كالوم ويليامز - الإيكونومست -

ترجمة - قاسم مكي -

لوهلة بعد نهاية الحرب الباردة بدا كأن العالم سيصبح أشبه بالقرية العالمية الخرافية. فبدافع من الاعتقاد بقوة الأسواق انطلقت العولمة في أعوام التسعينيات. وخففت الحكومات من القيود على السفر والاستثمار والتجارة. وفي عام 2001 انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية وعززت التجارة بين آسيا والغرب.

حققت هذه التحولات منافع عديدة. فقد قللت الفقر واللامساواة وصاحَبَها تنامي الحرية السياسية على نطاق العالم. كما جلبت مشاكل كثيرة أيضا. لقد اعتقد بعض الناس أن الأزمة المالية العالمية 2007-2009 ستدفع الساسة إلى التحرك لإصلاح الطريقة التي تعمل بها الأشياء. وظن عديدون أن الأزمة أوضحت أخطار أسواق رأس المال المتحررة من القيود.

وتحدث الساسة عن الحد من ازدهار القطاع السكني وبذل المزيد لترويض التمويل. تباطأت العولمة. فبريطانيا صوتت للخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، ثم دخلت أمريكا والصين في حرب تجارية. لكن العولمة في جوهرها ظلت على نحو ما كانت عليه في السابق. الآن يتبلور حقا بديل جذري (للعولمة). البعض يسميه «مرونة العولمة» أو «فن إدارة الاقتصاد». ونحن نسميه «اقتصاد الوطن». الفكرة المهمة في هذا البديل هي خفض المخاطر على الاقتصاد الوطني. إنها المخاطر التي تشكلها أهواء الأسواق أو صدمات لا يمكن التنبؤ بها مثل حلول جائحة أو تصرفات خصم جيوسياسي. يقول مؤيدو هذا البديل إنه سينتج عالما أكثر أمنا وعدلا واخضرارا، لكننا في الإيكونومست نجادل بأنه في جزء كبير منه سيوجد عكس ذلك (يشير الكاتب إلى تقرير خاص نشرته مجلة الإيكونومست بتاريخ 2 أكتوبر تحت عنوان «الدولة في مواجهة السوق: اقتصاد الوطن سيجعل العالم أكثر فقرا» – المترجم).

لماذا اقتصاد الوطن؟

مقاربة أو استراتيجية اقتصاد الوطن استجابة لأربع صدمات كبيرة. أولها اقتصادية، إذا كانت الأزمة المالية العالمية 2007-2009 حطمت الثقة في النموذج القديم (للعولمة) فقد قضى عليه الانكماش العالمي في عام 2020. أثناء فترة الجائحة اختلت سلاسل التوريد وأضافت المزيد للتضخم برفع تكلفة الواردات، وتحول نظام بدا في السابق كفئا ومريحا إلى مصدر لعدم الاستقرار. الجائحة أيضا شجعت الناس على الاعتقاد بأن الحكومات عليها عمل المزيد. ثانيا، الصدمات الجيوسياسية: أمريكا والصين تتناوشان بشراسة متزايدة وتستخدمان في ذلك عقوبات اقتصادية متنوعة، كما ابتدأت الحرب الروسية الأوكرانية أكبر حرب برية في أوروبا منذ عام 1945. وتلاشت الفكرة التي ترى أن التكامل الاقتصادي سيقود إلى التكامل السياسي. الحرب بدورها قادت إلى الصدمة الثالثة. إنها صدمة الطاقة، فتحويل الإمدادات الهيدروكربونية الروسية إلى سلاح أقنع ساسة عديدين بأن عليهم تأمين بدائل ليس فقط للطاقة ولكن للسلع «الاستراتيجية» عموما، ثم هنالك الصدمة الرابعة، إنها الذكاء الاصطناعي التوليدي والذي قد يشكل تهديدا للعمال، وفاقم ذلك الإحساس بأن الاقتصاد الحديث ضد الشخص العادي من غمار الناس. فبالمقاييس التاريخية معدلات انعدام المساواة والدخل والثروة مرتفعة. وفكرة اقتصاد الوطن تريد حماية العالم من صدمات مماثلة في المستقبل. إنها تهدف إلى الحفاظ على منافع العولمة مع تأكيدها على الفعالية والأسعار المنخفضة لكن أيضا تجنب السلبيات المتمثلة في أوضاع البلبلة وعدم الإنصاف في النظام السابق. وهذا يتطلب تشبيك الأمن القومي بالسياسة الاقتصادية. «أود أن أبدأ حديثي بتقديم الشكر لكم جميعا لإتاحة الفرصة لمستشار الأمن القومي كي يناقش الاقتصاد». تكشف هذه الكلمات التي افتتح بها جاك سوليفان حديثه في واشنطن في أبريل إلى أي حد تغيرت الأمور منذ حقبة العولمة المفرطة في تسعينيات القرن الماضي. كان سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي يشير إلى أن السيطرة على الاقتصاد انتقلت إلى الجيو-استراتيجيين. كما أدلى قادة آخرون بتصريحات مماثلة. فأورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية تفاخرت بأن الاتحاد الأوروبي «أول اقتصاد كبير يضع استراتيجية للأمن الاقتصادي»، ويتحدث ايمانويل ماكرون عن «الاستقلال الذاتي الاستراتيجي» لفرنسا. من جانبه، يحبُّ رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي «الاعتماد الاقتصادي على الذات». وتحقيق ذلك يتطلب استعادة أدوات تاريخية. يتجه البعض تأسِّيا بالسياسات الحمائية في ثلاثينيات القرن الماضي والرئيس دونالد ترامب في عام 2018 إلى رفع الرسوم الجمركية. وينفق آخرون على البحث والتطوير بأمل إيجاد معامل أبحاث مموَّلة حكوميا مماثلة لتلك التي تأسست في سنوات الخمسينيات وأعانت على كسب الحرب الباردة. لكن التركيز الحقيقي ينصب على شيء آخر. فحكومات عديدة استلهاما منها للتجربة الأوروبية في سنوات الخمسينيات والستينيات تأمل في تأسيس شركات وطنية كبرى في صناعات «استراتيجية». ليس في صناعات الفحم الحجري أو الصلب كما في السابق ولكن في الرقائق الحاسوبية والسيارات الكهربائية والذكاء الاصطناعي. إنها تنفذ برامج دعم ضخمة وتفرض شرط «المحتوى المحلي» تشجيعا للإنتاج في الداخل. يقول سوليفان «مكاسب التجارة أخفقت في الوصول إلى الكثير من العاملين». لذلك من الأفضل (في نظره) الحدُّ منها. وكما كانت هي الحال أيام الحرب الباردة تستخدم الحكومات الغربية الأدوات الاقتصادية لإضعاف الخصوم الجيوسياسيين بما في ذلك فرض حظر على الصادرات والاستثمار العالمي خصوصا عندما يتعلق الأمر بتقنيات «الاستخدام المزدوج» لأغراض مدنية وعسكرية معا، كما تعهدت أيضا بتقديم دعم ضخم للتقنيات النظيفة ضمن جهود مكافحة التغير المناخي. اجتذبت تشريعات قليلة عناوين الأخبار، فالولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس جو بايدن سنَّت قانون الرقائق لمساعدة صناعة أشباه الموصلات المحلية وقانون خفض التضخم الذي يتعلق بدعم الطاقة الخضراء أكثر من تعلقه بالتضخم. الهدف من القانونين هو تعزيز الوظائف والخبرة المحلية، وكلاهما كلَّف الكثير. فحوالي 40% من إجمالي إنفاق البلدان الغنية لدعم الطاقة النظيفة يأتي من الولايات المتحدة، لكن البلدان الأخرى تنفق أيضا بسخاء.

الرقائق والموارد المتجددة

ردَّ الاتحاد الأوروبي على قانون خفض التضخم بتدشين الخطة الصناعية للصفقة الخضراء. كما لديه أيضا نسخته الخاصة به من قانون الرقائق. ومؤخرا تبنت الدول الأعضاء في الاتحاد (14 دولة) مشروعا لدعم تقنيات الإلكترونيات الدقيقة والاتصالات، وتدشن فرنسا صندوقا لإنتاج المعادن التي تَمَسُّ الحاجة إليها، ويريد الاتحاد الأوروبي إنتاج 40% من التقنيات المفتاحية المطلوبة لانتقاله إلى الموارد المتجددة و20% من أشباه الموصِّلات في العالم. من جانبها، أعدت الهند مشروعا كبيرا للحوافز المرتبطة بالإنتاج لعدة قطاعات بما في ذلك صناعة وحدات الخلايا الضوئية والبطاريات المتقدمة. وبموجب قانون الرقائق الكوري تمنح كوريا الجنوبية شركات إنتاج أشباه الموصلات إعفاءات ضريبية، وتأسيا بمشروع «صُنِعَ في الصين» الذي بدأ في عام 2015 هنالك الآن مشروعات من شاكلة «صُنِعَ في أمريكا» وصنع في أوروبا وصنع في الهند وخطة صنع في كندا ومستقبلا سياسة «صنع في استراليا»؛ ويعكف الباحثون في الوقت الحاضر على قياس هذه التوجهات كمِّيا. وهنالك ورقة جديدة من إعداد ريكا يوهاس من جامعة كولومبيا البريطانية ونَيثان لين واميلي اولسن من جامعة أكسفورد وفيرونكا بيريز من جامعة بوسطون ترصد تدخلات السياسة الصناعية على مر الزمن. (السياسة الصناعية وفقا لبعض التعريفات تعني التدخل المنظَّم من الحكومة لتوجيه الاقتصاد في مسار معين بتشجيع الاستثمار في صناعات محددة من خلال نظام ضرائب ودعم وحوافز- المترجم). وجدت الورقة ارتفاعا في هذه التدخلات في 2021 و2022، وبعكس ما كان يحدث في الماضي عندما استخدمت البلدان الفقيرة السياسة الصناعية كأداة لتنمية البلدان الغنية؛ لديها الآن نصيب الأسد من السياسات الصناعية. والاهتمام بها يتزايد بشدة، حسب تحليلنا في الإيكونومست لبيانات مستمدة من المشروع البحثي «مانيفستو بروجكت» الذي يسعى إلى جمع معلومات من الإعلانات والبيانات السياسية.

الأموال تنفق بسخاء مع محاولة الحكومات إقناع الشركات بموضعة أو توسيع نشاطها في بلدانها الأم. ووفقا لتقديراتنا في الربع الأول من العام الحالي تلقت الشركات حول العالم الغني دعما ماليا يزيد بحوالي 40%عن المعدل المعتاد في السنوات التي سبقت الجائحة. وفي الربع الثاني من العام أنفقت الولايات المتحدة 25 بليون دولار على الدعم. وحسب بنك يو إس بي خصصت الحكومات في سبعة بلدان ما يصل إلى 400 بليون دولار لصناعة أشباه الموصلات خلال العقد القادم. ومنذ عام 2020 خصصت الحكومات 1.3 تريليون دولار لدعم الاستثمار في الطاقة النظيفة. من المرجح أن يقل إنفاق أمريكا على السياسة الاقتصادية بعض الشيء عن إنفاق الصين الشيوعية قياسا إلى الناتج المحلي الإجمالي. لكنه ينافس إنفاق فرنسا. ويريد حزب العمال البريطاني إذا فاز بالحكم أن يخصص بلايين الجنيهات لدعم الموارد المتجددة. وهو ما سيساوي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي عشرة أضعاف الإنفاق الأمريكي. قال جيك سوليفان في أبريل أن مشروع أعوام العشرينيات والثلاثينيات من القرن الحالي «مختلف عن مشروع تسعينيات القرن الماضي». ففي الغالب ستتوسع السياسة الصناعية الجديدة بمرور الوقت، وإذا كان لكل بلدٍ «فَطِنٍ» قانونٌ للرقائق الإلكترونية لماذا لا يسِنُّ هذا البلد أيضا قانونا للطاقة الشمسية وآخر للمعادن النادرة؟ يتجه واضعو السياسات باهتمامهم إلى الذكاء الاصطناعي وحوسبة الكوانتم. والشركات تستجيب للرياح السياسية المتغيرة، وعند الحديث عن الإيرادات يتحدث مسؤولو الشركات كثيرا عن إعادة الإنتاج من الخارج إلى بلدانهم.

ويقول آخرون إنهم يتحوَّلون من «الإنتاج عند الحاجة» إلى «الإنتاج الفائض عن الحاجة». هذا يعني الاحتفاظ بمخزونات كبيرة من المواد الخام والسلع النهائية التي يمكن السحب منها إذا تعثرت سلاسل التوريد، كما تغادر شركات أخرى الصين. إلى ذلك يعتقد المستثمرون أن هنالك المزيد في الطريق. فمنذ بداية عام 2022 ارتفع متوسط سعر سهم الشركات الأمريكية (الذي من المتصور أنه يستفيد من الإنفاق الإضافي على البنية التحتية) بمعدل 13% متراجعا من 9% بالنسبة لسوق الأسهم الأمريكية في مجمله، حسب بيانات بنك جولدمان ساكس. كل مستثمري وادي السيلكون ملتزمون تماما بالمشاركة في ذلك. فبموجب مبادرته المسماة «الدينامية الأمريكية» يَعِد صندوق رأس المال المغامر اندريسن هورويتز بدعم «المؤسسين والشركات التي تقف إلى جانب المصلحة الوطنية». الكثير من جوانب «اقتصاد الوطن» يبدو معقولا. من الذي يمكن أن يعترض على جعل سلاسل التوريد مرنة وعلى مساعدة المناطق التي تخلفت عن الركب وإعادة بناء هياكل الطاقة والتصدي للصين؟ في ورقة جديدة تحاجج يوهاس وزميلاها لين وداني رودريك من جامعة هارفارد بوجود «مبررات نظرية واقتصادية قوية للسياسة الصناعية». هذه السياسات ستفيد العديدين بدءا برؤساء الشركات الذين يتلقون مدفوعات مالية وإلى المستثمرين في هذه الشركات والمناطق المحلية التي تنتفع من تشييد مصنع جديد. لكن سياسات اقتصاد الوطن ستوجد بلايين الخاسرين، بحسب تقرير الإيكونومست. فخلف المعقولية الظاهرة لهذه السياسات يكمن عدم تماسك عميق. إنها ترتكز على قراءة مفرطة في التشاؤم للعولمة الليبرالية الجديدة التي حقّقت في الواقع منافع كثيرة لمعظم العالم. أما فوائد هذه المقاربة الجديدة فغير مضمونة في أفضل الأحوال. في الأثناء غالبا ما سيكون نجاح محاولات التحرر اقتصاديا من الصين جزئيا في أفضل الأحوال أيضا. وفوائد دعم الانتقال إلى الموارد المتجددة لمحاربة التغير المناخي أيضا أقل وضوحا مما يُقِرّ به أنصاره. بالمقابل التكاليف واضحة. لقد درس بحث أجراه صندوق النقد الدولي عالما افتراضيا منقسما إلى كتلتين إحداهما بقيادة أمريكا والأخرى بقيادة الصين (مع بقاء بعض البلدان على الحياد). في الأجل القصير انخفض الناتج العالمي الإجمالي بنسبة 1% وفي الأجل الطويل بنسبة 2%. ويبلغ هذا الانخفاض في بعض التقديرات أكثر من 5%. ويبدو كأنما العالم بأجمعه اختار شيئا يماثل البريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي). فالخبرة التاريخية للسياسة الصناعية غير مشجعة، والحكومات ستهدر الكثير من الأموال. إنها ليست خطة جيدة بالنظر للمطالب المتعلقة بالرعاية الصحية ورواتب التقاعد والعجوزات الموجودة في الموازنات سلفا.

خسائر خفية

استنادا إلى تحليل من عدد من البلدان الغنية في معظمها يرى تقرير الإيكونومست أن استراتيجية اقتصاد الوطن ستواجه مصاعب في جعل سلاسل التوريد مرنة، ومن المستبعد أن تفيد الاقتصاد، ولن تفعل سياساتها الجديدة شيئا يذكر لخفض اللامساواة وما يكفي للتعامل مع التغير المناخي. مع ذلك أمام هذه الحقائق يواجه من يؤمنون باقتصاد السوق تحديات كبيرة. سيكون من اليسير الاستشهاد بفوائد النموذج الاقتصادي الجديد مهما كانت هذه الفوائد محصورة وجزئية. وستكتسب بالتالي أهمية سياسية. فالحكومات تتباهي سلفا بنجاحات أنظمة دعمها سواء تمثلت تلك النجاحات في مصنع تاتا الجديد لبطاريات السيارات ببريطانيا (يشاع أن التكلفة التي ترتبت عنه للمالية العامة بلغت 500 مليون جنيه أو 612 مليون دولار) أو مصنع رابيدوس الجديد لصناعة الرقائق الإلكترونية في هوكايدو (بدعم كلف الحكومة اليابانية بلايين الدولارات). الخسائر التي تأخذ شكل تدنٍ في الدخول وكفاءةٍ أقل ستكون مبعثرة وستصعب رؤيتها وسيسهل تجاهلها. لكن ليس إلى الأبد. الساسة بإطلاقهم وعودا لا يمكنهم الوفاء بها إنما يرحِّلون المتاعب للمستقبل. فبعد عشرة أعوام قد يكون الغرب معتمدا على الصين تقريبا بنفس اعتماده الحالي عليها وبنفس اللامساواة وبطء النمو. ماذا سيحدث حينها. هل سيضاعف الساسة جهودهم لتعزيز السياسة الصناعية اعتقادا منهم بأن مكمن ضعفها الوحيد هو تنفيذها بقدر غير كاف من الحماس؟

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی سلاسل التورید اقتصاد الوطن من جامعة فی عام فی ذلک

إقرأ أيضاً:

أثر النهضة الصناعية الصينية على الاقتصاد العالمي

 

 

 

د. هلال بن عبدالله الهنائي **

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا هائلًا في الاقتصاد العالمي بفعل النهضة الصناعية الصينية، التي أعادت تشكيل العديد من الصناعات العالمية. لقد دخلت الصين بقوة إلى سوق التصنيع الدولي، ما أسهم في تغيير هيكل التجارة العالمية. لكن، في الوقت نفسه، فرض هذا التغير تحديات كبيرة على الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا، التي وجدت نفسها أمام منافسة قوية. في هذا السياق، تنشأ أسئلة جوهرية حول كيفية التعايش مع هذه الثورة الصناعية وضمان استمرار قوة اقتصاداتنا الوطنية.

كيف أثرت النهضة الصناعية الصينية على الاقتصادات العالمية؟

من خلال استغلال القوى العاملة الرخيصة وزيادة الإنتاجية، تمكنت الصين من أن تصبح مصنعًا عالميًا. هذا التحول أسهم في تعزيز الاقتصاد الصيني، لكنه ألحق ضررًا كبيرًا ببعض الصناعات في الدول الصناعية الكبرى التي لم تستطع المنافسة مع الأسعار المنخفضة. الصناعات التقليدية مثل المنسوجات والصلب في الولايات المتحدة وأوروبا تأثرت بشكل كبير، مما دفع الكثير من المصانع إلى الإغلاق.

هل استفادت الدول الصناعية من النهضة الصينية؟

نعم، بعض الدول الصناعية استفادت من انخفاض تكاليف الإنتاج في الصين، ما ساعد الشركات الغربية على تقديم منتجات بأسعار منافسة. الشركات مثل "أبل" و"جنرال موتورز" نقلت جزءًا من إنتاجها إلى الصين، مما قلل من التكاليف وزيَّن هامش الربح. ومع ذلك، لم يكن هذا التحول خاليًا من التحديات، حيث بدأنا نرى أن هذه الشركات الغربية تعتمد بشكل متزايد على التصنيع الخارجي.

كيف أثرت هذه التحولات على العمالة المحلية؟

بينما استفادت الشركات من خفض التكاليف، كان العمال في العديد من البلدان الصناعية يتأثرون بشكل سلبي. فقد أدت أسعار المنتجات الصينية المنخفضة إلى إغلاق العديد من المصانع المحلية، ما أثر بشكل مُباشر على مستوى البطالة. هذه التناقضات بين مصالح الشركات الكبرى من جهة، وحاجة الطبقات العاملة لحماية وظائفهم من جهة أخرى، أبرزت التحديات الاقتصادية الكبرى.

كيف تميزت شركات مثل "هواوي" و"لينوفو" في هذا العصر؟

رغم المنافسة الشديدة، استطاعت شركات صينية مثل “هواوي” و”لينوفو” أن تحقق نجاحًا عالميًا في مجالات التكنولوجيا. “هواوي” استطاعت أن تنافس “آبل” و”سامسونج” في سوق الهواتف الذكية، بينما سيطرت “لينوفو” على سوق الحواسيب الشخصية. ورغم نجاحها، تعرضت هذه الشركات لعدة تحديات سياسية، خاصة في الولايات المتحدة، التي فرضت عليها قيودًا لاحتواء انتشارها.

هل يمكن للدول الصناعية التعايش مع هذه الثورة ومنع تدهور صناعاتها؟

التعايش مع الثورة الصناعية الصينية يتطلب استراتيجيات مرنة وابتكارية. على الدول الصناعية أن تتبع سياسات موجهة للحفاظ على قدرتها التنافسية على المدى الطويل، بدلاً من التمسك بالطرق التقليدية. لن يكون الحفاظ على الصناعات التقليدية ممكنًا إلا إذا تم تبني أساليب جديدة تتماشى مع التغيرات السريعة في السوق.

كيف يمكن للدول الصناعية التكيف مع هذا التغيير؟

1. الابتكار وتطوير التكنولوجيا المتقدمة:

من خلال الاستثمار في البحث والتطوير، يمكن للدول الصناعية أن تحافظ على مكانتها في الأسواق العالمية. التوجه نحو تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والطباعة ثلاثية الأبعاد يمكن أن يعزز القدرة التنافسية ويعطي فرصة للدول للحفاظ على صناعاتها المحلية.

مثال: الشركات الأمريكية مثل “تسلا” التي تقود صناعة السيارات الكهربائية، والعديد من الشركات الأوروبية التي تتفوق في مجال الطاقة المتجددة، أظهرت أهمية الابتكار في صناعة المستقبل.

2. الاستثمار في رأس المال البشري:

من الضروري أن تركز الدول على التعليم والتدريب على المهارات المتقدمة. هذا يساعد في خلق قوة عاملة قادرة على التعامل مع التحديات التي تطرأ بفعل التقنيات الجديدة، مما يساهم في بقاء الصناعات المحلية قوية.

مثال: في ألمانيا، يعتبر التعليم الفني المتقدم جزءًا أساسيًا من الاقتصاد، حيث يتم تدريب العمال على تقنيات التصنيع الذكي مما يمنحهم القدرة على المنافسة في صناعة عالية التقنية.

3. استخدام السياسات الحكومية لدعم الصناعات المحلية:

يمكن للحكومات أن تلعب دورًا كبيرًا من خلال فرض سياسات تحمي الصناعات المحلية، مثل الرسوم الجمركية أو الدعم المالي للمصانع المحلية. وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون هذه السياسات مرنة بحيث لا تُعزل الاقتصادات عن العالم الخارجي.

مثال: الولايات المتحدة فرضت رسومًا جمركية على المنتجات الصينية في إطار الحرب التجارية مع الصين، ولكنها في نفس الوقت حاولت الحفاظ على توازن يسمح للشركات بالاستمرار في التجارة.

4. تعزيز التكامل الصناعي في سلاسل التوريد العالمية:

من خلال التعاون بين الدول الصناعية والدول الأخرى، يمكن تعزيز سلاسل التوريد، مما يسمح بتقليل الاعتماد على الصين أو أي مصدر واحد. هذه الاستراتيجية تساعد في الحفاظ على مرونة الاقتصادات الوطنية.

مثال: اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) تشمل تعاونًا بين عدة دول من أجل تعزيز التكامل الاقتصادي العالمي وتقليل الاعتماد على الصين.

5. التركيز على الاقتصاد الأخضر والصناعات المستدامة:

الدول الصناعية يجب أن تركز على الصناعات التي تضمن استدامة البيئة، مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا الصديقة للبيئة. هذه الصناعات لن تساعد في الحفاظ على مكانتها الاقتصادية فحسب، بل ستفتح فرصًا جديدة للنمو.

مثال: دول مثل السويد والدنمارك تعتبر رائدة في مجال الطاقة المتجددة والصناعات المستدامة، مما يعطيها ميزة كبيرة في المستقبل.

كيف يمكن تطبيق استراتيجيات Red Sea Ocean وBlue Sea Ocean؟

• Red Sea Ocean: هذه الاستراتيجية تشير إلى الأسوق المزدحمة حيث تتنافس الشركات على نفس الحصة السوقية، مما يؤدي إلى تراجع الأرباح. الصناعات التي تواجه منافسة شديدة مثل التصنيع التقليدي في الصين يمكن أن تُعتبر جزءًا من “Red Sea Ocean”.

• Blue Sea Ocean: في هذه الاستراتيجية، تبحث الشركات عن أسواق جديدة وفرص غير مستكشفة، مما يفتح لها مجالات للابتكار والنمو بعيدًا عن المنافسة التقليدية. استثمارات في مجالات جديدة مثل السيارات الكهربائية، الطاقة المتجددة، والصناعات التكنولوجية المتقدمة، يمكن أن تساعد الدول الصناعية على النجاح في هذه البيئة التنافسية.

وفي الختام.. يمكن للدول الصناعية أن تعيش في عصر الثورة الصناعية الصينية إذا تمكنت من التكيف والتطور بشكل مستمر. من خلال تبني استراتيجيات مثل الابتكار، الاستثمار في رأس المال البشري، والتوجه نحو الصناعات المستدامة، يمكن أن تحافظ هذه الدول على مكانتها في ظل التحديات المتزايدة. استخدام استراتيجيات Red Sea Ocean وBlue Sea Ocean سيسمح لهذه الدول بالبحث عن الفرص المتاحة في الأسواق الجديدة، وتجاوز التحديات في الأسواق المزدحمة.

** رئيس مجلس إدارة جمعية الصناعيين العُمانية

مقالات مشابهة

  • إليك أغرب أشكال الاحتجاج التي شهدها العالم على مر التاريخ (صور)
  • مناقشة التقييم البيئي بمدينة محاس الصناعية
  • مفتي الجمهورية: دماء الشهداء سطورٌ محفورة في تاريخ الأمة ومفاتيح عزتها التي لا تذبل
  • مخاوف حول تنظيم كأس العالم 2026.. ما الصعوبات التي ستواجهها أمريكا؟
  • قيادي بمستقبل وطن: مصر تمتلك رؤية استراتيجية قائمة على التماسك الوطني
  • الإمارات تتبع استراتيجية شاملة لتوطين الصناعات التقنية
  • أثر النهضة الصناعية الصينية على الاقتصاد العالمي
  • الصين تكتشف مصدر طاقة غير محدود يمكنه تزويد البلاد لآلاف السنين
  • كيف تعمل شبكة الإنترنت؟ رحلة إلى قلب الشبكة التي تربط العالم
  • مسلسل شهادة معاملة أطفال الحلقة8 .. ألحان المهدي تكتشف تجسس والدتها على محمد هنيدي