بطولات البحرية بمعارك الاستنزاف.. تدمير 4 سفن ورصيف إيلات وإغراق 14 إسرائيليا
تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT
تحل علينا اليوم الذكرى الـ50 لـ حرب أكتوبر المجيدة، اليوم الذي انتصرت فيه إرادة مصر جيشا وشعبا، على عدوان وغطرسة العدو الإسرائيلي، حيث تمكنت القوات المصرية من اقتحام أقوى مانع مائي في العالم وهو قناة السويس، واجتياح خط بارليف الذي روجت له إسرائيل بأنه يحتاج إلى قنبلة نووية لاختراقه، ما لا يدع مجالا للشك، في قوة الجندى المصري صاحب العزيمة والنصر.
وكانت السنوات قبل حرب أكتوبر، وتحديدا مرحلة حرب الاستنزاف، صاحبة بطولات أكدت أن لمصر يد طولى تستطيع أن تضرب في العمق الإسرائيلي، وهو ما نفذته القوات البحرية، من بطولات في عمليات إيلات، حيث أجرى "صدى البلد"، حوارا مع الربان/ نبيل عبد الوهاب، بطل الضفادع البشرية، والمشارك في الإغارة على ميناء إيلات، أكثر من مرة، ليروي كيف كانت المعارك قبل الحرب في أيامها، ودوره في استعاد الأمة الجريحة كرامتها وانتزعت نصرها.
محرر صدى البلد مع الربان نبيل عبد الوهاببطولات الجيش في حرب الاستنزافقال اللواء نبيل عبد الوهاب، أحد أبطال الضفادع البشرية والمشارك في الإغارة على ميناء إيلات، إن فترة حر الاستنزاف، كانت من أكثر الفترات جمالا وبطولة في تاريخ الجيش المصري، وتعتبر "تطعيم للمعركة"، وبمعنى أنها تدريب لحرب أكتوبر لمعرفة نقاط ضعف وقوة العدو واستغلالها، وخلال هذه الفترة حدثت العديد من البطولات من كل أفرع القوات المسلحة، من برية وجوية وبحرية.
وأضاف عبد الوهاب، أنه عقب الهزيمة، والتي لا يجب أن يطلق عليها عزيمة لان الجندي المصري لم يشارك في حرب 67 من الأساس، ولكن عقبها، حدث معركة رأس العش وتمكنت خلالها كتيبة صاعقة من التغلب على لواء مدرع إسرائيلي بدباباته، وظلت رأس العش وبور فؤاد حرة ولم تدخلها القوات الإسرائيلية، مشيرا إلى أن القوات الجوية قامت ببطولات كثيرة في فترة حرب الاستنزاف وأبرزها معركة المنصورة الجوية، وهي أطول عملية جوية في التاريخ واستمرت 58 دقيقة تكبدت فيخا القوات الإسرائيلية خسائر فادحة رغم التفوق الكمي والنوعي في الأسلحة.
عمليات البحرية في حرب الاستنزافوتابع: القوات البحرية أيضا نفذت عمليات أكثر من رائعة في هذا التوقيت، وكانت قائد القوات البحرية هو اللواء محمود فهمي الذي استغل كل أفرع القوات البحرية للتنكيد على العدو، فقدت تمكنت اللانشات المصرية من تدمير المدمرة إيلات وهي فخر البحرية الإسرائيلية وتمثل نصف قواتها، في 21 أكتوبر عام 1967، كما دمرت المدمرات المصرية منطقة تجمع العدو في رمانة وبالوظة وتم تدمير مراكز تجمع الجنود، كما أغرقت القوات البحرية المصرية الغواصة داكار أمام سواحل الاسكندرية.
وفيما يتعلق بالضفادع البشرية، فقد نفذت عمليات رائعة منها في حرب الاستنزاف، ومنها في حرب أكتوبر، ومنها عمليات خارج نطاق العمليات، حيث عملية الحفار في ساحل العاج، وكانت هذه العملية متعبة حيث تتبعت قوات الضفادع البشرية الحفار من داكار في السنغال وقبل ما تبدأ العملية، تحرك الحفار، وتتبعوه حتى أبيدجان وتم تدميره هناك.
اختراق ميناء إيلات 5 مراتوقال الربان نبيل عبد الوهاب، إنه فيما يتعلق بـ عمليات إيلات، فهي أكثر من عملية، لان معظم الناس يعتقدون أن الإغارة على إيلات كانت عملية واحدة، ولكن في الحقيقة، فقد نجحت قوات الضفادع البشرية المصرية من اختراق ميناء إيلات 5 مرات، نفذت خلالها 3 عمليات ناجحة، هذه العمليات كالتالي:
الإغارة على ميناء إيلات في 16 نوفمبر 1969.الإغارة على ميناء إيلات في 5 فبراير 1970.الإغارة على ميناء إيلات في 15 مايو 1970.وتابع: كنا نذهب إلى إيلات عن طريق الأردن بدون علم السلطات هناك، وكانت المعدات والذخائر تصل إلى العراق عبر مطار إتش ثري ثم نقلها إلى الأردن باعتبارها معدات تابعة لحركة فتح، وبعد ذلك ننزل من حدود الأردن - السعودية والتي تبعد عن إيلات بحوالي 24 كم.
الاختراق الأول لميناء إيلاتكانت المرة الأولى في 9 نوفمبر ووقتها لم تنفذ العملية لأنه لم نجد سفن في إيلات، وأصيبنا بخيبة أمل، ولكننا استفدنا لأنه كان يعتبر تدريبا في مناطق العدو، وفي طريق عودتنا وجدنا أمامنا لانش ساعر "دورية إسرائيلية"، فما كانت من قائد العملية سوى أنه تحرك باتجاه اللانش، وفجأة أطفأ اللانش المسلح بمدفع نصف بوصة، أنوراه هاربا، ظننا منهم تقريبا بأننا لانش انتحاري، في حين أننا لم نكن نمتلك أسلحة سوى 6 ألغام TNT وزن الواحد منها 50 كجم، وخزان بنزين بسعة 100 لتر، ما يؤكد أن الجندي الإسرائيلي جندي جبان.
حوار الربان نبيل عبد الوهاب أحد أبطال الضفادع البشرية المشارك في الإغارة على ميناء إيلاتالعملية الأولى في ميناء إيلاتأما العملية الأولى في إيلات، كانت يوم 16 نوفمبر عام 1967، ودخلنا الميناء وتم تلغيم سفنتين داليا وهيدروما، ولم تحدث خسائر في العملية سوى استشهاد الرقيب فوزي البرقوقي، والذي مات بطريقة بطولية، حيث مات بإحدى حوادث الغطس، وهو تسمم أكسجين، حيث أن الضفادع البشرية تغطس بأكسجين صافي وليس فيه أي خطورة إلا في أعماق معينة، وهي حادثة بسيطة وعلاجها بسيط وهو الصعود إلى سطح الماء واستنشاق الهواء ثم استكمال العملية، ولكن فوزي البرقوقي فضل أن يكمل المهمة وهو يعلم أنه سيموت، ولم يصعد إلى السطح حتى لا يتم كشف أمر الضفادع البشرية.
استشهاد الرقيب فوزي البرقوقي والعودة بهوبالفعل وضعت اللغم الخاص بي في منتصف المركب، وقام البرقوقي بوضع اللغم الخاص به في مؤخرة المركب تحت غرفة الماكينات، واستشهد بها، حيث أن الغواص يموت بسبب حادث تسسم الأكسجين في خلال 3 دقائق، ولكنه استشهد بفدائية كبيرة، وبالنسبة لجثمانه كما هو معتاد في الحروب هناك أوامر بترك الشهداء وأن ينجو الضفدع البشري بنفسه حتى لا تكثر الخسائر في رحلة العدو، ولكني رفضت أن أتركه حتى لا يطفو جثمانه على السطح بعد أيام وتستغله إسرائيل في عمل بروباجندا بانهم أسقطوا ضفدع بشري مصري، وهذا غير صحيح فقد استشهد البرقوقي بفدائية بحادث غطس، وهذه العملية أكدت أن مصر أيضا لديها القدرة على ضرب العمق الإسرائيلي.
عملية إيلات الثانيةأما العملية الثانية، فكانت إسرائيل قد أغارت على مواقع رادار في الزعفرانة مستخدمة ناقلة الجند بيت شيفع، وناقلة الدبابات "بيت يام"، وهجموا على الموقع الذي لم يكن به سوى رادار، وفكوا الرادار وسرقوه، فجاءت أوامر القيادة السياسية بتدمر السفنتين، لتحدث العملية في 5 فبراير، وبالفعل تم تدمير السفتنين، ما دفع الحكومة الإسرائيلية لاستجواب موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي، والذي تعهد بأن الضفادع البشرية المصرية لن تدخل إيلات مرة أخرى وفعل استحكامات أمنية كثير كانت كالتالي:
زيادة حجم العبوات الناسفة التي تلقى بالماء.إنشاء شباك حديدية على مدخل الميناء تفتح نهارا وتغلق مساء في وقت عمل الضفادع البشرية.منع المراكب من المبيت في الميناء وأن تخرج منه مساء وتبيبت في الخارج حتى لا تكون هناك سفن وقت عمل الضفادع البشرية.صدى البلد يكرم الربان نبيل عبد الوهابعملية إيلات الثالثةولذلك لجأنا إلى استخدام متفجرات أكبر ووضعها تحت الرصيف الحربي وضبطها للانفجار بعد 12 ساعة، وهو موعد وصول السفن، واستخدامنا متفجرات أكبر بدلا من الـ TNT بحجم 50 كجم ولكن حجمها في الماء صفر، واستخدمنا ألغام هكسوجين بقوة تدميرة مرة ونصف ضعف، وبوزن 125 كجم بوزن صفر في المياه، ولكن بسبب كثرة العبوات الناسفة التي كانت تلقى في المياه تضرر أحد الألغام في المؤقتات ووزنها تحت الماء فأصبح اللغم يطفو على السطح، ولكن قمنا بتثبيته عبر أحزمة الغطس.
وبالفعل وضعنا الألغام أسفل الرصيف الحربي وضبطنا المؤقت، ولكن الضرر في المؤقت، جعل اللغم الاول ينفجر أسفل الرصيف في تمام الساعة 7 صباحا، وكان الانفجا شديد دمر الرصيف الحربي، وعندما نزلت الضفادع البشرية الإسرائيلي، لحصر خسائر الرصيف، انفجر اللغم الثاني، ما تسبب في مقتل 14 ضفدع بشري، وهذه نتيجة أفضل بكثير من غرق السفن، لان السفن كانت أمريكا تعطي إسرائيل منها مجانا، أما جندي الضفادع البشرية الذي يتم اختياره بعناية ويمر بتدريبات صعبة، يصعب تعويضه.
الاختراق الخامس لميناء إيلاتأما الاختراق الخامس والأخير لميناء إيلات كانت في أبريل عام 1970، وكانت الخطة تصقضي بأن تذهب مجموعة واحدة إلى الميناء وتقعد في جزء من السفينة بيت يام الطافي فوق الماء، حتى موعد مجئ السفن إلى الميناء، ونجح الاختراق بالفعل ولكن كان المكان في السفينة الغارقة ضيق ولم يسع الضفادع البشرية وتم إلغاء المهمة.
عملية حرب أكتوبرأما في حرب أكتوبر، فتم نقل مجموعة الضفادع من الإسكندرية إلى رأس غارب، وبدأت الحرب بالفعل في 6 أكتوبر وكنا نسمع الأخبار في الراديو ولكن لم نشترك في العمليات حتى يوم 8 أكتوبر، وأخدنا أمر العملية وهي أن إسرائيل كانت محتلة الضفة الشرقية لخليج السويس، وكان هناك شركة بتروبل للبترول، وهي شركة بلاعيم، وكان يوجد بها 42 بئر يجمعون الانتاج في منصة الانتاج، ثم يتم نقل البترول عبر خطوط أنابيب إلى البر في خزانات، وكانت العملية مقسمة إلى أن تقوم الضفادع البشرية بتدمير منصة الانتاج في البحر، فيما تقوم الصاعقة البحرية بتدمير الخزانات في البر.
وبالفعل تمت عملية الإغارة بنجاح، ولكن بسبب البحر العالي والأمواج العالية لم تراني قوارب الانزل، فما كان امامي سوى العودة 24 كم سباحة إلى الضفة الغربية بدلا من السباحة 5 كم إلى الضفة الشرقية التي كانت تحلتها إسرائيل، وعندما وصلت الضفة الغربية كانت الألغام قد انفجر ورآني الجنود المصريين، وظنوا أني جندي إسرائيلي، وتحفظوا علي رغم أني اقسمت لهم أني عنصر الضفادع البشرية، ليسأنوني عن كارنيه الجيش، ولكن من غير المنطقي أن أنزل العملية بكارنيه الجيش.
ولكن عندما جاء ضابط المخابرات الحربية وكان دفعتي تعرف علي وعدت إلى مكاني.
صدى البلد يكرم الربان نبيل عبد الوهابالمصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: حرب اكتوبر القوات البحرية البحرية البحرية المصرية عمليات إيلات القوات البحریة حرب الاستنزاف المصریة من حرب أکتوبر صدى البلد حتى لا فی حرب
إقرأ أيضاً:
لا حق للدول في الوجود ولكن الحق للشعوب
ترجمة: أحمد شافعي -
في واشنطن التي تغلي اليوم بالتناحر الحزبي، يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على هذا الأمر في الأقل: لإسرائيل حق في الوجود. وقد تأكد هذا الحق على لسان رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسن وخصمه الديمقراطي زعيم الأقلية في مجلس النواب حكيم جيفريز وعلى لسان أنطوني بلينكن وزير الخارجية في إدارة بايدن وخلفه الجمهوري ماركو روبيو، وعلى لسان بيت هيجسيث وزير الدفاع الجديد في حكومة ترامب، وزعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر. وفي عام 2023 أكد مجلس النواب حق إسرائيل في الوجود بتصويت 412 في مقابل 1.
وما بهذه الطريقة يكون حديث ساسة واشنطن بعامة عن البلاد الأخرى. فهم في الغالب يبدأون بحقوق الأفراد، ثم يتساءلون عن نصيب دولة معينة من حسن تمثيل الشعب الذي تسيطر عليه. ولو كانت أمريكا تبالي بحياة من يعيشون في ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، لتبين بوضوح أن التساؤل عن حق إسرائيل في الوجود هو السؤال الخاطئ. وخير منه هذا السؤال: هل تحسن إسرائيل، بما هي دولة يهودية، حماية حقوق جميع الأفراد الخاضعين لسيطرتها؟
والإجابة هي لا.
وتأملوا هذا السيناريو: إذا انفصلت أسكتلندا قانونيا، أو أنهى البريطانيون الحكم الملكي، فلن تصبح الممكلة المتحدة مملكة أو متحدة. وسوف تنتهي بريطانيا التي نعرفها من الوجود، وسوف يقبل روبيو وشومر وزملاؤهما هذا التحول ويرونه شرعيا لاعتقادهم أن الدول ينبغي أن تقوم على رضا المحكومين.
وهذه نقطة يؤكدها الزعماء الأمريكيون قطعيا وهم يتناقشون مع أعداء أمريكا. وهم كثيرا ما يدعون إلى أن تُستبدل بأنظمة الحكم القمعية دول تتحقق فيها الأعراف الديمقراطية الليبرالية على نحو أفضل. في عام 2017، ذهب جون بولتن ـ الذي أصبح لاحقا في إدارة ترامب الأولى مستشارا للأمن الوطني ـ إلى أن «سياسة الولايات المتحدة المعلنة ينبغي أن تطيح بنظام الملالي في طهران». وفي 2020، وصف وزير الخارجية مايك بومبيو جمهورية الصين الشعبية بأنها «نظام حكم ماركسي لينيني» وبأنها «ّذات أيديولوجية استبدادية مفلسة». وحثَّ كلا المسؤولين الأمريكيين كلا البلدين لا على استبدال قائد بقائد وحسب، وإنما على تغيير نظاميهما السياسيين، وذلك يعني في جوهره إقامة الدولة من جديد. فيكون معنى ذلك في حالة جمهورية الصين الشعبية ـ الخاضعة لسيطرة الحزب الشيوعي، أو في حالة جمهورية إيران الإسلامية التي تتبع حكما إسلاميا، تغيير اسم البلد الرسمي نفسه على الأرجح.
في 2020، أعلن الوزير بومبيو في خطبة له أن مؤسسي أمريكا كانوا يؤمنون بأن «الحكم يوجد لا لتقليص حقوق الأفراد أو إلغائها وفق أهواء من يتولون السلطة، وإنما يوجد الحكم لضمان هذه الحقوق. فهل يكون للدول التي تنكر على الأفراد حقوقهم «حق وجود» بالشكل الراهن؟ ما يوحي به كلام الوزير بومبيو أن هذا الحق لا يكون لها.
ماذا لو تكلمنا عن إسرائيل بمثل تلك الطريقة؟ قرابة نصف البشر الخاضعين لسيطرة إسرائيل فلسطينيون. وليس بوسع أكثرهم ـ من المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة ـ أن يصبحوا مواطنين في الدولة التي تفرض عليهم سلطة الحياة أو الموت. وقد فرضت إسرائيل هذه السلطة في غزة حتى قبل غزو حماس في السابع من أكتوبر سنة 2023، بل منذ أن سيطرت على المجال الجوي للقطاع، والساحل، والسجل السكاني، وأغلب الممرات البرية، فجعلت من غزة بحسب وصف هيومان رايتس ووتش «سجنا مفتوحا».
وحتى أقلية الفلسطينيين الخاضعين للسيطرة الإسرائيلية ممن يحملون المواطنة الإسرائيلية ـ ويوصفون أحيانا بـ’عرب إسرائيل’ ـ تعوزهم المساواة القانونية. فالصندوق الوطني اليهودي، الذي قصر التزاماته على «اليهود» وأكد أنه لا يعمل «من أجل نفع جميع مواطني الدولة»، فيحوز قرابة نصف مقاعد جهاز الدولة المسؤول عن تخصيص أغلب أرض إسرائيل.
في الشهر الماضي، وعد الوزير بلينكن بأن الولايات المتحدة سوف تساعد السوريين على إقامة دولة «احتوائية غير طائفية». بينما إسرائيل الموجودة اليوم فعليا فاشلة في هذا الاختبار.
ومع ذلك، فبالنسبة لأغلب قادة المجتمع اليهودي الأمريكي المنظم، لا مجال للتفكير في بلد احتوائي غير طائفي في هذه الأرض. ولليهود حق الغضب حينما يدعو القادة الإيرانيون إلى محو إسرائيل عن الخريطة. لكن هناك فارق حاسم بين دولة ينتهي وجودها بغزو من جيرانها لها، ودولة ينتهي وجودها بتبنِّيها شكلا في الحكم أكثر تمثيلا.
ولا يكتفي القادة الأمريكيون اليهود بإصرارهم على حق إسرائيل في الوجود، إنما يصرون على حقها في الوجود بوصفها دولة يهودية، ويتشبثون في فكرة أنها يمكن أن تكون يهودية وديمقراطية معا برغم التناقض الأساسي بين التفوق القانوني لمجموعة عرقية دينية ومبدأ المساواة الديمقراطي في ظل القانون.
إن الإيمان بأن لدولة يهودية قيمةً مطلقة ـ بغض النظر عن أثرها على الشعب الذي يعيش فيها ـ مناقض لطريقة الأمريكيين في الحديث عن البلاد الأخرى. وهو مناقض أيضا للتراث اليهودي الذي لا يرى أن للدول حقوقا، بل ينظر إليها في ارتياب عميق. ففي الإنجيل أن شيوخ الإسرائيليين يطلبون من النبي صمويل أن يجعل لهم ملكا يحكمهم. فيأمر الرب صمويل بأن يحقق للشيوخ رغبتهم على أن يحذرهم من أن حاكمهم سوف يرتكب انتهاكات شنيعة. ويقول لهم صمويل إن «يوما سيأتي فيبكون فيه بسبب الملك الذي اختاروه بأنفسهم».
والمعنى واضح، وهو أن الممالك ـ أو الدول بموجب اللغة المحدثة ـ ليست مقدسة. فإن هي إلا أدوات تحمي الحياة أو تدمرها. ولقد كتب الناقد الاجتماعي الإسرائيلي الأورثوذكسي يشعياهو ليبوفيتز سنة 1975 يقول «إنني أنكر بشدة أن تكون للدولة أي قيمة في ذاتها على الإطلاق». ولم يكن ليبوفيتز أناركيا. وبرغم أنه كان يعد نفسه صهيونيا، فقد أصر أن تحاكَم الدول ـ ومنها الدولة اليهودية ـ بناء على معاملتها للبشر الخاضعين لسيطرتها. فلا حق للدول في الوجود وإنما هذا الحق للشعوب.
يخاطر بعض أعظم أبطال الإنجيل ـ ومنهم موسى ومردخاي وغيرهما ـ بحياتهم إذ يرفضون معاملة الحكام الطغاة بوصفهم آلهة. وبرفضهم عبادة سلطة الدولة، فهم يرفضون الوثنية، وذلك الرفض من ركائز الديانة اليهودية حتى لقد وصفه الحبر يوحنان في التلمود بأنه التعريف الجوهري للمؤمن باليهودية.
غير أن هذا الشكل من الوثنية ـ أي عبادة الدولة ـ يبدو اليوم مستشريا في الحياة اليهودية الأمريكية السائدة. وتبجيل أي كيان سياسي أمر خطير. لكنه يصبح خطيرا بصفة خاصة حينما يخص كيانا يصنف بعض الناس باعتبارهم أرقى أو أدنى قانونيا بناء على انتمائهم القبلي. وحينما تصر أهم الجماعات اليهودية الأمريكية ـ شأن الزعماء الأمريكيين ـ مرارا وتكرارا على أن لإسرائيل حقا في الوجود، فهي تقول عمليا إن إسرائيل لا يمكن أن تأتي بعمل ـ مهما بلغ إيذاؤه للشعب الخاضع لسيطرتها ـ فيستوجب إعادة التفكير في طبيعتها كدولة.
ولقد فعلت ذلك حتى حينما تزايدت انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان بصورة صارخة. فعلى مدار قرابة ستة عشر عاما، منذ أن رجع بنيامين نتنياهو إلى السلطة سنة 2009، خضعت إسرائيل لحكم زعماء يتباهون بمنع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من تأسيس بلدهم، وإجبارهم بالتالي على الحياة بوصفهم (لامواطنين) على الدوام، بلا أي حقوق أساسية في ظل الحكم الإسرائيلي. في عام 2021، اتهمت جماعة حقوق الإنسان الإسرائيلية الكبرى (بيتسليم) إسرائيل بممارسة الفصل العنصري. وأورد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية هجمات للمستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في 2024 تتجاوز هجماتهم في أي عام منذ أن بدأ الرصد قبل قرابة عشرين عاما.
غير أن القادة اليهود الأمريكيين ـ والساسة الأمريكيين ـ مستمرون في إصرارهم على أن التشكيك في شرعية الدولة اليهودية أمر غير مشروع، بل ويندرج في عداد معاداة السامية. وبذلك جعلنا من إسرائيل مذبحا مقدسا. وتحققت مخاوف ليبوفيتز: «عندما تكون أمة وبلد ودولة قيما مطلقة، فأي شيء حينئد يستساغ».
كثيرا ما يقول القادة اليهود الأمريكيون إن وجود دولة يهودية ضروري لحماية حياة اليهود. فلا يمكن أن يأمن اليهود دونما حكم يهودي. وإنني أتفهم ما يجعل كثيرا من اليهود الأمريكيين ـ وهم بصفة عامة يؤمنون أنه لا ينبغي للدول التمييز بناء على الدين أو العرق أو العنصر ـ يستثنون إسرائيل. فذلك ناجم عن آلام تاريخ شعبنا. لكن برغم معاداة السامية العالمية، يبدو أننا معشر يهود الشتات ـ الذين نعلق الأمن على مبدأ المساواة القانونية ـ أشد أمنا من يهود إسرائيل.
وليس هذا من قبيل الصدفة. فالبلاد التي يكون لكل فرد صوت في حكمها تنزع إلى أن تكون أكثر أمنا للجميع. وقد تبين لدراسة أجريت سنة 2020 على مئة وست وأربعين حالة صراع عرقي في العالم منذ الحرب العالمية الثانية أن الجماعات العرقية التي أقصيت من سلطة الدولة كانت أكثر احتمالا بثلاث مرات لأن تحمل السلاح مقارنة بالجماعات الممثلة في الحكم.
ويمكن أن نرى هذه الآلية حتى في إسرائيل نفسها. ففي كل يوم، يضع اليهود الإسرائيليون أنفسهم وهم في أضعف حالاتهم بين أيدي الفلسطينيين، أي على طاولات العمليات. وذلك لأن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يمثلون 20% من أطباء إسرائيل، و30% من ممرضاتها، و60% من صيادلتها.
لماذا يجد اليهود الإسرائيليون أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل أقل خطورة من الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة؟ يرجع سبب ذلك إلى حد كبير إلى أن الفلسطينيين من مواطني إسرائيل يمكن أن يصوتوا في الانتخابات الإسرائيلية. ولذلك، وبرغم أنهم يواجهون تمييزا شديدا، فإن لديهم على الأقل بعض السبل السلمية والقانونية لإسماع صوتهم. قارنوا ذلك مع الفلسطينيين في غزة، أو في الضفة الغربية، ممن يعدمون سبيلا قانونيا للتأثير على الدولة التي تقصفهم وتسجنهم.
فمن ينكر على شعب حقوقه الأساسية، يعرضه لعنف هائل. وعاجلا أم آجلا، يكون هذه العنف خطرا على الجميع. لقد حدث في عام 1956 أن رأى طف صغير عمره ثلاث سنوات اسمه زياد النخالة جنودا إسرائيليين يقتلون أباه في مدينة خان يونس بقطاع غزة. وبعد قرابة سبعين سنة، يرأس جماعة الجهاد الإسلامي وهي جماعة أصغر من حماس ولكنها تنافسها في التشدد.
وفي السابع من أكتوبر، قتل مقاتلو حماس والجماعة الإسلامية قرابة ألف ومائتي شخص إسرائيلي واختطفوا مائتين وأربعين. وردت إسرائيل على ذلك بمجزرة عبر هجوم على غزة تقدر مجلة لانسيت الطبية البريطانية قتلاه بأكثر من ستين ألفا، ودمرت أغلب مستشفيات القطاع ومدارسه وزراعته. ويمثل دمار غزة دليلا مريعا على فشل إسرائيل في حماية وكرامة جميع البشر الخاضعين لسلطتها.
والفشل في حماية أنفس الفلسطينيين في غزة يمثل في النهاية خطرا على اليهود. ففي هذه الحرب، قتلت إسرائيل في غزة بالفعل أكثر بمائة مرة ممن قتلت في المجزرة التي أودت بحياة والد زياد النخالة. فكم من ولد في الثالثة من العمر الآن سوف يطلب الثأر بعد سبعة عقود من الآن؟
ومثلما حذر عامي أيالون، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) حتى قبل نشوب الحرب الراهنة في غزة بقوله «إننا لو استمررنا في نشر الإذلال واليأس، فسوف تزداد شعبية حماس. وإذا تمكنا من إبعاد حماس عن السلطة، فسوف نواجه القاعدة، وبعد القاعدة داعشا، وبعد داعش ما لا يعلم إلا الله».
ولكن، باسم سلامة اليهود، يبدو أن المنظمات اليهودية الأمريكية تتسامح مع أي شيء تفعله إسرائيل في الفلسطينيين وإن يكن حربا تعتبرها الآن منظمة العفو الدولية إبادة جماعية، شأنها في ذلك شأن عمر بارتوف الباحث البارز في الهولوكوست المولود في إسرائيل. ولكن ما لا يستطيع الزعماء اليهود والسياسيون الأمريكيون أن يقبلوه هو المساواة بين الفلسطينيين واليهود ـ لأن من شأن هذا أن ينتهك حق إسرائيل في الوجود بوصفها دولة يهودية.
بيتر بينارت كتاب الرأي المشاركين نيويورك تايمز وأستاذ في كلية نيومارك للصحافة في جامعة مدينة نيويورك، ومحرر في مجلة (جويش كارنتس)، وكاتب نشرة (بينارت نوتبوك) الأسبوعية.
خدمة نيويورك تايمز