المقاومة الشعبية.. رمز صمود الجبهة الداخلية
تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT
يحتفل الشعب المصرى فى السادس من أكتوبر من كل عام بذكرى الانتصار فى حرب 1973، وبهذه المناسبة نتذكر التضحيات التى بذلها رجال هانت أرواحهم، ولم تهن مكانة الوطن فى قلوبهم، يجب التأكيد أن هذا الانتصار كان له نتائج عميقة فى كثير من المجالات، على الصعيد المحلى لدول الحرب، والإقليمى للمنطقة العربية. كما كان لها انعكاسات على العلاقات الدولية بين دول المنطقة، والعالم الخارجى، خاصة الدول العظمى والكبرى، كما كان لرجال المقاومة الشعبية دور كبير فى تحقيق النصر بمساندة الجيش المصرى الباسل، كما هو المعتاد عبر التاريخ وحتى اليوم.
ظل الشعب المصرى على امتداد التاريخ البعيد للدولة المصرية؛ شريكا داعما لجيشه فى النضال الوطنى ودحر المعتدين، واستكمالا لدورها المعطاء والمتواصل، أبت المقاومة الشعبية الجسورة إلا أن تتبوأ مواقعها على جبهات القتال ضد العدو الصهيونى إبان حرب التحرير الخالدة عام 1973، حيث تجلت بطولاتهم فى معركتى الثغرة والسويس، اللتين حاول العدو، عبثا، من خلال افتعالهما، تغيير مجرى العمليات العسكرية، طمعاً فى تشويه النصر المصرى الكبير الذى توج باسترداد سيناء الحبيبة.
ودأب عامة المصريين على تسمية رجال المقاومة الشعبية باسم «الفدائيين»، كونهم لا يترددون فى اقتحام الصعاب، والقيام بأخطر المهام، والتضحية بحياتهم فداء لوطنهم، وفى المقابل، كان وزير الدفاع الإسرائيلى آنذاك موشى ديان، ينعتهم بـ«الأشباح» لأنهم كانوا يعكفون على تنفيذ العمليات النوعية الجريئة الموجعة والمتتالية، خلف خطوط العدو فى عمق سيناء، بنجاح مبهر، مكبدين قواته خسائر مادية وبشرية جسيمة، ثم يذوبون، دون أن ترقبهم أعين العدو الاستطلاعية المتربصة، أو ترصدهم أجهزة استخباراته ووسائل تتبعه الإلكترونية المتطورة.
إن المعارك التى دارت فى الميدان أثناء حرب أكتوبر 1973 لم تكن أقل أثرا ولا أعظم خطرا من المعارك التى دارت داخل مدينة السويس، عندما أراد العدو احتلالها، نتيجة العملية التى سميت بعملية «الثغرة» التى تمت بدخول قوات العدو فى نقطة غير مغطاة بقوات مصرية بين مواقع الجيشين الثانى والثالث فى منطقة الدفرسوار. وكانت الثغرة مقدمة لمحاولة العدو الصهيونى احتلال مدينة السويس، حيث قال الجنرال أهارون ياريف قبيل ذلك بقليل: «إن الوضع ليس سهلا ولا بسيطا، والحرب من شأنها أن تطول. أن الجيش الإسرائيلى فى وضع صعب، وقد اضطر إلى الانسحاب من خطوط وقف القتال (أى الأماكن التى احتلها بعد حرب 1967) إلا أن ذلك لا ينبغى أن يجعلنا نخاف بالنسبة لشعب إسرائيل أو مستقبله».
أما موشيه دايان فقد قال يوم 9 أكتوبر: «ليس لدينا فى الوقت الحالى إمكانية رد المصريين إلى ما وراء القناة، لقد دمرت المئات من مدرعاتنا فى المعركة، وفقدنا خمسين طائرة فى ثلاثة أيام ويجب أن ننسحب إلى خط دفاع جديد داخل سيناء.. إن ما يعنينا هو مستقبل دولة إسرائيل ولتذهب البحيرات المرة (كانت خط الدفاع الصهيونى الأول) أو سواها إلى الشيطان»!
لقد كانت بداية التسلل الإسرائيلى نحو السويس فى اليوم الحادى عشر من أيام حرب رمضان 21 رمضان 17 أكتوبر. وكان الهدف هو احتلال السويس بكل ما تمثله من قيمة ووزن وتاريخ واسم عالمى. واستعدت السويس للمقاومة التى كانت مقاومة شاملة شارك فيها الأهالى والعسكريون الموجودون فى السويس وأفراد الشرطة وعمال شركات البترول وهيئة القناة وأفراد الجهاز الحكومى ومتطوعو المقاومة الشعبية والدفاع المدنى وبوجه خاص أبطال منظمة سيناء.
عندما فكرت بعض القيادات التنفيذية المحلية فى التسليم لليهود إنقاذا للمدينة وسكانها بدأ الرفض من الشيخ حافظ سلامة، وشاركه فيه رجال المقاومة الشعبية، وضاعف من قدرتهم على التصميم عليه انضمام قادة القوات المسلحة وضباطها الذين كانوا فى السويس إلى هذا الرأى، وارتفع من مكبرات صوت المسجد نداءٌ بصوت الشيخ حافظ سلامة إلى أهل السويس يقول: «إن اليهود قد أنذروا المدينة بالاستسلام، وإن المدينة قد رفضت هذا الإنذار بإذن الله، وقررت مواصلة القتال إلى آخر قطرة من دمائنا، وعلى كل فرد من أفراد المقاومة أن يدافع عن موقعه إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا، وما النصر إلا من عند الله».
لقد فقد اليهود فى مدينة السويس 67 دبابة ومصفحة، من الدبابات التى حاولوا أن يحتلوا بها مدينة السويس. هذا غير العربات المصفحة والعادية. وسحب اليهود كل ما استطاعوا سحبه من قتلى الجيش الصهيونى وجرحاه ومع ذلك فقد تركوا خلفهم 33 جثة لم يستطيعوا سحبها، وصرح الناطق العسكرى للجيش الصهيونى بأن قواته لم تدخل إلى مدينة السويس، ولم تسيطر عليها فى تكذيب صريح لتصريحاتهم السابقة.
ومن رحم هزيمة يونيو 1967، انبلج دور المقاومة الشعبية الباسلة فى حرب أكتوبر 1973. فعلى وقع تلك المأساة، قام أبناء السويس، ممن آثروا البقاء على التهجير، بتشكيل مجموعات مقاومة شعبية حملت مسمى «منظمة سيناء العربية»، التى غدت فصيلا ضاربا ضمن قوات الدفاع المدنى. ولما كان سر انتصار وتفوق المصريين يكمن فى التلاحم الوطنى الخلاق بين الجيش والشرطة والشعب، فقد اشتملت المنظمة على عسكريين ومدنيين ورجال شرطة، بإشراف مباشر من المخابرات الحربية، وقيادة اللواء صادق، الذى أضحى لاحقا وزيرا للحربية.
طوال سنوات حرب الاستنزاف، أبلى رجال المقاومة الشعبية بلاء حسنا. فمن أبطال منظمة سيناء، من عبر قناة السويس مئات المرات، لتنفيذ عمليات فدائية خلف خطوط العدو، وفى عمق أراضيه، مستهدفا نقاط تموضع قواته ومنشآته، مستعينا بالجمال فى حمل الأسلحة ونقل المؤن والمعدات، تحايلا على الرقابة المشددة والمتواصلة من قبل أجهزة الاستطلاع المعادية. وفى لفتة عسكرية لا تخلو من دلالات موحية، قام بعض رجال المنظمة بجمع الأسلحة والمعدات التى خلفها الجيش المصرى فى سيناء أثناء انسحابه، وعمدوا إلى إخفائها بأماكن سرية، توطئة لإعادتها إلى القوات المصرية فيما بعد. واستجابة منها لطلب القيادة المصرية، رشحت المنظمة عددا من خيرة شبابها للتدريب على الاضطلاع بالمهام الاستطلاعية والاستخباراتية، حتى أنهم حققوا نجاحات خارقة فى العمليات التى عُهد إليهم بتنفيذها داخل إسرائيل، الأمر الذى قض مضاجع قيادات العدو، ودفعها إلى إدراج بعضهم على قوائم الاغتيال والإعدام، بعدما جرح كبرياءهم بعملياته المؤلمة.
كذلك، انخرط المقاتلون المتطوعون مع مجموعة 39 قتال، وشاركوا فى تنفيذ العديد من المهام الرائعة خلال حرب الاستنزاف ومعارك أكتوبر. نذكر منها، على سبيل المثال وليس الحصر، قيام رجالاتها، فجر يوم 19 أغسطس 1969، بشن هجوم مفاجئ عبر صواريخ كاتيوشا على مطار العريش، ثم استهداف مستعمرة إسرائيلية تسمى «نحال سيناى»،على مقربة منه، والتى كانت تستوطنها زرافات من جنود العدو، الأمر الذى أفضى إلى تخريب المطار والمستوطنة، وإسقاط عشرات القتلى والجرحى الإسرائيليين.
فى هذه الأثناء، أشرفت القوات المسلحة على تأسيس جمعية «مجاهدى سيناء»، التى استوعبت أفواجا من الفدائيين، الذين التحموا مع القوات المسلحة فى القتال ضد تمركزات العدو فى سيناء. حيث أسندت قيادة هذه الجمعية إلى العميد مدحت مرسى، الذى تولى تدريب عناصرها على استخدام الألغام والمتفجرات والقنابل، وتحضيرهم لشن الهجمات ضد القوات المعادية. بموازاة ذلك، اختار جهاز الاستخبارات العامة قرابة 1100 فدائى مدنى متطوع، أغلبهم من بدو سيناء، ومحافظات القناة الثلاث، للاستعانة بهم فى العمليات النوعية.
استنادا إلى تقديراته الاستخباراتية المشوهة، التى ظنت السويس مدينة أشباح، خالية من السكان والقوات المصرية، بما يجعل مغامرة الاستيلاء عليها أقرب إلى نزهة حربية، زج العدو بلواء مدرع وكتيبة مشاة من لواء المظليين باتجاهها، متجاهلا قرار وقف إطلاق النار، المعلن يوم 22 أكتوبر.
وبغطرسته المعهودة، ادعى العدو أن تحركاته لا تمثل انتهاكا للقرار الأممى، لاسيما إذا انطلقت قبل الساعة السابعة من صبيحة ذات اليوم، واستمرت حتى حين، كون العرب هم الذين بدأوا بشن الحرب، كما أنهم من سعى لاستصدار القرار الأممى، الذى زعم العدو أنه يشمل الجبهة فقط، بينما لا ينطبق على مدن القناة. ودونما خطة دقيقة، دخلت قوات العدو مدينة السويس، لتجعل منها مسرحا لآخر المعارك الكبرى بحرب أكتوبر، خلال الفترة من 23 وحتى 28 أكتوبر.
وعبر تلاحم بديع مع قوات الجيش الثالث والشرطة المدنية بالسويس، نجح أبطال المقاومة الشعبية فى تدمير 67 دبابة إسرائيلية، فى غضون ساعات ثلاث. وبفضل العناية الإلهية وشجاعة الأبطال، صدت «بلد الغريب» العدوان، وصمدت أمام الحصار الذى بدأه العدو يوم 26 أكتوبر، واستمر 101 يوم، حتى ولى يجر أذيال الخيبة، يوم 14 يناير 1974، تحت إشراف لجنة فنية من الصليب الأحمر الدولى. واحتفاء منه بالمدينة الأبية، وتقديرا لتضحيات أبنائها الأوفياء وفدائييها الشرفاء، قام الرئيس السادات، بعد أشهر معدودات، وتحديدا فى الرابع من يونيو 1974، بأولى زياراته للسويس.
وبعدما وضعت حرب أكتوبر المجيدة أوزارها، شُكلت لجان بالمخابرات الحربية لحصر وتوثيق المجاهدين من أعضاء «منظمة سيناء»، الذين شاركوا فى معارك العزة والفخار.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: السادس من اكتوبر حرب 1973 المقاومة الشعبية الشعب المصرى حرب التحرير وزير الدفاع الإسرائيلى السويس مدینة السویس منظمة سیناء حرب أکتوبر
إقرأ أيضاً:
لذلك حَقَّت المهلة!
كما لم يحدث من قبل، أمريكا وإسرائيل في مواجهة مهلة زمنية سيكون بعدها ما بعدها إن لم تستجيبا وتمتثلا لصوت العقل. والجميع اليوم يترقبون الموعد، البعض خشية، والبعض لهفة، ولا مبرر ولا عذر ولا حجة لعدم مواجهة أمريكا وإسرائيل بحزم. وأي انتظار سيفاقم الوضع أكثر وسيعقّد أي تحرك لاحق لمعالجة ما أفسده التقاعس، ولنا أن نستعرض تصاعد حالة التنمر الصهيونية في مقابل حالة الضعف العربي لنرى حجم ما خسرته الأمة بسبب الركون إلى مبررات لا أصل لها.
خلال معركة الإسناد أثبت محور المقاومة أن تلقين العدو الدروس المؤلمة أمر متاح وممكن، إذ كشفت عمليات الإسناد هشاشة العدو واعتماده في المقام الأول على مسألة الإرهاب الدعائي لقوة مزعومة وإمكانات لا تقهر، فانكفأ الكيان الصهيوني على ذاته يحصي خسائره البشرية والمعنوية، فيما اجتهدت أمريكا في جمع أشلاء هيبتها التي جرفتها المياه العربية في البحار العربي والأحمر والمتوسط، وبدأت تحسب خسائرها وما يمكن أن تخسره أكثر إذا ما استمرت.
وهي الكُلفة التي فرضت على ترامب التعامل بحذر، انطلاقا من استخدام ذات السلاح الأول – أي سلاح الترهيب – وإلا فإنه يدرك أن أي مغامرة ستعني كلفة أكبر ستذوب في بحار المنطقة.
ستبقى (15) شهرا من مواجهة العدو خلال عدوانه على غزة، شاهداً حياً على أن جيش الورق الصهيوني، وبلاطجة أمريكا لا يمتلكون ما يمكن أن يركنوا عليه في أي معركة مع العرب، إذا ما صحوا، سوى تقنياتهم التي اتضح أنه بالإمكان تجاوزها وتحويلها إلى مادة للتندر الدولي، وقد حدث ذلك في عملية طوفان الأقصى، كما في عمليات معركة «الفتح الموعود والجهاد المقدس» الإسنادية.
فالعدو الإسرائيلي لا يزال إلى الآن يتلقى مختلف الأسلحة من أمريكا، والأخيرة عجزت عن تدارك سمعتها وهي تسحب حاملات الطائرات الأربع وباتت غائبة عن البحر الأحمر، الذي لم تكن تغيب عن التواجد فيه على مدار العام. فيما سجلت عمليات محور المقاومة أول وأهم نقطة في سياق مواجهة العدو، فانتزعت شهادات العالم بأن أمريكا بالفعل لم تعد ذلك «البعبع» المخيف وهي تواجه قوى تتعامل معها بنديّة كاملة، ما كان يدفعها لحفظ الاتزان النفسي، بتكرار عبارتها السمجة “بالالتزام الطويل الأمد بأمن «إسرائيل»، لمواجهة التهديدات الأمنية”، حسب وزير الحرب الأمريكي.
ومع التلويح الصهيوني المباشر وغير المباشر بعودة الحرب على غزة، لم يكن من بد إلا التحرك ليفهم العدو بأن للشعب الفلسطيني أشقاء لن يخذلوهم كما خذلتهم قمة الدبلوماسية العربية، لذلك تصدّر السيد القائد بالأربعة أيام كمهلة حاسمة، لم يحتج لإصدارها بيان وديباجة ونقاط كخطوط رجعة، وإنما كلام واضح ومحدد، فالعدو استخف بالأمة وذهب يبطش بالفلسطينيين بلا أخلاق وبلا رادع رغم أنه في إطار اتفاق لوقف إطلاق النار.
حتى الاتفاقات يريد تنفيذها بمزاجه، ولو تجاوز مضامينها، كما هو الحال الحاصل الآن حيث طالب بتمديد المرحلة الأولى من الاتفاق باستخفاف بكل العرب، ولا يريد الدخول في المرحلة الثانية بما تقتضيه من استحقاقات، ولما رفضت المقاومة الفلسطينية ما طلبه، عزم على العودة لسياسة التجويع.. ولذلك حقّت الأربعة أيام.