بعد مرور عقدين على فظائع دارفور، السودان يصرخ من جديد … فهل هناك من يستمع؟
تاريخ النشر: 5th, October 2023 GMT
القرى والأراضي الزراعية المحروقة. إعدام الرجال والفتيان على أساس عرقهم. نيران القناصة تستهدف المدنيين الفارين.
بقلم: هوارد لافرانشي
تفشي الاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي يرهب النساء والفتيات. عندما ارتكبت هذه الفظائع في اقليم دارفور غربي السودان قبل عقدين من الزمن، انتبه العالم الغاضب لذلك واتخذ الإجراءات اللازمة.
أما الآن، والسودان يشهد قتالا عنيفا ترتبت عليه أزمة إنسانية جديدة، فإن الدعوة لانتقال العالم من الحديث إلى الفعل لم تجد استجابة بعد.
اليوم يتعرض السودان مرة أخرى لموجة مماثلة من العنف حيث دخل القتال بين الجيش وقوات شبه عسكرية، ترجع أصولها إلى الصراع في دارفور، شهره السادس.
ويؤكد بعض الخبراء أن حملة الإبادة الجماعية قد استؤنفت الآن في ولاية غرب دارفور. ولكن يبدو أن المجتمع الدولي المختلف هذه المرة ــ الذي يرزح تحت وطأة الصراعات المتصاعدةوالكوارث الطبيعية، ويواجه تصاعدا مربكا في التنافس بين القوى الكبرى ــ لا ينتبه لما يحدث في السودان إلا بشكل عابر. ولا يحظى انحدار السودان نحو الهاوية إلا باهتمام متقطع، الأمر الذي يثير خيبة أمل العاملين في المجال الإنساني ونشطاء حقوق الإنسان الذين يضغطون من
أجل استجابة دولية أقوى.
تقول أفريل بينوا، المديرة التنفيذية لمنظمة أطباء بلا حدود في الولايات المتحدة الأمريكية “مع ما نعرفه من تجربتنا السابقة في دارفور، من المثير للقلق أكثر أن نسمع قصص العنف والتطهير العرقي التي تشبه إلى حد كبير أسوأ ما حدث في تلك الأيام السيئة”. واضافت “بل ويعد هذا أسوأ لأننا نشهد أعمال عنف بلا هوادة في أجزاء كثيرة من البلاد في وقت واحد”.
وتقول بينوا إن المشكلة تكمن في أن العدد الهائل من الصراعات وغيرها من الكوارث في جميع أنحاء العالم تثقل كاهل المجتمع الدولي وتجعله يترك السودان يقف في الصف.
وتضيف “هناك طوفان من الأزمات، من اليمن إلى … هايتي، وسوء التغذية عبر منطقة الساحل، وأزمات المناخ المتضاعفة، والفيضانات في ليبيا، والزلزال في المغرب، لدرجة أن الجميع يتحملون فوق طاقتهم”.
وعلاوة على ذلك، أفاد موظفو منظمة أطباء بلا حدود عن ارتفاع مثير للقلق في حالات سوء التغذية الحاد، وخاصة بين الأطفال. وتقول بينوا “ما نشهده هو حالات تقوم فيها الأمهات اللاتي لديهن عدة أطفال يعانون من سوء التغذية الحاد بإحضار طفل واحد فقط لأن الأم تعتقد أن لديها فرصة أفضل للحصول على المساعدة إذا جاءت بطفل واحد فقط”.
ووقعت مجموعة مكونة من 94 متخصصاً في حقوق الإنسان وخبراء في السودان – بمن فيهم السيد براند من جامعة كونيتيكت – رسالة مفتوحة إلى المجتمع الدولي تحذر من العنف الموجه في غرب دارفور، والذي إذا لم يتم إيقافه قد يؤدي إلى إبادة جماعية. ولفتت الرسالة الانتباه بشكل خاص إلى شعب المساليت في المنطقة، وهي مجموعة عرقية مسلمة غير عربية.
وبينما كان اهتمام العالم متركزا في أماكن أخرى إذا بالصراع، الذي بدأ في أبريل كمبارزة بين قائد الجيش وأمير الحرب قائد قوات الدعم السريع، يتوسع إلى حرب أهلية.
وقد قتل أكثر من 5000 مدني سوداني في القتال، في حين نزح 5.5 مليون – فر مليون منهم على الأقل عبر الحدود تدفق منهم أكثر من 400 ألف شخص إلى تشاد المجاورة، وهم يترنحون بالفعل تحت وطأة الجفاف، والتطرف الإسلامي والاضطرابات السياسية. وفر أكثر من 300 ألف آخرين إلى مصر.
يصل اللاجئون إلى مخيمات اللاجئين المترامية الأطراف في تشاد وهم مصابون بالرصاص وأطفال يعانون من سوء التغذية ــ وحكايات مروعة عن المجازر، والقصف العشوائي، والدفن المتسرع لأحبائهم في مقابر جماعية مع تدمير القرى بشكل منهجي.
وداخلياً، تفاقم انعدام الأمن الغذائي الحاد حيث أصبح 6 ملايين شخص على شفا المجاعة، وفقاً لمنظمات الإغاثة العاملة داخل السودان. ومع ذلك، حتى مع اتساع نطاق القتال وتزايد التقارير عن الفظائع التي ارتكبها الجانبان، يقول الخبراء إن الجهود الدولية لوقف القتال كانت هزيلة.
يقول مايك براند الأستاذ المساعد في دراسات الإبادة الجماعية وحقوق الإنسان في جامعة كونيتيكت “هناك محادثات حول ما يحدث في السودان، كما رأينا مؤخرًا في الأمم المتحدة. ولكن بينما يتحدث الناس يومًا بعد يوم، يموت الناس في السودان، ويواجهون عنفًا مروعًا حقًا”. ويضيف “ببساطة لا توجد رغبة لأنواع العمل والتعبئة التي رأيناها في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين”.
وقد مارست بعض الدول والمنظمات ضغوطاً مؤخراً من أجل التحرك الدولي لوقف القتال خاصة أثناء افتتاح أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي.
وقد وجه رؤساء 50 منظمة إنسانية وحقوقية رسالة مفتوحة إلى مجلس الأمن في الفترة التي سبقت اجتماع زعماء العالم في منتصف سبتمبر الماضي، مطالبين المجلس “بالانتقال من الكلام إلى العمل”. وفي جلسة لمجلس الأمن بشأن السودان، رسمت السفيرة الأمريكية ليندا توماس جرينفيلد صورة للمعاناة الإنسانية الرهيبة والعنف المروع الذي يستهدف المدنيين، وذلك بعد زيارة قامت بها مؤخرًا إلى مخيمات اللاجئين السودانيين في تشاد. ولكن لم يتم اتخاذ أي إجراء.
أحد العوامل التي تؤجج القتال هو استعداد بعض القوى الإقليمية للتدخل خلف الكواليس، وذلك في المقام الأول من خلال توفير الأسلحة للجانب المفضل في الصراع. يقول خبراء السودان، على سبيل المثال، إن الإمارات العربية المتحدة تزود سرا قوات الدعم السريع بمجموعة من الأسلحة، على الرغم من مزاعمها بأنها تقدم المساعدة الإنسانية فقط. وانضمت الولايات المتحدة إلى المملكة العربية السعودية لتنظيم بعض المحادثات بين الأطراف المتحاربة، لكنها تراوح مكانها. وحضر قائد الجيش السوداني الزعيم الفعلي للبلاد، عبد الفتاح البرهان، جلسة الجمعية العامة، حيث أعلن استعداده لمحادثات السلام – لكنه دعا أيضًا المجتمع الدولي إلى تصنيف قوات الدعم السريع منظمة إرهابية.
مثل هذه الظروف تعني عدم وجود محادثات سلام ذات معنى، والانزلاق إلى حرب أهلية في بلد تم الاحتفال به دوليًا في عام 2019 لحركته المؤيدة للديمقراطية وخطواته الأولية نحو الحكم الديمقراطي. ومع ذلك، مع استمرار القتال، تشير المنظمات الإنسانية إلى آثار تفاقم العنف وتزايد عمليات النزوح داخل السودان وفي مخيمات اللاجئين حيث يبحث المزيد من السودانيين عن الأمان كل يوم.
وتقول بينوا من منظمة أطباء بلا حدود “إن المستوى الهائل من النزوح يخبرك بأن الناس مرعوبون. القصص التي نسمعها توضح أيضًا أن الناس ليس لديهم أي فكرة عن المكان الذي يتجهون إليه بحثًا عن الأمان”. وتقول إن بعض المعارك الأشد عنفاً وقعت مؤخراً قرب المستشفيات، مما جعل الناس يترددون في القدوم للحصول على الرعاية.
ويقول براند “أعتقد أن الإبادة الجماعية تحري الآن، ولا يقتصر الأمر على العنف الذي يستهدف المساليت فقط. من المهم استخدام المصطلحات الصحيحة في الوقت المناسب، ولكن من الصعب أيضًا النظر إلى ما يحدث وعدم استنتاج أنه جهد لإنهاء المهمة التي بدأت في دارفور عام 2004”.
ومع ذلك فإن منظمات حقوق الإنسان، التي أجرت بعض التحقيقات الأكثر تعمقاً في أعمال العنف التي يمارسها المدنيون في السودان، ليست مستعدة لتسميتها إبادة جماعية.
يقول جان بابتيست غالوبان، كبير الباحثين في شؤون الأزمات والصراع بفرع منظمة هيومن رايتس ووتش في باريس
“نحن نجمع الأدلة وتجارب الأشخاص الذين فروا من الأماكن التي ارتكبت فيها أسوأ الفظائع، لكننا لسنا مستعدين بعد لإصدار استنتاجات نهائية.”
وكانت المنظمة من أوائل المنظمات التي جمعت شهادات شهود عيان من الناجين من التدمير الشامل للبلدات والقرى في أجزاء من ولايتي غرب دارفور وجنوب دارفور، في شهري مايو ويونيو. وروى هؤلاء الشهود حكايات مروعة عن عمليات إعدام رجال وأولاد، وإطلاق نار استهدف أي شخص فار من العنف، بما في ذلك الأطفال، وتدمير المنازل والمباني الأخرى.
ويقول السيد غالوبين، الذي كان آخر مرة زار فيها منطقة النزاع في أغسطس “تحدث اللاجئون عن بلدة يبلغ عدد سكانها حوالي 40,000 شخص دمرت في يوم واحد”. ومع ذلك، في حين خلصت هيومن رايتس ووتش إلى حدوث تطهير عرقي وجرائم حرب في الصراع الحالي في السودان، فقد أحجمت عن المضي قدمًا وإصدار حكم بالإبادة الجماعية. ويشير السيد غالوبين إلى أن المنظمة لم تنضم قط إلى المجموعات الأخرى في تحديد وقوع الإبادة الجماعية في دارفور قبل عقدين من الزمن. ويضيف، مع ذلك، أن التقرير المتوقع صدوره في الأسابيع المقبلة سيعمل على تحديث نتائج انتهاكات الحقوق في غرب دارفور ويمكن أن يؤدي إلى استنتاجات جديدة حول أعمال العنف الجارية.
في غضون ذلك، أفادت السيدة بينوا أن أعمال العنف المروعة التي تحدث في جميع أنحاء السودان لم تمنع بعد موظفي المنظمة السودانيين من الحضور للعمل في المستشفيات العامة، على الرغم من الظروف المروعة.
وتقول “لم يحصل الموظفون على رواتبهم منذ أشهر، ومع ذلك فإنهم يحضرون كل يوم. إن الأمر مثير للإعجاب أكثر بسبب المخاطر التي يواجهونها للوصول إلى العمل، ثم الظروف التي يواجهونها بمجرد وصولهم إلى العمل.” وتضيف “الكثير منهم لديهم جوازات سفر ويمكنهم المغادرة وترك هذا وراءهم، لكنهم مصممون على خدمة مواطنيهم السودانيين”.
نقلاً عن موقع زي كرستيان صينس مونيتور
The Christian Science Monitor
الوسومآثار الحرب في السودان إقليم دارفور حرب الجيش والدعم السريعالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: آثار الحرب في السودان إقليم دارفور حرب الجيش والدعم السريع الإبادة الجماعیة المجتمع الدولی فی السودان غرب دارفور فی دارفور ومع ذلک مع ذلک
إقرأ أيضاً:
يا مثقفو السودان وعقوله النيرة … اتحدوا
في الفؤاد ترعاه العناية ... من بين أيدينا يتسرّب وطنٌ عظيم
يا مثقفو السودان وعقوله النيرة ... اتحدوا
تعددت التعريفات لمفهوم المثقف، ربطه البعض بحصيلته من المعرفة وبموقفه من الصراع الحضاري، وشريحةٌ أخرى قرنته ببعد النظر، وعمق البصيرة، والخبرة الذاتية، والحياتية. وربطه آخرون بحصيلته من الشهادات والمؤهلات الأكاديمية. وعلى الرغم من أن الباحثين لم يتفقوا حتى الآن على تعريفٍ محدد له، إلا أنهم اتفقوا على أهمية دوره في تنمية المجتمع بصفته "مهندس النفس البشرية"، "ضمير الأمة وصوتها"؛ صاحب القدرات المدهشة في التعبير عن أحلامها وطموحاتها ومخاوفها وأفراحها وأتراحها، وصاحب رسالة ريادية في تنوير العقول وتحفيز الشعور ونقد وتصحيح الواقع المعوج من خلال سعيه لتحقيق عدالة مجتمعية بالتوعية والتنوير والنزول إلى الشارع العام صحبة الجماهير دون استعلاءٍ أو تكبر، يسعى معها لتحسين الحياة الاجتماعية، يعلم ويتعلم منها حتى يصل أعلى مراتبه حين يكتسب منها صفة "المثقف العضوي".
في زمن الرويبضات الطفابيع، والمغنواتية المطاليق، تراجع دور المفكر المثقف، وكل من أوتي قدرًا من العلم والمعرفة ولسان فصيح وقلب ينضح بالحق، الإنسان المثقف الذي ينثر الوعي والتنوير ويتقن نقد انحرافات الواقع؛ مما جعل العالم من حولنا يتساءل عن دور المثقف السوداني تجاه قضايا الوطن والشعب في هذا الزمن الكئيب الذي يعلو فيه ضجيج الجهلاء وترتفع فيه أسهم التافهين من اللايفاتية ومدعي الخبرات الاستراتيجية.
في عصر الانحطاط هذا، وصناعة وتسويق الجهل، وفي ظل الاستقطاب الحاد والاصطفاف، تشظّى المثقفون وتفرّق الكُتّاب والأدباء، كلٌّ منهم يمسك برأيه ويسير منفردًا. منهم من يقاتل ضد الاقتتال والحرب، ومنهم من انحاز وهو مطمئن لأحد طرفي الاقتتال. كما أن بينهم فئة آثرت الصمت، وانزوت تبحث عن طوق نجاة بعيدًا عن ويلات الحرب.
تتداول وسائل التواصل الاجتماعي قائمة من اثنين وأربعين إعلاميًا يشكلون قمة الهرم المهني الإعلامي السوداني، متهمين بالعمالة والخيانة، على رأسهم الأستاذ محمد لطيف، والأستاذة رشا عوض، والأستاذ فيصل محمد صالح، والدكتور مرتضى الغالي، والأستاذ محمد محمود راجي، والأستاذ عبد الرحمن الأمين. وعلى الرغم من اختلاف أطيافهم السياسية، إلا أن ما جمع بينهم هو موقفهم المبدئي الثابت ضد الحرب منذ انطلاق شرارتها الأولى. وهم لا ينادون فقط بـ"لا للحرب ... العسكر للثكنات، والجنجويد اتحلّ..."، بل يطالبون بعزم وصلابة بالعودة للمسار الديمقراطي والحكم المدني، ورفضهم القاطع لعودة الجماعات المتأسلمة للسلطة من جديد. ولمواقفهم تلك مورست ضدهم أشرس أنواع الإرهاب وهو الإرهاب الفكري.
هذه القلة الشجاعة من الإعلاميين وقفت بشراسة ضد الحرب، وظلت تنادي وتطالب بوقفها وترصد تجاوزات أطرافها، مما جعلها هدفًا مشروعًا لطرفي الاقتتال. وهم الأعلى صوتًا والأكثر نجاعة وشجاعة وسط عدد لا يُستهان به من سدنة منارة الوعي من مثقفين وأدباء وكُتّاب وفنانين، صدحت برأيها وقالت: "لا للحرب".
لكن هناك قلة من المثقفين، بعلل وحجج مختلفة، اختارت الانحياز لأحد طرفي الحرب، بعضهم عن قناعة والبعض تجارة، باعوا أقلامهم وانحازوا لأحد أطراف الصراع، وآخرون انحازوا عن خوف أو ابتزاز بعد تعرضهم لإرهاب وتهديدات الأجهزة الأمنية.
الذين باعوا أقلامهم ومواقفهم في سوق النخاسة، والذين استسلموا للخوف والإرهاب والابتزاز، ليسوا معنيين في هذا المقال بعد أن صنّفهم الشعب ضمن السفهاء والتافهين.
ما يهمنا هو توحيد وتنظيم أصحاب المواقف الوطنية النبيلة من المثقفين الذين يؤمنون بضرورة وقف الحرب واستهداف المدنيين، وتوصيل الإغاثة للمتضررين والعالقين بسبب الحرب، وعودة النازحين، ومحاسبة المنتهكين.
المثقفين من كُتّاب وأدباء وفنانين قرروا بإرادة حرة الانحياز لأحد طرفي الحرب لحجج وقناعات مختلفة. فمنهم من انحاز للجيش اعتقادًا منه بأنه بعد دحر قوات الدعم السريع، التي يعدها غزوًا خارجيًا وعنفًا بدويًا، وبعد استعادة بيوتهم التي انتُهكت، وشوارعهم التي اغتُصبت، ستكون معركتهم أسهل مع الإسلامويين وميليشياتهم. فقد سبق للشعب هزيمتهم ولا غضاضة في تكرار مشهد قطار عطبرة من جديد بعد أن يصطف الشعب في ثورته لبناء سودان جديد خالٍ من الفساد والاستبداد شعاره: "عندك خُت، ما عندك شِيل".
وهناك مجموعة أخرى قررت الانحياز لقوات الدعم السريع ظنًا منها أنها القوة الوحيدة المؤهلة لهزيمة الإسلامويين وميليشياتهم عسكريًا، بل والقضاء عليهم؛ حيث لا مستقبل لهم في سودان ما بعد الحرب في ظل وجود هذا الوباء المدعو بالإخوان المسلمين. ولأن في مفهومهم السفسطائي المثالي (ما في مليشيا بتحكم دولة)، ستقوم قوات الدعم السريع بتسليم السلطة للمدنيين لإقامة الدولة الديمقراطية التي يحلمون بها.
لكن الحقيقة أن كلا الطرفين جانبهما الصواب؛ حيث أسسا قناعاتهما على أمانيّهما ورغباتهما، أي اتبعا تفكيراً رغبوّياً (Wishful Thinking) لا يستند إلى العقلانية ولا الواقعية، وكلاهما ينطبق عليه حال المستجير من الرمضاء بالنار. فلا الدعم السريع سيقضي على التيار الإسلاموي، ولا الجيش سيقضي على الجنجويد. وهناك عدة عوامل داخلية وخارجية تؤكد ذلك، وكل المؤشرات تقول بأن دائرة الحرب آخذة في الاتساع، وكرة النار ستظل تضطرم في ازدياد طالما الوقود متوفر، والأهداف لا زالت قيد التحقيق، سواء أهداف القوى المتصارعة أو القوى الإقليمية المتداخلة والمشاركة في الحرب أو الدولية المتعاطفة.
هذه الفئة من المثقفين ظلت تصارع وتناضل لنشر الوعي ودق ناقوس الخطر على المستقبل، وتقول إن هذه الحرب العبثية مهما طال أوارها فلن تُحسم بالبندقية، بل بطاولة المفاوضات، وأن المحاسبة على الانتهاكات، أو الدعوة لانعقاد "لجان الحقيقة والمصالحة" أسوة بما جرى في رواندا وجنوب أفريقيا، لن يتم إلا في ظل سودان مدني ديمقراطي. لا بد من جيش مهني واحد يوحد كافة القوات والحركات والمليشيات المسلحة مهما كان دورها أو موقفها في هذه الحرب. يجب أيضاً النظر للصراع الإقليمي حول الموارد بعين الاعتبار لدوره في إشعال واستمرار الحرب، ولما يمكن أن يسهم به في استقرار السلام وإعادة التعمير.
هذه القلة من المثقفين التي تغزل بفكرها حبال لإنقاذ الوطن، للأسف، مستهدفة من الطرفين المتحاربين وأجهزتهما القمعية في الداخل والإعلامية في الخارج.
ومن هنا جاء نداء المثقف العضوي الدكتور حسن الجزولي، حيث دعا في بيانٍ له يستنكر فيه مذبحة شباب لجان الخدمات بالحلفايا إلى التكاتف والتحالف والتوقيع على بيان يدين الانتهاكات من طرفي الصراع. وأقتبس من بيانه: "ندعو لإصدار بيان استنكاري بتوقيع المثقفين الوطنيين - كُتّابًا وشعراء وأدباء وتشكيليين وصحفيين ومسرحيين وموسيقيين وفنانين - شجبًا للمجزرة ومطالبة الجهات العدلية الدولية بالعمل من أجل حماية السودانيين من بطش مصاصي الدماء في البلاد."
وانطلاقًا من بيان الدكتور حسن الجزولي وعطفاً على حالة الوطن الجريح، أقترح تشكيل جبهة عريضة من المثقفين الوطنيين - كُتّاباَ وشعراء وأدباء وتشكيليين وصحفيين ومسرحيين وموسيقيين وفنانين - الذين يمثلون فئة مستهدفة في هذه الحرب لتشكيل جبهة متحدة ضدها.
أما طرفا القتال ومن يدعمهم، فقد يتصالحون عاجلاً أم آجلاً. حتى الأحزاب التي تقف الآن ضد الحرب قد تساوم وتقبل بالمشاركة والمصالحة واقتسام المكاسب، باستثنائكم أنتم ... وربما لهذا السبب أنتم غير مرغوب فيكم. فلا عجب أن الأطراف كافة تستهدفكم ما دمتم غير مروضين، غير خانعين، ما دمتم أحراراً متمسكين بأهداف ثورة ديسمبر المجيدة. فأنتم مستهدفون من الأطراف المتصارعة ومن داعميهم في الداخل والخارج. لن يستقر لهم بال إلا بإقصائكم عن المشهد، سواء بالقتل أو التهجير، كما حدث حين استولت الجبهة القومية الإسلامية على السلطة في عام 1989. كان هدفهم الأول هو تجريف البلاد من أمثالكم، والعالم المتواطئ فتح أزرعه غير مصدق ليتلقاكم كأعظم هدية تمثلها هجرة جماعية للعقول المستنيرة.
لذا، أتمنى صادقًا أن نتوحّد في جبهة عريضة، نواتها قائمة الشرف الإعلامي التي تضم الاثني والأربعين الذين تم تخوينهم. لنقف سداً منيعاً ضد عودة دولة الفساد والاستبداد، ولنرفع عالياً راية ثورة ديسمبر المجيدة. ولنهتف معا حتى يصل صوتنا لكل العالم ((... العسكر للثكنات والجنجويد ينحل ... ومدنياااااااااا.))
عاطف عبدالله
23/11/2024
atifgassim@gmail.com