لماذا يمحون دور موسكو الساطع في حرب أكتوبر؟
تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT
ألحت عليه أن يجرب شوربة "البورش" قبل أن تبدأ بعرض مطالبها عليه.
والبورش، طبق أوكراني شهير، حفظت غولدا مائير طريقة تحضيره حين هاجرت مع أسرتها من أوكرانيا إلى فلسطين لتصبح في غضون سنوات أحد أبرز زعماء الحركة الصهيونية.
لم يكن ضيف غولدا مرتاحا للالحاح فقد أكل وجبة أدسم من البورش في موسكو قبل أن يطير منها إلى تل أبيب، في أول رحلاته المكوكية أثناء الأيام التاريخية لحرب الغفران وفق التوصيف اليهودي ورمضان العنوان العربي لحرب أكتوبر 1973.
ابتلع هنري كيسينجر ملعقتين من المرق الأحمر وكأنه يؤدي طقس المناولة من الحاخام مائير، قبل أن يعرض على السيدة الحديدية "التماس" البيت الأبيض لإسرائيل بالموافقة على وقف إطلاق النار بناء على التفاهم مع السوفيت.
قال كيسينجر: "أرجو أن تفهمي سيدتي بأني أولا أمريكي وثانيا وزير خارجية الولايات المتحدة وثالثا يهودي.
لم يهتز حاجب المدمنة على التدخين أو يتهدج صوتها. فردت بهدوء: "كما تعلم هنري نحن في إسرائيل نقرأ من اليمين الى اليسار"!
هذا مشهد من الفيلم الذي يعرض في دور السينما الروسية وفي العالم بعنوان "غولدا مائير يوم الغفران" يعتبر من وجهة نظري جوهر التلاحم بين تل أبيب وواشنطن منذ أن قامت إسرائيل بدعم غير مسبوق من الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين لكن ذلك لم يمنع غولدا مائير من نعت روسيا بأقذع العبارات أمام هنري بعد صحن البورش.
يتزامن عرض الفيلم الروائي التسجيلي مع الذكرى الخمسين لحرب أكتوبر المصنفة في الأدبيات السياسية العربية على أنها نصر مجيد.
استخدم صنّاع المادة الأرشيفية براعتهم لتظهر غولدا مائير بطلا قوميا، تحملت المسؤولية عن عدم تصديق التقارير الاستخبارية المتواترة حول استعداد مصر وسوريا لشن حرب تحرير الأراضي المحتلة إثر هزيمة 1967 المريرة.
ويرد اسم أشرف مروان على أنه مصدر المعلومة عن موعد الحرب، وتبدو غولدا مائير مترددة ولا تثق بالعميل المصري، أو هكذا يقول الإسرائيليون.
وبغض النظر عما إذا كانت الحوارات في الفيلم بدعة روائية أو تستند الى محاضر اجتماعات؛ فهي لا تبتعد عن الحقائق والمعطيات التي تؤسس لعلاقة الزواج الكاثوليكي بين واشنطن وتل أبيب منذ البداية ولغاية اليوم.
يركز الفيلم على التقصير الإسرائيلي في الاستعداد للحرب كما ورد في كتاب (المحدال) أي التقصير الذي صدر بالعبرية وهو شهادة عن حرب 1973 وفق رواية إسرائيليين خدموا كمراسلين عسكريين أو ضباط احتياط خلال الحرب. ويركز على أخطاء الجيش الإسرائيلي وعيوبه دون تذويق وإن كان يقلل من حجم قتلى الجيش الإسرائيلي الذين وصل عددهم لنحو 2500 قتيل وعدة آلاف من الجرحى.
تنفتح كاميرا الفلم على جنود خائفين لا يريدون الموت وعلى قادة مدنيين يحضون جنودهم على التقدم مهاجمين معهم رغم جحيم نيران العدو.
ولأن أهم أهداف الفلم إظهار إسرائيل على أنها الضحية دوما، فإن واضعيه، وظفوا بحبكة البعد السياسي للعلاقة الحميمة بين "الدولة الصغيرة المسالمة" والعملاق النووي الولايات المتحدة. فيما يظهر الاتحاد السوفيتي بصورة العدو المبين.
يحفظ الإسرائيليون للحلفاء الود ويحرصون على إبداء الوفاء لدولة الجسر الجوي المفتوح بين القواعد العسكرية الأمريكية في العالم والمطارات والموانيء الإسرائيلية الأمر الذي لا نعثر عليه في الفيلم التسجيلي المنتج من قبل الندوة التثقيفية للقوات المسلحة المصرية بمناسبة مرور 50 عاما على حرب أكتوبر الذي تجاهل تماما الدور السوفيتي في تدريب وإعداد القوات المسلحة المصرية وصولا الى العبور وتحطيم خط بارليف؛ وغفل بشكل مطلق جهود موسكو لوقف إطلاق النار بعد ان انتزعت القوات الإسرائيلية المبادرة في اليوم التاسع للحرب عبر ما يعرف بثغرة الدفرسوار وتطويقها الجيش المصري الثالث وصولا الى الكيلو 101. وتهديد القاهرة.
لقد أبلى الجنود والضباط المصريون بلاء أشاد به العدو وهم يعبرون قناة السويس ويوقعون بالعدو خسائر كبيرة بالأرواح والمعدات لم تتوقعها غولدا مائير ولا أركانها.
كانت حرب أكتوبر ستحقق نصرا مؤزرا لولا حسابات أنور السادات الخاطئة الغريبة وتجاهله لخطط الضباط المصريين الأبطال أمثال سعد الدين الشاذلي وضربه عرض الحائط بمشورة الخبراء السوفيت وعددهم بضعة آلاف في مصر قبل طردهم.
حدثني سفير الاتحاد السوفيتي المرحوم فلاديمير فينوغرادوف في مصر آنذاك انه كان قد شارك في اجتماعات القيادة المصرية أثناء سير المعارك وكان يتمنى على الرئيس السادات التقدم في العمق متجاوزا الخط المرسوم لتحرك القوات المصرية في سيناء مستفيدين من تقهقر الإسرائيليين ونكوصهم بفعل الصدمة وبسالة الجنود المصريين المندفعين كالسهام وهم يكبرون.
وحدثني بلهجة مصرية أحبها وتعلم بعض مفرداتها رغم أنه لم يكن مستعربا:
⁃ كنت أقول ليه ياريس توقف الزحف. خليهم يفوتوا يفوتوا كتير!
لم يستمع السادات لا للسفير فينوغرادوف ولا لمشورة الخبراء السوفيت؛ لكنه في اليوم العاشر للحرب وبعد أن تمكن الاسرائيليون من ثغرة الدفرسوار، أخذ يتوسل موسكو باستخدام ثقلها في مجلس الأمن الدولي لوقف الحرب.
وقف العالم على شفا المواجهة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة أثناء حرب أكتوبر 1973 فقد كان المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي يعقد اجتماعات يومية منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب ولم يغادر العسكريون المعنيون ومثلهم الدبلوماسيون مكاتبهم ليل نهار. وعلى حد قول أحدهم فإن كمية القهوة السادة التي تناولها خلال تلك الأيام تكفي لعشر سنين ولعشرة أشخاص. أما الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنييف فقد كان على اتصال مستمر مع القادة العسكريين ووزير الدفاع آنذاك أندريه غريشكو المعروف بمواقفه المتشددة والصلبة في التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة خلافا لموقف وزير الخارجية أندريه غروميكو الذي أطلق الإسرائيليين اسمه على أحد شوارعهم تثمينا لدوره في إنشاء الدولة حين كان مندوب الاتحاد السوفيتي الدائم في الأمم المتحدة عام 1948.
درست القيادة السوفيتية مختلف الاحتمالات بما في ذلك قيام اسرائيل بتدمير سد أسوان العالي وإغراق مصر. ووضعت خططا طارئة من بينها تحريك قطعات الأسطول البحري السوفيتي إلى البحر الأبيض المتوسط وبلغت مع تصعيد إسرائيل تهديداتها 95 قطعة بحرية بينها طراد يحمل رؤوسا نووية الأمر الذي رصدته أقمار التجسس الأميركية.
ليلة 25 أكتوبر لم تطفأ أضواء المكتب البيضاوي في البيت الأبيض فقد استدعى الرئيس ريتشارد نيكسون وزير الدفاع جيمس شليسنغر ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأميرال توماس مورير والجنرال الكسندر هيغ نائب مستشار الأمن القومي ومدير سي آي إيه وليام كولبي اضافة الى مستشار الأمن القومي (العزيز) هنري كيسينجر.
كان نيكسون تلقى رسالة تحذير شديدة اللهجة من ليونيد بريجنيف، يدعو فيها الزعيم السوفيتي الرئيس الأمريكي ردع إسرائيل عن القيام بأعمال تهدد المنطقة؛ قد تدفع موسكو إلى اتخاذ خطوات أحادية للدفاع عن استقلال مصر وسوريا.
وتزامنت رسالة بريجنيف مع مناورات عسكرية واسعة للقوات السوفيتية في منطقة القوقاز المحاذية للشرق الأوسط.
في نفس الوقت قامت طائرة ( ميغ 25 ) الحديثة وتفوق سرعتها سرعة الصوت ثلاث مرات بالتحليق فوق تل أبيب على ارتفاع لا تصله الدفاعات الأميركية الصنع، في إشارة واضحة بأن موسكو لا تترد عن التدخل إن اقتضى الأمر ردا على الجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل.
في تلك الأثناء وصلت برقية مشفرة من وزارة الدفاع السوفيتية الى وزارة الخارجية يأمر فيها وزير الدفاع أندريه غريشكو الملحق العسكري السوفيتي في مصر، السماح للقوات المسلحة المصرية إطلاق صاروخ( ام 17) أو ما يسمى في الغرب صاروخ سكود ومداه 300 كيلومترا وضرب ميناء في سيناء تصله الإمدادات الأمريكية لإسرائيل.
تنبه موظف الشفرة لخطورة الرسالة فاتصل على الفور بالوزير أندريه غروميكو عبر الخط الساخن.
صمت الوزير الذي اشتهر بلقب "مستر نيت" أي (السيد لا) لدقيقة، ثم رد بصوت خفيض:
لا تبعث بالرسالة الى القاهرة.
كان غروميكو يدرك خطورة انطلاق صواريخ سكود السوفيتية نحو أهداف في اسرائيل ما يعني الدخول في مواجهة مباشرة مع حليفتها الأميركية. بيد أن الإجراءات السوفيتية ذات الطابع الاستعراضي المصحوب برسائل التحذير الجدي ، حققت هدفها بإجبار الإدارة الأمريكية على إرسال هنري كيسينجر الى موسكو ومنها إلى تل أبيب وبدء ما عرف بعدها بجولات (العزيز) هنري المكوكية وصولا الى رحلة السادات الصادمة إلى القدس وخطابه المدوي في الكنيست يوم 20 نوفمبر / تشرين الثاني 1977 بحضور موشي دايان و غولدا مائير التي لم تولم للرئيس المصري حساء البورش كما للعزيز هنري، فقد كانت طبخة التطبيع مع الكبيرة مصر، قد أعدت على نار هادئة وقودها طرد الخبراء السوفيت وقلب ظهر المجن لموسكو وإغفال الدور السوفيتي الحاسم في وقف الحرب ومنع زحف القوات الإسرائيلية نحو القاهرة ودمشق بدبلوماسية القوة.
لعل المصريين الذين ترفض غالبيتهم الساحقة التطبيع مع العدو الإسرائيلي؛ يحفظون في الذاكرة الجمعية الوفاء للشعوب السوفيتية التي قدمت تضحيات كبيرة دفاعا عن استقلال ومناعة مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973.
سلام مسافر
المقالة تعبر فقط عن رأي الصحيفة أو الكاتب
المصدر: RT Arabic
كلمات دلالية: كورونا حرب أكتوبر 1973 الاتحاد السوفييتي موسكو أخبار سوريا أخبار مصر اليوم الاتحاد السوفیتی غولدا مائیر حرب أکتوبر تل أبیب
إقرأ أيضاً:
أسماء الأسد تطلب الطلاق.. وتكشف عن مستقبل العائلة في موسكو
أفادت تقارير إعلامية بأن أسماء الأسد، زوجة الرئيس السوري السابق بشار الأسد، تقدمت بطلب رسمي للطلاق من المحكمة الروسية، في خطوة أثارت جدلًا واسعًا حول مستقبل العائلة التي تعيش حاليًا في موسكو تحت رقابة روسية مشددة.
https://youtube.com/shorts/oCEpxt0f6hQ
ووفقًا لصحيفة “هراب ترك” التركية، أعربت أسماء الأسد، التي تحمل الجنسية البريطانية، عن استيائها من الحياة في موسكو، بعدما لجأت إليها مع زوجها وأفراد عائلتها عقب سقوط نظامه في سوريا.
وأشارت التقارير إلى أن أسماء طلبت أيضًا السماح لها بالعودة إلى لندن، حيث تسعى لبدء حياة جديدة بعيدًا عن الضغوط السياسية والمعيشية التي تواجهها العائلة في روسيا.
في المقابل، يعيش بشار الأسد في موسكو تحت قيود صارمة فرضتها السلطات الروسية، تمنعه من مغادرة العاصمة أو الانخراط في أي نشاط سياسي.
كما تم تجميد أصوله وممتلكاته، والتي تشمل 270 كيلوجرامًا من الذهب، ومبلغ 2 مليار دولار، و18 شقة فاخرة في مجمع “مدينة العواصم” بموسكو، بانتظار قرار نهائي من الجهات المختصة.
ويُعتقد أن هذه التطورات تعكس تصاعد التوترات داخل عائلة الأسد، في ظل الضغوط المالية والسياسية المفروضة عليهم، ما يثير تساؤلات حول مستقبلهم في روسيا.
ونستعرض المزيد من التفاصيل من خلال الفيديو جراف التالي.
https://youtube.com/shorts/oCEpxt0f6hQ