها ليست مستحيلة، ولكن مخاطرها تفرض التفكير طويلاً، ثم إنها تتطلب تضحيات ليس من السهل قبولها.

ولست أظن أن الوقت ملائم لشرح الطريقة التى تمكنت بها القوات المسلحة المصرية من اجتياز حاجز الخوف: عبور القناة تحت النار واقتحام خط بارليف، وإن كنت أقول على الفور إن واحداً من أفلام التليفزيون التى عرضت على الناس قد ظلم هذه العملية المجيدة ظلماً فادحاً؛ فقد ذهبت العدسات إلى مواقع بدء العبور فى اليوم التالى وكان المسرح كله قد انتقل إلى الضفة الشرقية وبدت الصورة كما ظهرت على شاشة التليفزيون أمام الناس وديعة مسالمة كأنها رحلة على بحيرة وهى لم تكن كذلك حقيقة فى اليوم السابق!!

كانت عاصفة برق ورعد، وكانت ملحمة شجاعة وتضحية..

كانت صفحة القناة ناراً ودماً، لكن الرجال لم يترددوا، ويوم تكتب القصة الكاملة لطلائع العبور التى اجتازت القناة -وسط الصواعق- فى قوافل من قوارب المطاط لتمهد لإقامة الجسور على الضفة الشرقية، فإن أمة بأسرها سوف تشعر بأنها عاشت لحظة من أعظم لحظات حياتها.

.. لقد انطلقت الكتائب والألوية والفرق تشق طريقها وسط الخطر إلى الضفة الأخرى وعبرت أجزاء ضخمة من هذه التشكيلات فعلاً إلى الضفة الشرقية ولم تكن جسور العبور قد تم تركيبها.

كان بالرجال شوق إلى الانطلاق.

كانوا يشعرون أنهم تحملوا بما لا طاقة لهم به وبما لا ذنب لهم فيه، وقد أحسوا بالجرح فى أجسادهم وفى جسد مصر، وكأنهم أرادوا أن يؤكدوا، بما لا يدع مجالاً للظن، قدرتهم على القتال واستعدادهم له.

وفى ثلاث ساعات من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، ما بين الثالثة إلى السادسة مساء كانت مصر، وكانت الأمة العربية كلها، قد اجتازت «حائط الخوف»!

«الأهرام» - 12 أكتوبر 1973

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: حرب أكتوبر حرب الاستنزاف ملحمة العبور خط بارليف الجيش الذي لا يقهر

إقرأ أيضاً:

الفنان التشكيلي زكي يافعي يكتب: قصتي مع رجل من تعز

كان مكان تلك القصة الرائعة في أحد فنادق عدن" فندق أرجان"، الذي شعرت فيه وكأنني في داري ووسط الأهل من خلال مستوى الخدمة والتعامل والأشياء الجميلة فيه.

 

كنت عائدًا في الساعة 12 ليلاً إلى الفندق، ومررت على البوفيه الذي في ركن الفندق، وطلبت من الكاشير أن يرسل معي شخصًا أعطيه ثلاجة الشاي التي في الغرفة، فأرسل معي شاب يافع من أبناء تعز الكرام، يعمل لديهم في البوفيه، ومشينا إلى المكان المخصص للمصعد وكان المصعد في الدور السادس، ونحن ننتظر المصعد، نظرت إلى وجه بشير محمد سعيد الذي بصحبتي، فوجدته أسمر من الحرارة المرتفعة ويُبان عليه الجهد والشقاء والكفاح في عمله، فسألته سؤالًا عفويًا كان هو سبب كتابتي للمنشور، سألته من أين !؟

 

حينها رأيت نظرات خوف وتلعثم بالكلام، ثم تجرأ مكرهًا وتمتم بصوت خافت: "أنا من تعز".

 

شعرت ساعتها بذلك الخوف الذي بدا واضحًا على وجهه.

 

فرددت بحماس عليه: "الله ما أروعكم يا أبناء تعز، أنتم نموذج للكفاح والعمل والعلم والمعرفة".

 

وفي ثوانٍ تغيرت نظراته إليّ من مكان يخاف منه إلى ملاذ آمن يحكي لي قصته ويفتخر بما ينجزه ويشق به طريقه.

 

قال: "يا عم، أنا أعمل وأدرس وأصرف على أمي وإخوتي في تعز".

 

في خلال أقل من دقيقة كبر هذا الشبل اليافع إلى حد أني أراه رجلًا، واعتززت أن أمد يدي في يده وأسلم عليه.

 

فهممت أن أعطيه كل ما في جيبي من باب التكريم وليس من باب الشفقة.

 

وإذا به يرفض رفضًا قاطعًا.

 

وقال: "لا يا عم، أنا لا أريد شيئًا، الحمد لله أنا أكسب من عملي وأرسل لأهلي ما أستطيع".

 

قلت له: "يا بني، أنا لم أعطك من باب الشفقة أو لا سمح الله أنظر إليك وكأنك متسول. يا بني، من يكافح ويتعب أكيد يملك عزة النفس ما يكفيه، ولكن أنا أكرمك بما أقدر، هو تكريم من رجل لرجل".

 

وانتهى الحوار بيننا.

 

وفي اليوم الثاني، عندما لمحني وكأنه رأى أحدًا من أهله وأقاربه، بل ويريد أن يعزمني على الفطور، ويمكن ثمن فطوري هو بقيمة أجر يومين له من عمله.

 

عرفت ساعتها أن كلمة "رجل" التي قلتها له سوف تجعله فخورًا بنفسه، بل وسوف تعزز فيه قصة كفاحه وعصاميته.

 

هنا سأقول شهادة أتمنى أن تصل للجميع، لم أجد أحدًا من أبناء منطقتي أو عنصريًا أو جهويًا في كل من عرفت في عدن، وبالعكس وجدت أن أغلب المصالح والمحلات التجارية في عدن لأبناء الشمال نصيب الأسد فيها بالنسبة للأيدي العاملة، وجلست إلى العديد من رجال أعمال يافع، فوجدت محلاتهم وشركاتهم مليئة بالأيدي العاملة من أبناء المحافظات الشمالية وإلى درجة أنهم أصحاب قرار في تلك الشركات، لأنهم مكافحون وعمليون ويحفرون في الصخر لكي يكسبوا لقمة العيش بكرامة.

 

الرسالة الأخرى إلى الحسابات المستعارة والقلة القليلة من مختلف مناطق اليمن، الذين يثيرون الفكر المناطقي المقيت ويهتكوا ما تبقى من نسيج اجتماعي، كفوا أيديكم عن الناس، ولا تدمروا الشيء الجميل المتبقي في العلاقات الاجتماعية، فالسياسة تتغير بتغير المصالح، ولكن القيم والمشاعر الأصيلة والنبيلة إن ذهبت لن تعود.

 

أتمنى ممن يعلق أن يستوعب نبل رسالتي التي أقولها صادقًا وغير متزلف، ونسهم جميعًا في إرساء قواعد المحبة وقيم التسامح والترفع والسمو فيما نكتب، والله من وراء القصد.

 

*المقال نقلا عن صفحة الفنان في فيسبوك


مقالات مشابهة

  • الحرب هي مع المجرمين وقادتهم الذين أضروا بالسودان وليست مع مجتمعات معينة
  • رأي سمير عثمان ومحمد فودة في هدف مينروفيتش الملغي أمام الشرطة .. فيديو
  • وزير الشباب يتخذ قرارات بعد حادثة استاد الحسن
  • تقرير أمريكي يثير الخوف عن صحة ترامب البدنية والعقلية
  • الفنان التشكيلي زكي يافعي يكتب: قصتي مع رجل من تعز
  • نادية حسنين في ذمة الله
  • من كتاب «أحاديث السحاب» للكاتب الصحفى الكبير عادل حمودة.. هيكل الاختلاف لا ينفى الإعجاب (2)
  • هوس الكرملين بالتجسس يزرع الخوف بين العلماء الروس
  • رئيس الوزراء: لم تعد لدينا رفاهية وضع تصور لـ4 سنوات مقبلة بسبب الصراعات الإقليمية
  • مدبولي: لم تعد لدينا رفاهية وضع تصور لـ4 سنوات مقبلة بسبب الصراعات الإقليمية