العراق بين حكم السياسة وحكم الإدارة
تاريخ النشر: 6th, October 2023 GMT
الجمعة, 6 أكتوبر 2023 2:54 م
رئيس مجلس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي
صباح التاسع من أبريل (نيسان) من العام 2020، وفي طريقي إلى قصر السلام، لتسلّم كتاب تكليفي برئاسة الحكومة الاتحادية العراقية، من قِبل فخامة الرئيس برهم صالح، ومشاركة الإخوة المسؤولين، حضر في ذهني حجم التحديات التي يعيشها العراق، وصعوبة الظروف التي يمرّ بها الوطن على مختلف الصُّعد، وتعقيدات المرحلة وحساسيتها على المستوى السياسي بشكلٍ خاص.
كذلك، كانت «تظاهرات تشرين» مستمرة في قلب العاصمة بغداد وبعض المدن الأخرى. لم يكن هناك أي مؤشرٍ – أو مؤشراتٍ – على قُرب انتهائها، ولم تلُح في الأفق أي بادرة حلٍّ لهذه الأزمة الخطرة بين المتظاهرين والحكومة الاتحادية برئاسة السيد عادل عبد المهدي.
وما زاد من حدّة الأزمات المتراكمة، والتي تفجّرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، ورفع من نسبة خطورتها، بروز تحديات عدّة؛ أبرزها جائحة «كورونا»، وفراغ خزينة الدولة من أي سيولةٍ نقديّة، وتمدّد سلاح الميليشيات وتهديده أمن الدولة وسُمعتها. للأسف، فإن العراق كان يفتقد البنية التحتيّة الصحيّة لمواجهة الحالات الطارئة، فكيف في مواجهة وباء أربك العالم بأَسره؟ أما الاقتصاد فقد وصل إلى مستوياتٍ متدنية مع تدهور أسعار النفط عالميّاً، بحيث تعذّر دفع رواتب الموظفين، في تحدٍّ لم يسبق أن واجهه العراق من قبل. أما السلاح غير المنضبط، المرعيّ من قِبل الميليشيات المسلّحة، فقد أصبح أداة ابتزازٍ للدولة، ومظلّةً حاميةً لمشاريع مالية واقتصادية تضرّ الاقتصاد الوطني، كما استُخدم في سياق تصفية حساباتٍ لا يتحمل العراق كلفتها، ما أضرّ سمعة البلاد، وفرض أولويّة تحسين صورتها إقليميّاً ودوليّاً.
بركان التحديات بدأ النشاط، وأصبح قابلاً للانفجار في أية لحظة. العمل والوصول إلى نتائج ملموسة بات ضروريّاً؛ لأن الفشل في المعالجة نتائجه كارثية على العراق؛ الوطن والدولة ومؤسساتها، والمواطن ومستقبله. هذا التشخيص، ومع البحث عن الحلول يفرض مراجعةً تاريخية، والعودة إلى أبريل (نيسان) 2003، مع تولّي السياسيين الحكم بعد سقوط نظام البعث. هذا التوجّه أعاق حركة بناء الدولة ومؤسساتها؛ فالدول التي يُراد لها إعادة بناءٍ على أسسٍ صحيحة، تعتمد في منهجها على الإداريين الناجحين، وليس على السياسيين.
وقد سمعتُ مراراً من بعض القيادات السياسية قولهم إن «الكاظمي ليس بالسياسي، وليس من قماشة المسؤولين السياسيين». كنت أردّ على ذلك بالقول – مفتخراً – إنني «لست سياسياً»، بالمعنى الحرفي لصفة السياسي. كرّرتها – غير مرة – أنا إداريّ وأنتمي في تفكيري إلى المنهج الوطني العربي الليبرالي، مستقلّاً عن الانتماءات وبعيداً عن الأحزاب ومتحاشياً أيّة تكتلات.
في العراق، باستطاعة اللعبة السياسية وعمليتها تشكيل حكومة ودعمها، وباستطاعتها – أيضاً – أن تصنع نظاماً يحكم لسنواتٍ طويلة، لكنها لن تكون قادرة على بناء دولة مؤسسات وشرائح منتِجة تشكّل مجتمعاً مغايراً عن المجتمع السائد. فالتطورات الاقتصاديّة والمدنيّة التي شهدتها الدول الناجحة، قادها زعماء يحملون الرؤى الإدارية أكثر من الرؤى السياسية، مثل سنغافورة أو ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. فهي نموذج رائع في مجال بناء الدولة، وتشبه إلى حدٍّ كبيرٍ ما عاناه العراق بعد حروب صدام التدميرية. لم تستفِد الطبقة السياسية التي جاءت بعد عام 2003، من تلك التجربة أو غيرها، إذ سلكت طريق السياسة وتركت منهج الإدارة.
حاولت كثيراً أن أبيّن للأطراف والقوى السياسية الصفة الإدارية لرئيس الوزراء، لكنهم صبغوا التعامل بالمنطق السياسي. فرئاسة الوزراء يجب أن تكون منصباً إداريّاً بالدرجة الأولى، لكن المناخ السائد كان – وما زال – يرفض التخلّي عن نظرته السياسية لهذا المنصب. رغم ذلك قبلتُ التحدي، وعملتُ على تقديم نموذجٍ إداريٍّ جديدٍ في البلاد.
على خطٍّ موازٍ، فإن العالم اليوم، بتشكّلاته وتكتلاته، قائمٌ على فنون الإدارة، والأقوى مَن يدير بلاده، وليس مَن يحكمها. نعم، لقد تغيّر العالم كثيراً، مع النقلات النوعية ذات المسافات الفلكية في التطور التقني والمعلوماتي والمفاهيمي. عالم الأمس كان غارقاً في السياسة، وعالم اليوم قد تحرر من تلك العُقد، وبدأ الاعتماد على جوانب أخرى تضمن التقدم والتطور، وهذا ما نشاهده في عددٍ من الدول الآسيوية الشرقيّة ومنطقة الخليج العربي. وإذا تحدثنا عن الدول الأوروبية، فقد كانت لقرونٍ طويلة أسيرة الفكرة السياسية في الحكم، وبعد تخلصها من هذا الطوق الضيق، انتقلت للاعتماد على مبدأ «الإدارة قبل السياسة».
وبالعودة إلى العراق، فبمقدوره أن يكون نموذجاً متقدماً في مشاريع بناء الدولة، لو تخلصت الطبقة السياسية من عُقدة «الحُكم السياسي»، واعتمادها منهج «الحُكم الإداري». وباعتقادي، فإن العملية ليست مستحيلة أو بالغة الصعوبة، فنحن نحتاج إلى ثقافة مجتمعية تقودها نُخبٌ بهذا الاتجاه. عندها، يصل الناخب العراقي إلى قناعة التحوّل من السياسة أولاً إلى الإدارة أولاً؛ وبذلك نتجاوز أكبر العقبات، ونكون على المسار الصحيح في إحداث تغييرات جوهرية في المقاربة والتعامل والرؤى المستقبلية.
ورغم التشاؤم المفرط بمستقبل العراق، كُلّي أملٌ وثقة بأن العراقيين قادرون على إعادة صياغة مفاهيمهم، وإنتاج واقعٍ جديد يحمل الهمّ الإداري قبل السياسي، ويعمل على حُكم الإدارة كنظام تعتمده الدولة.
المصدر: المركز الخبري الوطني
كلمات دلالية: بناء الدولة
إقرأ أيضاً:
في الأسس البعيدة للنظام السياسي الجزائري ولاختياراته التنموية.. كتاب جديد
الكتاب: النظام السياسي الجزائري والاختيارات التنمويةالكاتب: نور الدين زمام
الناشر: المركـز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية - ألمانيا - برلين 2024
عدد الصفحات: 184 صفحة
ـ 1 ـ
تعاني بلداننا العربية من انفصام مستمر بين واقعها وتطلعات طبقاتها الشعبية من جهة واختياراتها السياسية والاقتصادية من جهة ثانية. والبحث في النموذج الجزائري مثال جيّد يشرح هذه الحقيقة. وهذا ما عمل الباحث نور الدين زمام على إبرازه. فمن خلاله حاول البحث في أسباب التعثر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بلدان العالم النامي عموما.
وحتى يدرك غايته هذه عمل على اعتماد رؤية تأليفية تبحث في الترابط بين مختلفة أصعدة المجتمع ومكوّناته منطلقا من أبعاده التاريخية البعيدة كاشفا عن مسارات تطورها أو تدهورها، منتهيا إلى الوقوف على العوامل الراهنة، منزلا إياها ضمن سياقها الواقعي. وهكذا، فتناول آليات عمل النظام السياسي الجزائري غداة الاستقلال وما تبعه من التحولات السياسية والاقتصادية بالدرس وقلّب النظر في الصلة بين النخب التي تولت الحكم. واللوبيات التي استحوذت على النفوذ داخل دواليب السلطة وفي مراكز صناعة القرار بجرأة علمية.
ـ 2 ـ
انطلق نور الدين زمام في دراسته التاريخية السوسيولوجية هذه من خصائص تشكل المجتمع الجزائري ما قبل التغلغل الاستعماري، عاملا من وراء ذلك إلى رصد حجم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع الجزائري. فمن شأن تفصيل النتائج أن يجعلنا نفهم الأسباب أكثر.
كان للتحولات التي طرأت على المجتمع الجزائري وللصراع بين النخب الأثر العميق في تحديد ملامح السلطة الجزائرية في الفترة الأولى من عمر الدولة وفي بلورة المشروع التنموي.من أهم سمات البناء الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي الجزائر ما قبل الاحتلال الفرنسي الطابع الزراعي والرعوي الذي يتمركز أساسا في الأرياف وأطراف المدن. فهيمن على المرتفعات الجبلية النشاط الزراعي، حيث تسود الزراعات التشجيرية في المناطق الشديدة الانحدار بوجه خاص، في حين تمثل تربية المواشي نشاطا ثانويا مكملا ويسيطر النشاط الإنتاجي الرعوي في السهوب والجنوب. وغلب الطابع الجماعي على الشكل القديم لملكية الأرض. ففي الشمال مثلت العشيرة أو العائلة الطرف المالك. أما في مناطق الجنوب فكانت المراعي تعتبر ملكا جماعيا. ولكل قبيلة حق الاستفادة منها دون قيود مما يعزز من قدرة القبائل على التنقل للبحث باستمرار عن مواطن الكلأ والماء. ذلك أن الارتباط لا يكون بالأرض بقدر ما يتعلق بهذين العنصرين. وهما عاملان متحوّلان بتحول المناخ ومواطن التساقطات.
وتكاد الحواضر تستفرد بالنشاط الحرفي. ومع ذلك يؤكد الباحث أن بعض الأسر الريفية تضيف أحيانا صناعات حرفية مرتبطة بأشغالها إلى أنشطتها المعروفة.
ـ 3 ـ
يفصّل الباحث القول في طبيعة القوى الاجتماعية الجزائرية قبل الغزو الاستعماري الفرنسي. فقد أدى هذا المنوال الاقتصادي الذي يجعل القبيلة أو العشيرة أو العائلة وحدة اقتصادية واجتماعية إلى تدعيم متانة روابط القرابة. فكانت الهيمنة داخل التنظيم الاجتماعي البدوي تؤول إلى الرجال، إلى الأب أو الأخ الأكبر، فيما تتفرغ النساء لأداء الأعمال المنزلية المعروفة. أما في الحواضر فتستأثر الأقلية التركية الحاكمة التي تستأثر بمقاليد الحكم بهرم القوى الاجتماعية المسيطرة على دواليب الحياة الاقتصادية والسياسية والقوى الاجتماعية وتحتكر الصناعات الكبرى. و يتمتع "الكولغوليون" وهم الأبناء المنحدرون من زيجات بين أتراك وجزائريات، بمنزلة مميّزة دون أن يمنحهم انتسابهم إلى العائلات الكبيرة المشاركة في هيبة ولا في وظائف الأتراك. ثم يليهم " الأندلسيون" أو " المور" «Maures» وهم سليلو المغاربة القادمين من إسبانيا ما بعد حرب الاسترداد. فقد كانوا يُعتبرون أكثر نبلا، ولعبوا دورا هاما في إعادة إحياء النشاط الحرفي.
ويضاف إلى ذلك، في مرتبة أدنى، القبائل التابعة للسلطة التي تلعب دور الشرطي أمام القبائل المنشقة. وتمثل بقية أطياف المجتمع القوى الخاضعة. و تنحصر - بالنسبة للمدن- في الحرفيين الصغار وأصحاب الدكاكين الصغيرة والعمال المساعدين والعاملين في الأشغال العامة. وتتمثل في الأرياف في القبائل الضعيفة التي تجلى من أراضيها أو تحتمي بقبيلة أقوى.
ـ 4 ـ
سيتأثر هذا المنوال بعمق بالتدخل الأوروبين قبل الاحتلال وبعده. فمن محركات الاقتصاد في الشمال الإفريقي عامة التجارةُ الصحراوية التي جعلت من بلدان المغرب العربي، منطقة "عبور". وانطلاقا من الصحراء كان يدفق تيار الذهب الخالص المتجه نحو البحر الأبيض المتوسط إليها. ولكن سيرورة الانحطاط ستبدأ مع نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر بعد ظهور البرتغال في السواحل الأطلسية لإفريقيا معتمدة على أساطيلها الضخمة.
ثم فرضت سياسة الامتيازات. فوفرت الأجواء لتغلغل رأس المال الأجنبي بالتدرج داخل التراب الجزائري لتصبح بعد ذلك مناطق نفوذ له. والمقصود بسياسة "الامتيازات" تلك المعاهدات التي أمضيت بين الإمبراطورية العثمانية والدول الأوروبية لضمان مصالحها ومصالح رعاياها في البلدان الإسلامية، باعتبار أن الشريعة كانت تمنع على غير المسلمين حق التملك وإدارة المشاريع في أرض الإسلام. وعدّت هذه الإجراءات الاستثنائية في التعامل مع الوافدين من غير المسلمين امتيازا بمقارنة بالوضع القائم وقتئذ. لكنها أخذت تتضخّم وتنتزع بمنطق المغالبة.
ضمن هذه السياسة أنشئت الشركة الإفريقية فسهلت التغلغل داخل النسيج الاجتماعي والاقتصادي الداخلي. وخولت للرأسمال الميركانتيلي الأوروبي أن يزدهر. وكان نصيب الرأس المال الفرنسي وفيرا بفضل تواطؤ بعض الحكام أو عن طريق دعم الممولين اليهود الذين كانوا على دراية تامة بأفق انخراطهم في هذا الحراك التجاري.
ـ 5 ـ
لاحقا، ارتبط الاحتلال بالتغلغل العسكري وبالوحشية وبارتكاب المجازر الجماعية. واعتمادا عليها بسط سيطرته على موارد السلطة الحاكمة وإمكاناتها كلها، وعلى الملكيات الواقعة في أطراف المدن (خاصة مدينة الجزائر). فكانت أعمال الإبادة تلك ترمي إلى تفريغ المجال لإحلال المعمرين من الوفود المهاجرة من الأوروبيين في الأراضي الخصبة وتوطينهم فيها. ودعّم أعماله العسكرية بحزمة قوانين تساند سياسة مصادرة الأراضي واغتصابها، وتستأصل المتحدات أو التنظيمات القبلية وتلغي القوانين الإسلامية التي تكرس الملكية الجماعية وتخضع العقارات للقانون الفرنسي. ونتيجة لذلك ظهر نوع من المضاربة والتسابق بين الجزائريين للتخلص من أراضيهم، وظهرت بذور الشقاق بين أصحاب الملكيات المشتركة وتصاعدت الخصومات بينهم وأنشئت صكوك الملكية وعقدت الصفقات بأبخس الأثمان.
وبناء على تغلغل الرأسمالية الاستيطانية تم التركيز على الزراعات التجارية خاصة منها تجارة الكروم.
ـ 6 ـ
من تبعات الاقتحام الأوروبي بعناوينه المختلفة للمجال التجاري:
ـ بداية اندماج المجتمع الجزائري في السوق العالمي. وليس في العبارة مدح أو ثناء. فالباحث يريد بها توجيه الاقتصاد المحلي بما يخدم التجارة العالمية التي يسيطر عليه فرنسيون، دون وضع حاجات الجزائريين بعين الاعتبار. فعُوضت الزراعات الكبرى مثلا بغراسة الكروم لصناعة الخمور. وهذا ما كانت له تبعات سلبية على الأمن الغذائي المحلي الذي يعتمد على زراعة الحبوب أساسا.
ـ عجز البضائع المحلية عن مواجهة المنافسة غير المتكافئة مع المنتجات المستوردة وتدهور التجارة الجزائرية، خاصّة أنّ القبائل أصبحت تفضل المنتجات المستوردة لجودتها ولأثمانها الرخيصة.
ـ تقلص الأسواق الريفية التي كانت تحقق التكامل الاقتصادي بين أشكال الإنتاج المختلفة. فنجم عن هذا التأثير الخارجي تدهور الصناعات الحرفية في ظل منافسة لا متكافئة وتدهور الصناعات المنزلية بعد أن أصبحت القبائل تفضل المنتجات الرخيصة الواردة من أوروبا.
في ظل هذه التحولات المدمرة للاقتصاد المحلي لم تكن السلطة المحلية غير وكيل يمثل مصالح الطبقة الحاكمة والتجار والسماسرة الذين يتعاملون مع رأسمال الأجنبي والتجارة الفرنسية.
ـ 7 ـ
ستكون لهذه المعطيات أثرها العميق في سيرورة بناء الدولة وفي الاستجابة لرهانات الاقتصاد الوطني الجزائري وفق منوال تنموي بعينه. ولما تحقّق الاستقلال كانت النخبة ممزقة متباعدة الاتجاهات. ويقرب لنا صورتها يصنفها إلى ثلاثة نزعات متباينة:
عمل بناة الدولة الوطنية على قطع الصلة بالدوائر التي تعمل على تكريس التبعية الخارجية من خلال تحالفاتها مع بعض الشركاء وعلى تحقيق وحدة اقتصادية متكاملة تقوم على أساس هدم روابط التبعية مع المتروبول وعلى أساس تثمين الثروات الوطنية وبناء اقتصاد مكيف وفق المتطلبات المحلية والتعويل على قطاع الزراعة.ـ النخبة المتعلمة المتفرنسة قليلة العدد، التي تكونت في مدارس المحتل. هي نخب لبرالية تحكم تصرفاتها وممارساتها الاجتماعية، المصالحُ الخاصة. يصفها الباحث، والعهدة عليه، بأنها مستعدّة لتقديم الخدمة لمن يطلبها لتكون قريبة من صانعي القرار وأنّ ما يوحّدها إنما هو احتقارها للجماهير الشعبية، وعبادة الترقي الاجتماعي، والتوجه نحو أوروبا، والعداء الشديد للاشتراكية، لا أكثر.
ـ النخب المثقفة اليسارية التوجه. جمعت هذه الشريحة بين نزعتها البراغماتية التي تدفعها إلى التعامل مع أي حكومة تحت عنوان "خوض معركتها الفكرية في ساحة الوعي" وتوجسها من سياسة الحكومة التي تسيطر عليها العناصر البورجوازية الصغيرة. ولأنها كانت تبحث عن فرصة للتوغل داخل دور الثقافة والمسارح، وللاستحواذ على وسائل الاتصال الجماهيري من تلفزيون وإذاعة لتلعب دورها الأيديولوجي في صياغة العقول، لم تمانع في ممارسة دور سياسي. وكان مبررها أن السلطة تتبنى إجراءات غير رجعية تماما وأن احتكاكها بها سيمنحها الفرصة لتجسيد أفكارها وتحقيق المشروع الاجتماعي الذي ترى فيه المصلحة العليا للمجتمع.
ـ النخبة المثقفة التقليدية التي تكونت في مدارس العلماء والتي التحقت بجبهة التحرير في 1956. ونظرا إلى روح المحافظة التي تحكمها وقفت موقفا معارضا من التوجهات الجديدة لدولة الاستقلال. ولكن بعضها استدرج إلى دائرة الحكم. فمثل جهازا تبريريا فعالا لتمرير الأطروحات والخطابات والتصورات العديدة والمتباينة أحيانا.
ـ 8 ـ
كان للتحولات التي طرأت على المجتمع الجزائري وللصراع بين النخب الأثر العميق في تحديد ملامح السلطة الجزائرية في الفترة الأولى من عمر الدولة وفي بلورة المشروع التنموي. فقد عمل بناة الدولة الوطنية على قطع الصلة بالدوائر التي تعمل على تكريس التبعية الخارجية من خلال تحالفاتها مع بعض الشركاء وعلى تحقيق وحدة اقتصادية متكاملة تقوم على أساس هدم روابط التبعية مع المتروبول وعلى أساس تثمين الثروات الوطنية وبناء اقتصاد مكيف وفق المتطلبات المحلية والتعويل على قطاع الزراعة.
ويذكّر الباحث بعمل فرنسا على فرض تصورها لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الليبرالي الذي تراه ملائما للدولة الجزائرية بعيدا عن المعسكر الاشتراكي وسعيها إلى الاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية وبعلاقات اقتصادية متميزة ومراهنتها على وجود ثقافي راسخ لإبقاء الحالة الاستعمارية في موقف قوي ومهيمن رغم اعترافها بالدولة الجزائرية. ولقطع الطريق على الاستعمار الساعي إلى تكريس وجوده الاقتصادي والسياسي والثقافي بعد رحيله نشأ إذن تحالف بين النخبة العسكرية والنخبة المثقفة.
ـ 9 ـ
من نتائج هذا التحالف احتكار الدولة، التي تسللت النخبة المثقفة ذات التوجه الأيديولوجي الماركسي إلى مفاصلها، لعملية التنمية. فقامت بنفسها بمواجهة آثار التفكك الهيكلي الناجم عن السياسة الاستيطانية وعززت النهج الاشتراكي وتدخلت في القطاع الاقتصادي الخاص للإسراع بإضفاء الطابع الجماعي عليه. وسمح لها تكفّلها بالمسألة الاجتماعية بوضع يدها على الحياة السياسية والاقتصادية بالكامل.
غير أنّ تركيز السلطة في أيدي النخبة الحاكمة كرس النّمط العسكري ـ البيروقراطي للدولة. وفرض المنطق السلطوي على أشكال العمل السياسي وخوّل للنخب الجديدة الصاعدة أن تدعّم مواقعها وأن تهمّش لبقية الطبقات الشعبية. فاتسعت الهوة بين التطلعات والممارسة وبين النخب الحاكمة والقاعدة الشعبية الواسعة. وإلى اليوم ورغم مرور ستة عقود عن الاستقلال وعن ظهور النّمط العسكري ـ البيروقراطي لم تردم تلك الهوّة.