التدخل الروسي في سوريا.. ثمان عجاف غيرت مسار الثورة وفرضت معادلات جديدة
تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT
ثمان سنوات مرت على التدخل الروسي في سوريا، حيث تغيرت موازين القوى في البلد الذي شهد ثورة بدأت سلمية ومن ثم تحولت إلى مسلحة، تحت ضغط القمع الدموي للنظام.
يمثل الـ 30 أيلول/سبتمبر 2015، علامة فارقة قد تكون الأهم في تاريخ الثورة السورية، فما بعد هذا التاريخ ليس كما قبله، والثورة التي أخذت بالاتساع بدأت أراضيها تنحسر تحت ضربات الميغ الروسية.
انتعش النظام السوري بطوق النجاة الروسي، الذي نجح بمساعدة النظام عسكريا على استعادة زمام المبادرة، لكنه فشل بجوانب أخرى، ناهيك أن الحرب لم تنته بعد.
بداية التدخل
جاء التدخل الروسي بعد أن فقد النظام كثيرا من الأراضي، وباتت المعارضة والفصائل المسلحة تقاتل في أحياء دمشق وتسيطر على ريفها، كما أحكمت سيطرتها على إدلب واتجهت جنوبا نحو حماة.
شرق البلاد لم يك أفضل حالا بالنسبة للنظام، هناك يسيطر تنظيم الدولة على مناطق شاسعة من دير الزور ويقاتل النظام في أحياء المدينة المتبقية تحت سيطرته كما يحاصر مطار المحافظة، فضلا عن سيطرته على مدينة الرقة التي انتزعها من المعارضة المسلحة.
لم يكن اعتماد النظام على مساعدة حزب الله اللبناني والمليشيات الشيعية العراقية، كافيا لقلب كفة الصراع لصالحه، بل بات المشهد وكأن المعارضة والفصائل "الإسلامية" تقضم الأرض شيئا فشيئا من تحت سيطرة النظام.
شعرت إيران بخطورة المشهد، فأوفدت قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري إلى موسكو في حزيران/يونيو 2015، لطلب مساعدة الروس، بحسب وكالة رويترز.
تنقل الوكالة عن مسؤول إيراني قوله، "وضع سليماني خريطة سوريا على الطاولة أمام الروس الذين كانوا مرتبكين كثيرا وشعروا بأن الأمور في انحدار وأن النظام أضحى في خطر حقيقي".
يومها أكد الجانب الإيراني أنه لا يزال هناك فرص وقدرة على استعادة زمام المبادرة، وأقنعهم سليماني حينها أنهم لم يخسروا كل الأوراق، وفقا لرويترز.
وتذكر الوكالة نقلا عن مسؤولين إيرانيين، أن مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف زار طهران قبل سهر من التدخل الروسي، وأجرى مقابلات مع المسؤولين الإيرانيين، على رأسهم حسين أمير عبد اللهيان، الذي يتولى الآن منصب وزير الخارجية.
من جانبها قالت موسكو حينها، إن تدخلها في سوريا جاء نتيجة لطلب رسمي من الأسد الذي تحدث عن مشاكل يواجهها جيشه، عندما قال إن الجيش يواجه نقصا في الطاقة البشرية، مشيرة إلى أن الحلف الجديد يهدف لمواجهة تنظيم الدولة.
لكن العملية الروسية التي بدأت بالقصف المكثف، لم تستهدف التنظيم لوحده، بل شملت فصائل المعارضة حتى تلك التي تقاتل التنظيم، عندها بدا واضحا أن الروس عازمين على منع سقوط النظام.
يقول الخبير العسكري السوري أديب العليوي، "إن التدخل الروسي لم يكن ليحدث لولا وحود ضوء أخضر أمريكي-إسرائيلي، وهو بالأساس، حيث كانت وظيفته بالأساس إعادة التوازن، بعد وضوح اقتراب حسم المعركة لصالح الثوار الذين وصلوا إلى دمشق".
وأضاف في حديث لـ "عربي21"، "أن وإعادة التوازن يعني بالتحديد تطبيق الخطة الأمريكية في سوريا وهي معادلة (لا غالب ولا مغلوب) لذا استطاع التدخل الروسي إمالة الكفة لصالح النظام نسبيا، فلم يكن مطلوب منهم حسم المعركة".
إنقاذ الأسد
منذ اليوم الأول دعمت روسيا النظام السوري لكنها لم تنخرط في الحرب فعليا حتى أيلول/سبتمبر 2015، حيث زجت بعد هذا التاريخ بثقلها العسكري ومثل تدخلها بداية لتراجع المعارضة السورية على الأرض.
هاجمت المقاتلات الروسية مختلف المناطق التي تسيطر عليها المعارضة وبدأ النظام حينها قطف ثمار تدخل موسكو، الذي تجلى باستعادة السيطرة على مدينة حلب شمالي البلاد في كانون الأول/ديسمبر 2016، بعد أربعة سنوات من معارك طاحنة تقاسمت قوات المعارضة والنظام السيطرة على المدينة.
بعد حلب اتجه النظام مدعوما بالغطاء الجوي الروسي، لبقية المناطق من حمص وأريافها حتى العاصمة دمشق، حيث استعاد النظام السيطرة على معاقل المعارضة في غوطة دمشق عام 2018.
وتوالت خسائر المعارضة على طول الخارطة السورية من ريف دمشق وجبال القلمون حتى درعا التي خسرت فيها المعارضة هناك مناطقها منتصف 2018، كما حقق النظام بمساعدة الروس انتصارات على تنظيم الدولة الذي طرد من مناطق سيطرته جنوب الفرات في دير الزور والبادية السورية.
وكانت آخر معارك كسر العظم بين النظام والمعارضة، سيطرته على مدينة خان شيخون بريف إدلب منتصف عام 2019، قبل أن يطغى الجمود على الواقع العسكري في البلاد.
وذكر الخبير العسكري السوري أديب العليوي، "لم يكن للروس تواجد بريا كبيرا، الذي كان واضحا مع المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني، بالرغم من مشاركة الروس بريا أحيانا، عبر ضباط ومستشارين أو وحدة فاغنر في بعض المعارك فقط، خصوصا بالمناطق التي تسعى موسكو للسيطرة عليها وتكون في الغالب ذات ثروات طبيعية".
وتابع، "السيطرة الروسية يمكن وصفها بالمعينة حيث تتواجد الشرطة الغسكرية الروسية في حلب وحمص ودرعا مثلا، لكنها بالمقابل دعمت النظام عن طريق الجو بشكل كبير جدا".
وأضاف العليوي، "أن المعارضة كانت تحتاج لصواريخ مضادة للطائرات لإيقاف القصف لاسيما البراميل التي تلقيها الحوامات، لكن الحاجة الأكثر أهمية في حينها تتمثل بالدعم الدولي الصريح والحقيقي لإسقاط النظام".
ويرى العليوي، "أن هناك عدة أسباب حالت دون حسم المعركة لصالح المعارضة، على رأسها التدخل الدولي الذي منع فصائل المعارضة من التقدم باتجاه دمشق، فضلا عن الصراع الداخلي بين الفصائل".
الأرض المحروقة
استخدمت القوات الروسية سياسة الأرض المحروقة، في حربها ضد المعارضة، وهذا يظهر واضحا في مشاهد الدمار الصادمة وأعداد الضحايا الكبيرة من المدنيين في المناطق التي استعادها النظام.
مسحت أحياء كاملة من مدينة حمص وغوطة دمشق وبلدات في درعا وحماة وإدلب ودير الزور، بفعل القصف الروسي، وأدى ذلك إلى مقتل أكثر من 7000 مدني على يد القوات الروسية منذ تدخلها في الحرب عام 2015، بحسب إحصائية للشبكة السورية لحقوق الإنسان صدرت أواخر أيلول/سبتمبر المنصرم.
وتقول الشبكة أنها وثقت مقتل 6954 مدنيا بينهم 2046 طفلا و978 سيدة على يد القوات الروسية لوحدها منذ بدء تدخلها العسكري في سوريا قبل 8 سنوات.
وأكدت توثيقها بالصور والصورة ما لا يقل عن 360 مجزرة ارتكبتها القوات الروسية منذ تدخلها العسكري في سوريا، إلى جانب 1246 حادثة اعتداء على مراكز حيوية مدنية من مدارس ومنشآت طبية وأسواق.
ووفقا لتقرير الشبكة فقد قتل 70 من الكوادر الطبية و44 من كوادر الدفاع المدني على يد القوات الروسية خلال 8 سنوات. كما لقي 24 إعلاميا حتفهم خلال الفترة نفسها.
وأوردت الشبكة إحصائية لشن القوات الروسية 237 هجوما بذخائر عنقودية وكذلك 125 هجوما بأسلحة حارقة منذ عام 2015.
وسجلت مدينة حلب أعلى نسبة في عدد القتلى بحسب إحصائية الشبكة الحقوقية، بواقع 2789 مدنيا، تليها إدلب بـ 2593 ضحية من المدنيين.
ومع الغزو الروسي لأوكرانيا، استذكر العالم ما جرى في سوريا، حتى قال الجنرال أولكسندر سيرسكي قائد القوات البرية الأوكرانية، إن موسكو تستخدم استراتيجية الأرض المحروقة في بلاده كما فعلت في سوريا.
وفي آذار/مارس العام الماضي قالت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"؛ إن العقيدة العسكرية لموسكو ترتكز على استخدام الأسلحة الثقيلة والقصف الجوي لتدمير من يقف أمامها، محذرة من أن تستخدم روسيا استراتيجية الأرض المحروقة في أوكرانيا، كما فعلت بالشيشان وسوريا.
تكلفة ثقيلة
تنتشر القوات الروسية في عدد من المواقع العسكرية الروسية في سوريا التي يتجاوز عددها 100 موقع، منها 20 قاعدة تحكّم وسيطرة أبرزها قاعدة "حميميم" الجوية بريف اللاذقية، وقاعدة طرطوس البحرية، وفقا لمركز جسور للدراسات.
وتتواجد القوات الروسية في محافظات دير الزور، الحسكة، الرقّة، حلب، اللاذقية، طرطوس، حماة، حمص ودمشق والسويداء والقنيطرة.
وشارك في ذلك التدخل الروسي منذ بداياته أكثر من 60 ألف جندي، ونحو 26 ألف ضابط، وأدت عملياتها العسكرية إلى القضاء على أكثر من 133 ألف إرهابي، وفقاً لوزارة الدفاع الروسية.
وشكلت القوات الروسية مجموعات عسكرية تابعة لها بشكل مباشر، أبرزهما "الفيلق الخامس" و"قوات النمر" حيث ساهمت المجموعتان بشكل كبير في التقدم الذي أحزره النظام على حساب المعارضة والمجموعات المناهضة له.
ولم تصدر روسيا إحصائية لقتلاها في سوريا، سوى ما أعلنه النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، أندريه كراسوف في آذار/مارس 2019، بأن 112 جنديا روسيا قتلوا خلال النزاع المسلح في سوريا.
اما عن التكلفة الاقتصادية، فقد، أشارت دراسة لمؤسسة البحوث الدولية "أي إتش إس" ومقرها لندن، أن معدل النفقات العسكرية الروسية في سوريا يبلغ بين 3 إلى 4 ملايين دولار يوميا.
ولا تشمل هذه الإحصائية، الدعم بالسلاح الذي قدمته روسيا للنظام، حيث لم تقبض ثمن تلك الأسلحة وحولتها إلى ديون طويلة الأجل، أو اختارت تحصيلها من خلال مزايا أو اتفاقيات تضمن بها مصالحها وتواجدها بالمنطقة، وفقا للأناضول.
انعكاسات حرب أوكرانيا
انعكس الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في شباط/فبراير العام الماضي، بالسلب على وجودها في سوريا، حيث تحول تركيز الكرملين نحو كييف التي أصبحت ساحة لمواجهة غير مباشرة مع الغرب،
عقب غزو أوكرانيا اتسعت الهوة بين موسكو والغرب بشكل عام، كما أن طول أمد الحرب أثر على الإمكانيات العسكرية الروسية في سوريا.
وتحدثت عن تقارير عن نقل روسيا قوات من سوريا نحو الجبهة في أوكرانيا، وذكرت صحيفة " نيويورك تايمز" الامريكية في تشرين الأول/أكتوبر العام الماضي، أن موسكو سحبت أنظمة دفاع جوي رئيسية وبعض القوات من قواعدها في سوريا لتعزيز حربها على الجارة أوكرانيا.
من وجهة نظر الخبير العسكري أديب العليوي، "فإن الحرب الأوكرانية لم يكن لها انعكاسات كبيرة على الوضع في سوريا، على عكس آراء الكثير من الخبراء والمحللين الذين توقعوا تغيرا كبيرا في الساحة السورية".
وعزا العليوي ذلك إلى عدة أسباب أهمها، "أن القوة الروسية في سوريا تعتمد على الجو بشكل أساس فنقل سرب أو أكثر إلى أوكرانيا لن يحدث تغييرا كبيرا على الأرض لا سيما مع حالة الهدوء النسبي الذي تشهده الجبهات في سوريا".
وأردف، "كما لا توجد قوات برية بأعداد كبيرة سوى فقط مجموعات من الشرطة العسكرية والقوات التي تنتشر في حقول النفط والغاز وتساعدها في ذلك قوات فاغنر".
وردا على سؤال حول إمكانية فتح جبهة في سوريا بالتزامن مع تعثر روسيا في أوكرانيا، أجاب العليوي، "أن المعركة في سوريا ليست بين المعارضة والروس، بل مع النظام الذي تساعده موسكو، فإذا فتحت أي جبهة ستتدخل المليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني وقوات النظام، أما روسيا ستوفر غطاءا جويا فقط، وكما هو معروف فإن القوات البرية هي من تحسم المعركة، وهذه موجودة فعليا على الأرض متمثلة بالنظام والمليشيات الداعمة له".
وختم بالقول، "إن فتح جبهة في سوريا أمر صعب جدا، لا سيما أن الأوضاع هناك أصبحت أكثر انضباطا، فجميع فصائل المعارضة لا تمتلك قرارا حرا لذا من المستبعد حاليا فتح جبهة
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية سوريا الثورة حلب القوات الروسية سوريا حلب الثورة اوكرانيا القوات الروسية تغطيات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الروسیة فی سوریا القوات الروسیة الأرض المحروقة التدخل الروسی لم یکن
إقرأ أيضاً:
معركة الجرف الكبرى و7 أيام سطر فيها الجزائريون ملاحم البطولة
في 16 فبراير/شباط 1957، وبينما كانت السلطات الفرنسية تحاصر حي القصبة في قلب الجزائر العاصمة، تمكنت بعد مطاردة طويلة من القبض على مناضل يحمل هوية باسم "عبد الرحمن عيبود"، لكن الجنود سرعان ما أدركوا أنها هوية مزيفة بعدما تأكدوا أنهم نجحوا بالفعل في القبض على أحد أهم مُفجري ثورة التحرير الجزائرية، وأحد ألد أعدائهم: محمد العربي بن مهيدي.
كانت الثورة الجزائرية قد اندلعت قبل ذلك بأقل من 3 سنوات، وكان بن مهيدي أحد قادة جبهة التحرير الوطني الستة الذين أطلقوا الثورة، لذلك فقد كان القبض عليه بالنسبة للسلطات الفرنسية بمثابة الحصول على كنز. لكن على مدار الأيام اللاحقة، اكتشف الفرنسيون أنهم، وإن كان صندوق الكنز معهم، لا يملكون المفتاح. تعرّض العربي بن مهيدي لتعذيب شديد من أجل انتزاع معلومات حول الخلايا الثورية وأنشطتها، لكنه لم يبح بأي سر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2أبراهام شتيرن الصهيوني الذي أراد التحالف مع هتلر من أجل إسرائيلlist 2 of 2أطلقوا عليه "سلطان العالم".. عندما استغاثت فرنسا بسليمان القانونيend of listوفي 7 مارس/آذار، أي بعد أقل من 3 أسابيع من اعتقاله، نشرت صحيفة لوموند الفرنسية خبرا بعنوان "انتحار العربي بن مهيدي في زنزانته بعد حالة اكتئاب".
لم يصدق الجزائريون الخبر، ولم يعترف الفرنسيون بالحقيقة إلا بعد 70 عامًا من اندلاع الثورة. ففي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أعلن قصر الإليزيه في بيان، أن رئيس الجمهورية "يعترف اليوم بأن العربي بن مهيدي، البطل الوطني للجزائر وأحد قادة جبهة التحرير الوطني الستة الذين أطلقوا ثورة الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، قتله عسكريون فرنسيون كانوا تحت قيادة الجنرال بول أوساريس".
طيلة السنوات الماضية حافظت الرواية الرسمية الفرنسية على القول بأن بن مهيدي انتحر في سجنه، رغم أن أوساريس نفسه اعترف بقتله في مذكراته التي نُشرت عام 2000.
أتى هذا الاعتراف ضمن سياق أوسع لإعادة قراءة تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر، حيث يبدو أن الاعتراف الرسمي بمثل هذه الأحداث قد يشير إلى تقدم تدريجي نحو مواجهة الماضي الاستعماري، وإخراج خفايا الزوايا التي حرص الفرنسيون على إخفائها طوال تلك العقود.
من تاريخ النضال الجزائريالحقيقة أن ثورة التحرير الجزائرية تعد ذروةً في مسار طويل ومعقَّد من المقاومة الشعبية، سواء السياسية أو المسلحة، ضد الاستعمار الفرنسي الذي غزا البلاد عام 1830، فقد بدأت هذه المقاومة بعد فترة قصيرة من بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر مع حركة الأمير عبد القادر الجزائري (1832-1847)، مرورًا بمقاومة أحمد باي (1837-1848)، ثم مقاومة الزعاطشة (1848-1849) وكذا مقاومة لالّة فاطمة نسومر والشريف بوبغلة (1851-1857)، وصولًا إلى بطولات الشيخ المقراني والشيخ بوعمامة (1871-1883)، وكلٌ منها كشف عن دور مجيد من أدوار النضال الجزائري الثوري ضد المحتل الفرنسي.
بالإضافة إلى هذه الحركات الثورية المسلحة، شهدت الجزائر أيضًا العديد من التحركات الشعبية عبر مختلف مناطقها التي أسهمت في تشكيل الوعي الوطني حتى بداية ثلاثينيات القرن العشرين، حيث ظهرت "حركة نجم شمال أفريقيا" في عام 1926 بقيادة مصالي الحاج، لتتحول بعدها في عام 1937 إلى "حزب الشعب الجزائري"، ثم في عام 1946 إلى "حركة انتصار الحريات الديمقراطية".
وفي داخل إطار هذه الحركة الوطنية التي كانت تزداد اشتعالا يوما بعد آخر، نشأت منظمة عسكرية سرية من مجموعة من المناضلين الذين كانوا يطمحون إلى إشعال ثورة مسلحة شاملة في عموم البلاد، استجابة لظروف داخلية وخارجية كانت تبدو مواتية في ذلك الوقت. وكان من أبرز هذه الظروف المجازر التي ارتكبتها فرنسا في 8 مايو/أيار 1945، والتي أودت بحياة أكثر من 45 ألف جزائري كانوا يطالبون بحقهم في الاستقلال والجلاء الفرنسي، على خلفية انتصار الحلفاء -ومنهم فرنسا- على النازية في الحرب العالمية الثانية، بعدما وعدتهم فرنسا بالحرية والاستقلال.
إضافة إلى ذلك شكَّلت هزيمة الجيش الفرنسي في معركة "ديان بيان فو" في الهند الصينية عام 1952، محفزًا قويًا لإطلاق الثورة الجزائرية، وذلك في وقت كان العالم يشهد فيه توسّعًا غير مسبوق لحركات التحرر الوطني، فقد أدرك الثوار الجزائريون أهمية المقاومة وجدواها، وأن قوى آسيوية استطاعت أن تقهر الجيش الفرنسي.
اشتعال ثورة التحرير الجزائريةولهذا السبب وبعدد بلغ حوالي 1200 مقاتل، وبامتلاك قرابة 400 قطعة سلاح، أُطلقت أولى الرصاصات من جبال الأوراس في شرق الجزائر لتشتعل الثورة في غرة نوفمبر/تشرين الثاني 1954 وتتوالى بعدها العمليات المسلحة في مختلف المناطق الجزائرية، مصحوبة بتوزيع منشورات باللغتين العربية والفرنسية لحض الناس والمقاومين على المواجهة والاستعداد. وقد سجّلت الإدارة الاستعمارية في الليلة الأولى من الثورة حوالي 30 حادثًا، كان أخطرها في مناطق الأوراس، والقبائل، والعاصمة، والشمال القسنطيني ووهران غربًا.
وفي رد فعلها الأول على هذه الأحداث، أصدرت الإدارة الفرنسية مرسومًا يوم 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1954، يقضي بحلّ جميع المنظمات والهيئات السياسية الجزائرية، واعتقال أكثر من 500 مناضل ومسؤول في الحركة الوطنية، وكان هذا بداية سلسلة من الملاحقات التي تزامنت مع عدة عمليات مسلحة ضد مواقع وهيئات وشخصيات فرنسية، تبنّاها "جيش التحرير الوطني"، الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني. كما شهدت هذه الفترة اغتيال أبرز قيادات الجبهة، مثل المناضل ديدوش مراد في 18 يناير/كانون الثاني 1955.
وفي تلك الأسابيع الأولى، عملت جبهة التحرير الوطني على تعزيز التنظيم الداخلي لصفوفها وإنشاء شبكة لوجستية متماسكة قادرة على مواصلة المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي. وفي هذا السياق، استفادت الجبهة من شبكات الدعم المحلية، حيث وُزّعت المهام على المستوى الإقليمي لتنفيذ عمليات متفرقة وعمليات عسكرية على عدة جبهات، خصوصًا في مناطق القبائل، والأوراس، والغرب الجزائري، كما أدركت القيادة الجزائرية أن حرب الاستقلال تحتاج إلى إستراتيجية غير تقليدية، واستندت إلى تكتيكات حرب العصابات والكرّ والفرّ، مما جعل قوات الاستعمار غير قادرة على مواجهة هذه الهجمات المتنقلة.
كانت ردة فعل السلطات الفرنسية عنيفة وقاسية في مواجهة ثورة التحرير، ومع بداية الهجمات، اعتمدت فرنسا سياسة القمع العسكري المكثف، وبدأت في اعتقال آلاف الجزائريين المشتبه في انضمامهم إلى جبهة التحرير، كما شنت حملات اعتقال وتعذيب واسعة بهدف إحباط عزيمة الثوار، إلا أن هذا القمع لم يثنِ الثورة، بل عزز من إصرار الجزائريين، وكشف لفرنسا أن مواجهة ثورة شعبية منظمة ومستندة إلى قضية عادلة لن يكون بالأمر الهيّن.
خلال اجتماع ضم قيادات الثورة الجزائرية في أغسطس/آب 1955، تقرر تنفيد هجمات عسكرية لمدة 3 أيام متتالية تبدأ من يوم 20 أغسطس/آب، وقد وُزّعت خلالها المهام، وتم اختيار 39 هدفًا عسكريا وإستراتيجيا للفرنسيين في مناطق قسنطينة والخروب وسكيكدة والقل وعين عبيد وقالمة والميلية وأسطورة وفلفلة وغيرها من مناطق الشمال القسنطيني، وكان اختيار هذه الأماكن مقصودًا نظرًا لوجود منشآت عسكرية واقتصادية إستراتيجية من مطارات وموانئ ومراكز للشرطة والدرك ومصانع وخطوط سكك حديدية ومحلات تجارية.
وقد اعتمدت الهجمات على أساليب حرب العصابات، فعلى سبيل المثال في سكيكدة وضواحيها، هاجم المجاهدون مركز الشرطة والدرك وثكنات الجيش الفرنسي ومقر الحزب الجمهوري المتنقل والبنك المركزي ومحطة الكهرباء وبعض المحلات التجارية. وأوقع المهاجمون خلال 4 ساعات خسائر كبيرة في القوات الفرنسية ومصالحها، ويمكن أن نرى ذلك في العديد من المدن والمناطق الأخرى التي اتفق الثوار على استهدافها.
وقد حطم هجوم 20 أغسطس/آب 1955 الحصار الإعلامي الفرنسي والغربي الذي فُرض على الثورة وأحوال الجزائر، فانتقلت القضية إلى المحافل الدولية، وأصبحت تتصدر الصفحات الأولى من الجرائد العالمية، حيث تلقت قيادة الثورة دعوة للمشاركة في مؤتمر باندونغ بإندونيسيا والذي حضرته 29 دولة، وكان من نتائجه مصادقة هذه الدول على لائحة تطالب بحق الجزائر في الاستقلال، كما تعهّدت هذه الدول بتمويل القضية الجزائرية.
وفي 20 سبتمبر/أيلول 1955، طالبت 15 دولة من كتلة باندونغ بتسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال دورة أعمال الأمم المتحدة، رغم احتجاج فرنسا وادعائها أن القضية الجزائرية قضية داخلية لأن الجزائر جزء من فرنسا بمقتضى مرسوم عام 1834، ولا شك أن تسجيل القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة 10 للأمم المتحدة بعد مرور 10 أشهر فقط على اندلاع الثورة المسلحة، كان نصرًا كبيرًا من الناحية السياسية والدبلوماسية.
صورة أرشيفية تعود للثورة الجزائرية (مواقع التواصل الاجتماعي) معركة الجرف الكبرى ونتائجهايبدو أن فرنسا اشتط غضبها من هذه الأحداث، ولهذا السبب وفي فجر 22 سبتمبر/أيلول 1955، شنت القوات الفرنسية هجومًا عنيفًا على وحدات جيش التحرير في جبال منطقة الجرف الواقعة بولاية تبسة شرقي الجزائر. ولأن مناطق الشرق القسنطيني كانت من أنشط معاقل الثورة الجزائرية، أراد الفرنسيون ضربها في معقلها، وهي المعركة التي عُرفت في تاريخ الجزائر الحديث باسم "معركة الجرف الكبير"، لاستمرارها مدة أسبوع كامل، بل إن بعض شهود العيان يقولون إنها استمرت حتى 4 أكتوبر/تشرين الأول من ذلك العام، بحسب ما ذكره محمد العربي مداسي في كتابه "مغربلو الرمال.. الأوراس، النمامشة 1954 – 1958".
كان قائد هذه الجبهة شيحاني بشير قد اجتمع قُبيل الهجوم الفرنسي بأهل المنطقة يدعوهم للانضمام إلى جبهة التحرير، ويُفنّد الأكاذيب الفرنسية حول الثورة، بل ويشرح لهم خطورة السياسة الفرنسية التي تهدف إلى محو الهوية الجزائرية دينًا وقيمًا، وقد علم شيحاني أن نتائج هذا الاجتماع ستصل إلى الفرنسيين، ويبدو أنه كان يستدرجهم إلى جبال ومغارات الجرف لإشعال مواجهة اختلف المؤرخون، بل وحتى بعض رفاقه، في تقييمها بين مؤيّد لها ومعارض، كما يذكر الباحث تابليت عمر في كتابه "الأوفياء يذكرونك يا عباس.. عباس لغرور".
ومهما يكن، فقد استخدم الفرنسيون القصف المدفعي تمهيدا لتقدمهم على ثلاثة محاور: المناطق الشرقية، والشمالية، والجنوبية التي كان يتمركز فيها المقاومون وخاصة قلعة الجرف، وقد حاولت كتيبة دبابات وقوات مشاة الوصول إلى المدخل الشمالي للمنطقة، لكن الثوار تمكنوا من تدمير الدبابات الأمامية وإلحاق خسائر كبيرة بالمشاة، مما أدى إلى تراجع القوات الاستعمارية، حيث غنم المجاهدون كميات كبيرة من الأسلحة التي تُركت بجوار جثث الجنود الفرنسيين.
ورغم محاولات الطيران الحربي الفرنسي قصف موقع الجرف بكثافة، استطاع الثوار استدراج القوات الفرنسية إلى اشتباك عنيف دام 3 ساعات، كما أجبروهم على التراجع بعد أن نفّذوا هجمات من الخلف على الجبهات الثلاث، مما خلق حالة من الذعر والارتباك لدى القوات الفرنسية. وقد فشلت المدفعية الفرنسية في استعادة السيطرة، وواصلت وحدات المجاهدين الاشتباك مع القوات الفرنسية، مما أسفر عن اشتباك ثانٍ مع نجدات الفرنسيين التي حاولت دعم قواتهم الأساسية.
ومع حلول الليل تمكن الثوار الجزائريون من تطويق القوات الاستعمارية المحاصرة والقضاء عليها بالكامل، واستولوا على كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة، بما فيها مدفعان من طراز بازوكا، وجهاز إرسال واستقبال لاسلكي.
في صباح يوم المعركة، بدأت القوات الفرنسية بقصف طويل المدى من مواقعها في الدرمون شرقًا والسطح غربًا، تلاهُ قصف مدفعيّ عنيف كغطاء لتقدّمها نحو قلعة الجرف، وقد استمرت الاشتباكات طوال اليوم رغم الدعم المتواصل للقوات الفرنسية التي فشلت في اختراق الموقع الدفاعي للثوار، وفي المساء وصلت تعزيزات من المجاهدين لدعم إخوانهم المحاصَرين، مما أسفر عن محاصرة القوات الاستعمارية من الجانبين، وأدى إلى تكبيدهم خسائر فادحة وفرار القليل منهم بدون أسلحتهم.
وفي اليوم الثاني جددت القوات الفرنسية قصفها الليلي، وحاولت استعادة مواقعها لكنها اصطدمت بالمقاومة العنيفة للمجاهدين، مما دفع الجنرال بوفر، قائد الفرقة الثانية للمشاة، إلى اعتبار قلعة الجرف عائقا شديد الصلابة في وجه العمليات الفرنسية الواسعة. وكانت القلعة تمثل حصنًا منيعًا في جبال الأوراس، وعرّضت القوات الفرنسية لصعوبات جمة في ظل توسع نطاق المعركة.
وفي اليوم الثالث، شنت القوات الفرنسية هجومًا جويًا ومدفعيًا مكثفًا، لكنها واجهت مقاومة شرسة من المجاهدين الجزائريين الذين تمكنوا من إسقاط 3 طائرات وتدمير دبابتين و3 عربات مدرعة، مما أجبر القوات الفرنسية على التراجع للمرة الثالثة وترك مواقعها بأسلحتها التي غنمها الثوار بعد سقوط العديد من الجنود الفرنسيين في ساحة المعركة.
وفي صباح اليوم التالي، تقدمت القوات الفرنسية من جديد تحت غطاء قصف المدافع والهاونات على ثلاث جبهات، لكنها اصطدمت أيضًا بوحدات المجاهدين التي تمركزت ليلاً في مواقعها وأعدت فخاخًا مُحكمة، حينئذ تعرضت القوات الفرنسية لهجوم شديد من الجهات الثلاث، أسفر عن أعداد كبيرة من القتلى والجرحى المنتشرين في ساحة المعركة. وعندما ازدادت خسائر العدو، تدخَّلت المدفعية والطيران بقصف شديد، استهدف مناطق تجمعات المجاهدين، ومع ذلك، تمكن الثوار من إحكام سيطرتهم والاستعداد لليوم الخامس من المعركة.
في ذلك اليوم عاد الفرنسيون للقصف المدفعي والجوي المكثف على منطقة الجرف والجبال المحيطة، حيث غطى القصف مساحات واسعة وصلت إلى 40 كلم2، ومع اقتراب القوات الفرنسية من مواقع الثوار الجزائريين فوجئوا بمقاومة عنيفة حيث تمكنوا من ضرب العدو بقوة في الصدور والرؤوس، وقد تزامن ذلك مع تزايد هطول الأمطار مما سهّل من مهمة خروج المقاومين، وصعوبة تقدم الفرنسيين بسبب الوحل، فسهل على المقاومين اصطيادهم، مما أجبر الجنود على التراجع وترك جثث زملائهم في ساحة المعركة، وفر الناجون منهم هائمين على وجوههم في الجبال المحيطة.
وقد تكللت المعركة بانتصار الثوار الجزائريين وتقهقر القوات الاستعمارية، واستشهد فيها ما بين 120 و170 مجاهدًا بحسب الروايات، بينما قُتل من الجانب الفرنسي 700 عسكري، وجُرح أكثر من 350 آخرين. وأشار مجاهدون شاركوا في هذه المعركة إلى أن الجيش الفرنسي عاد وأمطر منطقة الجرف بقنابل الطائرات وقذائف المدفعية والدبابات، بحسب ما ذكره الصادق عبد المالك في دراسته عن "الرواية الشفوية ودورها في تدوين معركة الجرف".
لم تتوقف المواجهات التي خاضها المقاومون المنسحبون من جبال المنطقة بعد ما حققوه من خسائر كبيرة في صفوف الفرنسيين، واستمرت في مناطق أخرى محيطة لمدة أسبوعين على الأقل، وقد استطاع القائد شيحاني بشير الخروج بصعوبة شديدة من بعض المغارات والنجاة بنفسه بعد حصار فرنسي كاد يقضي عليه.
غير أن معركة الجرف الكبير كان لها ما بعدها في مسار الثورة الجزائرية التي اكتسبت زخمًا كبيرًا في كافة الأراضي الجزائرية، وكانت دفعة قوية لاستمرار النضال من أجل طرد الاحتلال الفرنسي، وهو ما تم في نهاية المطاف بعد 7 سنوات مضت بحلوها ومرّها، قبل أن ينعم الجزائريون بعودة بلادهم إلى شعبها ودحر المستعمر.