بسم الله الرحمن الرحيم

hamidomer122@gmail.com

غيب الموت يوم الخميس الموافق 24 اغسطس 2023 بالقاهرة الاستاذ المناضل عثمان البشري (عثمان محمد البشري) بعد معاناة طويلة مع المرض، تحملها بصبر وإيمان معهودتين فيه، كدأب اهل العزم الصابرين علي المكاره والابتلاءات. نسال الله له الرحمة والمغفرة وان يلهم أسرته وأهله وأصدقاءه وعارفي فضله الصبر والسلوان.


الراحل كان مناضلاً، لا يحلو له المقام إلا وهو في وجه الفعل الثوري ، فقد تسنم خلال تلك الحياة الزاخرة زعامة أو رئاسة المؤتمرات الشعبية السودانية (علي النسق الليبي)، ومنصب منسق عام القوى الثورية العربية السودانية بليبيا ، كما كان له دور ونشاط بارز في الجبهة الوطنية المتحدة بزعامة المرحوم الشريف حسين الهندي في ليبيا .
حزني علي عثمان حزنٌ كبير وشخصي و لا تعبر عنه كلمات و عبارات متناثرة، وليس من معين علي فقده الا الصبر ولعله من رحمة الله وفضله علي عباده المؤمنين أن خصّهم بالصبر والقدرة علي تحمل الحزن والألم علي فقد من يحبون.
و"حاج عثمان"، كما يناديه أصدقاؤه، يعرفه كثيرون غيري، خاصة رفقاء دربه في النضال الثوري، عبر مسيرته العامرة بالبذل والعطاء، وعلاقاته النوعية والممتدة في جميع الاتجاهات داخل الوطن وخارجه، تجعل كثيرين غيري، ومنهم رفقاء دربه في النضال، أعلم وأجدر مني بمعرفة تفاصيل حياته في هذا الجانب وتوثيقها. ولكني أود ان أقف بإيجاز علي أربع مراحل او محطات في حياته، كان لها في اعتقادي، الأثر الأكبر في تشكيل وعيه السياسي العام وتكوين شخصيته، وبلورة رؤيته وقناعاته الآيدولوجية وانتمائه الفكري ، بل وحتي في حياته العامة، وحياته الأسرية التي يقدسها.
أولى هذه المحطات هي مولده ونشأته. فإذا ما نظرنا الى الخارطة الطبوغرافية لمدينة نيالا وما حولها، تلك التي رسمها الانجليز بدقة عام 1949 تقريباً، معتمدين في إعدادها علي الدواب وأحياناً سيرًا علي الاقدام، نتبين فيها، علي بعد 34 كيلومتر تقريبا شرق مدينة نيالا، وعلي بعد 10 كيلومتر شرق جبل أم كردوس، دائرة صغيرة داكنة، ترمز إلى قرية، مكتوب عليها باللغة الإنجليزية (البشري أبكر).تلك القرية يعود تاريخها إلى عهد السلطان تيراب . في تلك القرية ولد عثمان البشرى في عام 1951، من أسرة عريقة هناك، إذ كان جده البشرى عمدة منطقه ام كردوس، وجده الأكبر المعروف (ابكر جوه ) كان (راس ميه) في جيوش المهدية، ووالدته شقيقة الشيخ الورع الفكي الرضي عبد الله، ذائع الصيت في تلك المنطقة خاصةً بين البدو، وفي أجزاء واسعة من ولايتي جنوب وشرق دارفور.غادرعثمان تلك البقعة البدوية الرعوية وهو في السابعة من عمره إلى الجزيرة أبا ليعيش في كنف جده (عم والده). في تلك الفترة (و حتي أواخر الستينات من القرن الماضي) كانت الجزيرة ابا تعج بالأنصارالوافدين إليها، تحديداً من غرب السودان، وقد أتوها تدفعهم عقيدة دينية صادقة وولاء مطلق إلى درجة التقديس، (لأسرة المهدي)، وقد أستغلت الأسرة ذلك الولاء وحولت مريديهم من أنصارإلى عمال سٌخرة (يعملون بالمجان)، وبنوا عبرهم أكبر مؤسسة زراعية (وامبراطورية اقتصادية) عرفت بدائرة المهدي. كان الانصار يعملون بلا مقابل إلا (ما يكفي بطونهم فقط) في المشاريع الزراعية، ويمنحونهم صكوكاً دينية تتمثل في (الفاتحة) التي يرفعها لهم ابن المهدي إمام الأنصار، تضمن لهم امتاراً الى الجنة، كما كانوا يعتقدون .
شب عثمان البشرى وترعرع في الجزيرة ابا بين جموع الأنصاروشاركهم في سن مبكرة من عمره قساوة العيش والحياة البائسة بكل تفاصيلها المثيرة كما أوردها الدكتور الطيب هارون في كتابه (همس التاريخ )، الذي اورد فيه كل تفاصيل المسكوت عنه من تاريخ الجزيرة ابا واستغلال اسرة المهدى للأنصار البؤساء. عايش عثمان في الجزيرة أبا تلك المأساة التي تعرض لها الأنصار في ما يعرف بأحداث الجزيرة ابا في شهر مارس عام 1970، حينما توافد إليها الأنصارلنصرة الامام الهادي المهدي (عليه الرحمة) ، الذي اعلن معارضته الصريحة لحكومة نميري ومعه الاخوان المسلمون، ولم يمض على قيامها عام واحد، فلم تتوان حكومة مايو، في حسم (معارضة) الأنصارالملتفين حول إمامهم الهادي المهدي، فضربت الجزيرة ابا بالطائرات، فزهقت أرواح الأنصارالابرياء بلا رحمة، ولاحقتهم الحكومة فى مسجد ودنوباوى بامدرمان فضربتهم بمدافع اللهب. كان عثمان شاهدًا لكل تلك الاحداث المأساوية التي راح ضحيتها الانصار الابريا , فلا غرو ان يتاثر بها و تسهم فيما بعد في تشكيل توجهاته الايدولوجية و الفكرية ونضاله (الثوري) من أجل العدالة الاجتماعية. وربما كان مِثله في ذلك اخرون من أبناء الانصار، وان أختلفت انتماءاتهم ومدارسهم الفكرية، ولكن قاسمهم المشترك هو رفض الظلم والاستغلال لأهلهم البسطاء والعمل على النهوض بمجتمع الجزيرة ابا إلى حياة أرحب. كان عثمان يروي تلك الاحداث بمرارة وأسي مرددًا :من المؤلم حقًا ان يفلت مرتكبو ذلك الجرم من العقاب آوحتي المسأءلة الجنائية خاصةً بعد سقوط نظام مايو وأتت بعده الحكومة الديمقراطية (حكومه حزب الامه) برئاسة السيد الصادق المهدي عليه الرحمه ، ولم تجد هذه الأحداث حتي الاهتمام اللازم من المؤرخين ولا من ابناء الأنصار!
ثاني المحطات في حياة عثمان البشرى هي مراحله الدراسية ، وهي متصلة ايضاً بحياته في الجزيرة ابا. فوفق ما جاء في كتاب ( همس التاريخ ) لمؤلفه الدكتور الطيب هارون، "بدأ التعليم الديني بالجزيرة أبا بالخلاوي منذ بداية قدوم الانصار إليها. أما التعليم الاكاديمي فقد بدأ بافتتاح أول مدرسة أولية بالجزيرة أبا عام 1924، وهي أشبه بالمدرسة الخاصة، حيث مكث فيها ناظرها ثلاثين عاما!. وما كان ليبقي كل هذه المدة لولا تنفيذه لرغبات وسياسات إمام الأنصار عبد الرحمن المهدي. ورد أيضا في الكتاب المذكور، أن دائرة المهدي كانت لا تشجع شباب الانصار على التعليم بعد المرحلة الاولية وإنما تفضل أن يتفرغوا للإنتاج في أعمال ونشاطات السخرة بدائرة المهدى! ومن الذرائع التي تقدم لإقناع ذويهم هي أن ابناءهم سوف يطِّلعون علي ما يكتب في المجلات والكتب مما لا يتفق وحياة ابناء المسلمين، وأن علماء المسلمين منعوا قراءة كتب الفلسفة والطبيعة ، وأن الدائرة لا تشجع أبناءً العمال علي دخول المدارس، وأن يكتفوا فقط بالتعليم في الخلوة والانخراط في معسكرات انصار المهدى. مثل هذا القول الصادر من الإمام ، حتي لو كان قولاً مبطناً او تلميحاً يعتبره شيوخ الانصار (ومنهم جد عثمان)، توجيهاً من الإمام واجب النفاذ والاهتداء به. وبالفعل لم يتوان الجد في إلحاق حفيده بالخلوة ليحفظ القرآن وراتب الامام المهدي ، ولكنه أصرعلى جده أن يلحقه بالمدرسة فاستجاب الجد لرغبة حفيده وادخله المدرسة الصغرى شريطة أن يذهب بعد عودته من المدرسة إلى الخلوة حتى يحفظ القرآن، فحقق عثمان رغبة جده بحفظه القرآن بأكمله في سن مبكرة من عمره. وذكر عثمان ان جده رغم التزامه الصارم بتوجيهات الإمام، إلا أنه كان عطوفاً على حفيده، ربما ليعوضه حرمانه من حنان والديه الذين فارقهما وهو في السابعة من عمره. وكان قلّما يرفض له طلباً، خاصة حينما يلح برغبته في العودة إلى والديه.
تلاميذ المدرسة الصغرى التي التحق بها عثمان كانوا يدرسون اللغة العربية والدين والحساب لمدة ثلاث سنوات ويلتحق بعدها المحظوظون منهم بالمدرسة الاولية ليكملوا دراستهم ويجلسوا لامتحان دخول المدارس الوسطي. ولسوء طالع عثمان أنه قبل أن ينتقل إلى المدرسة الأولية زار اثنان من أحفاد المهدي الجزيرة أبا وكانا يلبسان الزي الأفرنجي، وهو زي يختلف عن (العراقي) الذي كان يرتديه ابناء الانصار في المدرسة. أعجب عثمان وإثنان من زملائه بالزي وطالبوا ذويهم بشراء مثله لهم. وكان الرد أن عوقب عثمان و زميلاه بالجلد والحرمان من المدرسة لمدة عامين دراسيين؛ لا لسبب غير أنهم طلبوا أن يُشترى لهم (اردية وقمصان/ أي زي افرنجي) مثل الذي يرتديه ابناء (السادة). وذلك تطاول وجرأة من أبناء الأنصار ومحاولة للتشبه بأبناء بيت السيد الامام وذلك أمر لم يكن مقبولًا ولن يمر دون عقاب يحدّ من مثل ذلك الطموح المتجاوز لحدود أدب إولاد الانصار، كما يرغب في تربيتهم إمامهم. ذلك الجرم المنكر كلف عثمان وصاحباه الجلد والحرمان من المدرسة عامين دراسيين ولم يعد إليها إلا بعد إلحاح و إصرار منه لدرجة (اضرابه ) عن تناول الطعام وإلحاحه المستمر للعودة به الي ديار والديه ، وأيضا تدخل شقيقه الأكبر ابراهيم محمد البشرى (عليه الرحمة )، الذي نال قسطًا من التعليم ( حتي المدرسة الوسطى) بمدينة نيالا.
يبدو أن حادثة (الزي الافرنجي ) قد تركت جرحًا غائرًا في حياة عثمان، إذ ظل يذكرها مراراً، وآخر مرة سمعتها منه حينما أتيت إلى وداعه قبل يوم من رحلته الأخيرة إلى القاهرة.
بعد انتقاله إلى مدرسة كوستي الاولية ثم المدرسة الأميرية المتوسطة بنفس المدينة، وجد عثمان الدعم المادي والمعنوي من أخيه الراحل ابراهيم محمد البشرى، فأقبل علي الدراسة بكل جد ومثابرة أهلته للقبول في عام 1968 بمدرسة النيل الابيض الثانوية بمدينة الدويم. و كما هو معلوم في تلك الفترة، كانت المدراس الثانوية قليلة جدا ودخولها ليس بالأمر السهل، كما ان المدارس الثانوية آنذاك، كانت تعد مرحلة مهمة في حياة الطالب، حيث يتكامل فيها التلقي الاكاديمي مع الأنشطة الثقافية والرياضية والفنية والاجتماعية. وكانت المدارس الثانوية أيضا تمثل بدايات تبلور الانتماءات الفكرية والسياسية للطالب، ولعل من الملاحظ ايضاً ان الطلاب الذين يجمعون بين التحصيل الاكاديمي والانشطة المصاحبة الأخرى (الاجتماعية والثقافية والرياضية وحتي السياسية)، كان جلهم من المتفوقين والمبرزين في مراحلهم التعليمية. كان لعثمان نشاطٌ سياسيٌ وثقافيٌّ ورياضيٌّ بارزٌ في مرحلته الثانوية، مما أهله لترأس اتحاد طلابها. وفي عام 1972 التحق عثمان بكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، فواصل فيها نشاطه السياسي، فأصبح المسؤول السياسي لتنظيم الجبهة الديمقراطية بكلية الاقتصاد بالجامعة، وهو منصب يتطلب قدرات سياسية وثقافية عالية، إذ يعد من أهم المناصب في التنظيمات الطلابية والاحزاب السياسية.
بعد تخرجه سنه 1976 من قسم الإحصاء في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم، لم تستهوه الوظيفة التي كانت متاحة آنذاك في المصالح الحكومية اوالقطاع الخاص فهاجر إلى ليبيا. تلك كانت مرحلة مهمة في حياته ومليئة بالكثير المثير، لكن عثمان لم يبح بكل اسرارها. ففي ليبيا كانت له صلات متميزة مع شخصيات سياسية سودانية مهمة مثل السياسي السوداني المرموق الشريف حسين الهندي، عليه الرحمة، وقد ساهم معه عثمان وآخرون في تأسيس الجبهة الوطنية التي كانت تسعى لإسقاط نظام النميري. ومنهم أيضا الاستاذ المعروف عبد الله زكريا ادريس، احد الذين أعدو(الكتاب الأخضر) في ليبيا، وساهم معه عثمان في تأسيس الجبهة الشعبية الاشتراكية واللجان الثورية، والتي شغل فيها عثمان منصب منسق عام القوى الثورية العربية السودانية، ثم منصب الامين العام لتنظيم المؤتمرات الشعبية بالسودان. وفي تلك الفترة ايضا اوكلت له مهام حساسة تتطلب الجسارة الثورية والحصافة السياسية لتعلقها بالعمل السياسي الثوري في السودان ودول الجوار العربي والافريقي.
في منتصف عام1989 قررعثمان العودة الى ارض الوطن ليستقر ويستريح مع اسرته في مدينه نيالا، ويعوض والدته و زوجته الوفية الاستاذة عزيزة كِنٍيّن حرمان السنين. في طريق عودته من ليبيا إلى دارفور، وفى رتل من السيارات، بعضها محمل بمقتنياته الشخصية، حدث مالم يكن في الحسبان، لعثمان ومرافقيه، اذ اعترضتهم قوة مسلحة من الجيش التشادي (لحكومة الرئيس حسين حبري)، وكانت تلاحق المعارضة التشادية في داخل الاراضي السودانية في شمال دار فور. تم أسرعثمان وآخرين واقتيادهم الي تشاد، التي أعتبرت القافلة صيدًا ثميناً، ظناً منها أن تلك القافلة جاءت لدعم المعارضة التشادية. عند وصولهم وجهت لعثمان ومن معه تهمة مساعدة وتمويل المعارضة التشادية، وهي تهمة تصل عقوبتها حد الاعدام، وتعرض عثمان خلال اعتقاله لأبشع أنواع التعذيب الذى قلما يحتمله بشر، إذ تعرض للسحل بربطه وسحبه بالسيارة لمسافات طويلة في الرمضاء الحارقة وكبس عادم السيارة في فمه ثم نفخه، وضربه في الرأس بقوة حتي فقدانه الوعي، كل ذلك من اجل انتزاع الاعتراف والإقرار بالتهمة الموجهة إليه زوراً، ثم زُجّ به في السجن. وقد عرفت السجون التشادية آنذاك بقساوتها وبسوء معاملتها للمتهمين والنزلاء على السواء. وتواصل التعذيب لأكثر من ستة أشهرفي المعتقل التشادي، تحمله عثمان بشجاعة و صبر معهودين فيه، و كأني به متحديًا جلاده بقول الشاعر الابنودي:
"دوس يا دواس
ما عليك من باس
واكتم كل الأنفاس.
الضهر مليئ بالناس
إللى حبيتهم دون ما يبادلوني
الاحساس ".
ومن شدة التعذيب وسوء الطعام مع قلته، صار عثمان هيكلاً عظمياً لا يقوى على الحركة. ولولا عناية الله، للقي عثمان حتفه آنذاك في السجن التشادي في عام 1990.
ومع تفدم قوات المعارضة نحو العاصمة أنجمينا، والاقتتال الذي وصل أطرافها، صدرت الأوامر بتصفية المعتقلين وبخاصة عثمان البشرى وصحبه. ولكن قبل تنفيذ الأمر كانت المدينة في حالة من الهيجان والفوضى وعلى وشك السقوط في أيدي المعارضة، وبدأ انهيار القوات التشادية، ومن بينها الجنود المكلفين بحراسة السجن والذين بدأوا الفرار لينجو كل بنفسه. ومن لطف الله علي النزلاء والمعتقلين، سارع أحد الحراس، قبل فراره بفتح أبواب الزنازين وسمح للمعتقلين بالخروج سريعاً من السجن. فانقذت العناية الالهية عثمان وكتب الله له الحياة الي ان وافته منيته في القاهرة بعد أكثر من ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ. وحسب تشخيص الاطباء فان العلة التي صاحبته من الضرب فى الرأس، رغم تطاول السنوات، كانت ذات صلة بالسبب المباشر في وفاته بالقاهرة. التعذيب الذي تعرض له عثمان في انجمينا أكده السفيرعمر مانيس في إفادته التي جاء فيها (رحم الله المناضل عثمان البشرى وتقبله في عليين مع الصديقين والشهداء. أُلْقِىَ به في معتقلات حسين حبري في النصف الثاني من عام1989, وتعرَّض عثمان لشتى أنواع التعذيب التي مات تحت وطأتها العديد. كنت حينها بالسفارة بانجمينا، وفي إحدى نشرات التلفزيون التشادي، عرضوا شريطا ومقابلات مع من زعموا أنهم مرتزقة. كانوا عبارة عن هياكل عظمية من شدة وصنوف التعذيب، وعثمان كان ضمنهم ولكننا لم نتعرّف عليه من فرط ما طرأ عليه من تغيير، عبارة عن جثمان يتحدث، ولكن المرحوم عثمان ذو إرادة من فولاذ وقوة تحمل لا تضاهى. صمد وصابرحتى سقط حبري وخرج عثمان إلى فضاء الحرية الرحب. ذهبت في وفد رسمي برئاسة وزير الخارجية إلى انجمينا، بعد أسبوع من هزيمة وهروب حبري، وعلمت أن عثمان اُخذ إلى المستشفى فزرْتُه ووجدْتُ آثار التعذيب باقية حية في جسده النحيل وخاصة افظع انواع التعذيب، ( كبس العادم في فمه وتشغيل ماكينة السيارة والضغط على دواس الوقود).
خلال فترة اعتقاله في تشاد انقطعت اخبار عثمان تمامًا، حتي ظن أغلب أهله أنه ليس على قيد الحياة، إلا أن زوجته الوفية (عزيزة ) وأمه وشقيقها الشيخ الورع الفكي الرضي عبد الله، لم يفقدوا الأمل في حياته. و كثيرأ ما كان (الشيخ الرضي) يكفكف دمعة شقيقته ويواسيها بقول الله (وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ وبقوله لها "ان الله الذي أخرج يوسف من غيابة الجب وردّه، لقادِرٌ أن يرد إليك ابنك عثمان"، وبالفعل تحقق الرجاء، وردَّ الله عثمان إلى أهله في عام 1991. تلك فترة كانت عصيبة في حياته، ولم يبح بكل أسرارها، ربما قد ترد شذرات منها في كتابه المرتقب، الذي تعهدت بطباعته إحدى دور الطباعة والنشر بببروت ووقع عثمان عقداً معها منذ عامٍ تقريباً، ونتمنى أن يرى هذا الكتاب النور ليَنْتفِعَ به الناس .
المحطة الرابعة في حياه عثمان هي فترة الكفاح المسلح. فحتي عام 2003 كان عثمان رئيساً لحزب المؤتمرات الشعبية في السودان، وهو حزب مسجل ومعترف به وله مقرٌّ في الخرطوم. ووفق ما جاء في أمر تأسيسه فهو حزب سياسي معارض يسعي لإصلاح (نظام الانقاذ) بالوسائل السلمية وتحقيق التبادل السلمي للسلطة! كما هو معلوم في عهد الإنقاذ فإن مثل هذه العبارات (الرنانة) التي وردت في أمر تأسيس حزب المؤتمرات الشعبية، قطعًا لا تدرأ عنه الملاحقات المتكررة (واللعب الخشن ) من قبل الجهات الأمنية (حتي من باب فقه سهر الجداد ولا نومه)! وبالفعل أخرجت الأجهزة الامنية كرتها الأحمر وقررت اعتقال عثمان بصفته رئيساً لحزب المؤتمرات الشعبية (المعارض سلمياً)، فداهمت منزله بضاحية الصالحة بام درمان، ولكن من حسن حظه، في تلك اللحظة كان خارج منزله. وحينما علم بوجود رجال الأمن حول منزله، لم يعد اليه، وأخفي نفسه إلى أن تمكن من التسلل إلى مواقع حركة تحريرالسودان المنطلقة من دارفور وأنضم إليها وليبدأ حياةً جديدة من النضال. لم يكن عثمان من المؤسسين لحركة تحرير السودان، لكنه أصبح أحد القيادات النوعية، وذلك بحكم خبرته السياسية ونضاله الطويل ومعرفته بفنون وباستراتيجيات القتال التي اكتسبها من وجوده في معسكرات الجبهة الوطنية المتحدة بقيادة المرحوم الشريف حسين الهندي و مع القوى الثورية العربية السودانية في ليبيا، علاوة على تأهيله الأكاديمي الرصين. وكل ذلك مكّنه أن يكون عضواً في المكتب السياسي لحركة تحريرالسودان.
في ابوجا اعترض عثمان وآخرون علي الاتفاقية بالكيفية التي تمت بها، فخرجوا من حركة تحرير السودان بقيادة مناوي، وكوّنوا ما يسمى (حركة تحرير السوادان قيادة الوحدة). و كان عثمان أمين دائرتها السياسية وعضو الهيئة القيادية. كل ما يتعلق بأسراروخفايا الفترة التي أمضاها المرحوم عثمان مع الحركات المسلحة، وحتي اتفاقية الدوحة، أوردها مفصلة في سفره القيِّم ( النزاع المسلح في دارفور.. وقائع و أحداث/334 صفحة /الذي نشرته وتملك حق توزيعه الدار العربية للعلوم والنشر ببيروت 2016). لقد جاء فيه " ان هاجس مشكلة دارفور ظل يشكل كابوساً على المسؤولين في ليبيا وحاولوا مرارًا لمَّ شمل الحركات … وأن الحركات يجب أن يكون لها صوت موحد تقدم به مطالبها في حزمة موضوعية متكاملة ص 226). برعاية، ودعوة من ليبيا، تجمعت سبعة من فصائل الحركات المسلحة في طرابلس في الفترة ما بين 2/2/2009 إلى 18/3/2010 . الهدف الأساسي من اجتماعها هو توحيد فصائلها في جسم واحد، ولكن الامر استعصى عليهم . ويقول عثمان في كتابه المذكور "لما استيئسنا من الجدل العقيم طلبت من الاخوة في ليبيا أن يمكِّنوا بعض القادة من ابناء دارفور للحضور إلى طرابلس لإرشاد القيادات المجتمعة في طرابلس بضرورة الوحدة ويساعدوهم علي اتخاذ القرار الصحيح ، وأن يقبل بعضهم بعضا ". وكان رأي عثمان (أن يتم الاختيار لرئيس المجموعة من خارج تلك الفصائل، لأن الحركات المجتمعة لن تجتمع على واحد منهم ليكون رئيساً لهم). وفي ذات الاطار يقول الفريق ابراهيم سليمان، الذي كان رئيساً لتلك اللجنة التي أتت من الخرطوم إلى ليبيا من أجل توحيد فصائل الحركات، يقول " كان عثمان البشرى صادقاً في مساعيه لتوحيد فصائل حركات النزاع المسلح حتي لا تتفرق بينهم قضية دارفور وتضيع، لكن الكثرة غلبت الشطارة".
انسحبت مجموعة عثمان (قيادة الوحدة) أيضاً من مفاوضات الدوحة في عام 2011، بسبب التنافر والخلافات التي دبت بينهم في الدوحة، ومنهم من كان رافضا أصلًا لمنبر الدوحة بحجة ان قطر لا تستطيع حل مشكلة دارفور لبعدها الاقليمي وعدم المامها بتعقيداتها. ويقول عثمان ( إن تأخيرنا في الميدان وحضورنا المتأخر كان سببا في إضعاف موقفنا التفاوضي في الدوحة، إذ وجدنا الوضع هناك شبه محسوم وهيكل حركة التحرير والعدالة قد تم بناؤه ومعظم الأماكن تم ملؤها ). وايضا من بين مجموعتهم من لم يكن مقتنعًا بالشخص الذي تم اختياره لرئاسة حركة التحرير والعدالة، الجسم الذي تم تأسيسه في الدوحة لتتوحد فيه الفصائل المتعددة الموقعة علي وثيقة ًسلام دارفورً في الدوحة.
انسحبت مجموعة الوحدة من مفاوضات الدوحة لتجتمع في القاهرة لمناقشة خياراتهم المتاحة، التي كانت بكل اسفً محدودة . وحسب رأي عثمان إن خيار العودة إلى الدوحة مرة أخري (مطاطئ الراس ) بعدما غادروها بمحض إرادتهم، ذلة وانكسار. أمّا الخيار الحربي بالعودة إلى ميدانه في دارفور فإنهم قطعًا ما عادوا يملكون أدواته ومقوماته. ودبت الخلافات بينهم إلى حد المفاصلة، وعاد بعضهم مرة أخرى ولحق ما بقي من مفاوضات الدوحة ومنهم من غادرإلى اوربا، أما عثمان (ومن معه) فوقع اتفاقًا ثنائي مع الحكومة، بموجبه عاد من القاهرة إلى السودان في 15/2/2011
من استحقاقات ذلك الاتفاق مع حكومة الإنقاذ، تقلد عثمان البشرى منصب وزير الصحة في حكومة السلطة الاقليمية لدارفور برئاسة الدكتور التجاني سيسي، التي أتت في إطار اتفاقية الدوحة في 11/6/2011. ولكن يبدو أن عثمان لم يكن على وفاق وانسجام مع رئيس حكومة اقليم دارفور، وكان له رأي سالب في السلطة الإقليمية لدارفور، إذ ذكر عثمان في كتابه ( إن المرحلة الدقيقة التي يمر بها إقليم دارفور تتطلب قيادة لها القدرة علي المساهمة بإيجابية في شأن الاقليم، ليست تابعة لارادة النظام أومنفذة لسياساته التي أوصلت البلاد حافة الانهيار)، أيضا في رأيه أن السلطة كانت خاضعة ومسيرة، و يقول عنها (يستحيل على سلطة تنفيذية مسؤولة، في وضع دارفور المتأزم أن تعطل الاجتماعات الدورية لمجلسها التنفيذي أحد عشر شهرا). ويصف السلطة بأنها صدي، لم تأت بجديد، وأنها لا تستطيع ان تطرح خطة بديلة لما هو سائد منذ بدايه عهد الانقاذ . ازاء هذا الراي السالب وعدم التوافق مع رئيس السلطة، ترجل عثمان من منصبه في السلطة الاقليمية لدارفور. لا أدري استقال أم أقالوه ، لكنه كان لا يقبل المخازي .تلك بعض من المحطات في مسيره حياة عثمان (القلقة) التي كانت لا تقبل الخنوع والاستكانة، والمليئة بالبذل والعمل الثوري.
كان عثمان رحمه الله شخصية متفردة، مزيج من الصفات قلما تجتمع في شخص واحد، بل هو سبيكة من اثمن وأقوي معادن الرجال. شخص جسور وشجاع وله مقدرة علي تحمل الأذى الجسماني والمعنوي، والصبر علي الشدائد والمخاطر. حفظ القرآن وأدّي فريضة الحج مبكراً فعرف بين اقرانه بحاج عثمان، بسيط وسهل في تعامله مع الآخرين، كما أنه كان عفيف اليد واللسان. وكل من عرفه وتعامل معه عرف عنه قدراته العالية في العمل العام والتنظيمي وقدرته في ترتيب الاولويات، وصدّق القول بالعمل. كان عثمان شديد الود والوفاء لأصحابه الخلصّ، ومنهم صديق عمره المهندس حسين ابراهيم صالح، والمرحوم المحامي علم الدين ابودور( صديقه منذ مرحلة المدرسة الوسطي) ، والمهندس فيصل عبد العزيز، والاستاذ ادم محمد نور(رفيقه في المعتقل التشادي)، وقد بادلوه الود والوفاء. فقد كانت لهم (لمّة) راتبة أيام الجمعات في دار عثمان بام درمان، وكانت أسرته تفرح بقدومهم وتتفاني في خدمتهم، وصدق مثلنا المحلي القائل (الفارس برجاله والكريم بام عياله). ومَنْ مثل عثمان وسط أهله وأسرته وأصهاره من آل كِنِيّن، الذين بادلهم حبًا بحب ووفاءً بوفاء! كان كريماً وودوداً مع أسرته، يمازح ابناءه واحفاده ويسمعهم المفيد من الحديث والطُرَف الزاخرة في ذاكرته. كان كتابنا المفتوح، ولم تكتمل فصوله، كما لم نفلح في تكملة قراءته. هو تجسيد للحكمة الأفريقية المأثورة:(حينما يموت رجل افريقي معمر (زعيم افريقي)، تقبر معه مكتبة كاملة). عثمان كان مكتبة وطنية كاملة، وها هو يُقبر في غير الأرض التي قاتل من أجل حريتها ووحدة ترابها، وفى زمان نَحِسُّ فيه أن الوطن بدا وكأنما يتلاشى من بين أيدينا!
"وأبى قال مرة
الذي ما له وطن
ما له في الثرى ضريح.
ونهاني عن السفر"..(درويش)
العزاء لآل البشرى ولأصهاره الكرام ال كِنِيّن ولأبنائه: عادل وهبة وفاطمة وهاجر وفدوى وفرحة والصغير محمد، وزوجاته الفضليات الأستاذة عزيزة كِنِيّن وفضيلة عبد الرحمن البشرى، و العزاء موصول لأصحابه ومحبيه وأخص صديق عمره الوفي المهندس حسين ابراهيم صالح، وكل الذين افتقدوه، آمل الّا تفتقدهم دارحاج عثمان برحيله منها، تلك الدار التي كانت عامرة بطلاب الجامعات من ابناء أهله الوافدين إلى الخرطوم من الأطراف القصية للوطن ، دار زاخرة بالكرم ومعزة النفس والأهل وقيم النضال الثوري.
وأخيرا عزائي الخاص لدكتور (مستر ) احمد عبد الرحمن البشرى، الذي جاء إلى القاهرة من مدينة مانشستر وعاد اليها، ثم حدثته نفسه ليعود إلى القاهرة مرة ثانية بعد يوم واحد فقط من مغادرته لها ليكتب الله له (حضرة) عثمان، ويشيعه ويتلقى العزاء من جموع السودانيين الذين لم تسعهم صالة العزاء بحي الفيصل بالقاهرة. وأيضا أخص بالعزاء الدكتور علي كنين وشقيقته الدكتورة زهور لوقفتهم المشهودة إبّان مرض "حاج عثمان" في القاهرة .
رحم الله عثمان محمد (الضوّايْ )، سادن النضال الثوري النبيل الذي لا يقبل المخازي، غيبه الموت (قبل ما يشوف تغيير الوشوش)، كما يقول الابنودي، ويبقي قول المتنبي
(وإذا كانتِ النُفوسُ كِباراً ... تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجسامُ)

د حامد عمر
القاهرة/ ٢٥/سبتمبر ٢٠٢٣
hamidomer122@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی الدوحة التی کانت کان عثمان عثمان فی فی لیبیا فی کتابه فی حیاته من عمره عثمان ا فی تلک فی عام جاء فی ما کان لم یکن

إقرأ أيضاً:

الحرس الثوري الإيراني.. جذور وخفايا إمبراطورية باسدران

عندما يتردد اسم إيران في الصراع القائم مع إسرائيل في الوقت الحالي وصراعات سابقة أيضا، دائما ما كان يخفت اسمها لصالح "الحرس الثوري"، ليس على صعيد الشق المرتبط بالعسكرة فحسب، بل لما هو أبعد من ذلك، حيث الأدوار الخارجية الأخرى المرتبطة بـ"إمبراطورية باسدران"، الأشبه بالدولة المتوغلة داخل دولة.

وتكاد لا تختلف الصورة كثيرا عند النظر للداخل الإيراني، سواء عندما تأسس "الحرس الثوري" في سبعينيات القرن الماضي، أو في أعقاب "الثورة" التي كرست هذه القوّة مفهومها المضاد بين الإيرانيين ومواطني 4 دول عربية، بناء على الجذور الأولى التي أطلقها وعمل على تنميتها المرشد الإيراني.

وعلى مدى الأشهر الماضية، كان "الحرس الثوري" الإيراني في قلب الصراع مع إسرائيل، ووصلت شرارته مرتين إلى الأراضي الإيرانية، والتهبت على نحو أكبر في ساحات عدة دول سبق أن توغلت فيها هذه القوّة، وبنت تحت وفوق أساساتها على مر السنين.

فمن جهة تولى "الحرس" أو كما يعرف فارسيا بـ"سباه باسدران إنقلاب إسلامي"، مهمة إطلاق الصواريخ الباليستية بعيدة المدى ضد إسرائيل. وورد ذكره عند أكثر من ضربة وجهتها الأخيرة كـ"انتقام"، كان آخرها الأسبوع الماضي.

بعد تساؤلات عن "اختفائه".. الحرس الثوري الإيراني يحسم مصير قاآني نقلت وكالة تسنيم الإيرانية شبه الرسمية للأنباء عن إبراهيم جباري مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني القول، الأربعاء، إن إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس الذي يشرف على أنشطة الحرس الثوري في الخارج بخير وسيستلم وساما من الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي قريبا.

أما بخصوص الساحات، فيُنظر إلى "الحرس" منذ عام مضى من منطلق القوّة التي تدير المواجهة في الخفاء، خاصة في لبنان، حيث الوكيل المرتبط به "حزب الله"، واليمن حيث الحوثيون، والعراق وسوريا حيث تتبع له العديد من الميليشيات، على رأسها ما تطلق على نفسها مسمى "المقاومة الإسلامية".

ما "الحرس الثوري"؟

منذ بداية الثورة الإسلامية في إيران وبعد سقوط حكم الشاه، أحس الحكام الجدد بالحاجة إلى تأسيس قوّة تابعة بشكل مباشر للمرشد الأعلى، لمواجهة أي تمرد داخلي محتمل قد تقوم به القوات المسلحة الأخرى، التي تدرب ضباطها في زمن الشاه.

وسرعان ما أصبحت القوة التي تعرف باسم "سباه باسدران إنقلاب إسلامي" أو "فيلق الحرس الثوري الإسلامي"، القوة الأكثر نفوذا وسطوة داخل البلاد.

وتورد وسائل إعلام إيرانية والموقع الرسمي للمرشد الأعلى، أن "الحرس الثوري" تأسس في 1979 من قبل مؤسس الجمهورية الإيرانية، آية الله روح الله الخميني، بهدف إنشاء "جيش من المؤمنين"، الذين ستكون مهمتهم الوحيدة حماية "قيم" و"أيديولوجية الثورة الإسلامية" من التهديدات المحلية والخارجية.

مع ذلك، وبمرور الوقت، تمكن "الحرس الثوري" من التطور إلى قوة عسكرية وسياسية لا يقتصر نفوذها على الداخل الإيراني فقط، بل تعدت حدودها إلى عدة دول عربية، أضحت في غالبيتها كتل من الفوضى والدمار وتتخللتها أنهار من الدماء.

ووفقا لـ"برنامج مكافآت من أجل العدالة" التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، فقد لعب "الحرس الثوري"، وهو قوة موازية للجيش الإيراني الرسمي، دورا محوريا "في استخدام إيران للإرهاب كأداة رئيسية من أدوات الحكم".

من هو الرجل الثاني في الحرس الثوري الإيراني الذي قتل مع نصرالله؟ أعلنت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا) أن الجنرال عباس نيلفروشان، نائب قائد عمليات الحرس الثوري، "قُتل في الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف زعيم حزب الله حسن نصر الله".

وخطط ونظم ونفذ الإرهاب منذ عقود في جميع أنحاء العالم، وأنشأ "مجموعات إرهابية" أخرى ودعمها وأدارها، حسب البرنامج.

وتوضح شبكة "سي إن إن" الأميركية، أن الحرس الثوري بمثابة "الجناح النخبوي" للجيش الإيراني، وتحتل هذه القوة موقع الصدارة في العمليات العسكرية الإيرانية في المنطقة، ولها حضور كبير في العراق وسوريا.

يبلغ عدد قوات "الحرس" أكثر من 150 ألف جندي، وفقا لمجلس العلاقات الخارجية.

ويشمل ذلك القوات البرية والبحرية والجوية، فضلا عن قوات الاستخبارات والقوات الخاصة، ويتمثل دورهم الأساسي في الأمن الداخلي.

لكن الخبراء يقولون إن هذه القوة المهيمنة في إيران، تساعد الجيش النظامي الإيراني، الذي يبلغ تعداده حوالي 350 ألف جندي، في الدفاع الخارجي، حسب الشبكة الأميركية.

كما يسيطر الحرس الثوري على نحو 200 ألف مسلح من خارج إيران، موزعين على دول العراق ولبنان وسوريا واليمن والأراضي الفلسطينية، وفقا لتقرير نشره موقع قوات مشاة البحرية الأميركية.

ويقول التقرير إن فيلق القدس، قام بتدريب وتجهيز مجموعات بالوكالة، مثل حماس وحزب الله والمتمردين الشيعة العراقيين وعناصر من طالبان.

الحرس الثوري و"أذرع إيران".. تحركات تشمل "الحظر" بعد تفجيرات "البيجر" بدأت إيران وأذرعها في الشرق الأوسط فحص أجهزة الاتصال الخاصة بها بل والتوقف عن استخدام أي أجهزة منها، في أعقاب تفجير الآلاف من أجهزة النداء واللاسلكي التي يستخدمها حلفاؤها في لبنان وسوريا خلال الأسبوع الماضي.

ونقل التقرير عن القائد في الحرس، اللواء محمد علي جعفري، قوله إن ما يقرب من 200 ألف شاب شيعي من جميع أنحاء الشرق الأوسط، تم تنظيمهم وتسليحهم تحت قيادة فيلق القدس، الذي يدعم الشيعة غير الإيرانيين من خلال توفير الأسلحة والتمويل والتدريب شبه العسكري.

"الهيكل التنظيمي"

تنظيميا يتشعب "الحرس الثوري" منذ تأسيسه إلى عدة أفرع، ويشمل ذلك، بناء على مصادر متقاطعة إيرانية وغربية اطلع عليها موقع "الحرة"، الآتي:

القوات البرية: وتعتبر القوة الأساسية في العمليات البرية داخل إيران، وتشمل قوات مشاة ووحدات مدفعية ودبابات.

القوات البحرية في الحرس الثوري: مسؤولة عن حماية المياه الإقليمية، خاصة في الخليج ومضيق هرمز، وتقوم أيضا بمهام دفاعية وهجومية بحرية، ولها دور رئيس في العمليات البحرية الاستراتيجية لإيران. 

القوات الجوية: تشمل وحدات دفاع جوي، وتعد مسؤولة عن برنامج الصواريخ الباليستية، كما تعتبر هذه القوة أهم الأذرع العسكرية للحرس، لما تمتلكه من قدرة على إطلاق الصواريخ بعيدة المدى.

فيلق القدس في الحرس الثوري: الجناح العسكري الخارجي له، ويعتبر من أبرز الوحدات المسؤولة عن العمليات خارج البلاد، وله انتشار في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وتولى منذ سنوات سير العمليات العسكرية هناك وإدارة الهجمات وتنسيقها والسيطرة على مناطق بعينها.

ميليشيا الباسيج في الحرس الثوري: قوات عسكرية تطوعية ولها دور داخلي في حفظ الأمن والنظام داخل إيران، خاصة في مواجهة الاحتجاجات والاضطرابات، وتعمل تحت إشراف "الحرس" وتساهم في دعم النظام الإيراني من خلال تعبئة المجتمع وتنظيم الأنشطة الدعائية. 

وحدة الاستخبارات: مسؤولة عن جمع المعلومات والتجسس الداخلي والخارجي، وهي أحد أبرز أدوات الحرس في تأمين السيطرة الداخلية ورصد الأنشطة المناهضة للنظام الإيراني.

ويقول "مجلس العلاقات الخارجية"، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، إن الحرس الثوري يقدم تقاريره مباشرة إلى المرشد علي خامنئي.

ويضيف أنه من بين العديد من واجباته العسكرية البارزة، يدير ترسانة الصواريخ الباليستية الهائلة في إيران، ويشرف على "فيلق القدس"، وهو ذراع استكشافية يتعاون مع مختلف الجماعات الإقليمية التابعة لإيران، بما في ذلك حماس وحزب الله.

كما يتمتع الحرس الثوري بنفوذ كبير في السياسة الوطنية الإيرانية، حسب مجلس العلاقات الخارجية.

ويوضح أن العديد من قدامى المحاربين فيه كانوا قد انتقلوا إلى مناصب حكومية عليا، بما في ذلك في مجلس الوزراء والبرلمان والمحافظات.

وفي الوقت نفسه، أثرى الحرس الثوري نفسه بمليارات الدولارات، من خلال إدارة شبكات تجارية ومالية غير مشروعة في ظل العقوبات الدولية.

"داخليا.. قبل وبعد خامنئي"

القائد العام للحرس الثوري حاليا هو اللواء حسين سلامي، ويقوم بدور كبير في تنفيذ المهام التي يكلف بها من قبل "المرشد الأعلى للثورة" بشكل روتيني.

ويقول تقرير أعده مجلس العلاقات الخارجية، إن الشخص الأكثر مسؤولية عن ظهور الحرس الثوري في وضعه الحالي كان الرئيس الإيراني الراحل هاشمي رفسنجاني.

وقوات الحرس الثوري كانت قد صُممت باعتبارها "جيشا شعبيا"، مما ساعد في تعزيز "الثورة" مع تأسيس الخميني لدولة قائمة على مفهوم ولاية الفقيه، أو وصاية الفقيه، وكان الهدف هو إقامة إيران كجمهورية دستورية محاطة "بهيكل ثيوقراطي"، حسب "مجلس العلاقات الخارجية".

وكان الخميني ينوي أيضا أن تحمي قوات الحرس الثوري النظام الجديد من الانقلاب، مثل الانقلاب الذي حدث عام 1953، والذي أطاح بحكومة محمد مصدق المنتخبة ديمقراطيا، وأعاد الشاه إلى السلطة.

وبعد تأسيسه بالتدريج، وشيئا فشيئا، أصبح الحرس الثوري لاعبا مركزيا في السياسة الداخلية الإيرانية، حيث تطور إلى ما أسماه الباحث، راي تاكيه، من مجلس العلاقات الخارجية "المنظمة الأكثر أهمية في البلاد".

ولأن الحرس الثوري يسير على خطى مواقف المرشد الأعلى السياسية، فإن سلطاته تبدو في بعض الأحيان متفوقة على سلطات رئيس إيران، الذي لا يسيطر على أي من القوات المسلحة ولا يتمتع إلا بصلاحيات قليلة نسبيا.

وفي يوليو 2024 كتب كريم سجادبور، الخبير في شؤون إيران في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي: "أصبح خامنئي والحرس الثوري الذي يقوده أكثر قوة على مر العقود ويهيمنان على المؤسسات السياسية في البلاد، وكذلك القضاء والإعلام ودولة المراقبة".

وأضاف أن "القمع الاجتماعي والفساد الحكومي المتفشي وسوء الإدارة وعدم الكفاءة ظلا ثابتين، بغض النظر عمن هو الرئيس".

وفي عام 2007، تم وضع قوات الباسيج تحت القيادة المباشرة للحرس الثوري، وهي إعادة تنظيم عزاها بعض المحللين إلى التركيز المتجدد على التهديدات الداخلية المزعومة للنظام.

وفي يونيو 2009، زُعم أن الحرس الثوري ساعد في التلاعب بالانتخابات الرئاسية لصالح أحمدي نجاد. ووسط المظاهرات الحاشدة اللاحقة التي زعمت التزوير، وثقت جماعات حقوق الإنسان هجمات الباسيج على المتظاهرين، فيما تم اعتقال الآلاف، وسجن العديد من السياسيين والناشطين الإصلاحيين.

كما شابت الانتخابات الرئاسية عام 2013 تدخل الحرس الثوري. وفي حين انتصر حسن روحاني في النهاية على المتشددين الذين يفضلهم العديد من الحرس، أشارت التقارير إلى أن الأخير "خلق جوا من الترهيب" قبل التصويت.

كما ضغط الحرس الثوري على مجلس صيانة الدستور، الذي يفحص المرشحين من حيث ملاءمتهم الأيديولوجية، لاستبعاد المرشحين الذين اعتبرهم غير مقبولين. وفي 2020 نما دعمه السياسي مع الانتخابات العامة التي انتخب فيها خليفة روحاني، إبراهيم رئيسي.

لكن الخبراء في مجلس العلاقات الدولية يقولون إن يد الحرس الثوري الثقيلة في السياسة، واستعداده المستمر لإيذاء الإيرانيين، يجعله غير محبوب بين الجمهور.

وكانت القوة تعرضت لضربة في سمعتها بعد أن أسقطت عن طريق الخطأ طائرة ركاب كانت تحلق فوق المجال الجوي الإيراني في يناير 2020، مما أسفر عن مقتل جميع الأشخاص البالغ عددهم 176 شخصا على متنها. وكان معظمهم من الإيرانيين.

وبالإضافة إلى ذلك، اتُهمت قوات الباسيج والحرس الثوري بضرب وإطلاق النار والاعتداء الجنسي وتعذيب الإيرانيين المشاركين في حركة الاحتجاج المناهضة للحكومة "المرأة والحياة والحرية"، التي اندلعت في إيران في أواخر عام 2022.

وبينما يشير مجلس العلاقات الخارجية إلى أن الانتخاب المفاجئ لمسعود بزشكيان رئيسا في أغسطس 2024، يبدو أنه منح الإصلاحيين الإيرانيين بصيصا من الأمل، إلا أن العديد من خبراء الشرق الأوسط يرون أن الحرس الثوري "يكتسب نفوذا وسط الصراع مع إسرائيل"، ويقولون إنهم يقفون لممارسة "قدر كبير من النفوذ في عملية الخلافة النهائية" بعد وفاة خامنئي.

"أذرع الأخطبوط"

على الرغم من الحيز الكبير الذي يشغله الحرس الثوري داخل إيران على صعيد السياسة والعسكرة، فإنه طالما ارتبط وصعد اسمه من خلال أنشطته الخارجية، التي تولاها ومهرت بالأساس، بذراعه المعروف باسم "فيلق القدس".

وكان الحرس الثوري قد بدأ رعاية الجماعات المسلحة غير الحكومية في المنطقة في ثمانينيات القرن العشرين، حيث تم نشرها أولا في الحرب الإيرانية العراقية.

وبعد ذلك طور علاقات مع ميليشيات مسلحة في سوريا وأفغانستان والعراق ولبنان والأراضي الفلسطينية واليمن وأماكن أخرى، وزودها بالتدريب والأسلحة والمال والمشورة العسكرية لفرض قوة إيران في الخارج، وفق مجلس العلاقات الخارجية.

وأوضحت الخارجية الأميركية أن الحرس الثوري يواصل تقديم الدعم المالي وغيره من الدعم المادي والتدريب ونقل التكنولوجيا والأسلحة التقليدية المتقدمة والتوجيه أو التوجيه لمجموعة واسعة من "المنظمات الإرهابية"، بما في ذلك حزب الله والجماعات الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي وكتائب حزب الله في العراق وسرايا الأشتر في البحرين، وجماعات "إرهابية" أخرى في سوريا ومنطقة الخليج.

وبالإضافة إلى دعمه للوكلاء والجماعات الإرهابية في الخارج، تؤوي إيران أيضا الإرهابيين داخل حدودها، مما يسهل أنشطتهم، وتواصل السماح لعناصر القاعدة بالإقامة على أراضيها، حيث تمكنوا من نقل الأموال والمقاتلين إلى جنوب آسيا وسوريا، حسب موقع الخارجية الأميركية.

بناء على ما سبق، أدرجت الولايات المتحدة الحرس الثوري على قائمتها الإرهابية عام 2019، بسبب الدعم طويل الأمد الذي يقدمه فيلق القدس للجماعات المسلحة، مثل حزب الله.

كما يعتبر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة الحرس الثوري تهديدا أمنيا كبيرا. وقد أضافت البحرين والسعودية الحرس الثوري إلى قوائم الإرهاب أيضا.

"ثلث الناتج المحلي الإيراني"

السطوة الداخلية والأنشطة الخارجية التي تعدى من خلالها الحرس الثوري الحدود لم تكن دون ركائز اقتصادية ومالية، وهو ما كشفت عنه سلسلة قوائم العقوبات التي أصدرتها دول غربية والولايات المتحدة.

وكشفت عن تلك الركائز المالية أيضا، محطات سلطت الضوء عليها مراكز أبحاث ومسؤولون إيرانيون بأنفسهم، خلال السنوات الماضية.

ووفقا لتقرير صادر عام 2020 عن "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "، فقد "أصبح الحرس الثوري الإيراني المتحكم الأقوى في جميع القطاعات الاقتصادية المهمة في جميع أنحاء إيران".

ويمتلك الآن شركات في قطاعي النفط والغاز، فضلا عن النقل البري والبحري والجوي.

وتسيطر شركة "خاتم الأنبياء" المملوكة له، والتي أنشئت كذراع للحرس الثوري في قطاع البناء، حاليا على 812 شركة إيرانية مسجلة رسميا، ولديها ما مجموعه نحو 1700 عقد حكومي.

كما اشترت شركة أخرى مملوكة للحرس الثوري مؤخراً حصة 51 بالمئة في شركة الاتصالات الإيرانية، التي تم خصخصتها بقيمة 5 مليارات دولار.

وأثار هذا التوسع الهائل في مصادر القوة الاقتصادية للحرس الثوري، اهتمام الإدارة الأميركية، التي أعادت تصميم عقوباتها لتتمكن من التدقيق في الأنشطة الاقتصادية للحرس الثوري عن كثب، من خلال إضافة أسماء العديد من شركاته وقادته إلى قوائم الكيانات الخاضعة للعقوبات من قبل وزارة الخزانة الأميركية.

مقتل "قائد" بالحرس الثوري الإيراني في حادث تحطم طائرة أعلنت العلاقات العامة لمقر "القدس" للقوات البرية للحرس الثوري الإيراني، الإثنين، عن مقتل أحد قادتها، وطيار إثر تعرض طائرتهما لحادث أثناء القيام بعمليات قتالية في منطقة سيركان الحدودية الجنوبية الشرقية

وأسفرت هذه العقوبات عن خسائر فادحة ليس فقط للحرس الثوري الإيراني، بل وللاقتصاد الإيراني ككل، حسب "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية".

وكان انتشار نفوذ الحرس الثوري في الاقتصاد قد بدأ بشكل جدي في أوائل تسعينيات القرن العشرين، في عهد رئيس البلاد رفسنجاني.

وفي أعقاب الحرب الإيرانية العراقية، كان تشجيع الحرس الثوري على المشاركة في البناء وسيلة لإعادة بناء البلاد ولتمويل هذه القوّة، وفق مقال رأي نشر على صحيفة "غارديان" في 2010.

وفي حين أن المقال أشار إلى أنه من المستحيل قياس حصة الحرس الثوري من الناتج المحلي الإجمالي الإيراني، إلا أن التقديرات الغربية تتراوح بين الثلث إلى ما يقارب الثلثين، حسبما جاء فيه.

ويضيف الباحث الإيراني، رضا بارشي زاده، أن الحرس الثوري "أنشأ إمبراطورية اقتصادية" تشمل التجارة والصناعة والطاقة والخدمات المصرفية والنقل والتعدين والطب والترفيه والرياضة والاستيراد والتصدير.

وأوضح في ورقة بحثية له في "منتدى الخليج الدولي"، أن المنظمات التابعة له تدير هذه الإمبراطورية من خلال المؤسسات والمعسكرات والاتحادات والشركات القابضة التي تتفرع إلى ما لا نهاية.

مقالات مشابهة

  • “زين” استعرضت جهودها لتأهيل القياديين والاستثمار في العنصر البشري
  • بصواريخ نوعيّة... ما الهدق الإسرائيليّ الذي قصفه حزب الله؟
  • السنوار رمز للمقاومة والصمود
  • الحرس الثوري الإيراني.. جذور وخفايا إمبراطورية باسدران
  • كشف تفاصيل مثيرة عن القيادي بحزب الله ”عماد أمهز” الذي اختطفته قوة اسرائيلية خاصة من داخل لبنان
  • برنامج «صباح الخير يا مصر» يقدم تقرير بعنوان اليوم في ذكرى رحيل جميلة السينما التي دخلت الفن بالصدفة «مريم فخر الدين»
  • تشييع جثمان الطفل سادن اليوم في الإسكندرية
  • موفاز يكشف عن فرصة كبرى أضاعها نتنياهو كانت ستغير مسار الحرب على غزة ويذكر السبب!
  • عشرون عاماً على رحيل المؤسس
  • مكتوم بن محمد في ذكرى رحيل الشيخ زايد: منه انطلقت المسيرة وبرؤيته أزهرت