ما الذي جعل المؤمنين يحظون برضوان الله وفضله ونعيمه المقيم في الجنان التي وعدهم بها، بعد أن وصف الله ما سينالونه بأنه الفوز العظيم والمبين والكبير، وهذه اللفظة، وكيف استعمل الكتاب العزيز لفظة «الفوز» وما هي مدلولاتها والسياقات التي وردت فيها، لو تأملنا في البداية مصطلح الفوز لوجدنا أنه مصطلح يدل على النجاة من الشر والظفر بالخير، وقد أطلق العرب على الصحراء مفازة، ومن المعلوم أن الصحراء القاحلة التي ترتفع فيها درجة الحرارة وتندر فيها المياه، ويتوه فيها السالك فهي مهلكة وليست مفازة، ولكن العرب كانوا يستبشرون بالخير والفأل الحسن، فيطلقون اللفظ على ضده فيسمون الملدوغ سليما، والصحراء مفازة.
ولكن الاستخدام القرآني استخدام خاص بما يلبسه لهذا اللفظ من معان خاصة موصولة الدلالة بالمعنى العام، فيقول الله تعالى في سورة آل عمران: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» فالقرآن الكريم أكد حقيقة واقعة واضحة جلية وهي أن كل نفس سوف تموت، وتوفية أجور أعمال الدنيا ستكون يوم القيامة، والفائز الذي سينال الخير وينجو من الشر هو الذي يبعد عن النار ويدخل الجنة، ثم يعود ليقرر الحقيقة الجلية أن الحياة الدنيا ليست هي الفوز وإنما هي مجرد متاع زائل يغتر به الغافلون.
وامتدح الله صفات الذين سيحظون بهذا الفوز وذلك نظير أعمالهم التي عملوها فقال تعالى في سورة المائدة: «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» فقد بين ربنا عز وجل أن الصدق طريق الجنة وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلـم هذا الأمر في حديثه الشريف الذي يقول فيه: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا» وعلاوة على الجنة ونعيمها فإن الصادقين ينالون رضوان الله لتحقق دلائل صدقهم ورضوا عنه لما كافأهم به من النعيم المقيم والجزاء الجزيل.
كما أثنى الله على المتقين وبيّن أنهم من الفائزين يوم القيامة، فقد راقبوا الله في أقوالهم وأفعالهم، فهم يأتمرون بما أمرهم به الله، وينتهون عما نهاهم عنه، وبذلك ينجيهم الله من الشر ويجزل لهم عطاء الخير فقال تعالى في سورة الزمر: «وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» وأكد الله هذا الأمر في سورة النبأ فقال تعالى: « «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا» وبين الله هذا المفاز الذي يصحبه حدائق وأعناب وكواعب أتراب.
ومركب النجاة مرهون بطاعة الله ورسوله فقال تعالى في سورة النساء: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» فالمؤمن وقاف عند حدود الله، طائع لله ورسوله فيما يأمرون به، ولذلك كان الجزاء جنات تجري من تحتها الأنهار ووصف الله هذه النجاة بأنها الفوز العظيم. وقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: «يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا».
أما من باع نفسه لله طلبا لما عند الله من الثواب، فبذل نفسه رخيصة في سبيل الله فإنه سيفوز فوزا عظيما ولننظر إلى قول الله تعالى في سورة التوبة: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» فالمؤمنون الشهداء وعدهم الله في التوراة والإنجيل والقرآن بأن لهم الجنة وذلك الفوز العظيم.
وفي موضع آخر من السورة نفسها يؤكد الله تبارك وتعالى هذا الأمر بقوله: «لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
ويقول ربنا تبارك وتعالى: «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» كما أن الله عز وجل وعد المؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين بأن لهم الجنة خالدين وهو الفوز العظيم.
أما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» فقد اختلف المفسرون في من نزلت فيهم هذه الآية فقال القرطبي في تفسيره «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم، أي بما فعلوا من القعود في التخلف عن الغزو وجاؤوا به من العذر . ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين في عهد رسول الله صـلى الله عليه وسلم كان إذا خرج النبي صـلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صـلى الله عليه وسلم فإذا قدم النبي صـلى الله عليه وسلم اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ; فنزلت لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا الآية . وفي الصحيحين أيضا أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون . فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ! إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب. ثم تلا ابن عباس «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه...» «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا». وقال ابن عباس: سألهم النبي صـلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه ، وأخبروه بغيره ; فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ، وما سألهم عنه . وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في علماء بني إسرائيل الذين كتموا الحق، وأتوا ملوكهم من العلم ما يوافقهم في باطلهم، واشتروا به ثمنا قليلا أي بما أعطاهم الملوك من الدنيا ; فقال الله لنبيه صـلى الله عليه وسلم : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم. فأخبر أن لهم عذابا أليما بما أفسدوا من الدين على عباد الله. وقال الضحاك : إن اليهود كانوا يقولون للملوك إنا نجد في كتابنا أن الله يبعث نبينا في آخر الزمان يختم به النبوة ; فلما بعثه الله سألهم الملوك أهو هذا الذي تجدونه في كتابكم ؟ فقال اليهود طمعا في أموال الملوك : هو غير ذلك ، فأعطاهم الملوك الخزائن ; فقال الله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا الملوك من الكذب حتى يأخذوا عرض الدنيا.»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: صـلى الله علیه وسلم تعالى فی سورة الله تعالى فقال تعالى یهدی إلى ابن عباس ال ف و ز
إقرأ أيضاً:
حكم الاستمناء باليد وعمل العادة السرية خوفًا من الزنا
قالت دار الإفتاء المصرية، إن الاستمناء باليد أمرٌ حرَّمه الله تعالى في كتابة الكريم؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾ [المؤمنون: 5-6]، وقال سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي.
أما كيفية التغلب على الاستمناء باليد، فإنه يكون بالتوبةِ النصوح، وكثرةِ ذكر الله تعالى، وذكرِ الموت، وقراءةِ القرآن ومُدارستِه، والمحافظةِ على الصلاة؛ لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ومراقبةِ الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ﴾ [النساء: 108]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْإِحْسَانُ أَن تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» رواه البخاري.
وقالت دار الإفتاء إنه يبدو أن السائل يحتاج إلى توبةٍ حقيقيةٍ بندمٍ شديدٍ، وعزمٍ أكيدٍ، وفعلٍ رشيدٍ، وعليك أيضًا بصلاة الحاجة فإنها خير معين؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 153]، و"كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حَزَبَهُ أمْرٌ صَلَّى" رواه أبو داود.
وتابعت: ثم عليك أيضًا بالدواء النبوي لمثل هذا الداء، وهو الصيام؛ قال صلى الله عليه وآله وسلم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» رواه البخاري.
العادة السرية خوفًا من الزناووجّه أحد الشباب سؤالًا إلى الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء في الأزهر الشريف، يقول فيه (في ناس بتقول إنه يجوز عمل العادية السرية خوفًا من الوقوع في الزنا.. فما حكم العادة السرية؟
وأجاب الدكتور علي جمعة، عن سؤال الشاب خلال برنامجه الرمضاني "نور الدين والدنيا"، أن الأدلة الشرعية جعلت الفقهاء يختلفون في الإجابة عن العادة السرية، المذهب الأول يقول بحرمة العادة السرية وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة.
وذهب الإمام أحمد وابن حزم الظاهري، أنه لا بأس من العادة السرية، كما أن الصحابة اختلفوا فيما بينهم على حكم العادة السرية فمنهم من قال بضررها ومنهم من قال إنه لا بأس بها، ومنهم من ذهب إلى أنه يلجأ إليها إذا خاف الزنا.
وأوضح أن القاعدة الشرعية تقول (لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المتفق عليه) فشرب الخمر حرام بالإجماع إذن لابد أن ننكره، وكذلك المخدرات والانتحار وترك الصلاة.
أما العادة السرية مختلف فيها، وتربية الكلب مختلف فيها، ولمس المرأة ينقض الوضوء أم لا؟ فمثلا الشافعية يرون بعدم جواز لعبة الشطرنج ويعتبرونها تحريك للأصنام، بينما يجيزها باقي المذاهب لأنها مجرد لعبة وتقوي الذكاء.