ديننا دين مفعم بالحياة وعمارة الكون، ولم يجعل من فلسفة الموت عائقًا لعمارة الأرض وصناعة الحضارات، بل جعل منها أكبر دافع للعمل والإنتاج وبناء الدول، حيث يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «إن قامتِ الساعةُ و فى يدِ أحدِكم فسيلة، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها» (أخرجه أحمد).
فحتى مع تيقن الموت نحن مطالبون بعمارة الكون، وإذا لم تدرك ثمرة عملك فى الدنيا فستدركها فى الآخرة، ألم يقل نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» (صحيح مسلم)، حيث يمتد الثواب بامتداد هذا النفع، ويقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «سبعٌ يجرى للعبدِ أجرُهنَّ وهو فى قبرِه بعد موتِه: من علَّم علمًا، أو كرى نهرًا، أو حفر بئرًا، أو غرس نخلًا، أو بنى مسجدًا، أو ورَّثَ مصحفًا، أو ترك ولدًا يستغفرُ له بعد موتِه» (أخرجه البيهقى ) والثواب هنا أيضا ممتد بامتداد النفع.
فالموت للمؤمن ليس عقدة وليس عائقًا، لأن المؤمن يدرك أنه سيجنى ثمرة عمله إما فى الدنيا وإما فى الآخرة وإما فيهما معًا، ليقينه بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، حيث يقول الحق سبحانه: «إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» (الكهف: 30).
أما تذكر الموت لدى غير المؤمن فمن الممكن أن يكون وسيلة يأس وإحباط أو انصراف عن العمل، لظنه أنه قد لا يستفيد من جهده، كونه لا يفكر إلا فيما يستفيد هو منه أو ينتفع به فى عاجل أمره.
وأما الموت عند المؤمن فدافع قوى له لعمارة الكون وصناعة الحضارة ومحفز له على العمل والإتقان، حيث يتزود المؤمن بعمارة الدنيا لرضا ربه عنه فى الدنيا والآخرة، وهو مطالب أيضا بأن يذر ورثته أغنياء، حيث يقول نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «إنَّك إنْ تَذَرْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
ذلك أن الموت عند المؤمن انتقال لا انتهاء، حيث يعمل المؤمن على أن يأخذ من دنياه لآخرته، وزاده الحقيقى هو عمله الذى قدمه سواء أكان لنفسه أم لأبنائه أم لوطنه أم لأمته.
كما أن تذكر الموت يدفع المؤمن لحسن المراقبة فى سره وعلنه، راقبناه أم لم نراقبه، لأنه يراقب من لا تأخذه سنة ولا نوم، حيث يقول الحق سبحانه: «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» (البقرة: 255)، ويقول سبحانه: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» (آل عمران: 185).
وزير الأوقاف
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أ د محمد مختار جمعة وزير الأوقاف صلى الله عليه وسلم الكهف البقرة صلى الله علیه وسلم حیث یقول
إقرأ أيضاً:
وصايا الرسول: الصوم في الشتاء ولماذا وصفه بالغنيمة الباردة
للصوم في فصل الشتاء أبعاد روحية وصحية فريدة، تجعله يُعد من أفضل العبادات التي وصفها النبي محمد صلى الله عليه وسلم بـ"الغنيمة الباردة"، جاء في حديث النبي: "الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة" (رواه الترمذي وغيره).
لماذا وُصف الصيام في الشتاء بالغنيمة الباردة؟سهولة الصيام: قصر النهار في الشتاء وانخفاض درجات الحرارة يجعلان الصيام أقل مشقة مقارنة بفصل الصيف.طول الليل: الليل الطويل يمنح الصائم وقتًا كافيًا للاستراحة وأداء صلاة القيام والتهجد.الأجر المضاعف: رغم سهولة الصيام في الشتاء، فإن الأجر يبقى عظيمًا كما هو الحال في أي وقت من السنة.الصوم كعبادة روحانية وصحيةروحانيًا: يعزز الصوم في الشتاء تقوى الله، حيث يُظهر العبد إخلاصه وعبادته في وقت تتوفر فيه سبل الراحة.صحيًا: يساهم الصيام في تعزيز الجهاز المناعي، تحسين الهضم، وتنظيم الوزن، وهو ما يتوافق مع فوائد الصيام المتعددة.أقوال السلف عن الصيام في الشتاءقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الشتاء غنيمة العابدين".وقال الحسن البصري: "نِعْمَ زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه".كيف نستفيد من الشتاء كفرصة للعبادة؟الإكثار من الصيام: اغتنام الأيام الباردة للصوم، خصوصًا أيام الاثنين والخميس، والأيام البيض (13-14-15 من كل شهر هجري).قيام الليل: مع طول الليل، يصبح القيام أقل مشقة، وهو فرصة لتعزيز العلاقة بالله.العبادات الأخرى: مثل قراءة القرآن، والذكر، والاستغفار.الصوم في الشتاء دعوة للتأملالصيام في هذا الفصل يذكرنا بالنعمة العظيمة التي أنعم الله بها علينا، ويعلمنا قيمة التضحية وضبط النفس. كما أنه يُظهر قدرة المسلم على الالتزام بالعبادة مهما كانت الظروف المحيطة.
الصوم في الشتاء فرصة روحانية وصحية تمنح المؤمن شعورًا بالقرب من الله وأجرًا عظيمًا بأقل مشقة. لذا، دعونا نستثمر هذا الفصل بالطاعات والعبادات التي تُثري قلوبنا وتُقربنا من الله.