بينما تستمر المعارك على أشدها في حرب السودان غير المحدودة في نطاقها ومستوياتها التصاعدية، بين قوات الجيش والدعم السريع، بينما تتحرك على الجانب الآخر محاولات بطيئة على المستوى الإقليمي والدولي نحو حل لأعقد مشكلات الدولة والحرب في القرن الحادي والعشرين. وقد شهدت الأيام المنصرمة أحداثا على أكثر من صعيد وأبرزها بطبيعة الحال اشتداد المواجهات العسكرية بين طرفي الصراع، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ما زاد من معاناة ضحايا الحرب القائمة منذ شهور.
إن ما جاء مؤخراً في التسجيل الصوتي لقائد الدعم السريع الجنرال حميدتي المتواري عن الأنظار- قبل ظهوره المتلفز- أثار فزع السودانيين، التسجيل الذي أشار فيه إلى أنه في حال تشكيل الفريق البرهان قائد الجيش لحكومة في شرق السودان، سيعلن هو الآخر حكومة في الخرطوم ومناطق أخرى يسيطر عليها. ولعل ردة فعل هذا التصريح تجاوزت الحرب ونتائجها، وطرحت عنصراً جديداً إلى العلن، ولم يعد مجرد احتمالات تبحث في جذور ومسببات الحرب بين الطرفين، تحليلاً أو تكهنا، ويأتي هذا بعد شهور عدة من حرب كارثية تهددت معها وحدة السودان ووجوده على الخريطة الجغرافية والتاريخية. وقد يبرر هذا التوقع ما مثلته الحرب بأكبر عملية تدمير ذاتي تصبح معه المطالبة بإقامة السلطة ومؤسساتها الطبيعية للدولة وهماً تغذيه خيلاء الحرب، بما يتجاوز في ظل الظروف الحالية قصر النظر السياسي إلى العمى الكامل.
غياب السلطة أو دورها حالة عانتها الدولة السودانية، منذ سقوط نظام المخلوع عمر البشير عام 2019 فقد تسيدت القوى العسكرية وفصائلها المشهد السياسي، وتبدلت أشكال السلطة بوتيرة متأرجحة بين الشراكة وفضها مع القوة المدنية والعسكرية الانقلابية. ومؤخراً أعلن الجنرال البرهان تكليف أعضاء ما يسمى بمجلس السيادة، العسكريين بمهام وزارية، وهو استمرار لمهام التكليف الوزاري منذ انقلابه إلى ما قبل قيام الحرب، هي خطوة يفهم بما تحمله من طابع شكلي، التأكيد على وجود سلطة للدولة تفرض سيطرتها بواجهتها العسكرية، أكثر منها حكومة تسير وتواجه المعاناة الإنسانية الكارثية. قبيل انفصال جنوب السودان عام 2011 طُرحت صيغة دولة واحدة بنظامين، كأحد الحلول لمشكلة استعصت على الحل العسكري والسياسي، وهي صيغة توافقية على غرابتها تعتمد على الحل الدستوري، لا يخرج كثيراً عن أنماط الحكم المتوافق عليها كالنظام الفيدرالي، وإن كان النمط المطروح وسط كثافة نيران الحرب، يقترب من النظام الكونفيدرالي. وبعيداً عن لجج النظريات السياسية في الحكم والدساتير ونظم الحكم، فإن الحلول السياسية للقضايا التي تفجرها الحرب تأتي متأخرة وتنبثق عن حالة إحباط وعدوى سياسية تفتك بمكونات الدولة من أفراد ومؤسسات. فما الذي يعنيه تكوين حكومة في الخرطوم العاصمة التاريخية، مدينة الأشباح، وأخرى في بورتسودان المدينة الساحلية منفذ السودان على البحر الأحمر، حيث انتقلت إليها المؤسسات الحكومية، بعد أن أجبرت على مغادرة مقارها الرئيسية في الخرطوم، ومؤخراً التجأ إليها رأس الدولة الجنرال البرهان بعد أن أفلح في الخروج من قاعدته العسكرية في العاصمة، وأصبحت المقار الرسمية للسلطة القائمة؟ فكل من الموقعين نتيجة مباشرة عن حرب بين طرفين في محاولاتهما الانتحارية لنزع السلطة عنوة، وبكل ما يمكن أن يوصل إليها في تجاهل عنيد إلى ما أدت إليه الحرب من دمار، في النتيجة فإن هذا التهديد بإقامة حكومات داخل الدولة الواحدة لا يعني أكثر من نتيجة منطقية شكلت الحرب مقدماتها غير المنطقية.
ففي الشهر الماضي أصدر الجنرال البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، قراراً بحل قوات الدعم السريع. والمفارقة لم تكن في توقيت القرار بعد شهور ستة من المواجهات الدامية، أن يأتي قرار حل لقوة يسمها الجيش بالمتمردة، ونزع الاعتراف بوجودها، ومن ثم يعاود التصريح بالتفاوض معها للوصول إلى حل! وكلا الطرفين لا يستندان إلا إلى شرعية قوة السلاح، وبعض من تحيزات اجتماعية مناطقية، وهي شرعية تفرضها وقائع يوميات الحرب، قد تسمح بإقامة سلطة عابرة لا تشكل في الوقت الحالي مقوما دستوريا لدولة لم تكن مؤسساتها فاعلة. فالجيش الذي يمثله الجنرال البرهان كرأس لسلطة سيادة الدولة جاءت عبر انقلاب على الانتقالية برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وفي المقابل فإن قوات الدعم السريع التي شاركت الجيش انقلابه ليس لها من السلطة السياسية إلا ما تزعم تحقيقه في خطابها السياسي الجديد، في مرحلة ما بعد الحرب.
ومثلما لم تكن أحداث السودان السياسية تعصى على التوقع، فإن الحرب الكارثية التي يخوضها طرفا الصراع تجعل من قيام حكومتين، إن لم تكن أكثر على قاعدة انهيار واختفاء الدولة السودانية بتعريفاتها التقليدية على مستوى تكوينها السياسي والاجتماعي والجغرافي. وإذا كان هذا الكيان الذي طالما وصف بالتنوع والتعدد والتباين الحاد بين مكوناته العرقية ـ مصدر الأزمات – وكذلك الثقافية، وما إليها من تعريفات أخرى جغرافية ولغوية، تفصل بين جغرافيا بشرية مجهولة الحدود، وهذا المزيج المضطرب يجعل من قيام أي سلطة منفصلة داخل حدود الدولة وارداً، بل وممكنا في ظل الأوضاع الحالية، فما يحول بين سلطات الكيانات الجهوية التي بدت في الظهور سوى حالة الحنين التي تنتاب السودانيين في بلد كان على تناقضاته الموروثة وحكوماته المحتكرة، يوفر حدا أدنى من الانتماء الوطني لمواطنيه.
ولكن ما غاب عن الساسة السودانيين ومعهم بالطبع جنرالات الحرب على طول عهدهم بممارسة السياسة، في حدودهم المتصورة عنها، هو أن قوة السلاح قادرة على تشكيل واقع لم يكن قائماً مهما كان الموقف من شرعية القوة التي تمسك به. وهذا من طبيعة صراع القوة على السلطة، على أقصى نتيجة للصراع باستخدام السلاح لفرض كيان سياسي أو رؤى سياسية محددة، وقد خبر السودانيون ماذا يعني استخدام قوة السلاح المجردة في الصراع السياسي، وما يفضي إليه المشهد السياسي، وإن اقتصر استخدامه على الانقلابات العسكرية لانتزاع السلطة الديمقراطية من المدنيين قصيرة الأجل في عمر السودان السياسي.
ومما اتضح أيضاً من واقع الاشتباكات الدامية بين الطرفين مؤخراً وحجم الدمار الذي طال المدن السودانية، وقائمة الضحايا وما نتج من عاهات اجتماعية بالغة التأثير على المواطن؛ فإن ذلك لم يقلل من شغف الصراع على السلطة، وبالنتيجة لم تحسم الحرب عسكرياً، أو وصول أي من طرفيها لسيطرة مطلقة، ولو على طاولة المفاوضات، كان لا بد من تمثيل نتائج الحرب على نحو مغاير وغير عسكري، والتجاسر على إعلان قيام حكومات كواجهات سياسية وحصاد حرب. ولعل هذا ما يفسر ارتفاع وتيرة التصريحات من قبل مستشاري الطرفين السياسيين، التي تشي بالتهديد بإعلان قيام حكومة. والأمر الآخر الذي يجعل من قيام حكومات منفصلة قائمة بقوة السلاح وليس شرعية القانون، ما هيأه الرأي العام الذي ازداد انقسامه عقب الحرب على أسس عنصرية، يرافقها خطاب كراهية أسبابه معلومة كأحد تداعياتها المباشرة، فالشعارات والدعوات الشعبية للدولة المنفصلة سبقت الاتجاه السياسي الرسمي، وحددت حدودها الجغرافية بناء على تصورات الانتقاء العرقي وغيرها من عوامل ظاهرة وخفية. وإذا كان السودان قد مرّ بتجربة الدولة المنفصلة عن الدولة الأم في تاريخه السياسي القريب، ولكن رغم الحرب انتهى الانفصال بالاستفتاء، وليس الحرب بقيام دولة جنوب السودان 2011. فالانقسام الذي يقوم على صراع القوة العسكرية لن يؤدي إلى تشكيل حكومتين أو دولة واحدة بنظامين تلك الصيغة التي ربما أعادت السودان إلى أكثر من مئة سنة إلى الوراء، عندما خضع لحكم الدولتين (بريطانيا، مصر) أو ما عرف بالحكم الثنائيCondominium في تكرار لظاهرة سياسية نادرة الحدوث.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية_ عدد اليوم 05 أكتوبر 2023م.
nassyid@gmail.com
///////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجنرال البرهان الدعم السریع أکثر من لم تکن
إقرأ أيضاً:
ثلاثة مزاعم أطلقها ترامب حول زيلينسكي والحرب الروسية الأوكرانية.. ما الذي تكشفه الأرقام؟
تصاعد الجدل هذا الأسبوع بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الحرب الروسية الأوكرانية، حيث وصف نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ"الديكتاتور"، ما أثار استياء القادة الأوروبيين.
وإثر ذلك، رد زيلينسكي عبر اتهام ترامب بالعيش في "فضاء من التضليل الإعلامي" الذي تخلقه روسيا، في تحول واضح عن نهج الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة جو بايدن في دعم أوكرانيا.
ومع استمرار الجدل، عملت Euroverify على تفنيد الادعاءات التي أطلقها ترامب، حيث قامت بمراجعة الحقائق مسلطةً الضوء على مدى دقة تصريحاته وتأثيرها على السياسة الأمريكية تجاه الصراع المستمر منذ ثلاث سنوات.
في مؤتمره الصحفي الأربعاء، ادعى ترامب أن هناك "أحكامًا عرفية في أوكرانيا"، مضيفًا أن نسبة تأييد زيلينسكي لا تتجاوز 4%، لكن هذا الرقم لا يستند إلى أي استطلاعات رأي موثوقة، إذ تظهر الدراسات أن نسبة تأييد زيلينسكي ظلت تتجاوز الـ 50% بشكل مستمر.
فقد تم انتخاب زيلينسكي بطريقة ديمقراطية في أيار/مايو 2019، وحصل على 73% من الأصوات في الجولة الثانية. ومع بداية الغزو الروسي الشامل في شباط/فبراير 2022، فرضت أوكرانيا الأحكام العرفية، ما حال دون إجراء انتخابات وفقًا للدستور.
وأكد زيلينسكي مرارًا أن الانتخابات ستُعقد بعد الحرب، في الوقت الذي رفض فيه خصومه السياسيون إجراء انتخابات خلال الحرب. ووفقًا لاستطلاع أجراه معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع في شباط/فبراير 2022، بلغت نسبة ثقة الأوكرانيين بزيلينسكي 57%، مقارنةً بـ 52% في كانون الأول/ديسمبر. كما أظهر استطلاع آخر أن نسبة تأييده في أوكرانيا بلغت 63%.
وفيما يتعلق بانطباع الأوكرانيين عنه، وصفه 74% منهم بأنه وطني، و73% بأنه قائد ذكي ومطلع، و65% بأنه شخصية قوية تقود البلاد في زمن الحرب.
وأكدت الباحثة في العلوم السياسية أولغا أونوش، أن نشر معلومات مضللة حول شرعية زيلينسكي يعزز الدعاية الروسية ويقوض حق الشعب الأوكراني في تقرير مصيره.
المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لا تتجاوز حجم الدعم الأوروبيفي منشور عبر "تروث سوشال"، ادعى ترامب أن الولايات المتحدة قدمت 350 مليار دولار (334 مليار يورو) لأوكرانيا، وأن إنفاق واشنطن تجاوز الدعم الأوروبي بمقدار 200 مليار دولار (191.1 مليار يورو).
لكن البيانات تظهر أن الولايات المتحدة لم تتجاوز أوروبا في إجمالي المساعدات، كما أن الرقم الفعلي أقل من المبلغ الذي ذكره ترامب.
وتشير إحصائيات معهد كيل للاقتصاد العالمي إلى أن إجمالي الدعم الأوروبي، بما يشمل الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء، بلغ 132.3 مليار يورو، مقارنة بـ 114.2 مليار يورو من الولايات المتحدة.
أما بالنسبة لأكبر المساهمين، فقد تصدرت إستونيا والدنمارك القائمة، حيث خصصت كل منهما أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي قبل الحرب لدعم أوكرانيا.
كما اتهم ترامب زيلينسكي بالفساد، مدعيًا أن الرئيس الأوكراني "اعترف بأن نصف الأموال الأمريكية المرسلة إلى أوكرانيا مفقودة".
إلا أن زيلينسكي، في مقابلة مع وكالة "أسوشيتد برس"، أوضح أن أوكرانيا لم تتلق سوى 72.5 مليار يورو من إجمالي المساعدات الأمريكية، معظمها على شكل أسلحة، فيما يتم إنفاق الجزء الأكبر من الدعم داخل الولايات المتحدة، سواء في تصنيع الأسلحة أو دفع رواتب الجنود الأمريكيين.
تكلفة الحرب تُرهق موسكوادعى ترامب أن "روسيا لا تنوي تدمير كييف، ولو أرادت لفعلت ذلك. روسيا قادرة على محو المدن الأوكرانية تمامًا، لكنها الآن تهاجم بنسبة 20% فقط من قوتها العسكرية".
لكن معظم البيانات تشير إلى أن روسيا خصصت جزءًا كبيرًا من قدراتها العسكرية لغزو أوكرانيا. ووفقًا لتقديرات وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، يوجد نحو 580,000 جندي روسي على الأرض، فيما يُعتقد أن موسكو أنفقت حوالي 200 مليار يورو على مجهودها الحربي.
كما فرضت العقوبات الغربية قيودًا على قدرة روسيا في تصنيع الأسلحة، وسط تقارير تشير إلى تراجع مخزونها العسكري. وتعتمد موسكو بشكل متزايد على الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية، إلى جانب الدعم العسكري من كوريا الشمالية، لتعويض النقص في قواتها وعتادها العسكري.
ويرى بعض المحللين أن انخراط روسيا في الحرب أدى إلى تراجع نفوذها في مناطق أخرى من العالم، بما في ذلك سوريا، حيث فقد حليفها بشار الأسد السلطة في كانون الأول/ديسمبر بعد هجوم مفاجئ من فصائل المعارضة المسلحة.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية تقرير: الجنرال فاليري زالوجني قد يتفوق على زيلينسكي لو أجريت انتخابات فمن هو؟ انتقادات أوروبية لترامب بعد وصفه زيلينسكي بـ"الديكتاتور" القادة الأوروبيون يوافقون على ترشيح أوكرانيا ومولدافيا لعضوية التكتل وزيلينكسي يعتبر القرار تاريخيا فولوديمير زيلينسكيدونالد ترامبالكرملينروسياأوكرانياالولايات المتحدة الأمريكية