سودانايل:
2025-03-29@16:39:33 GMT

السودان: دولة بنظامين

تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT

بينما تستمر المعارك على أشدها في حرب السودان غير المحدودة في نطاقها ومستوياتها التصاعدية، بين قوات الجيش والدعم السريع، بينما تتحرك على الجانب الآخر محاولات بطيئة على المستوى الإقليمي والدولي نحو حل لأعقد مشكلات الدولة والحرب في القرن الحادي والعشرين. وقد شهدت الأيام المنصرمة أحداثا على أكثر من صعيد وأبرزها بطبيعة الحال اشتداد المواجهات العسكرية بين طرفي الصراع، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ما زاد من معاناة ضحايا الحرب القائمة منذ شهور.

وعلى الصعيد السياسي الداخلي شهد المناخ السياسي للحرب ما يمكن وصفه تطوراً خطيراً على صعيد الأزمة، وأحدث صدمة على المستوى الرسمي والشعبي.
إن ما جاء مؤخراً في التسجيل الصوتي لقائد الدعم السريع الجنرال حميدتي المتواري عن الأنظار- قبل ظهوره المتلفز- أثار فزع السودانيين، التسجيل الذي أشار فيه إلى أنه في حال تشكيل الفريق البرهان قائد الجيش لحكومة في شرق السودان، سيعلن هو الآخر حكومة في الخرطوم ومناطق أخرى يسيطر عليها. ولعل ردة فعل هذا التصريح تجاوزت الحرب ونتائجها، وطرحت عنصراً جديداً إلى العلن، ولم يعد مجرد احتمالات تبحث في جذور ومسببات الحرب بين الطرفين، تحليلاً أو تكهنا، ويأتي هذا بعد شهور عدة من حرب كارثية تهددت معها وحدة السودان ووجوده على الخريطة الجغرافية والتاريخية. وقد يبرر هذا التوقع ما مثلته الحرب بأكبر عملية تدمير ذاتي تصبح معه المطالبة بإقامة السلطة ومؤسساتها الطبيعية للدولة وهماً تغذيه خيلاء الحرب، بما يتجاوز في ظل الظروف الحالية قصر النظر السياسي إلى العمى الكامل.
غياب السلطة أو دورها حالة عانتها الدولة السودانية، منذ سقوط نظام المخلوع عمر البشير عام 2019 فقد تسيدت القوى العسكرية وفصائلها المشهد السياسي، وتبدلت أشكال السلطة بوتيرة متأرجحة بين الشراكة وفضها مع القوة المدنية والعسكرية الانقلابية. ومؤخراً أعلن الجنرال البرهان تكليف أعضاء ما يسمى بمجلس السيادة، العسكريين بمهام وزارية، وهو استمرار لمهام التكليف الوزاري منذ انقلابه إلى ما قبل قيام الحرب، هي خطوة يفهم بما تحمله من طابع شكلي، التأكيد على وجود سلطة للدولة تفرض سيطرتها بواجهتها العسكرية، أكثر منها حكومة تسير وتواجه المعاناة الإنسانية الكارثية. قبيل انفصال جنوب السودان عام 2011 طُرحت صيغة دولة واحدة بنظامين، كأحد الحلول لمشكلة استعصت على الحل العسكري والسياسي، وهي صيغة توافقية على غرابتها تعتمد على الحل الدستوري، لا يخرج كثيراً عن أنماط الحكم المتوافق عليها كالنظام الفيدرالي، وإن كان النمط المطروح وسط كثافة نيران الحرب، يقترب من النظام الكونفيدرالي. وبعيداً عن لجج النظريات السياسية في الحكم والدساتير ونظم الحكم، فإن الحلول السياسية للقضايا التي تفجرها الحرب تأتي متأخرة وتنبثق عن حالة إحباط وعدوى سياسية تفتك بمكونات الدولة من أفراد ومؤسسات. فما الذي يعنيه تكوين حكومة في الخرطوم العاصمة التاريخية، مدينة الأشباح، وأخرى في بورتسودان المدينة الساحلية منفذ السودان على البحر الأحمر، حيث انتقلت إليها المؤسسات الحكومية، بعد أن أجبرت على مغادرة مقارها الرئيسية في الخرطوم، ومؤخراً التجأ إليها رأس الدولة الجنرال البرهان بعد أن أفلح في الخروج من قاعدته العسكرية في العاصمة، وأصبحت المقار الرسمية للسلطة القائمة؟ فكل من الموقعين نتيجة مباشرة عن حرب بين طرفين في محاولاتهما الانتحارية لنزع السلطة عنوة، وبكل ما يمكن أن يوصل إليها في تجاهل عنيد إلى ما أدت إليه الحرب من دمار، في النتيجة فإن هذا التهديد بإقامة حكومات داخل الدولة الواحدة لا يعني أكثر من نتيجة منطقية شكلت الحرب مقدماتها غير المنطقية.
ففي الشهر الماضي أصدر الجنرال البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة، قراراً بحل قوات الدعم السريع. والمفارقة لم تكن في توقيت القرار بعد شهور ستة من المواجهات الدامية، أن يأتي قرار حل لقوة يسمها الجيش بالمتمردة، ونزع الاعتراف بوجودها، ومن ثم يعاود التصريح بالتفاوض معها للوصول إلى حل! وكلا الطرفين لا يستندان إلا إلى شرعية قوة السلاح، وبعض من تحيزات اجتماعية مناطقية، وهي شرعية تفرضها وقائع يوميات الحرب، قد تسمح بإقامة سلطة عابرة لا تشكل في الوقت الحالي مقوما دستوريا لدولة لم تكن مؤسساتها فاعلة. فالجيش الذي يمثله الجنرال البرهان كرأس لسلطة سيادة الدولة جاءت عبر انقلاب على الانتقالية برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك في أكتوبر/تشرين الأول 2021. وفي المقابل فإن قوات الدعم السريع التي شاركت الجيش انقلابه ليس لها من السلطة السياسية إلا ما تزعم تحقيقه في خطابها السياسي الجديد، في مرحلة ما بعد الحرب.
ومثلما لم تكن أحداث السودان السياسية تعصى على التوقع، فإن الحرب الكارثية التي يخوضها طرفا الصراع تجعل من قيام حكومتين، إن لم تكن أكثر على قاعدة انهيار واختفاء الدولة السودانية بتعريفاتها التقليدية على مستوى تكوينها السياسي والاجتماعي والجغرافي. وإذا كان هذا الكيان الذي طالما وصف بالتنوع والتعدد والتباين الحاد بين مكوناته العرقية ـ مصدر الأزمات – وكذلك الثقافية، وما إليها من تعريفات أخرى جغرافية ولغوية، تفصل بين جغرافيا بشرية مجهولة الحدود، وهذا المزيج المضطرب يجعل من قيام أي سلطة منفصلة داخل حدود الدولة وارداً، بل وممكنا في ظل الأوضاع الحالية، فما يحول بين سلطات الكيانات الجهوية التي بدت في الظهور سوى حالة الحنين التي تنتاب السودانيين في بلد كان على تناقضاته الموروثة وحكوماته المحتكرة، يوفر حدا أدنى من الانتماء الوطني لمواطنيه.
ولكن ما غاب عن الساسة السودانيين ومعهم بالطبع جنرالات الحرب على طول عهدهم بممارسة السياسة، في حدودهم المتصورة عنها، هو أن قوة السلاح قادرة على تشكيل واقع لم يكن قائماً مهما كان الموقف من شرعية القوة التي تمسك به. وهذا من طبيعة صراع القوة على السلطة، على أقصى نتيجة للصراع باستخدام السلاح لفرض كيان سياسي أو رؤى سياسية محددة، وقد خبر السودانيون ماذا يعني استخدام قوة السلاح المجردة في الصراع السياسي، وما يفضي إليه المشهد السياسي، وإن اقتصر استخدامه على الانقلابات العسكرية لانتزاع السلطة الديمقراطية من المدنيين قصيرة الأجل في عمر السودان السياسي.
ومما اتضح أيضاً من واقع الاشتباكات الدامية بين الطرفين مؤخراً وحجم الدمار الذي طال المدن السودانية، وقائمة الضحايا وما نتج من عاهات اجتماعية بالغة التأثير على المواطن؛ فإن ذلك لم يقلل من شغف الصراع على السلطة، وبالنتيجة لم تحسم الحرب عسكرياً، أو وصول أي من طرفيها لسيطرة مطلقة، ولو على طاولة المفاوضات، كان لا بد من تمثيل نتائج الحرب على نحو مغاير وغير عسكري، والتجاسر على إعلان قيام حكومات كواجهات سياسية وحصاد حرب. ولعل هذا ما يفسر ارتفاع وتيرة التصريحات من قبل مستشاري الطرفين السياسيين، التي تشي بالتهديد بإعلان قيام حكومة. والأمر الآخر الذي يجعل من قيام حكومات منفصلة قائمة بقوة السلاح وليس شرعية القانون، ما هيأه الرأي العام الذي ازداد انقسامه عقب الحرب على أسس عنصرية، يرافقها خطاب كراهية أسبابه معلومة كأحد تداعياتها المباشرة، فالشعارات والدعوات الشعبية للدولة المنفصلة سبقت الاتجاه السياسي الرسمي، وحددت حدودها الجغرافية بناء على تصورات الانتقاء العرقي وغيرها من عوامل ظاهرة وخفية. وإذا كان السودان قد مرّ بتجربة الدولة المنفصلة عن الدولة الأم في تاريخه السياسي القريب، ولكن رغم الحرب انتهى الانفصال بالاستفتاء، وليس الحرب بقيام دولة جنوب السودان 2011. فالانقسام الذي يقوم على صراع القوة العسكرية لن يؤدي إلى تشكيل حكومتين أو دولة واحدة بنظامين تلك الصيغة التي ربما أعادت السودان إلى أكثر من مئة سنة إلى الوراء، عندما خضع لحكم الدولتين (بريطانيا، مصر) أو ما عرف بالحكم الثنائيCondominium في تكرار لظاهرة سياسية نادرة الحدوث.
كاتب سوداني
نشر بصحيفة القدس العربي اللندنية_ عدد اليوم 05 أكتوبر 2023م.

nassyid@gmail.com
///////////////////  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الجنرال البرهان الدعم السریع أکثر من لم تکن

إقرأ أيضاً:

محاكمة نتنياهو ولجنة القضاة.. تعرّف على الأزمات التي تهدد بانهيار النظام القضائي الإسرائيلي

نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، مقالا، لرئيس معهد سياسة الشعب اليهودي (JPPI) وأستاذ القانون بجامعة بار إيلان، يديديا شتيرن، أكّد فيه: "في الوقت الذي يزعم فيه الاحتلال أنه يقاتل أعداءه على سبع جبهات حربية عسكرية، فإن هناك جبهة ثامنة لا تقل شراسة عن تلك الجبهات".

وأوضح المقال الذي ترجمته "عربي21"، أنّ الجبهة الثامنة تتمثّل بـ"الجبهة الداخلية، حيث تتمثل استراتيجية الحكومة في "قصفها" من خلال وضع العديد من القضايا الإشكالية على أجندة الجمهور".

"بالتالي إرهاقه، وتعزيز الأغراض التي لا يمكن الترويج لها في سياق الشؤون العادية، وبعضها قد تكون مجرد كلام فارغ" بحسب المقال نفسه، مؤكدا أنّ: "آخر عمليات القصف التي تقوم بها الحكومة على جبهتها الداخلية تمثّلت بقرارها حجب الثقة عن المستشارة القانونية".

وأضاف: "هذه خطوة دعائية لن تؤدي لنتائج عملية، إذ تقف في طريقها عقبات قانونية لا يمكن التغلب عليها، وفي حالات أخرى، يكون الهدف تغيير الواقع، مثل مشروع قانون تغيير تشكيل لجنة اختيار القضاة، الذي يوشك أن يدخل القانون الأساسي، دون أي احتجاج شعبي تقريباً، رغم خطورته الهائلة".

وأردف أنّ: "قرارات الحكومة تشعل بكل قوتها الجبهة الداخلية الثامنة: "إسرائيل ضد إسرائيل"، فالحكومة ووزراؤها يدفعون الإسرائيليين إلى حافة خلاف عميق حول القضايا الأكثر محورية في حياتهم، وكأنها: تقطع اللحم الحي أثناء الحرب". 

وأبرز: "عشية التعبئة الواسعة النطاق لجيش الاحتياط، وتثير عواقبها قلقاً هائلاً وإحساساً واضحاً بالطوارئ بين غالبية الجمهور، بما في ذلك أنصارها"، مشيرا إلى أنّ: "كل واحدة من هذه القضايا هي قضية رئيسية بحد ذاتها".

واستطرد: "في حين أن قضايا أخرى أكثر خطورة لا تستحوذ على اهتمام الحكومة، لاسيما معضلة إعادة الأسرى في مواجهة الحرب المتجددة في غزة، ما يثير أسئلة مهمة ذات طبيعة وجودية، وأخلاقية، وأمنية".


"صحيح أن اختيار القتال هو قرار الحكومة، لكن الاحتجاج ضده خشية ان يؤثر على عودة الأسرى، لا يجب أن يكون مرتبطا بالاحتجاجات الأخرى ضد تحركات الحكومة الأخرى ذات الطابع الإشكالي" وفقا للمقال نفسه الذي ترجمته "عربي21".

وأوضح أنه: "كان ينبغي أن تنتهي محاكمة رئيس الوزراء منذ زمن طويل، وقد تم اقتراح أفكار بشأن صفقة إقراره بالذنب، والوساطة الجنائية، وأكثر من ذلك، وعرضت الدوائر القانونية كثيرا من المقترحات لحلّ هذه الإشكالية، لاسيما من قبل أهارون باراك، الرئيس الأسبق للمحكمة العليا، المسمى "قائد الدولة العميقة"، وأفيخاي ماندلبليت، المستشار القانوني الأسبق للحكومة، الذي قدم لائحة الاتهام ضد نتنياهو".

وأضاف أنّ: "الجهات القانونية الحالية في الدولة تتجاهل هذه الصيغ الوسط لحل معضلة محاكمة نتنياهو، وهي في ذلك لا تتخذ القرارات الشجاعة التي ترى الصورة الكبيرة، وبالتالي تتحمل المسؤولية عن مستقبل الدولة، ومقدمة لـ"هدم المعبد على رؤوس الإسرائيليين جميعاً" وفق صيغة علي وعلى أعدائي، وهذا منهج لا ينبغي لنا أن نسير على خطاه، مما يجعل من خطوة إنشاء لجنة تحقيق حكومية في كل أخطاء الحكومة وإخفاقاتها أمرٌ بالغ الأهمية لتعزيز بقاء الدولة".

ولفت أنّه: "سيتم الاتفاق مسبقًا على أن يقتصر تفويض اللجنة على التحقيق في العمليات والمؤسسات، وليس بالضرورة العثور على الجناة، الأمر الذي يتمثل بعدم توجيه إصبع الاتهام إلى فرد بعينه، بل التحقيق في إخفاقات البنية التحتية في عمليات التفكير والتشغيل للنظام المسؤول عن أمن الدولة".

"وأن يكون هدف اللجنة هو تصحيح مسارها، وهنا يُمكن إجراؤه بكفاءة أكبر، دون تحذيرات أو محامين، وبصورة علنية، ودون أن تُصبح نتائجه موضع جدل، وبالتالي يتم تقويضها من قبل صناع القرار في الدولة" استرسل المقال ذاته.

وأكد أنّ: "العديد من إخفاقات حكومة الاحتلال بحاجة لتوضيح كامل، لأن تقويض النظام السياسي للدولة هو الخطر الأكبر على مستقبلها، وهذا ممكن بعد أن نجحت التحركات الحكومية في خلق حالة من عدم الثقة لدى الكثيرين تجاه الأفراد والمؤسسات المسؤولة عن سيادة القانون".


ومضى بالقول: "يجب أن نعترف بصراحة أن قرارات وسلوك أجزاء من النظام القضائي ساهمت أيضًا في هذه النتيجة الكارثية، مع أن جزءً أساسياً منها قد يكون استوحاه بنيامين نتنياهو من أفكار الرئيس دونالد ترامب".

وفي السياق نفسه، حذّر من أنّ: "القلق الكبير والفوري أن تحكم المحكمة العليا بأن إقالة رئيس جهاز الشاباك رونين بار غير قانونية، لكونها إجراءً غير سليم، ولأن المعايير القانونية المنصوص عليها في القانون الإداري، وتشكل شرطاً لشرعية الإقالة، لم يتم استيفاؤها".

وختم بالقول إنه: "في هذه الحالة سيجادل رئيس الوزراء بأن المحكمة تجاوزت سلطتها، ولا ينبغي الامتثال لحكمها، وفي هذه الحالة قد يُرسّخ رئيس الشاباك نفسه في منصبه، وهنا سيسأل الجميع: من سيقرر، أم ستصبح دولة الاحتلال "جمهورية موز"، وتدخل في مواجهة مباشرة ومصيرية بين مراكز قواتها".

مقالات مشابهة

  • توقف الحرب… من الذي كان وراءه
  • حملة مشبوهة ضد المقاومة بغزة.. من يقودها ومن المستفيد؟
  • السلطة الفلسطينية تحذّر من تقويض مؤسساتها
  • السلطة الفلسطينية تحذر من إجراءات إسرائيلية لتقويض مؤسساتها
  • القدس المنسية: المدينة التي تُسرق في ظل دخان الحرب الإسرائيلية على غزة والضفة
  • الرئيس اللبناني: لن نسمح بتكرار الحرب التي دمرت كل شيء في بلادنا
  • عقلية الساسة السودانيين والمآلات القادمة- قراءة في أزمة النظام السياسي
  • البرهان: نعمل على تهيئة الظروف لتولي حكومة مدنية منتخبة السلطة
  • عبد المسيح: دورة الصمود التي رُقِّي بموجبها 26 رتيبًا في أمن الدولة إلى رتبة ملازم تواجه اليوم خطر إلغاء مرسومها
  • محاكمة نتنياهو ولجنة القضاة.. تعرّف على الأزمات التي تهدد بانهيار النظام القضائي الإسرائيلي