الحكمة العمانية في التعاطي مع الأزمات الراهنة
تاريخ النشر: 4th, October 2023 GMT
في أحد المؤتمرات الفكرية والسياسية منذ عدة سنوات، ونتيجة لما جرى من خلافات وتوترات، ما بعد الربيع العربي في 2011، وما برز جراء ذلك من أزمات معروفة في تلك الفترة؛ في العاصمة اللبنانية بيروت، دار الحديث عما حدث من أزمات، وكيفية وضع الحلول المناسبة والإيجابية لتقريب وجهات النظر بين أطرافها، أو إيجاد مخارج حقيقية لما يجري في بعض الدول تجنبا لما هو أكبر من ذلك، وكون هذه الخلافات عابرة وستنتهي، ولن تبقى للأبد بحكم أنها واقع ولا بد أن تحل، فهذه الأزمات سوابقها كثيرة والحوارات تسهم في حلها وإن تأخرت، لكن سرعان ما تتغير المواقف السلبية إلى مواقف إيجابية.
فمنذ قيام الدولة العمانية الحديثة بعد تولي السلطان قابوس ـ رحمه الله ـ الحكم في عام 1970، كان النهج السياسي الذي سارت عليه القيادة السياسية إيجابيا، وكانت مدركة للظروف والمتغيرات المحيطة بالمنطقة وما حولها، وكانت لها معاناتها في الداخل وأسبابها معروفة ولا تحتاج إلى شرح، واستطاعت القيادة السياسية، أن تحل أزمات الداخل بحكمة قل نظيرها في قضايا أخرى جرت في عالم اليوم، واتجهت بلادنا للاستقرار والنماء والنهضة، بعد سنوات من التخلف والتراجع على كل المستويات، ثم تقوية العلاقة مع المحيط القريب، ثم المحيط العربي الأوسع، ثم العلاقات الدولية التي أصبحت من حقائق التاريخ المعاصر وضروراته، فتميزت السياسة العمانية، بشأن مختلف القضايا العربية بالحرص على التعامل الصريح مع مستجداتها، وما سبق منها، وهي الصراحة التي لا تخضع لازدواجية المعايير، أو خلط الأوراق أو اللعب على التناقضات واستثمارها سياسيا لأهداف غير عقلانية، أو المناورات الدبلوماسية التي لا تلامس حقائق الأمور وطبيعتها، وبهذه النظرة الثاقبة والواعية، وضعت سلطنة عُمان يدها بسهولة ويسر في كيفية حل الأزمات والخلافات العربية/ العربية، ومن خلال أولويات الحوار البنّاء الذي يقوم على استبعاد عناصر الاختلاف والتنافر والتوتر. ولعل ذلك يفّسر لنا كيف اتبعت سلطنة عُمان منهجا قويما في كيفية حل الخلافات الحدودية مع بعض جيرانها من الدول الشقيقة.
وجعلت من هذا الموقف مثلا يحتذى على الصعيد الإقليمي والعربي والدولي. كما اتصفت السياسة الخارجية العمانية، بالرجاحة وبعد النظر في الرؤية والرأي، وبالحكمة والجرأة في القرار، وحسن التصرف واللباقة والثبات في الموقف الإيجابي، دون الالتفات إلى صغائر الأمور التي لا تقف عند بعض ما لا فائدة منه للمصلحة العربية العليا، ولا تلتفت إليها. وعندما قامت جمهورية مصر بعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، عُقد بعدها في العاصمة العراقية مؤتمر لقمة عربية طارئة، لبحث هذه الخطوة المصرية، وطلب المؤتمر من الدول في هذا قطع العلاقات مع مصر بسبب هذه الاتفاقية، وحضرت سلطنة عُمان هذه القمة، ولكنها لم توافق على قطع العلاقات مع مصر وتحفظت على هذا القرار، والسبب المنطقي والعقلاني لعُمان، أن هذه المقاطعة سيتأثر منها الشعب المصري في المقام الأول، وهذا ما لا تستسيغه سلطنة عمان سياسيا، ولا يحقق الهدف الذي تتوقعه بعض الدول، وفي النهاية عادت مصر إلى مكانتها في الأسرة العربية، وتحققت الرؤية العمانية العقلانية بعيدا عن التسرع في الأحكام التي ليس لها المردود الإيجابي، وأتذكر أنني كنت أحد الصحفيين الذين حضروا أحد المؤتمرات لوزراء الخارجية لمجلس التعاون عام 1988، في مدينة جدة السعودية، وكانت في تلك الفترة بدايات مناقشة الكثير من قرارات المجلس وقوانينه، وكانت العلاقة آنذاك لا تزال مقطوعة مع مصر، وقد تم التطرق لموضوع مقاطعة مصر في هذه الاجتماع، وقد مر على قطع العلاقة ما يزيد على عشر سنوات، عدا السلطنة التي لم توافق على القطع ـ كما أشرت آنفا ـ رغم النقد والتشكيك والحملات الإعلامية عليها من البعض، وعند رجوعنا للسلطنة، وكنت مع الوفد في رحلة العودة إلى مسقط، واقتربت من الوزير المتقاعد، يوسف بن علوي بن عبد الله، وقلت له: أنا حضرت المؤتمر وتابعت ما دار فيه، لكنني لم أحصل على سبق صحفي في هذا اللقاء، ولا خبر يثير الانتباه والنشر، قال لي اكتب: «نحن في السلطنة لم نقطع العلاقة، ومصر دولة كبرى، ومن حقها أن تتخذ أي قرار سياسي ترى فيه مصلحتها ومصلحة شعبها، وإذا لم يتخذ قرار جماعي لعودة العلاقة مع مصر، فإننا نعلم أن بعض الدول العربية، سوف تتخذ قرارات منفردة لعودة العلاقة مع مصر». وعندما وصلت مسقط سلمت الخبر لجريدة عُمان هاتفيا مساء، وجاءني اتصال بعد ساعة، من رئيس التحرير آنذاك الأستاذ حمود بن سالم السيابي، وطلب تأكيدا مني لهذا الخبر، فأكدت له ذلك، وبعد النشر لاقى الخبر صدى كبيرا في الكثير من وكالات الأنباء العربية والأجنبية، وخصوصا من مصر، وفعلا لم تمر أشهر قليلة حتى عادت العلاقة مع مصر بقرار جماعي، وهكذا كان الأمر مع سياسات بلادنا وتحركاتها لحل الخلافات، وإنهاء التوترات، وتقريب الرؤى بما يحقق المصلحة العليا للأمة، وقد أشرت إلى ذلك في مناسبة سابقة.
ومع انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتلاشي المعسكر الاشتراكي عام 1991، كان الطرح العماني الواقعي والمنطقي في قضايا كثيرة، بما يبعدها عن سياسية محاور جديدة، تنتهج نفس الطريق السابق، وأعطت مصداقية كبيرة في سياستها الخارجية وتعاطيها بحكمة وحسن تصرف مع القضايا الساخنة والخافتة، مع ثبات سياستها في القضايا بما يتفق مع المبادئ التي اتخذتها طريقا في سياستها المعلنة؛ وإسهامها في حل الخلافات الإقليمية والدولية تقديرا من دول العالم لسياستها المتوازنة، في المشكلات والخلافات التي تنشأ بين بعض الأطراف، ودون الانجرار إلى سياسة المحاور، وإثارة التوترات والأزمات، وقد سمعنا وقرأنا من البعض أن سياسة السلطنة تتسم بالعزلة والبعد عن الحضور في كثير من القضايا الإقليمية والدولية، وهذه مغالطة لا تستقيم وسياسة سلطنة عُمان الواضحة والإيجابية، وحضورها الدائم والمؤثر، والسبب أن هؤلاء للأسف، يخلطون بين السياسات التي تتبع عند بعض الدول في القفز على الواقع والظروف القائمة، واتخاذ مواقف ليست مدروسة وواقعية، وبين نظرة سلطنة عمان التي تنظر نظرة مختلفة خصوصا سياسة حرق المراحل والقفز على الواقع، واتباع سياسات فيها الاستعجال والعاطفة، وعدم حساب ما سيترتب عليها من قرارات تكون فيها مجازفة ومخاطرة، دون النظر للمحاذير التي ربما تكون عكسية فيما بعد، وعندما نحضر نحن العمانيين بعض المؤتمرات أو الندوات، نجد الإشادة والتقدير لسياسة السلطنة، وحصافتها في الكثير من القضايا والمشكلات، وهذا ما يزيدنا سعادة وتقديرا لهذه السياسة وتحركاتها في كل القضايا العربية والدولية، وقد عبر جلالة السلطان هيثم بن طارق- حفظه الله- في أحد خطاباته الماضية، بأن العالم قد «عرف عُمان عبر تاريخها العريق والمشرّف، كیانا حضاريا فاعلا، ومؤثرا في نماء المنطقة وازدهارها، واستتباب الأمن والسلام فيها، تتناوب الأجيال، على إعلاء رايتها، وتحرص على أن تظل رسالة عمان للسلام تجوب العالم، حاملة إرثا عظيما، وغاياتٍ سامية، تبني ولا تهدم، وتقرب ولا تباعد، وهذا ما سنحرص على استمراره، معكم وبكم، لنؤدي جميعا بكل عزم وإصرار دورنا الحضاري وأمانتنا التاريخية». وهذا ما سارت عليه سلطنة عُمان في نهضتها الحديثة، والآن في نهضتها المتجددة، بحكمة ورؤية عقلانية وواضحة في كل القضايا التي تهم هذه المنطقة والعالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: العلاقة مع بعض الدول وهذا ما مع مصر
إقرأ أيضاً:
جلسة حوارية بظفار تستعرض دور الحرف الظفارية في صناعة الهوية العمانية
أقيمت مساء أمس بمجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه بصلالة جلسة حوارية بعنوان «الحرف الظفارية في صناعة الهوية العمانية» التي نظّمتها الجمعية العمانية للكتاب والأدباء فرع محافظة ظفار بالتعاون مع مجلس إشراقات ثقافية بحضور الدكتور سعيد بن بخيت بيت مبارك رئيس مجلس إدارة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء بظفار والعديد من الكتاب ورائدات الأعمال.
تضمنت الجلسة عدة فقرات بدأت بافتتاح معرض الفن التشكيلي لمبادرة ارتقاء التي شارك به العديد من الفنانات التشكيليات حيث أبرزت أعمالهم الفنية هوية المجتمع العُماني وتاريخه والموروث الفني والحرفي ثم ألقى كلمة الجمعية عمار بن سعيد فاضل أمين سر الجمعية بمحافظة ظفار حيث أكد خلالها على أهمية الشراكة والتكامل بين الجهات المختلفة لتعزيز الحراك الثقافي في المحافظة وأشار إلى ضرورة إبراز وتوثيق التراث المادي وغير المادي عبر مختلف مجالات الاشتغال الثقافي لما له من أثر في تعزيز المواطنة وحفظ الموروث الوطني إضافة إلى الأهمية الاقتصادية للحرف التقليدية كقيمة محلية مضافة وعامل جذب سياحي يدعم الاقتصاد المحلي.
بعد ذلك قدّم الدكتور أحمد بن سالم بالخير ورقة عمل بعنوان «ألحان المهن الحرفية» ورحلة في الغناء الشعبي المصاحب للحرف اليدوية حيث أوضح من خلالها أن لكل مجتمع موروثه الفني الشعبي وسلطنة عُمان تتمتع بالتنوع التراث الشعبي نظرًا لتنوع محفاظات السلطنة حيث الطبيعة الجغرافية وعرض مثالًا لذلك فن «الدان» الذي كان يختص بالجنائز وفن «الهيريابوه» من الفنون البحرية الذي يعتمد على الآلات الموسيقية ويقام عند تأخر السفن في البحر، كما تطرق لبعض الفنون التي تشتهر بها صور مثل فن «الشوباني» الذي يستخدم أثناء تأدية البحارة أعمالهم في البحر وخاصة السفن الكبيرة التي تسير في البحر مدة طويلة، وأكد أن الحفاظ على التراث الشعبي يعتبر حفاظًا على الهوية الشخصية وينبغي ذلك برغم التغيرات التي تحيط بالمجتمع في هذا العصر.
ثم بعد ذلك أقيمت الجلسة الحوارية حول الصناعات التقليدية التي أدارتها منى بنت العبد يسلم الحضرمية وشارك بها كل من الدكتورة فاطمة بنت أحمد الراعية رئيسة لجنة صاحبات الأعمال بمحافظة ظفار وشيماء بنت أجهام الراعية متخصصة في صناعات اللبان العُماني وحنان بنت موسى البلوشية متخصصة في صناعة الفخار حيث أوضحت الدكتورة فاطمة الراعية أهمية الصناعات الحرفية التقليدية بمحافظة ظفار وعن بدايتها مع صناعة البخور والعطور وريادة الأعمال حيث تعلمت الصناعات الحرفية عن طريق المنزل لممارسة بعض الأهل لبعض تلك الصناعات، كما أكدت على مساهمة الحرف اليدوية والصناعات التقليدية في دعم الاقتصاد الوطني حيث إن العمل الحرفي يحافظ على الهوية العُمانية بمواصفات عالمية ويساهم في رفع الاقتصاد وكذلك الحفاظ على خطوات التجارة التي توصل للنجاح منها الإتقان والاستمرارية والتركيز على عنصر واحد للتجارة وكذلك التنسيق مع الجهات المتخصصة يساهم في نجاح المشروع.
وتحدثت حنان البلوشية عن صناعة الفخار ومواكبة التطور التكنولوجي في الصناعة حيث يتم التوازن بين الحداثة والتقليدية في صناعة الفخاريات، وأكدت أن المشاركات الخارجية أضافت لها حيث فتحت المجال لإبراز الصناعات التقليدية العمانية خارجيًا.
كما أوضحت شيماء الراعية أن العمل في صناعة منتجات اللبان له إيجابيات كثيرة منها تطور الذات والبحث والمعرفة والدراسة وأهميته الكبيرة في إثبات الذات والسعي للرقي والنجاح.