استعدادًا لقمة المناخ COP28 المنعقدة بدولة الإمارات  وتحت رعاية وزارة البيئة،  انطلق المغامر والناشط البيئي علي عبده، يوم الأحد الماضى في مغامرة جديدة  لتحقيق رقمًا قياسيًا عالميًا في موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وذلك من خلال رحلته على دراجة كهربائية من أهرامات الجيزة  لمدة أسبوعين، يقوم خلالها بزيارة محافظات الفيوم، ومرسي مطروح، والإسكندرية، ودمياط، وبورسعيد، والسويس، وجنوب سيناء، ثم تستكمل الرحلة بعد ذلك نحو سبع دول عربية أخرى بداية من الأردن مروراَ بالسعودية، وقطر، والبحرين، والكويت، وعمان، وستنتهي في الإمارات للمشاركة في قمة المناخ كوب28، حيث سيتم عرض قصص النجاح والتحديات والفرص التي وثقتها الرحلة والآمال المتوقعة من المؤتمر.

وأوضحت البيئة في بيان لها مساء اليوم، انه  قام المغامر المصرى بزيارة محمية وادى الريان ومنطقة وادى الحيتان خلال رحلته، كما ستتضمن الرحلة زيارة عدد من المدارس والجامعات والنوادي بكافة الدول التي سيمر عبر أراضيها، وذلك بهدف رفع مستوى الوعي البيئى حول الحاجة المُلحة للعمل المناخي عن طريق فهم أزمة تغير المناخ وكيفية التصدي لها خاصة بين الشباب، وتسليط الضوء على قصص النجاح والتحديات والفرص في الوطن العربى باعتباره سفيرًا للتنمية المستدامة  ، حيث سيتم تصوير فيلم وثائقي يسلط الضوء على المشاريع والمبادرات المختلفة التي تمر عليها الرحلة لعرضه في قمة المناخ COP28.

وتعد الرحلة التى يجريها حاليًا المغامر تحت عنوان "الرحلة إلى قمة المناخ 28" النسخة 2023 من الرحلة إلى 2030 لتحقيق التنمية المستدامة التي تتم بالشراكة مع مؤسسة مناخ أرضنا للتنمية المستدامة، حيث بدأت  الرحلة منذ العام الماضي إلى COP27، حيث انطلقت برعاية رئاسة الدورة الـ٢٧ لمؤتمر الدول أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغير المناخ (CPO27)، ووزارة البيئة، جامعة الدول العربية، ووزارة الشباب والرياضة، وبالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ويونيسف مصر، ونادي السيارات والرحلات المصري، والمجلس العربي للشباب، والشركة القابضة للمياه والصرف الصحي، بالإضافة إلى مساهمة عدد المؤسسات وشركات القطاع الخاص في الدول التي تمر بها الرحلة.

جديرًا بالذكر أن المغامر علي عبده هو أول عربي يسجل رقمًا قياسيًا على دراجة نارية في موسوعة جينيس للأرقام القياسية، وذلك من خلال رقمين قياسيين سابقين في موسوعة جينيس خلال "الرحلة إلى قمة المناخ 27"، وذلك حينما حقق "أطول رحلة على دراجة كهربائية داخل دولة"، وذلك بعد أن قطع مسافة 9.749 كيلومتر خلال 22 يوم، أثناء استضافة مؤتمر المناخ 27 ( COP27).

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: والصرف الصحي البيئة قمة المناخ

إقرأ أيضاً:

ضد السياحة.. أيام في إسطنبول لحسونة المصباحي

"إذا أردت أن تتجدد، فاغرب كما تغرب الشمس". إذا كان لهذه العبارة للناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو أن تبحث عن دليل، فستنادي اسم الكاتب التونسي حسونة المصباحي، الذي قضى حياته مسافرا ومهاجرا بين المشرق والمغرب والجنوب والشمال.

لم يكن حسونة المصباحي، عندما لوّح بنفسه خارج حدود الوطن لأول مرة، يبحث عن عمل، فقد استقال من عمله كأستاذ للغة الفرنسية واتجه شرقا. كان يبحث عن معنى لحياته ككاتب شاب، وركض خلف أطياف المعرفة التي تطل عليه مرة من بغداد، ومرة من باريس، ومرة في برلين، ومرة في طنجة وفاس، ومرة من لوس أنجلوس، أو الأندلس، وسردينيا، وسراييفو.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إطلالة على الأدب الأفريقي المكتوب بالبرتغالية.. جيرمانو دي ألميدا نموذجاlist 2 of 2"لهم فضْلُ القديمِ وسابقاته".. عن لغة الشعر النبطيend of list

لم يسمع أحد، ولا قرأ، أن حسونة المصباحي قد امتهن عملا غير الكتابة، ولا كتب بلغة من اللغات التي امتلكها إلا في مناسبات نادرة، وظل يكتب بالعربية الكتب الفكرية والروائية، ويترجم إليها ما يشده من نصوص فلاسفة العالم وأدبائه.

لم يستقر صاحب "هلوسات ترشيش" في جنس أدبي، وظل يمارس الصحافة الثقافية محاورا وكاتب مقال، يكتب الرواية والسيرة والأعمال الفكرية واليوميات، ويترجم، ليعود كل مرة إلى معشوقته الأولى: القصة القصيرة.

كان للترحال أثر كبير في كل كتاباته، بعضه خفي متسرب في أعماله التخييلية، وبعضه واضح وصريح، بداية بكتابه "كتاب التيه" إلى كتابه "أيام في إسطنبول" الفائز بجائزة ابن بطوطة لفن اليوميات لسنة 2024.

إعلان اليوميات والترحال

تمثل الرحلة الحديثة والمعاصرة إحدى أهم روافد الكتابة عن الذات، التي تواصلت امتدادا للكتابات الرّحلية، التي جاءت بدورها من الأدب الجغرافي ومن أدب البريد.

غير أن الرحلة الحديثة أخذت شكلين أساسيين، هما:

الرحلة التي يدون فيها الكاتب مغامراته، مقسّما إياها حسب المواضيع، وهي عادة تأخذ شكل الفصول المعنونة، كتلك التي قام بها الإسباني خوان غويتيسولو، والتي وضعها تحت عنوان "رحلات إلى الشرق"، حيث زار فيها غزة، والقاهرة، وكابادوكيا. وهي رحلات عادة ما يعتكف الكاتب على تحريرها بعد انقضاء الرحلة. الرحلة التي يسجل أحداثها الكاتب يوما بيوم.

الصنف الأول، ألف فيه حسونة المصباحي كتابه "كتاب التيه"، وفي الثاني، الذي يأخذ لبوس اليوميات، كتب حسونة المصباحي "يوميات ميونيخ" و"عودة إلى ميونيخ" و"أيام في إسطنبول".

وعادة ما يعلن هذا النوع الثاني من الكتابة، منذ العنوان، عن المكان الذي جرت فيه أحداث الرحلة، ولعل أشهر مصنف فيه هو "يوميات لندن" لجيمس بوزويل، التي رافق فيها الناقد الإنجليزي الكبير صاموئيل جونسون (1862-1863)، ولم يعثر عليها إلا في العشرينيات من القرن العشرين.

كان بوزويل قد اعتمد هذه اليوميات في كتابة "سيرة صاموئيل جونسون"، التي تعتبر أحد النصوص المؤسسة لكتابة السيرة الغيرية في العالم.

وقد كتب الكاتب الفرنسي أندريه جيد، عددا من اليوميات أثناء سفره إلى أفريقيا جنوب الصحراء في "الرحلة إلى الكونغو" و"عودة من تشاد"، أو إلى شمال أفريقيا، وقد نقلها المغربي محمود عبد الغني مرة تحت عنوان "رحلة إلى الجزائر وتونس"، ومرة بعنوان "رحلة إلى شمال إفريقيا". وقد التزم فيها أندريه جيد، الكتابة يوما بيوم، وكذلك فعل الرسام الألماني بول كلي في يومياته الرّحلية إلى تونس وبلدان المتوسط.

وضمن هذا الحقل من الكتابة الرّحلية، يمكن أن ننزل كتاب حسونة المصباحي "أيام في إسطنبول"، الصادر عن منشورات المتوسط.

إعلان أيام في إسطنبول: كتاب ضد السياحة

يقتدي حسونة المصباحي في نحت عنوان يومياته الرّحلية بصياغة عرفت منذ كتاب زكي نجيب محمود "أيام في أمريكا".

والذي سجل فيه رحلته الأكاديمية (1953-1954) عندما وصل إلى الولايات المتحدة كأستاذ زائر بجامعتي كارولينا الجنوبية وجامعة واشنطن، ونقل لنا الكاتب أيامه في مدن أميركية منها: واشنطن، نيويورك، نيو أورلينز، لوس أنجلوس، سان فرانسيسكو، وسياتل.

بَيد أن الانبهار الذي ظهر في عمل زكي نجيب محمود لم يكن ليتسرب إلى عمل حسونة المصباحي، فهو يزور إسطنبول في القرن الحادي والعشرين، عندما صارت السماوات مفتوحة عبر التكنولوجيا.

وكما ورد في مقدمة السلسلة بقلم محمد أحمد السويدي، فإن التطور العلمي جعل دور الرحلة في اكتشافاتها الجغرافية قد انحسر، فلم تعد هناك منطقة مجهولة في العالم.

غير أن الرحلة المعاصرة اضطلعت بمهام أخرى، منها الذاتي والحميمي في تلويحته الفردية، ومحاولة رصد ذهنية الآخر ونظرته إلى العالم العربي والإسلامي في ظل "التطورات الدراماتيكية التي يشهدها العالم"، والتي "تنعكس سلبا على علاقة العرب والمسلمين بالجغرافيات والثقافات الأخرى".

والأمر الثاني الذي يجعل من رحلة حسونة المصباحي مختلفة، هو أنه يزور إسطنبول للمرة الثالثة، وهذا ما يجعل دهشة الاكتشاف الأولى قد خفتت، وحل محلها التدبر والتأمل، واستحضار التاريخ وربط ذلك بالراهن العربي والدولي.

وهذا ما يجعل الطابع السياحي نفسه يتراجع عند الكاتب، وهو يتجول في ذات المعالم السياحية. هذا كتاب ضد السياحة. لقد جاء حسونة المصباحي إلى إسطنبول مدججا بالمعرفة، لذلك لم ينتظر نزول الطائرة في مطار إسطنبول ليبدأ الكتابة، بل كانت الكتابة قد انطلقت من قبل الرحلة وأثناء الرحلة.

الذريعة العاطفية والدافع الذاتي

إن ثقافة صاحب "يوميات الذهيبات" ومعرفته بهذا الحقل من الكتابة، أي اليوميات، وهو الكاتب العربي الوحيد الذي راكم فيه إلى حد الآن 5 مؤلفات، لا يمكن أن تدعَه يهمل طابعه "الحميمي".

إعلان

فاليوميات التي ولدت في النقد الغربي لصيقة بكلمة "حميمية" لم تتخل عنها، رغم انتشار نوعها الأكثر تداولا اليوم، والذي يكتب بقصد النشر: "اليوميات الخاصة". فالجانب "الأنتيم" ظل دائما أساسيا في أي يوميات، مهما كان برنامجها السردي والفكري.

لكل ذلك، بدأ حسونة المصباحي يومياته في إسطنبول بصفحة في الحميمي، من خلال الإشارة إلى أخته:

"اشتقت إلى أختي نزيهة كثيرا، إذ إن ظروفا، منها جائحة كورونا، حالت دون قدومها إلى تونس، فقررت السفر إلى إسطنبول لزيارتها".

ثم يعود في الفقرة الثانية من ذات الصفحة ليعمق هذا الحميمي ويضيف:

"وأنا أحب أختي نزيهة، لأنها ورثت الكثير من خصال أمي… ثم لأنها تعيش الحياة ضاحكة لاعبة، فإن أطل عليها ما يشي بالهم والشؤم والنكد، انسحبت هاربة، كما أنها عاشت الغربة الطويلة مثلي…".

وينطلق في رواية قصة أخته وكيف وصلت إلى إسطنبول بعد رحلة حياة طويلة مع الاغتراب، منذ هجرتها إلى دمشق للدراسة، إلى زواجها بمغربي وتحولها إلى بيروت، ثم استقرارها في الإمارات، قبل أن تغادرها إلى إسطنبول، مصاحبة ابنتها التي اختارت هذه المدينة لمتابعة تعليمها الجامعي.

ثم انتقل في المقطع الموالي لوصف الطائرة، والحديث عن أسباب اختياره الخطوط التركية بدلا من الخطوط الجوية التونسية، ليفتح ملف الثورة التونسية، التي ينتقدها ويحملها مسؤولية ما آلت إليه المؤسسات، ومنها الخطوط التونسية.

لقد كان هذا المفتتح، وما تلاه من متن، أشبه ببناء القصيدة القديمة؛ النسيب، ووصف الراحلة والرحلة، ثم الوصول إلى الغرض، فقد تدرج الكاتب شيئا فشيئا بالقارئ من الحميمي والذاتي والخاص نحو العام والمشترك والمختلف.

غير أن تلك الحميمية التي استهل بها حسونة المصباحي كتابه لم تكفّ عن إنتاج أدوارها، فقد جعل من الأخت سببا لكي لا ينسى تونس، حيث كانت الأخت، المشتاقة بدورها لأخبار تونس، دافعا وذريعة ذكية من الكاتب ليروي لنا واقع البلاد اليوم، قبل التوغل في أحشاء مدينة إسطنبول، فيقول:

"في السهرة لخصت لأختي نزيهة الأوضاع المأساوية في بلادنا… الناس مشغولون طوال الوقت بالبحث عن المواد الغذائية المفقودة… السكر، الطحين، القهوة، الزيت النباتي… الدواء… طوابير أمام المخابز وأمام المحال التجارية الكبيرة والصغيرة وأمام المستشفيات… غلاء فاحش…".

ويتدرج هذا الوصف من الاجتماعي والاقتصادي إلى السياسي، ليصل إلى قوله "أما الرئيس قيس سعيد، فقد اعترف بأنه قادم من (كوكب آخر)". ويكمل: كما أنه قادم من زمن آخر، أي "الزمن الخرافي"، وليس الزمن التاريخي. إذْ إن مرجعياته تعود إلى عصور بعيدة، سامحا لنفسه بالتشبه بعمر بن الخطاب، "وهو يتكلم لغة لا يفهمها أحد، ويدير شؤون الدولة بحسب أهوائه، ومن دون مستشارين. معاملة وزرائه كما لو كانوا طلبة مبتدئين، يكتفون بهز رؤوسهم أمامه، علامة الموافقة على كل ما يفعل، أو على كل ما يقول"، بحسب وصفه.

إعلان

إن هذا المقطع، الذي يستله حسونة المصباحي من يومياته "يوميات الكورونا"، التي خصصها لإخفاقات الرئيس أثناء الجائحة، يعكس أن الكتابة عند حسونة المصباحي صنعة، وأن فن اليوميات معه تجاوز مرحلته الساذجة، باعتباره تسجيلا لليومي والراهن، بل هو مشروع أدبي يستوجب اللعب عبر التضمين، والتناصّ الداخلي، وتفاعل نصوصه مع نصوص غيره، ونصوصه اللاحقة مع نصوصه السابقة.

وبهذا، تتعانق اليوميات وفن الرواية، وفق عبارة الكاتب الإنجليزي كولن ولسن: "إن الرواية لا تتنازل عن دورها في الإيهام بالواقعية"، وكذلك اليوميات، وخاصة يوميات الروائي، لأن مدبرها قد تدبر برنامجها السردي بعقل روائي.

فما العنصر الحميمي الأول سوى مخاتلة فنية للكاتب: رجل الخيال.

اليوميات والصحافة

تتماس اليوميات في "أيام في إسطنبول" وبقية يوميات حسونة المصباحي مع المقال الفكري ومقال الرأي، وكأن الكاتب يتبنى رأي أرنستو ساباتو في كتابه "يوميات الشيخوخة" عندما صدّره بقوله "تبدو لي كتابة اليوميات كأنها نوع من الكتابة يتوسط طريقا بين التخييل والمقال".

وهذا الوعي الذي نرصده في مجمل أعمال حسونة المصباحي مرده ممارسة الكاتب لكتابة اليوميات واعتقاده دون تصريح أن الواقعة تتجاوز الحدث المتعارف عليه لتشمل الوقائع الذهنية، أي الأفكار والخواطر. ولعل هذا ما دفعه إلى نشر يومياته "العودة إلى ميونيخ" تحت علامة أجناسيّة دالة: "خواطر".

وهو بذلك لا يفعل ما فعله محمود عباس العقاد، الذي أعدم يومياته الخاصة ونشر مقالاته العامة التي سبق أن نشرها في الصحف تحت عنوان "يوميات"، بل يستدعي حسونة المصباحي بعض المقاطع من مقالاته بما يتناسب مع اللحظة الراهنة، التي هي لحظة اليومية، ليضمنها في نسيجها، فيكسب مقطع المقال حياة جديدة ومعاني جديدة وفقا للسياق الجديد الذي وضع فيه.

أليس هذا هو ما يحدث مع الرواية أيضا؟ ألم يقل أحد الشكلانيين الروس إن الرواية في إمكانها أن تتشكل من قصص قصيرة أو وحدات سردية سبق أن كانت لها حيوات خاصة لتشكل بذلك التنضيد الجديد نصا روائيا جديدا؟

إعلان

يقول الشكلاني شلوفسكي متحدثا عن رواية "الحمار الذهبي" لأبوليوس: "من الممكن جمع قصص في رحم بناء أشد تعقيدا، مدخلين لها في إطار، أو رابطين إياها إلى جذع.. إننا نشعر في الغالب أن أجزاء الأعمال التي بنيت اعتمادا على التنضيد قد كان لها من قبل حيوات مستقلة".

ضمن هذا اللعب، تشكل جزء من يوميات حسونة المصباحي في إسطنبول مستعينا بخبرته ككاتب مقال في بناء الأفكار والتأملات وتثبيت المواقف الثقافية والسياسية وربطها بالراهن، ليكون الكتاب شهادة على العصر.

حسونة المصباحي نشر يومياته "العودة إلى ميونيخ" تحت علامة أجناسيّة دالة: "خواطر" (الجزيرة)

عائدا كل مرة إلى أسلوبه السردي الشيق، الذي يوهم بالبساطة، لكنها تلك البساطة التي كتب بها همنغواي أعماله: بساطة المستحيل. تلك البساطة التي تأخذ القارئ من البسيط نحو المعقد، كما في مطلع يومية الأحد 16 أبريل عندما بدأها بقوله:

"بعد أن زرت ‘آيا صوفيا’ ومتحف ‘توب كابي’، جلست في حديقة قريبة منهما لأستريح… حرارة صيف لم يأت بعد… في الظل الناعم البارد للأشجار، يحلو التفكير والتأمل والتذكر…"

إن هذه الحيلة السردية الروائية، التي رحّلها الكاتب إلى فن اليوميات، تجعل اليوميات تتحرر من إكراهاتها المكانية والزمنية والواقع، لتتوغل في الوقائع البعيدة عبر الذاكرة والتذكر، لتعانق هنا اليوميات فن المذكرات والسيرة الذاتية باعتبارها رحلة في الماضي.

ليكسر حسونة المصباحي قيود اليوميات ويهدم مفاهيمها القديمة باعتبارها تسجيلا للوقائع يوما بيوم، لتطمئن أكثر لتعريف فيليب لوجون باعتبارها "سلسلة آثار مؤرخة".

فعبر تلك البداية، مهد حسونة المصباحي للتوغل في القرن الثالث ونشأة المسيحية في آسيا الوسطى والحديث عن قسطنطين الأعظم… ليطوح بنا في البلاط البيزنطي بالقسطنطينية، ويفتح لك من جديد "الشعر والشعراء" لابن قتيبة و"الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وينشد على مسامعك مقاطع من قصائد الجاهلية، ثم يسير بك نحو ظهور الإسلام ووفاة النبي وحروب الردة، حتى يعود بك إلى الواقع من جديد ويهديك عنوان كتاب "إسطنبول: حكاية مدن ثلاث" لإحدى الكاتبات البريطانيات.

إعلان

فمعارف حسونة المصباحي من تجربته اليومية، واليومي عنده في جزء كبير منه، قراءة، وبعضه للسينما والموسيقى.

هذا النفس التحليلي والتأريخي للكتابة في هذا المؤلف شرّع لطول اليومية، التي تمتد على صفحات، قبل أن تخبرك أن هذا ليس كل اليوم عبر عنوان فرعي جديد "اليوم نفسه، ليلا"، ليأخذك الكاتب في رحلة معرفية جديدة أو تجربة حياتية أخرى.

إن هذا التدفق للسرد، وهذا النفس الصحفي والتوثيقي، وهذا اللعب بالذاكرة والتذكر، هو الذي جعل "خمسة أيام في إسطنبول" تكتب في 172 صفحة.

فهو هناك في إسطنبول يمكن أن يحدثك عن الحرب في السودان، وعن الطيب صالح، وعن جعفر النميري، ولكنه في تلك الرحلة الطويلة، التي انطلقت من مشاهدة أخبار الحرب الأهلية في السودان عبر التلفزيون، يتوغل في الآداب والفنون والسياسة والدين، ليربط كل ذلك بتركيا القديمة والحديثة ودورها فيما يجري هنا وهناك.

إن اليوميات عند حسونة المصباحي ليست كتابة بريئة، بل هي معركة وصدام بالأفكار والرؤى، وهو بكل معاوله المعرفية والتاريخية يحاول، في نفَس حِجاجيّ، أن يفهم وأن يقنع برأيه.

ففي اليوميات تجتمع كل وجوه حسونة المصباحي: القاص والروائي والمفكر والمترجم والشاعر، المؤرخ والسياسي والصحفي والمحقق. فالأمكنة التي يزورها حسونة المصباحي في إسطنبول تعمل عمل المحفز للذاكرة في علاقتها بالواقع، لإحداث ذلك القدح لإشعال نيران الكلام والتداعي الحر للأفكار والمشاعر.

إن استعداد حسونة المصباحي معرفيا للرحلة يجعله في حِلّ من الدليل السياحي، بل يتحول هو إلى دليل للقراء الذين يقرؤون عمله، والذين ربما زاروا نفس الأماكن دون أن تحرك في أنفسهم شيئا.

فالأمكنة تكتسب هويتها من وعينا بها، وهذا الوعي متغير بحسب زاوية الرؤية وطبيعة الرائي. وحسونة المصباحي في هذا الكتاب لم يأت إلى إسطنبول سائحا، ولا جاء ليكتب كتابا مدحيًا عنها يتقرب به إلى سلطتها الحاكمة، بل جاءها مفكرا متأملا مستذكرا ومحاكما.

إعلان

إن المدن تخاطر بنفسها عندما تستقبل نوعية هؤلاء الزوار، لذلك كانت بعض الأنظمة العربية توقف الكتاب والصحفيين في المطارات، لتجعلهم يوقعون التزاما سخيفا بعدم ممارسة المهنة أثناء وجودهم في البلد.

كانت آخر تجربة لي مع توقيع هذا الالتزام في مطار طرابلس في عهد معمر القذافي، عندما كنت أهم بدخولها بجواز سفر به مهنتي كمراسل للصحافة الدولية، وبدعوة رسمية من المركز الثقافي التونسي بليبيا للمشاركة في مؤتمر أدبي، وكان معي حسونة المصباحي.

ظلت عملية التذكر هي الأساس في يوميات إسطنبول، فمرة تحمله إلى التاريخ، ومرة تحمله إلى ميونخ، ومرة إلى تونس، فيكتب الكاتب في ظهيرة الاثنين 17 أبريل/نيسان:

"منذ أن انتقلت للإقامة في الريف، في بيتي الذي ينتصب وسط بستان من الزيتون واللوز، لم أعد أتحمل ضجيج المدن الكبيرة، وازدحام الجموع…"

هكذا تكون إسطنبول بمعناها السياحي لا تعني الكاتب، بل ما يعنيه هو ما فكر به أثناء إقامته في إسطنبول خلال تلك الأيام. فالرحلة، كما اليوميات، توقفت عن أن تكون عملا تسجيليا أو دليلا سياحيا أو استكشافيا.

اليوميات وفن البورتريه

ينوع صاحب "الآخرون" أسلوبه في تسجيل يومياته، فيختبر يوم الثلاثاء 18 أبريل/نيسان فن البورتريه.

وهو أحد الفنون العريقة التي انطلقت من عالم الرسم، وتكتسح عالم الفنون الأخرى والكتابة. والبورتريه المنشغل بصورة الآخر له نظيره الأوتوبورتريه المنشغل بصورة الذات، وضمن هذه الثنائية تتحرك اليوميات والكتابة السيَريّة بشكل عام.

لذلك خصص حسونة المصباحي ذلك اليوم لكتابة 3 بورتريهات لشخصيات تونسية عاشت في إسطنبول: خير الدين باشا، ومحمد بيرم الخامس، ومحمد علي الحامي، ومحمود بن عياد، وكل منهم كان قصة فريدة في عالم السياسة والإصلاح والفساد التونسي.

وكان حسونة المصباحي قد اهتم في كتبه الفكرية بحركة الإصلاح في تونس ورموزها، كما كانت له تجربة مع كتابة سيناريو لفيلم سينمائي طويل عن شخصية مصطفى بن إسماعيل، وإخراج فتحي الدغري بعنوان "محضي الباي".

إعلان

إن "أيام في إسطنبول" لبنة أخرى في بناء كبير لحسونة المصباحي اسمه "فن اليوميات"، الذي ما زال يؤلف فيه، وهي رحلة لا في إسطنبول المدينة، بل في تركيا في ضوء علاقتها التاريخية مع تونس وتاريخها، لذلك هي خالية من الانبهار بالمكان أو بالسكان وسلوكهم، هي رحلة في ذهن حسونة المصباحي وثقافته في هذه العلاقة المعقدة بين تركيا وتونس منذ ما قبل الإمبراطورية العثمانية إلى زمن ما بعد الثورة.

استحضر فيها المصباحي الكتاب والقادة والساسة ورجال الدين والحكام الذين مروا بإسطنبول، وهي رحلة جعلت الكاتب يفتح الكتب التاريخية والأدبية ليروي قصتها التي لم يدونها أحد.

سجل حسونة المصباحي أفكاره يوما بيوم أثناء الرحلة، وعاد إلى تونس ليعزل نفسه في بيته الريفي بالقيروان حتى يحررها بهذا الشكل الغزير، كما كتب يوما على حسابه في الفيسبوك.

مقالات مشابهة

  • من الميدان.. تواصل منظومة تلقي شكاوي المواطنين بمناخ بورسعيد ليلة رؤية الهلال
  • الأمن المصري يحل لغز الرضيعة المدفونة على جانب الطريق
  • الطريق إلى المشنقة يرصد تصاعد أحكام الإعدام بمصر خلال عام 2024
  • برلماني: تأكيد الرئيس على الهوية الوطنية وتعزيز القيم الأخلاقية خارطة طريق
  • أحمد خالد موسى: «أحمد السقا من أذكي نجوم جيله وفيفي عبده أضافت روحًا مختلفة»
  • فيفي عبده: أنا مخدتش دور فريدة سيف النصر ونهاية العتاولة هتكون مفاجأة
  • ضد السياحة.. أيام في إسطنبول لحسونة المصباحي
  • إلغاء المواعيد الاستثنائية للمحلات بعد رمضان.. عقوبات قاسية للمخالفين
  • تقدم تنفيذ استراتيجية بورصة مسقط يمهّد الطريق لترقيتها إلى ناشئة
  • مطار المدينة المنورة.. بوابة الحرم المدني الجوية التي تستقبل سنوياً 12 مليون مسافر