الجزيرة:
2025-01-18@18:59:41 GMT

الناجون من فيضانات ليبيا مثقلون بالعبء النفسي

تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT

الناجون من فيضانات ليبيا مثقلون بالعبء النفسي

بعد مرور شهر تقريبا على الفيضانات التي ضربت مدينة درنة شرق ليبيا، يعاني الناجون من العبء النفسي للكارثة في وقت لا يزال الآلاف منهم يجهلون مصير أحبائهم، فيما هب عدد من شباب ليبيا لتنظيم حملة تطوعية لتنظيف المنازل والأحياء ومساعدة الأهالي.

وبعد التعلّق بأمل العثور على ناجين وانتظار وصول جثث منتشلة من البحر إلى الميناء، تسيطر على سكان المدينة حالة من اليأس، بعد مرور أكثر من 3 أسابيع على الكارثة التي تسببت في مقتل أكثر من 4 آلاف شخص وآلاف المفقودين بحسب السلطات الليبية.

وقال ميشال-أوليفييه لاشاريتيه من منظمة أطباء بلا حدود الذي التقى ناجين في درنة إن "الجميع تقريبا في المدينة يعاني وفي حالة حداد".

وقالت منظمة "لجنة الإغاثة الدولية" غير الحكومية التي أرسلت فرقها الطبية إلى المناطق المنكوبة في اليوم التالي للفيضانات إن "على الناجين الآن التعامل مع الصدمة".

وطالب مدير اللجنة إيلي أبو عون بضمان الصحة العقلية للمتضررين إلى جانب الخدمات الأساسية التي تفتقر إليها المدينة، وحذّر من أن الأطفال "وهم الأكثر ضعفا معرّضون لحرمان شديد" ويواجهون خطر التعرض لآثار لاحقة و"تأخر في النمو".

إحباط شديد

من جهتها، قالت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" إن هذه المأساة "أغرقت الأطفال والآباء في حالة إحباط شديد"، خصوصا بسبب "تدمير منازلهم وخسارة أحبائهم".

وأوضحت المنظمة أن "شركاءها" في الميدان أبلغوا عن "حالات انتحار وانغلاق على النفس وقلة نوم وتبول لاإرادي وغيرها بين الأطفال، خصوصا في مراكز الإيواء".

وتسببت المأساة في نزوح أكثر من 42 ألف شخص، بحسب آخر أرقام المنظمة الدولية للهجرة التي تقدّر أن الحاجات الملحة للنازحين تتمثّل في "الغذاء ومياه الشرب والصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي".

وتتمثّل أولوية السلطات الآن في إعادة إعمار درنة ومبانيها وجسورها، لكن يجب أن تترافق مع إعادة البناء الاجتماعي والعقلي لسكانها المصابين بصدمات نفسية ويحتاجون إلى دعم قصير وطويل الأجل لقبول ما لا يمكن قبوله والتعامل معه، وفق المتخصصين.

ويجد عشرات القاصرين أنفسهم الآن وحيدين بلا عائلات مع تولي الدولة رعايتهم بموجب مرسوم صادر عن السلطات.

وأعلنت منظمة "الهيئة الطبية الدولية" الأميركية غير الحكومية اتفاقات مع السلطات لتوفير المتابعة الطبية وتدريب كوادر طبية ستقدم الدعم النفسي لسكان درنة، لكن حجم الدمار الذي ضرب قلب المدينة أدى إلى توقف معظم مرافق الخدمات الأساسية عن العمل، ولم تعد المستشفيات قادرة على استيعاب مزيد من المرضى.

وأبلغت منظمة الصحة العالمية من جانبها عن "حاجات هائلة في مجال الصحة العقلية" التي "ستستمر في الظهور حالما تبدأ الصدمة الأولية للدمار والخسارة التي عانوها (السكان) تتبدد".

وقالت ميسم حصيدي التي فقدت أكثر من 20 شخصا من أهلها في الفيضانات "درنة اليوم مكسورة… هي صورة عما يشعر به سكانها".

منظمو الحملة قالوا إن هدفها رفع ركام وآثار السيول التي ضربت درنة (مواقع التواصل) رفع الركام

وفي ظل هذه الأوضاع الصعبة، هب عدد من شباب ليبيا بمدينة درنة لتقديم يد العون ونظموا حملة تطوعية بجهود ذاتية لتنظيف منازل ومرافق وأحياء المدينة ومساعدة الأهالي في رفع الركام وآثار السيول التي ضربت المدينة جراء إعصار دانيال، الذي خلّف آلاف القتلى والمفقودين وألحق دمارا واسعا بالمدينة.

وكتب منظمو الحملة -التي بدأت الأربعاء الماضي- أن المبادرة التي تأتي تحت عنوان "حملة درنة بهمة شبابها"، تضم متطوعين من الشباب من مدن ليبية عدة وتحاول تقديم العون والمساعدة للمواطنين في درنة الذين تعرضت منازلهم للسيول والأمطار، إلى جانب تنظيف المساجد والمحال التجارية والمرافق العامة.

وأعلن منظمو الحملة الذين أنشؤوا لها صفحة على فيسبوك، عن موعد ثابت للتجمع في إحدى المناطق المتضررة، لاستئناف أعمال التنظيف والمساعدة كما وثّقوا جهودهم بمشاهد نشروها على صفحة الحملة، خلال تنظيفهم أزقة المدينة ومحالها التجارية بإمكانيات محدودة ومعدات بسيطة.

وقال منظمو الحملة "إلى هذه اللحظة العمل ما زال مستمرا بجهود كبيرة من أبناء المدينة للتخفيف عن معاناة أهلنا بإزالة الركام من البيوت والمحلات التجارية المتضررة، ورغم قلة الإمكانيات فإن آمالنا (قوية) بعودة مدينتنا للحياة من جديد".

وسبق أن طالب منظمو الحملة الجميع للمساهمة والتبرع بمعدات تنظيف وعربات حمل مواد البناء لتتمكن من مواصلة عملها والوصول إلى أكبر قدر من المناطق المتضررة، لرفع الركام وآثار السيول والأنقاض.

وأدت الفيضانات جراء إعصار دانيال الذي اجتاح مدنا بالشرق الليبي، بينها درنة التي تضررت كثيرا جراء انهيار سديها في 10 من سبتمبر/أيلول الماضي، إلى دمار كبير وخسائر بشرية وصلت إلى 11 ألفا و470 قتيلا، و10 آلاف و100 مفقود، فضلا عن 40 ألف نازح، وفقا لأرقام مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: أکثر من

إقرأ أيضاً:

الإلحاد والطب النفسي.. ما العلاقة؟

محمود يسري، باحث حقوقي يعمل في قسم الشرق الأوسط بواحدة من أكبر منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان في العالم. يعتمد عمل يسري على توثيق الانتهاكات الحقوقية التي تحدث في بعض الدول العربية، لذلك فعلى مدار سنوات عمله، تحدّث مع ضحايا عدد من الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، بالإضافة لحديثه مع معتقلين سياسيين تعرضوا لتعذيب بشع، أو أطفال اضطروا للهجرة وحدهم عبر البحر، أو نساء تعرضن للاغتصاب من قبل وكلاء تابعين لنظام سياسي أو مليشيا مسلحة.

يؤمن يسري بأهمية عمله، ويراه جزءًا ضمن قناعاته الأخلاقية والتزامه الديني، لكن بعد فترة من ممارسة عمله، تزايد شعور يسري بإحباط غير مفسر، تطور مع الوقت ليصبح أكثر انعزالا وأشد انكبابًا على عدد من العادات الضارة، مثل تناول المنبهات والتدخين بشراهة، ما دفعه لمشاركة مشاعره مع بعض زملائه في العمل.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الطبيب النفسي الغربي الذي قتل أرواحناlist 2 of 2كيف أتخلّص من وسواس الخوف من الموت؟end of list

أحد الزملاء نصح يسري بزيارة طبيب نفسي ومعرفة ما المشكلة، لكنه لم يكن مستعدًا لتقبل حاجته لطبيب نفسي بعد. كان يسري يتذكر ما سمعه كثيرًا عن تعارض العلاج النفسي مع الإيمان بالله، أو التدين بشكل عام، لذلك تأخر كثيرًا في لقاء طبيب نفسي.

لكن خلال أشهر، عندما استيقظ يسري في منتصف إحدى الليالي يبكي بلا سبب واضح، قرر التواصل مع طبيبة نفسية رشّحتها له المنظمة الحقوقية التي يعمل بها.

إعلان

في الجلسة الأولى، وبعدما تحدث يسري مع الطبيبة عن طبيعة عمله ونشأته في أسرة متدينة، وكيف أنه يشعر بالعجز لعدم قدرته على مساعدة ضحايا الانتهاكات في العالم، وقبل نهاية الجلسة بقليل، قالت له الطبيبة: "أدرك تمامًا ما تتحدث عنه، وظنّي أن هذا العجز ناتج عن إحساس بالذنب، أتعرف ما أصل الإحساس بالذنب؟"، وقبل أن يجيب يسري تابعت الطبيبة: "الدين!". أنهى يسري جلسة العلاج النفسي مع الطبيبة، ولم يعد لزيارة أي طبيب نفسي بعدها لوقت طويل.

قصة محمود يسري، كما رواها بنفسه للجزيرة نت، تشير إلى التوتر المبرر من علاقة الطب النفسي وعلم النفس بالعامل الديني، إذ إحدى أكثر الأفكار شيوعًا حول العلاج النفسي أن الإيمان نقيض للمرض النفسي، وأكثر من ذلك أن المُعالج يوضح للمريض -بشكل أو بآخر- أن عليه ترك إيمانه خارج غرفة العلاج. تدفع تلك الفكرة العديدين إلى تجنب طلب المساعدة المختصة، بما يُعزز تلك الصورة بشكل أكبر.

هذه الصورة هي ما يهدف هذا التقرير إلى بحثها، حيث نؤسس للعلاقة المتذبذبة من ناحية تاريخية بين الدين والطب النفسي، ومنها إلى ارتباط الإلحاد بالأطباء والأخصائيين النفسيين. كما يحاول التقرير الإجابة عن سؤال: هل يمكن للطبيب النفسي غير المؤمن تقديم مساعدة فعّالة لمريض مؤمن؟

الإيمان الذي يشفي

لا يمكن القول إن العلاقة بين الإيمان والطب النفسي كانت واضحة على الدوام، لكنها ظلت تتطور إلى أن استطاع العلماء بناء تصور مكتمل عن تفاعل العامل الديني مع الصحة النفسية. فغالبًا ما تجاهل الطب النفسي الغربي البعد الديني والروحاني في الصحة النفسية، كما وُصف التدين في الأوساط العلمية بأنه "آخر محرمات الطب النفسي"، بينما كانت النظرة الدينية للعديد من الاضطرابات النفسية (مثل اضطرابات الذهان والفصام) على أنها "أرواح شيطانية" يجب طردها من الجسد، دون اعتبار السياقات والحلول العلاجية الممكنة.

إعلان

لكنْ في العقود القليلة الماضية، بدأ يتزايد الاهتمام بالإيمان والتدين وتأثيرهما على الرفاه النفسي. فقد وجدت دراسة إحصائية زيادة ملحوظة بين عامي 1999 و2013 في الدراسات التي تبحث العلاقة بين الطب النفسي والأديان، حيث بلغ عددها أكثر من 30 ألف دراسة.

في هذا السياق، نجد زخمًا جيدًا من الدراسات التي تُخبرنا عن الأثر الإيجابي الذي يُحدثه التديّن في حياة الفرد على العديد من المستويات. فعلى المستوى النفسي، يرتبط التدين بمعدلات أقل من اضطرابات الاكتئاب، واضطرابات القلق والتوتر، ومعدلات أقل من الانتحار، وذلك عند مقارنة تلك النسب لدى المتدينين مع غير المتدينين.

وعلى المستوى الاجتماعي، فإن الروابط الاجتماعية التي تنشأ بين الأفراد المتدينين تمنحهم شعورًا بالدعم من مجتمعهم، والتي بدورها تُعد أحد أهم العوامل ذات التأثير الإيجابي على الصحة النفسية.

يمتد هذا الأثر حتى على مستوى الصحة الجسدية، إذ رُبط الالتزام بالعديد من الشعائر والطقوس الدينية بتحسن في مستويات ضغط الدم. كما أن المتدينين هم الأكثر التزامًا بالامتناع عن تعاطي المواد المخدرة والكحوليات والتدخين وغيرها السلوكيات المضرّة، وبالتالي يكونون أكثر صحة جسدية من الآخرين.

هناك العديد من الدراسات التي تُخبرنا عن الأثر الإيجابي الذي يُحدثه التديّن في حياة الفرد على العديد من المستويات. (الجزيرة)

بالنظر إلى الأدلة السابقة، نطرح الإشكالية الرئيسية في هذا المقال: إذا كان للتدين كل هذا التأثير الإيجابي على الأفراد، فلماذا إذن ما زالت الصورة النمطية حول الطبيب النفسي الملحد منتشرة حتى يومنا هذا؟ وهل هي حقيقية أم أنها مُستمدة من الصراع القديم والعلاقة المتوترة بين الطب النفسي والأديان؟

هل يقتصر الإلحاد على الطبيب النفسي؟

حتى نُجيب عن هذا السؤال بشكل مُنصف، لا بدّ أن نعرض للإحصائيات التي درست الارتباط بين الإلحاد/التدين والطبّ النفسي.

إعلان

وهنا نجد بالفعل حضورًا للإلحاد بين ممارسي هذا المجال، ففي دراسة مسحية نُشرت عام 2007، وقارنت بين الأطباء النفسيين ومُقدمي الرعاية الصحية من التخصصات الأخرى في الولايات المتحدة، وُجد أنهم أقل ميلًا إلى التعريف عن أنفسهم بميول دينية، وأكثر ميلًا نحو اعتبار أنفسهم روحانيين ولكن غير متدينين (إذ نجد فروقًا في تعريف التديّن والروحانية رغم بعض نقاط التشابه).

وكانت إحدى المفارقات التي وجدتها الدراسة أن مقدمي الرعاية الصحية من المتدينين كانوا أقل ميلًا من الأطباء غير المتدينين إلى إحالة المرضى على الأطباء النفسيين.

نجد أيضًا أن هذه العلاقة بين الطب النفسي والإلحاد تُصبح أكثر وضوحًا إذا ما قارنا الطب النفسي مع الاختصاصات الطبية الأخرى، حيث وجدت دراسة أجريت على مجموعة من العاملين في القطاع الطبي (بنسب متفاوتة من الاختصاصات الطبية)، أن غالبيتهم يؤمنون بوجود الله، ووصف نصفهم أنفسهم بالمتدينين مقابل 11% فقط من الملحدين الذين لا يؤمنون بوجود الله، و12% من "اللاأدريين" الذين لا يعرفون إذا كان الله موجودًا أم لا.

لكن الجدير بالذكر هُنا أن النسبتين الأخيرتين كانتا الأكثر ارتباطًا بالأطباء النفسيين، بمعنى أنهم أكثر من صَنفوا أنفسهم ملحدين أو "لاأدريين"، وذلك بالرغم من أنهم شكلوا ما نسبته 2.3% فقط من عينة الأطباء الذين أُجريت عليهم الدراسة.

لكن هذه الإحصائيات تبقى جزءًا من الإجابة، فلا يمكن القول إن الإلحاد كظاهرة، يرتبط بالمجال الطبي والطب النفسي فقط، بل يمتد هذا الرابط ليشمل المجالات العلمية المختلفة. فقد وجدت دراسة استقصائية على أعضاء الجمعية الأميركية لتقدم العلوم؛ أن العلماء بمختلف مجالاتهم وتخصصاتهم أقل ميلا إلى التدين أو الإيمان بمستويات تصل قرابة النصف، وذلك مقارنة بالأفراد خارج تخصصات العلوم البحتة والتطبيقية.

إعلان

كانت النسب مثلًا متقاربة مع تخصصات العلوم الطبيعية الأخرى كعلم الأحياء، والكيمياء والفيزياء وغيرها. ووجدت دراسة أخرى النتائج نفسها فيما يتعلق بكون الأفراد الذين يتخصصون في العلوم هم بالفعل أقل تدينًا، لكن هذا الترابط -بحسب نتائج الدراسة- لا يعني أن من يدرس العلوم يصبح بالضرورة غير متدين، بل إن أولئك الذين يأتون من خلفيات غير متدينة أو ينشؤون في أسرة غير متدينة بالأساس؛ هم أكثر من يميل إلى اختيار تخصصات معينة.

لماذا يتجاهل الأطباء النفسيون الدين؟

"الدين يمتلك كل شيء: الوحي، النبوءات، حماية الحكومة له، أعلى درجات الكرامة والسمو، والأكثر من ذلك -الامتياز الذي لا يُقدر بثمن- وهو أن يحفر معتقداته وتعاليمه في ثنايا العقل في سن مبكرة من الطفولة حتى تكاد تُصبح أفكارًا راسخة"

(إرفين يالوم، من كتاب "علاج شوبنهاور")

حتى نشرح مواقف الأطباء النفسيين من الإيمان والتديّن، يمكننا استخدام نموذج الشخصيتين الأشهر في هذا المجال وهما سيغموند فرويد، وهو الاسم الأكثر ارتباطًا بظاهرة الإلحاد في مجال الطب النفسي، وكارل يونغ، الذي اختلف معه في شتى مواضيع ومجالات الطب وعلم النفس، ولم تقتصر خلافاتهما حول الإيمان والتدين فقط.

اشتهر سيغموند فرويد -الذي يُعتبر أول من أسس مدرسة التحليل النفسي (Psychoanalysis)- بعدائه الواضح للدين والتدين، حيث نشر العديد من الأفكار التي تُشبّه الدين ومظاهره وممارساته بأمراض واضطرابات نفسية، فهو عنده نوع من أنواع العصاب الجماعي (Collective neurosis)، ووهم ابتدعه الإنسان بسبب تقديسه الفطري لنموذج الأب (بمعنى أن الإله هو ما يقارب مفهوم الأب لدى الإنسان)، والعديد من التشبيهات والأفكار الأخرى التي تخلص في معناها إلى أن الأديان هي مجرد آلية دفاع مُخترعة.

كارل يونغ (يمين) وسيغموند فرويد (مواقع التواصل الاجتماعي)

دُحضت العديد من تلك الأفكار في الأوساط العلمية اليوم، بيد أنه لا يمكن إنكار أن هذا المنظور ومن تبناه -سواء من مؤسسات أو باحثين أو أطباء- سيطر على توجهات هذا المجال وإنتاجاتها لعقود طويلة.

على النقيض من فرويد، فإن الإيمان بالنسبة للطبيب والمحلل النفسي كارل يونغ؛ ارتبط مباشرة بسعي الفرد لإيجاد معنى للحياة، وليس الدين سوى إحدى تلك المحاولات.

بالنسبة لفرويد، لن يصمد الدين مطولًا أمام العقل والتجربة العلمية، وكان يأمل قدوم مستقبل يتجاوز العلم فيه الدين، ويحل العقل محل الإيمان بالله. أما بالنسبة ليونغ، فإن الرفاه النفسي للفرد لا يتحقق بشكل كامل إلا عندما ترتبط ذاته الواعية بأساس ديني يمنحها ما اعتبره "نظاما داخليا". كما اعتمد أسلوبَ الرمزية في تفسيره للعديد من القصص والأحداث الدينية وإسقاطاتها على الواقع. لكنّ المفارقة؛ أنه عندما سُئل إن كان مؤمنًا أم لا، لم تكن إجابته قطعية بالإيجاب.

إعلان

في عام 1995 نُشرت ورقة بحثية بعنوان "لماذا يتجاهل الأطباء النفسيون الدين؟"، وناقشت أهم الأسباب التي وسّعت الفجوة بين الطب النفسي والأديان بشكل عام. وكانت أهمّ هذه الأسباب؛ المادية الطبية (Medical Materialism)، إذ نتيجةً للتقدم الطبّي في مجال الأمراض النفسية وتحديدًا في سياق ربط الاضطرابات النفسية بأسباب عضوية -والذي يُعدّ تقدمًا إيجابيًا في مُجمله- فقدت العوامل الدينية والأخلاقية حضورها في الطب النفسي بوصفها مُسببات رئيسية للاضطرابات، فأصبح المادي والملموس هو المسبب الحقيقي، أما العوامل النفسية فهي مجرد آثار جانبية ونتائج للمسبب المادي.

إضافة إلى ذلك، ناقشت الورقة العلاقة بين مشاعر الذنب الناتجة عن عوامل ومفاهيم دينية، حيث أشارت إلى أن دراسات عديدة وجدت أن الأفراد الذين ينتمون إلى مجتمعات أكثر تدينًا يواجهون مشاعر الذنب بشكل أوضح وأكبر من غيرهم خلال نوبات اكتئابهم.

لا تُقدم هذه التفسيرات إجابة مباشرة وقطعية على الرابط بين الإلحاد والأطباء النفسيين، فهي في أحسن الأحوال قد تُفسر ابتعاد الطبيب النفسي عن استخدامه للدين في سياق دوره كطبيب ومُعالج للمريض، بمعنى أن الطبيب النفسي قد يكتسب المعرفة الكافية التي تجعله يُفضل تجاهل الاعتبارات الدينية في المواضع التي قد تُؤثر سلبًا على علاج المريض أو تزيد من انتكاس حالته. لكن لماذا يتعدى استبعاد الدين مساحة العلاج إلى مساحة الطبيب الشخصية؟

من جهة أخرى، فإن أحد التفسيرات الحديثة الممكنة للصورة النمطية حول "الطبيب النفسي الملحد" هو القصور في منظومة التدريب والعلاج التي يتلقاها المعالج النفسي.

إذ تُخبرنا دراسة أجريت في عام 2016 أن ما نسبته 80% من المعالجين النفسيين لم يتلقوا التدريب الكافي حول دمج القضايا الدينية والروحانية في مسار العلاج، وفي بعض الأحيان لم يتلقوا أي تدريب على الإطلاق. كما أن غالبية الدراسات التي أجريت في دول غربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، وجدت أن التحيز ضد الدين في مساحات الطب النفسي ما زال ملحوظا.

إعلان

بالمقابل، نجد أن هناك اهتمامًا متزايدًا واتجاهًا نحو فهم أفضل للتدين في مجال الطب النفسي، ويظهر ذلك في التوصيات المتعددة لإدخال الدين في النموذج الأشهر والأهم في فهم الاضطرابات النفسية والتعامل معها، وهو النموذج البيولوجي-النفسي-الاجتماعي (بمعنى أن يصبح الدين بُعدًا رابعًا في النموذج الذي ينظر للاضطرابات من خلال المنظور البيولوجي، والنفسي، والاجتماعي).

كما أن الأدبيات الموجودة تُخبرنا عن الأثر الإيجابي الحاضر مُسبقًا لهذا الاتجاه، حيث خلصت إحدى الدراسات إلى أن التدخلات العلاجية المصممة بحيث تتلاءم مع خلفية المريض الدينية والثقافية؛ تؤثر إيجابيا على تحسن حالته وسرعة شفائه.

صورة معبرة للطب النفسي (بيكساباي)

نستنتج إذًا أنه لا وجود لعلاقة سببية مباشرة تجعل مَن يختص في الطب النفسي على وجه التحديد ملحدًا (كما هي الصورة السائدة)، بل يُمكن القول إن العلاقة المتذبذبة تاريخيًا بين الطب النفسي والتديّن، أدت إلى قصور مؤسسي في أخذ الدين بجوانبه المختلفة بعين الاعتبار في مجال الطب النفسي، وهذا بدوره هو ما ساهم في نشر الصورة النمطية التي تضع الطبيب النفسي في قالب إلحادي يرفض الدين والتديّن جملة وتفصيلًا.

هل يمكن للطبيب النفسي الملحد أن يعالجني؟

لعل أحد أهم الأسئلة التي تهمّ من يلجأ إلى العلاج النفسي هي التي تتعلق بالدين في سياق المعاناة التي يمر بها. فالمؤمن يُفضل أن يتم أخذ خلفيته الدينية بعين الاعتبار من قبل المعالج، والعكس صحيح كذلك، (أي أن غير المتدين قد يُفضل معالجًا غير متدين لتخوفه من الأحكام التي قد تُطلق عليه مثلًا).

لكن قد تتفاجأ حين تعرف أن هذا التخوف لا يقتصر بالضرورة على المريض وحده، ففي مقال نشرته طبيبة نفسية عام 2015، طرحت في عنوانه السؤال ذاته الذي يؤرق المرضى: "هل يُمكنني كطبيبة نفسية لا تؤمن بالإله تقديم الرعاية للمرضى المؤمنين؟".

إعلان

تؤكد الطبيبة في مقالها أن هناك بالفعل فجوة بين حاجة المرضى إلى دمج خلفياتهم الدينية والروحانية في مساقات العلاج، وبين التدريب الذي يتلقاه المعالج. فبحسب خبرتها والتدريب الذي تلقته، تُخبرنا أنه قد يسأل المعالج النفسي المريض عمّا إذا كان متدينًا أم لا، لكن الإجابة لا تؤثر على مسار وخطة العلاج بأي شكل كان.

ولا تزال تتصاعد أصوات وتوصيات طبية حول أهمية تغيير سُبل التعامل مع كل ما هو ديني أو روحاني في الطب النفسي، بالإضافة إلى أخذ خطوات جادة من قبل المعالج النفسي تشمل الدراية بالخلفية الروحانية والدينية للمريض، واحترام ودعم معتقدات المريض. لا يعني ذلك بالضرورة أن على الطبيب أن يدعم ويشارك المريض في معتقده، إلا إذا كان واضحًا للمعالج أنها تؤثر سلبيا على المريض، كأن تزيد من معاناته أو تكون أساسًا لها.

قد لا يستطيع مقال واحد أن يقدم إجابات قاطعة حول العلاقة المتقلبة بين الدين والطب النفسي. لكن ربما يلعب هذا التقلّب دورًا في شكل وجودة الرعاية الصحية النفسية المقدمة للمرضى، والمساحة التي يُمكن ويجب على المختصين البحث فيها، ومحاولة فهم الإشكاليات المتعلقة بها.

مقالات مشابهة

  • مختبرات أمانة المدينة المنورة تجري أكثر من 10,000 اختبار لضمان جودة المواد بمشاريع المدينة المنورة خلال عام 2024م
  • الإلحاد والطب النفسي.. ما العلاقة؟
  • عام مليء بالشكاوى.. أكثر المنتجات التي أثارت استياء الأتراك في 2024
  • أكثر من 45 مليون طن من الركام في غزة
  • الأمم المتحدة: إزالة الركام في غزة قد يستغرق 14 عامًا
  • حكاية 5 منازل ضد الكوارث.. صمدت في وجه الحرائق والفيضانات والبراكين
  • فيضانات غير مسبوقة..خبير يكشف مفاجأة بشأن مياه سد جبل الأولياء بالسودان
  • فيضانات غير مسبوقة..خبير يكشف مفاجأة بشأن مياه سد جبل الأولياء
  • دعوة للشعراء للمشاركة في إنتاج أوبريت غنائي لدعم الشعب السوداني
  • آمال الحياة في غزة تنبعث من بين الركام