أثير – الروائي العربي واسيني الأعرج

“رسالة الغفران” ليست “صك” غفران للجنة والراحة الأبدية ولكنها مساحة أسئلة حية ودائمة تتوالد باستمرار بحسب الظرفيات الثقافية والمجتمعية والسياسية. الجنة عند أبي العلاء المعري استحقاق ثقافي وفني ومعرفي. أنت لا تدخل إلى فردوس المعري فقط لأنك كنت خيرا ونبيلا ونقيا روحيا، ولكن لأنك أبدعت وقلت ما لم يقله غيرك.

التمايز والإبداع طريق الجنة. لهذا لا نستغرب أن نجد عينات كانت تأتي الكثير من المحرمات في العصر الجاهلي وما تلاه، تتنعم في الجنة فقط لأنها تفوقت على غيرها أدبيا فاستحقت المراتب العليا التي أهلتها للفردوس حتى ولو تعاطت خمرا مثلا في حياتها. منطق المعري هو منطق فني وأدبي بالدرجة الأولى وليس ديني بالمعنى الضيق. لهذا كتبت الديمومة لهذا النص العظيم. لا نستغرب أبدا أن يصبح هذا النص جزءا من الوجدان الثقاقي العربي والإنساني العام. بهذا المنطق المعرفي يشكل نص «رسالة الغفران» لصاحبه أبي العلاء المعري (974-1057) لحظة مميزة في السرد العربي، وعميقة. ليس فقط بسبب محمولها الفلسفي الكبير، لكن أيضاً بما لنظامها البنيوي الداخلي من اجتهادات كثيرة، رفعت النص عالياً. فقد أصبحت «رسالة الغفران» علامة واضحة لارتقاء السرد العربي بين القرنين العاشر والحادي عشر، نحو الكمال الجمالي والحكائي. تطورت فيه كل البنى الداخلية التي شكلته، منها عنصرا الزمان والمكان (الفضاء) اللذان سنخصص لهما جزءاً مهماً من مساحة هذا المبحث، إضافة إلى الفعل التناصي الذي لا يمكن إغفاله ما دام يشكل جوهراً بنيوياً للنص. فالنص يتقاطع مع نصوص أخرى كبيرة الأهمية، تحمل نوعاً من القداسة: القرآن الكريم، ونص المعراج بمروياته العربية والشعبية، لكن أيضاً أخبار الشعراء وحيواتهم. فقد استعمل أبو العلاء المعري في «رسالة الغفران» كل هذه الوسائط البنائية المتاحة في زمانه، لتأثيث الزمن وتنويعه بين عناصره المختلفة من الزمن الخطي، إلى الزمن اللولبي، إلى الاستباقات بكل جزئياتها، لينتج زمناً تركيبياً فرضته إيقاعات النص. كما أعطى للأمكنة (الفضاء) أهمية كبيرة، على الرغم من افتراضيتها (الحشر، الجنة والنار بكل الأمكنة الصغيرة المتفرعة، المجالس، القصور، الوديان التي تسيل منها الخمرة والعسل…) إلا أنه جعل من الفضاء في تنوعه حقيقة مرئية عندما أثثه ببشر (شعراء) عرفهم أدبياً أو قرأ لهم، لدرجة أننا نسمع ضجيجهم سواء في الجنة أو الحشر أو النار، وهم يتحدثون عن أنفسهم. مساحة فنية حقيقية، إضافة إلى مكان ثالث لا يقل أهمية، وهو المعبر أو الصراط، حيث وجد السارد ابن القارح صعوبة في السير عليه، بالخصوص بعد مغادرته الحشر.

مع هذا النص، يحتاج المرء إلى قدر واسع من التخييل ليتوصل إلى صناعة عالم شبيه بأمكنته وأزمنته المتراوحة بين ماض محكوم بسلسلة لا تنتهي من الممارسات الحياتية والفنية للشعراء أنفسهم، وحاضر يعشه الفنان بين الأمكنة الثلاثة. فقد استطاع أن يجعل من معراجه وسيلته للكشف عن عوالم أدبية جديرة بالنقاش. كما فعل الشيخ الأكبر ابن عربي في معراجه، الذي صعد، حلمياً، من خلاله نحو الملكوت الأعلى وقد أشركنا في كل مشاهداته[2]. لهذا، فنحن نرى أن عبقرية أبي العلاء المعري، كيفما كان حكمنا على أفكاره، كبيرة ليس فقط في جرأة خيارات الثيمات الإبداعية، لكن أيضاً في النظام السردي الذي اقترحه علينا في هذه الرسالة التي ارتقى فيها التخييل إلى الدرج الأعلى. وكل ما قام به فنيا يجد سبله التطبيقية اليوم بلا صعوبات كبيرة. النظريات الأدبية النصية وحتى الفنية التاريخية، المرفقة بانفتاح على الموضوعاتية، تجعل من القراءة فعلاً راهناً وغنياً. الإبداعية الخلاقة لا ترتبط لا بمكان ولا بزمان. فهي تتخطاهما، حتى ولو ظل ذلك رهيناً بهما.

يبدو واضحاً، بعد تخطي العتبات التي تضع الأشياء في سياقاتها، أن أبا العلاء المعري استند بشكل دقيق، في جمالية القص والارتحال إلى العالم الآخر، إلى الرحلة الرسولية نحو سدرة المنتهى، كما ذكرنا سابقاً. فقد اختاره المعري كبنية فنية فقط تسمح له بالصعود دون أن يبدو كلامه غير طبيعي أو خرافياً، وللشخصيات التي حاورها من خلال ابن القارح، بالانتقال من الأرض إلى العالم الآخر، وإعادة بعثها. مما يوفر لأبطال الحماية منطقاً، ولو داخل المعطى الديني، القصصي، التخييلي، منطق الانتقال من الحياة العادية أو من المقابر نحو عالم تخييلي علوي بكل خصائص الأرض وما ارتكبوه من آثام جعلتهم يخلدون في النار أو العكس. من هنا جاء تخييل المعري قوياً ومحيراً وعلى حافة الاتهام بالزندقة والكفر، لكنه وضع كل الحكاية في السياق الديني، جعل درجة التهمة تقل كثيراً، فقد كان جريئاً وسجالياً؛ أي أن أفكاره تمر عبر حلقات الشعراء الإشكاليين الذين انتخبهم ليحاورهم ابن القارح، مع كل التبعات التي يمكن افتراضها في هذا السياق. وهذا ما يرفع هذا النص إلى الأعلى، فهو يتخفى إلى حد كبير في أعماق دانتي اليغري «الكوميديا الإلهية» الذي أسس للأدبية الغربية، الأوروبية تحديداً. وكانت هذه الخيارات الفنية والتأثيرات العالمية موضوعات لدراسات كثيرة وشديدة الأهمية، ليس هذا مكانها.

أنجز أبو العلاء المعري هذه الرسالة التخييلية والواقعية في الآن نفسه، ليرد على ابن القارح. وقد اختار في سرديته أن يجعل من ابن القارح بطلاً نصياً للحكاية، بدأها بمقدمة قدم فيها رسالة ابن القارح وطيبة صاحبها، ونفوذ كلماتها إلى قلبه، قبل أن يطلق العنان لمخيلته، داخل مدارات رحلة تخييلية التقى فيها ابن القارح مع كوكبة من رجالات الثقافة والعلم واللغة والشعراء العرب، لدرجة أن أصبح ما يرويه كأنه حقيقة. لم يتوان أن ينقل لنا نقاشاته نحو العالم الآخر، كما ساجل الأدباء والشعراء واللغويين في موضوعات شديدة الحساسية وكأنه يختبر معارفهم وآفاقهم وإنسانيتهم. ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا بفضل كلماته الطيبة التي رفعته إلى الجنة، فاقترب منه ووصف حاله، واصفاً الجنة التي دخلها بعد حشر ثقيل وانتظار زمن طويل، الزمن الإنساني وليس الزمن الأخروي. فانتظار شهرين في المحشر هو ثانية بالنسبة لزمن الصيرورة والإطلاق. لم يغفل أبو العلاء المعري الاستناد إلى بعض الأبيات الشعرية على عادة الكتاب القدامى لتدعيم رؤيته الفكرية والإبداعية، إذ لم تكن الخيارات والشخصيات الحكائية عملاً عبثياً. مرجعه الفني والبنائي في ذلك ما تمنحه الخلفيات الثقافية والأخبار، وتواريخ الشعراء من سبل تعبيرية مثقلة بالمعارف. وربما قصد أيضاً أبو العلاء المعري أن يحول النص إلى حلبة للمباراة اللغوية التي أفلح فيها، ولو أنها كانت تحول النص من حين لآخر على نص مغلق.

من هنا، فاختيار الشكل الغرائبي لم يكن فعلاً عبثياً ولا شيئاً طارئاً، فهو جزء من فلسفة المعري في الحياة. لقد عاش غاضباً على البشر وأطماعهم وجشعهم، ويائساً حتى من إصلاحهم، لهذا هرب في النهاية نحو الشعر. وحده الشعر أعطاه التوازن الذي ظل يبحث عنه بعد خيباته المتكررة. أدخل وأخرج من الجنة من شاء من الشعراء بسبب بيت شعري أو بسبب موقف صغير، ولم ينتظر الشيء الكثير من الحياة. جولته في دهاليز الآخرة ليظهر شيئاً مهماً هو غفران الله حينما يشاء ولا يطلب الإذن من أحد، فهو الأسمى والأقوى، ولهذا تظل أحكم البشر الشكلية أحكاماً جاهرة.

لهذا، فرسالة الغفران تظل ثمرة لإستراتيجية فنية اختارها أبو العلاء المعري المشبع بثقافة عصره، ليثبت جدارة حكيه، وسلطان الحق الذي لا يرى. أما الشكل الغرائبي الذي استعاره من المعراج والقرآن الكريم، فهو قيمة فنية مضافة للبنيات الأدبية في زمن كتابة هذا النص الذي وُلِدَ كبيراً، على الرغم من الزمن الظالم الذي مرَّ عبره. هو نص الاستمرارية والخلود لأنه مس قضية جوهرية: الإنسان في علاقته بالفن أي بالخلود والأندية. وإلا لكان قد اندثر قبل أن يتحول إلى مرجع إنساني كبير في محتواه وفي رؤيته الفنية الخالدة.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: هذا النص

إقرأ أيضاً:

كيف فسّر الشعراوي آيات وصف الجنة في القرآن؟.. بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت

وعد الله عباده المتقين بجنات تجري من تحتها الأنهار، ليتخيل كل مؤمن شكل هذه الجنة، مستعينا بوصف الجنة في القرآن الكريم، لذا فسر الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي في خواطره قول الرسول عن الجنة «بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر»، وفي التقرير التالي نستعرض ما قاله الشعرواي وتفسيرة لآيات وصف الجنة في القرآن الكريم.

وصف الجنة في القرآن الكريم

وفي خواطره قال الشيخ محمد متولي الشعراوي عن وصف الجنة في القرآن، في قوله تعالى {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ}.[محمد: 15]، إن الجنة بها أنهار من ماء، وأن المؤمنين يرون الأنهار في الجنة كما قال الله تعالي ولكن أنهار الجنة تختلف عن الأنهار التي نعرفها في الدنيا.

الأنهار من صفات الجنة في القرآن

وأضاف الشعراوي عن وصف الجنة في القرآن، أنه سبحانه وتعالى سينتزع من أنهار الجنة الصفة التي قد تعكر نهريتها وصفوها، حين تقف فيها المياه وتصبح آسنة متغيرة كأنهار الدنيا، لذكر المولى عز وجل أنها {أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ}[محمد: 15]، فالله عز وجل ضرب لنا مثلًا بالأنهار التي نعرفها في الدنيا ولكنه بين أنها تختلف عن أنهار الجنة، في العديد من الصفات، ومنها أيضًا أن أنهار الدنيا تسير بين شاطئين، بخلاف أنهار الجنة التي ليس لها شواطئ، لأن حجز المياه في أنهار الجنة يكون بالقدرة لا بالشواطئ.

وصف أنهار الجنة في القرآن

وأوضح إمام الدعاة أن المولى عز وجل قال في وصف أنهار الجنة، إنها من لبن لم يتغير طعمه، لأن العربي قديمًا كان يأخذ اللبن من الإبل ويخزنه في القِرب، ولأن الإبل كانت ترحل بعيدًا وتسافر إلى وجهتها، فلم يكن لدى الأعرابي إلا اللبن المخزن في القِرب، ويجده متغيرًا الطعم ولكن ليس لديه غيره، فلذلك بيًن المولى أن لبن الجنة لن يتغير طعمه.

صفات الجنة في القرآن

وأشار الشيخ الشعراوي إلى أن الآية بينت أن من صفات الجنة وأنهارها أن فيها خمر، لقوله تعالى «وأنهار من خمر» ولكن الخمر المقصود في الآخرة ليس كخمر الدنيا المعروف ولكن أريد به التشبيه فقط، إضافة إلى أن خمر الجنة يكون «لذة للشاربين»، بخلاف خمر الدنيا الذي يشربه الناس بدون لذة، لأن طعمها لاذع ومحمض؛ وتغتال العقول وتفسدها، مضيفًا أن من صفات الجنة التي وردت في القرآن، أنها {وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} وذلك لأن العرب قديمًا كانوا يحصلون على العسل من الجبال لأن النحل كان يصنع خلاياه داخل شقوق الجبال، ولذلك عند إخراجه يكون معكرًا الرمى والحصى، فأوضح الحق أن ما يعكر العسل في الدنيا يتم تصفيته للمسلم في الجنة.  

مقالات مشابهة

  • «الرواية والتاريخ والمجتمع».. مرة أخرى!
  • البرلمان العربي: قرار الاحتلال “شرعنة” بؤر استيطانية بالضفة الغربية انتهاك جسيم للقانون الدولي
  • كيف فسّر الشعراوي آيات وصف الجنة في القرآن؟.. بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
  • الندرة والترجمة وموت المؤلف.. كتّاب ونقاد يحللون إشكالية النص المسرحي
  • “حداء الإبل”.. لغة للتواصل بين الإبل وأهلها ضمن التراث الثقافي غير المادي السعودي
  • معالي عبدالسلام المرشدي يكتب عبر “أثير”: كان سيدًا بأخلاقه قبل نسبه
  • فيديو من ناسا يأخذنا في رحلة مثيرة داخل “أعمدة الخلق”
  • أسمنت الوحدة “رفيق” رحلة العبقري الصغير “يسلم السعدي”
  • السفير عُمَر عبد الحميد عَدِيْل “من نبلاء الدبلوماسية السُّودانية”
  • تأملات في مواقف “تقدم” (٢)