تقرير من إعداد ماكس سالتمان، ضمن نشرة الشرق الأوسط البريدية من CNN. للاشتراك في النشرة (اضغط هنا)

أتلانتا، الولايات المتحدة الأمريكية (CNN)-- سمع ماروت فانيان في 19 سبتمبر أي اليوم الذي بدأت فيه أذربيجان هجومها على منطقة ناغورني قره باغ ذات الأغلبية الأرمنية، ضجيجًا مشؤومًا في السماء فوق مسقط رأسه.

يتذكر الصحفي فانيان ذلك قائلًا: "أنا لست خبيرًا عسكريًا، لكنني سمعت بوضوح شديد .

.. أزيز الطائرة فوقي. أنا متأكد من أنها كانت طائرة بدون طيار".

تعرف فانيان، الذي أقام طيلة فترة حياته في ستيباناكيرت، التي كانت ذات يوم أكبر مدينة في ناغورني قره باغ، على الصوت منذ عام 2020، عندما شنت أذربيجان حربًا استمرت 44 يومًا للسيطرة على الأراضي والمناطق المحيطة بها بمساعدة الأسلحة التركية والإسرائيلية.

التقط فانيان مقطع فيديو للسماء فوق ستيباناكيرت، وهي رمادية وغائمة، وأزيز المروحة واضحًا في الخلفية، ونشره على منصة "إكس" (تويتر سابقا).

وفقًا لليونيد نرسيسيان، وهو محلل للشؤون الدفاعية وباحث في معهد أبحاث السياسات التطبيقية (APRI) في أرمينيا، وهو مركز أبحاث مستقل، فقد كان صوت "هاروب" من شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، المعروفة بالضوضاء الخارقة التي تنتجها.

استخدمت القوات الأذربيجانية طائرة "هاروب" -التي يشار إليها غالبًا باسم "طائرة انتحارية بدون طيار"- وغيرها من الطائرات الإسرائيلية بدون طيار طوال حرب عام 2020. وقد طلبت CNN التعليق من شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية للتعليق، لكن دون رد بعد.

وعلى الرغم من أن العلاقة بينهما سرية نسبيًا، تشكل المعدات الإسرائيلية معظم واردات الأسلحة الأذربيجانية، وفقًا لباحثين في مجال الأسلحة. ووصف المسؤولون الأذربيجانيون أسلحة إسرائيل بأنها جزء لا يتجزأ من نجاح بلادهم في ناغورني قره باغ خلال حرب عام 2020.

"بصمات" إسرائيل

لقد أصبحت العلاقات الإسرائيلية-الأذربيجانية تحت المجهر الآن، مع فرار أكثر من 100 ألف من الأرمن من ناغورني قره باغ في الصراع الأخير هناك، حيث ذكرت أبرز صحيفة يسارية في إسرائيل، "هآرتس"، في افتتاحيتها أن "بصمات إسرائيل موجودة في جميع عمليات التطهير العرقية" في ناغورني قره باغ.

بحسب ما قال مقدم سابق في جيش الدفاع في آرتساخ -القوة العسكرية للجمهورية الأرمنية الانفصالية في قره باغ - لشبكة CNN بشرط عدم الكشف عن هويته، فقد "تم استخدام الطائرات بدون طيار باستمرار" في حرب 2020، وكذلك في هذا الصراع الأخير. (آرتساخ هو الاسم الأرمني لناغورني قره باغ والجمهورية التي نصبت نفسها هناك).

وقال الضابط السابق إن أذربيجان “استخدمت طائرات هاروب كاميكاز الهجومية بدون طيار.. Hermes-450 و Orbiter-1K, Orbiter-2, Orbiter-3 وجميعها من إنتاج شركات الأسلحة الإسرائيلية".

فازت أذربيجان في حرب 2020 فيما يزيد قليلًا عن الشهر، واستعادت جزءًا كبيرًا من الأراضي المعترف بها دوليًا كجزء من أذربيجان ولكن حتى الآن ما زال يسكنها ويحكمها بشكل حصري تقريبًا ذوو العرق الأرمني، بعد طرد العرقية الأذربيجانية في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات.

ولم تستغرق معركة سبتمبر سوى 24 ساعة بالكاد، تاركة منطقة قره باغ بأكملها تحت سيطرة أذربيجان بعد أشهر من الحصار. جميع الأرمن الذين يعيشون في الإقليم، والذين يبلغ عددهم نحو 120 ألف شخص، إما قد فروا بالفعل إلى أرمينيا أو من المتوقع أن يفروا، خوفًا من التطهير العرقي الكامل أو الفظائع الجماعية، على الرغم من إصرار أذربيجان على أنها ستحترم حقوقهم هناك.

أذربيجان وإسرائيل شريكان عسكريان وثيقان. وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فإن أكثر من 60% من واردات الأسلحة الأذربيجانية جاءت من إسرائيل بين عامي 2017 و2020، لتشكل 13% من الصادرات الإسرائيلية خلال الفترة نفسها. يكشف بحث SIPRI أن أذربيجان اشترت مجموعة واسعة من الطائرات بدون طيار والصواريخ وقذائف الهاون من إسرائيل بين عامي 2010 و2020.

ومع ذلك، وفقًا لبيتر ويزمان، كبير الباحثين في معهد SIPRI، فإن بعض التفاصيل غير معروفة حول مدى تجارة الأسلحة الأذربيجانية-الإسرائيلية المستمرة.

وقال ويزمان: "كانت لدينا بعض المعلومات قبل عام 2020 ثم توقف الأمر. وهذا ليس منطقيًا حقًا لأنه في عام 2020 استخدمت أذربيجان كمية كبيرة من معداتها… على الأرجح أنهم واصلوا علاقتهم مع إسرائيل، لكن هذا على حد علمنا".

ويعتقد أن التجارة قد نشطت بشكل خاص في الفترات التي سبقت دخول أذربيجان إلى الحرب. وخلص تقرير استقصائي نشرته صحيفة "هآرتس" في مارس 2023 إلى أن الرحلات الجوية التي قامت بها شركة طيران أذربيجانية بين باكو وقاعدة عوفدا الجوية، وهو المطار الوحيد في إسرائيل الذي يمكن نقل المتفجرات عبره قد ارتفعت في الأشهر التي سبقت هجوم أذربيجان على مواقع الانفصاليين في قره باغ في سبتمبر 2020.

وبالمثل، ذكرت صحيفة "هآرتس" في منتصف سبتمبر أن الشركة نفسها طارت بين باكو وعوفدا قبل أقل من أسبوع من بدء أذربيجان هجومها الأخير في ناغورني قره باغ. وتواصلت CNN مع وزارة الدفاع الأذربيجانية وشركة الطيران المعنية، لكنها لم تتلق أي رد. ولم يكن لدى وزارة الدفاع الإسرائيلية، التي تشرف على مطار عوفدا أي تعليق.

وقال ويزمان: "لا نعرف ما الذي كان على متن الطائرة، ولكن من المحتمل جدًا أن يكون الأمر متعلقًا بالمعدات العسكرية التي زودتها إسرائيل بالفعل لأذربيجان من قبل".

ما وراء الأسلحة والذخائر

تعكس تجارة الأسلحة بين إسرائيل وأذربيجان العلاقة الدبلوماسية بينهما، والتي وُصفت ذات مرة في برقية دبلوماسية أمريكية مسربة بأنها "مثل جبل جليدي، تسعة أعشاره ... تحت السطح". وعلى الرغم من عقود من التعاون الثنائي، لم تفتح أذربيجان سفارة لها في إسرائيل إلا العام الجاري.

لكن علاقاتهما تتجاوز الأسلحة والذخيرة: تظهر أرقام "مرصد التعقيد الاقتصادي" أن إسرائيل اشترت 65% من نفطها الخام من أذربيجان في عام 2021. ويُعتقد أيضًا أن الدولتين تتبادلان المعلومات الاستخبارية حول إيران، العدو اللدود لإسرائيل، والتي تشترك معها أذربيجان في الحدود، والتي تضم عددًا كبيرًا من السكان من العرق الأذربيجاني الذين يشكلون أكبر أقلية في البلاد. وبحسب تقارير إخبارية، سمحت أذربيجان لجهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" باستخدامها كمركز للتجسس على إيران. (وزارة الدفاع الإسرائيلية رفضت التعليق على الأمر).

لقد اصبحت العلاقات بين البلدين أقوى منذ عام 2020 بحسب إفرايم إنبار، الخبير في العلاقات الإسرائيلية-الأذربيجانية ورئيس معهد "القدس للاستراتيجية والأمن".

قال إنبار في رسالة بالبريد الإلكتروني لشبكة CNN إن "مبيعات النفط والأسلحة مستمرة. تشعر أذربيجان بضغوط أكبر من إيران التي يتحسن وضعها الدولي. لا يوجد تعاطف كبير (في إسرائيل) مع أرمينيا التي يُنظر إليها على أنها حليف لإيران".

وفي مقابلة حديثة مع صحيفة "جيروزاليم بوست"، قال سفير أرمينيا لدى إسرائيل إن الأسلحة الإسرائيلية تُطلق على "مدنيين مسالمين" على الرغم من أن المجتمع المدني الإسرائيلي "مؤيد للغاية لأرمينيا في حالة ناغورني قره باغ واعترافه بالإبادة الجماعية للأرمن". (لا تعترف الحكومة الإسرائيلية بالقتل الجماعي للأرمن على يد القوات العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى باعتباره إبادة جماعية، خوفا من الإضرار بعلاقاتها مع تركيا، الدولة التي خلفت الإمبراطورية العثمانية).

مبيعات الأسلحة "مفيدة لإسرائيل"

لكن قال إنبار إن هناك معارضة سياسية قليلة في البلاد لبيع الأسلحة إلى أذربيجان.

وأضاف أن "مبيعات الأسلحة لا تحظى بالكثير من الدعاية". لكن مساهمة الطائرات بدون طيار الإسرائيلية في حرب أذربيجان معروفة جيدًا. الإسرائيليون فخورون بأسلحتهم. تعتبر مبيعات الأسلحة مفيدة لإسرائيل.

ومع ذلك، على الرغم من ظهورها بشكل كبير في قره باغ، فإن دور الطائرات بدون طيار لا ينبغي أن يطغى على دور الأسلحة الإسرائيلية الأخرى، وفقًا لنرسيسيان، محلل الشؤون الدفاعية في معهد بحوث السياسات التطبيقية في أرمينيا.

وقال: "يعتبرها الناس نوعًا من الأسلحة الفائقة. بالطبع هي مهمة جدًا، لكن هناك أدوارًا لأنواع أخرى من الأسلحة".

ومن بينها صواريخ LORA الإسرائيلية، والتي اشترتها أذربيجان لأول مرة من إسرائيل في عام 2017 وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI.

كانت أذربيجان قد قصفت في أكتوبر من عام 2020 المنطقة القريبة من محطة كهرباء فرعية في ستيباناكيرت بشكل متكرر باستخدام أسلحة إسرائيلية الصنع. وقال المقدم السابق في جيش الدفاع في آرتساخ لشبكة CNN إنه شهد إحدى تلك الهجمات شخصيًا. وأضاف أن قطر وعمق الحفرة يظهر أن الجيش الأذربيجاني قد استخدم صاروخ "لورا"، مضيفًا أنه أصاب مبنًى سكنيًا.

ويبقى السؤال هو إلى أي مدى ترغب إسرائيل الذهاب بدعم أذربيجان في صراعها مع أرمينيا. وقد أدت الأزمة الحدودية المستمرة بين البلدين إلى توغلات أذربيجانية في الأراضي الأرمينية، وتحتل القوات الأذربيجانية حاليا أرضًا داخل حدود أرمينيا في مقاطعة سيونيك الجنوبية. يشعر الكثيرون في أرمينيا بالقلق من أن أذربيجان ستحاول غزو بلادهم، وهو ما تنفيه أذربيجان. وتتركز بعض المخاوف حول ناختشيفان، وهي منطقة غير ساحلية تابعة لأذربيجان وتقع على الحدود مع تركيا وأرمينيا، ورغبة باكو في إنشاء ممر نقل يربطها ببقية البلاد.

وقال حكمت حاجييف، مستشار السياسة الخارجية لإلهام علييف، لرويترز في الأول من أكتوبر، إنه "ليس لأذربيجان أي أهداف عسكرية على الأراضي ذات السيادة لجمهورية أرمينيا".

"السياسة الواقعية" الإسرائيلية

يدعو البعض في المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراءات ضد أذربيجان في أعقاب نزوح الأرمن من قره باغ. وفي الولايات المتحدة، حيث يوجد عدد كبير من الأرمن المهاجرين، دعا ما يقرب من 100 عضو في الكونغرس إلى فرض عقوبات على باكو، كما دعا المشرعون في الاتحاد الأوروبي الكتلة أيضًا إلى النظر في اتخاذ إجراءات عقابية.

وقال ويزمان، الباحث في معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، إن إسرائيل قد تتعرض لضغوط من حلفائها الغربيين لإعادة النظر في مبيعات الأسلحة إلى أذربيجان. وأضاف: "سيضر ذلك بعلاقاتها مع أذربيجان، لكن في الوقت نفسه، سيتعين على إسرائيل أن تفكر في علاقاتها مع الدول الأوروبية، التي تعتبر شركاء أكثر أهمية".

وقال متحدث باسم وزارة الدفاع الإسرائيلية إنه ليس لديه تعليق عندما تواصلت معه شبكة CNN.

وقال إفرايم إنبار إن إسرائيل تريد الحفاظ على سمعتها كمورد موثوق لأذربيجان.

وأضاف: "على أي حال، أذربيجان أهم بكثير بالنسبة لإسرائيل من أرمينيا. إن السياسة الواقعية هي التي تحرك السياسة الخارجية الإسرائيلية".

نشر الخميس، 05 أكتوبر / تشرين الأول 2023تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتكوبونز CNN بالعربيةCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2023 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.

المصدر: CNN Arabic

كلمات دلالية: الطائرات بدون طیار فی ناغورنی قره باغ مبیعات الأسلحة وزارة الدفاع على الرغم من أذربیجان فی فی إسرائیل فی معهد عام 2020

إقرأ أيضاً:

البنايات المهدمة.. سلاح فعال بيد المقاومة في غزة؟

عمدت إسرائيل إلى تدمير أكبر عدد من البنايات في غزة، بوسع طائراتها أن تضربه، وهي تظن أن مثل هذا الفعل سيسهل مهمة تقدم قواتها نحو أنفاق المقاومة وكمائنها، لكن لم يلبث فعلها أن ارتد عليها، فتحولت الخرائب والركام إلى واحدة من نقاط ضعف الجيش الإسرائيلي في حربه على غزة.

تحفر قوات المشاة في الجيوش النظامية خنادق، أو تقيم سواتر ترابية وخرسانية، إن كانت في مهمة دفاعية، وتشق فجاجًا صعبة إن كانت في حالة هجوم، وتفعل كل هذا لتسهيل مهمتها في اصطياد عدوها، أو صده، أو فتح طريق الوصول إليه. ويطلق العسكريون على المساحات المفتوحة "الأرض الصعبة"، لأن القوات تكون مكشوفة أمام العدو، بينما الأماكن ذات التضاريس الوعرة هي "الأرض السهلة"، لأن الطبيعة يمكن أن تعمل لصالحها.

"فن الحرب"

في كل الأحوال تعد الأشياء المادية الثابتة، من غابات وحدائق، ومن بيوت وشوارع، ومن تلال وتبّات وكثبان، ومن أنهار وترع وقنوات ري، جزءًا أصيلًا من مسرح العمليات العسكرية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار، حال وضع خطط القتال وإحكامها، بحيث يتم تحويل موجودات البيئة إلى عنصر مساعد للقوات في الهجوم والدفاع.

وينصح سون تزو، في كتابه الكلاسيكي "فن الحرب" بتجنب الحروب في المدن، لاسيما إن كانت ذات أسوار عالية، لأنها تستهلك طاقة القتال، وتعمل لصالح سكانها الأصليين. فحروب المدن موصومة بعدم اليقين والتقلب والتعقيد والمخاطر التي يصنعها تداخل منشآت عسكرية ومدنية. ولذا كان جل الجنرالات، على مدار التاريخ، يكرهون القتال في المدن، ويسعون إلى تفاديه.

وفي حال غزة، يواجه الجيش الإسرائيلي مجموعات تمارس نوعًا من "حرب العصابات" التي منحتها الأنفاق كثيرًا من عناصر الفاعلية، وصنعت لها مساحات إضافية للحركة، في بقعة جغرافية ضيقة، حشدت لها إسرائيل كل هذه الفرق القتالية كي تحكم السيطرة عليها.

وساهمت البنايات المهدمة في حدوث انقلاب في "المعادلة العسكرية"، حيث تحولت إلى أماكن اختباء للمقاومين، تمنحهم فرص المباغتة والانقضاض السريع، وتحمي ظهورهم حال انسحابهم بعد مهاجمة الجيش

الإسرائيلي. على النقيض باتت تمثل عبئًا على تقدم هذا الجيش للوصول إلى المقاومين في الأنفاق أو الكمائن.

وما رصدته الأقمار الصناعية، حتى نهاية فبراير/شباط الماضي، يبين أن القصف الإسرائيلي تسبب في إلحاق أذى بحوالي 89 ألف مبنى، أكثر من 31 ألفًا منها دُمّرت تمامًا، ونحو 17 ألف مبنى تضررت بشدة، ونحو 41 ألفًا تضررت بشكل متوسط. وهذا الرقم أكبر مما حدث خلال حرب 2008، حيث بلغ عدد المباني المدمرة 5350 مبنى كُليًا، و16 ألفًا جُزئيًا.

إن البيوت المدمرة خلقت بيئة جغرافية مغايرة لتلك التي اعتاد الجيش الإسرائيلي القتال فيها، سواء كانت أرضًا مفتوحة أو ممرات في سيناء في حروب: 1956 و1967 و1973 ضد مصر، أو هضابًا تكون لمن يسرع في الاستيلاء عليها اليد الطولى على خصمه، مثل هضبة الجولان السورية، أو أرضًا تجمع بين الربوات والسهول في جنوب لبنان.

توغل خاطف ومحسوب

ويطلق الجيش الإسرائيلي على الحرب الحضرية اسم "لاشاب بالعبرية"، وهو لديه تكتيكات حربية واسعة النطاق، تشمل استخدام ناقلات جنود مُدرّعة ثقيلة، وجرافات مُدرّعة، وطائرات بدون طيار للاستخبارات السرية، وغيرها، فضلًا عن تدريب القوات على القتال في مساحات صغيرة.

وفي مواجهة الفلسطينيين، وقفت الثقافة العسكرية الإسرائيلية، عند حدود التطويق والاختراق المحسوب على الأرض، والقصف المفرط من الجو والبحر. ففي حرب 1948 كانت القوات الإسرائيلية تطوّق القرى والبلدات الفلسطينية من ثلاث جهات، وتترك جهة رابعة للخروج والهروب، ثم تتوغل ضاربة بشدة، وفق طريقة عرفت بـ "حدوة الفرس"، محققة بها هدفها في تهجير الفلسطينيين من قراهم.

وفي الضفة الغربية أقامت إسرائيل جدارًا عازلًا عنصريًا، يؤدي دورًا دفاعيًا من الناحية العسكرية، إذ يحرم أية مجموعات فلسطينية مقاتلة من تنفيذ هجمات مباغتة. أما المداهمات التي تقوم بها وحدات عسكرية إسرائيلية بين حين وآخر للمدن والمخيمات والقرى، فقد كانت تتم بحذر، ووسط تأمين لتقدم القوات، لمنع خسائرها أو تقليصها إلى أدنى حد، وكانت تقوم أحيانًا بهدم بيت أو بيوت قليلة، لتسهيل تقدمها، أو تأمين تمركزها.

أما غزة فقد عانت القوات الإسرائيلية من هجمات مباغتة لقواتها ومستوطناتها قبل أن تضطر إلى تفكيكها والانسحاب من القطاع نهائيًا عام 2004. وركزت إسرائيل في حروبها اللاحقة ضد غزة على القصف الجوي، أو التوغل البري الخاطف والمحسوب، وهو ما تغير في الحرب الراهنة من خلال اجتياح بري كامل من عدة محاور، بعد قصف عنيف هدمت فيه أحياء سكنية بكاملها.

وكانت إسرائيل تريد من وراء هذا الهدم المنظم أن تجبر السكان على النزوح، إما للتخلية بين قواتها وبين المقاومين، تحت الأرض أو فوقها، أو الدفع تجاه تحقيق الهدف الأكبر المتواري، وهو تهجير أهل القطاع بشكل تام، لتحويله كاملًا أو جزءًا كبيرًا منه إلى مستوطنات مرة أخرى، إلى جانب تحقيق نصر عسكري سريع باستخدام نظرية "الصدمة والرعب"، أو الانتقام مع أهل غزة جميعًا، الذين نبتت بينهم المقاومة.

تبديد الأهداف

لكن هذا الهدم المنظم للمباني، الذي لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، وجاء هذه المرة أشد وطأة نظرًا لضيق المساحة الجغرافية لغزة، لم يلبث أن تحول إلى واحد من الأسباب المهمة لتبديد الأهداف الإسرائيلية برمتها، سواء في التهجير أو القضاء المبرم على المقاومة، حسبما أعلنت إسرائيل في اليوم الأول للحرب، أو على الأقل إثارة الفزع والغضب العارم بين السكان، بغية نزع الحاضنة الشعبية عن المقاومين.

فالأحياء السكنية المهدمة عززت الصورة المتوحشة للقوات الإسرائيلية، جنبًا إلى جنب مع دم الأطفال والنساء والعجائز، وقصف المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس ومراكز الإيواء، وكل هذا نبّه العالم إلى مسألة تهجير الفلسطينيين. في الوقت نفسه منحت المباني المهدمة المقاومة فرصًا للحركة، التي تعتمد بالأساس على الفرد المقاتل، أو الراجِل المسلح بسلاح خفيف، لمباغتة تجمعات القوات الإسرائيلية، لاسيما في ظل إصرارها على التقدم للوصول إلى ما تقول إنها بدايات الأنفاق.

في الوقت نفسه لم يحل هدم المنازل، الذي يشير تقرير للأمم المتحدة إلى أن إعادة بنائها قد تستغرق عقدين من الزمن على الأقل، دون إصرار السكان على البقاء في أماكنهم، حتى لو نصبوا خيامًا فوق أطلال بيوتهم، وحتى حين اضطروا إلى النزوح عنها، لم يلبثوا أن عادوا إليها حين سنحت لهم الفرصة بذلك. ووفر وجودهم هذا حاضنة شعبية ودعمًا لوجيستيًا للمقاومة المنتظمة والمدربة، أو لمقاومين متطوعين انخرطوا في القتال مع طول أمد الحرب.

لقد زاوجت المقاومة بين الاستفادة من تكتيكات "حرب المدن" و"سياسة الأرض المحروقة" التي صنعها الجيش الإسرائيلي نفسه، بهدم أحياء كاملة؛ بغية الاستيلاء التام عليها، فحدث العكس تمامًا. طوق الركام الإسرائيليين، وجعل هجومهم يحتاج المزيد من المقاتلين، وصار بالنسبة لهم أكبر شَركٍ خداعي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • كيف تحولت غزة إلى أكبر فشل أخلاقي وسياسي لبايدن.. ما علاقة نتنياهو؟
  • التصنيع في زمن الحرب..المقاومة تصنع المعجزات
  • المحكمة العليا الأمريكية تحكم بأن ترامب يتمتع بالحصانة فيما يتعلق بالأعمال الرسمية
  • باركليز ودعم شركات الأسلحة الإسرائيلية بالمليارات.. ما هو التاريخ الأسود للبنك الشهير؟
  • يديعوت أحرونوت.. إيران تسارع الخطى لمساعدة حزب الله لمواصلة هجماته على إسرائيل
  • أردوغان يزور 3 دول في يوليو
  • من معركة إلى قتال: تغيير في سياسة إسرائيل ضد غزة
  • كالكاليست: هل يمكن لإسرائيل الاستغناء عن الأسلحة الأميركية؟
  • ارتفاع أسعار البنزين في إسرائيل
  • البنايات المهدمة.. سلاح فعال بيد المقاومة في غزة؟