غالبًا ما يُنظر إلى الاستجابة للتغير المناخي على أنها تضحية وجهد وإنفاق يؤدون إلى نقص على مستوى رفاهية الإنسان. ويظل المخرج الوحيد هو قبول الاستغناء عن مُتع معيّنة من أجل إنقاذ الكوكب. يشكّل الطارئ المناخي وتداعياته العاطفية بالتالي زوجا مضرّا بصحة الإنسان في عالمنا اليوم. ووفقًا لمعهد جالوب (Gallup)، فإن الانفعالات الحزينة مثل الغضب والقلق والحزن قد تزايدت بشكل ملحوظ منذ بداية هذا العقد.

ويمثل القلق البيئي والأعمال النضالية في المتاحف صورا قوية تشهد على حالة الاستياء السائد.

لقد نُشر تقرير مجموعة الخبراء الدوليين حول التغير المناخي وتقرير السعادة العالمي في اليوم نفسه، في العشرين من مارس 2023. إن هذا التزامن يتجاوز في نظرنا مجرّد صدفة تحريرية بسيطة. والواقع أن البحوث في مجال اقتصاديات السعادة التي تعنى بالقضايا البيئية تشير إلى وجود علاقة موجبة بين السلوك الأخضر والرفاهية الذاتية. وتقدّم هذه البحوث بالتالي نظرة أكثر تفاؤلية.

يتعلق الأمر إذن بفهم نتائج هذه البحوث وتوظيفها في سبيل الحصول على «ربح مزدوج» جديد ممكن. يشير هذا التعبير في العادة إلى الفرضية القائلة بأن عائدات الضرائب البيئية تحقق فائدة مزدوجة تكمن في بيئة أنظف وفي تقليل التشوهات الناجمة عن الضرائب الأخرى التي سبقتها. لكنه قد يشير هذه المرة إلى حقيقة أن تبني السلوكيات الإيكولوجية يجعل المرء أيضا أكثر سعادة!

هذه هي فكرة «الهيدونية المستدامة»، وفقًا لتعبير أورسوليا ليكيس (Orsolya Lelkes)، الباحثة في مختبر الابتكار الاجتماعي Social City في العاصمة النمساوية فيينا. ويصدق هذا بشكل خاص عندما تكون التكاليف النقدية وغير النقدية (الوقت المبذول والجهد) كبيرة، وفقًا لـ تيلو هافركامب (Thilo Haverkamp) وزملائه.

إن المشاركة في الأنشطة المناصرة للبيئة تؤدي إلى قدر أعظم من الارتياح مقارنة بأخذ حمّام بارد، كما تشير إلى ذلك بطريقة لا تخلو من الفكاهة عالمة النفس كيت لافان (Kate Laffan) من كلية لندن للاقتصاد.

يعدّ الرضا مقياسًا مثيرًا للاهتمام، لكنه يغفل الفارق الدقيق بين السعادة الهيدونية (المشاعر الإيجابية والملذات) والسعادة اليودايمونية (التي تعكس بشكل خاص شعور المرء بكونه نافعا). هذا ما تُظهره أبحاث كيت لافان، التي تقترح أن السلوك المؤيد للبيئة (عمل جيد) يحفّز هذا الشعور لأنه يساهم في إشباع حاجة الأفراد للاستقلالية والعلاقات الاجتماعية، مما يغذّي الرفاهية بالمعنى الأرسطي للكلمة.

وفضلًا عن ذلك، تُشير البحوث التي أجراها كل من هاينز ويلش (Heinz Welsch) ويان كولين (Jan Kühling)، من جامعة أولدنبورج (ألمانيا)، إلى أن التوافق مع المعايير الاجتماعية، والتمتع بصورة ذاتية إيجابية وإمكانية نسج العلاقات الاجتماعية يفسّرون اختيار السلوكيات البيئية. وتُظهر أبحاث أخرى أجراها ستيفانو بارتوليني (Stefano Bartolini)، الأستاذ في جامعة سيينا (إيطاليا)، وفرانشيسكو ساراسينو (Francesco Sarracino)، الباحث في المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في لوكسمبورج، أن الأشخاص الذين يحظون بعلاقات اجتماعية قليلة و/أو سيئة يستهلكون أكثر من أجل التعويض عن ذلك وفقًا لمنطق دفاعي.

يؤثر هذا تأثيرا إيجابيا على النمو الاقتصادي، غير أنه بالمقابل يدفع الأفراد إلى العمل لساعات أطول من أجل الاستهلاك أكثر. وما هو جيد للناتج المحلي الإجمالي في هذا السياق ليس جيدًا البتّة لسعادة الأفراد وللبيئة! وهذا ما تبيّنه أيضا المقاربة القائمة على مؤشر الكوكب السعيد (Happy Planet Index)، الذي يكشف أنه في عام 2019 احتلت فرنسا المركز الثالث والعشرين من بين 152 دولة من حيث الناتج المحلي الإجمالي، لكنها انخفضت إلى المركز الحادي والثلاثين على مؤشر الكوكب السعيد بسبب بصمة بيئية كبيرة.

تُشير أبحاثنا الخاصة التي نشرناها في كتابي «بهجة العموم: إسهامات اقتصاديات السعادة من أجل اقتصاد أخضر وودّي»، و«العلوم والسعادة» (فرانسيس مونييه بالتعاون مع مونيكا غيلين رويو (Monica Guillen-Royo)، 2023) إلى أن الأفراد «الذين يحظون بالاعتراف» (وفقا لمقاربة الفيلسوف أكسل هونيث (Axel Honneth)، من جامعة كولومبيا)، بفضل تبنّي سلوك مؤيد للبيئة، يكونون أكثر سعادة.

يلعب الاعتراف الاجتماعي دورا حاسما في رفاهية الأفراد ورضاهم عن ذواتهم. ويرتبط بمشاعر إيجابية مثل احترام الذات والامتنان والاحترام. عندما يعترف بنا الآخرون بفضل إنجازاتنا أو محاسننا، فإن ذلك يعزز إحساسنا بالهوية والفائدة، ويعزز علاقاتنا الاجتماعية وشعورنا بالانتماء إلى المجتمع.

وعلى العكس من ذلك، يكون عدم الاعتراف مصدرًا للإحباط وعدم الرضا والشعور بالضيق. عندما لا يتم الاعتراف بجهودنا ولا نحظى بالاحترام من الآخرين، فإن ذلك يكون له عواقب حزينة على مشاعرنا. وباختصار، يعدّ الاعتراف عنصرًا أساسيًا للسعادة، لأنه يساعد على تعزيز المحاسن الفردية المتمثلة في الثقة والاحترام وتقدير الذات مع ضمان الشعور بالفائدة والروابط الاجتماعية.

يبدو لنا أن هذا المنحى في التفكير مثير للاهتمام من أجل تنفيذ سياسات مؤيدة للبيئة لا تستند فقط إلى تحليل التكلفة والعائد كحافز. سوف يكون الأشخاص «المعترف بهم» من طرف الآخرين ومن طرف المجتمع أو المجتمع المحلي أكثر ميلًا إلى تبنّي السلوكيات الخضراء. ومن ثم فإن هذا السلوك يشبه نوعا من الرقابة الأخلاقية من أجل الاستجابة لمعيار اجتماعي، ونوعا من العقلانية الفردية التي تسعى نحو القبول والاعتراف من قِبل المجتمع.

وفي الختام، إن النظر إلى السلوك البيئي باعتباره سلوكا يؤدي إلى تقديم تنازلات وإطلاق دعوات من قبيل «قوموا بتضحيات» أو «نهاية العالم قريبة» هي من العقم بحيث لا تسفر في معظم الأحيان عن شيء. ومن الأفضل تشجيع الناس على اتخاذ إجراءات ضد التغير المناخي من خلال تقديم المواقف البيئية على أنها مواقف إيجابية من الناحية العاطفية.

تمنحنا الأبحاث في مجال اقتصاديات السعادة إذن الفرصة للتركيز على إمكانات أسلوب حياة أخضر يجلب السعادة. وبوسع هذه السرديات الإيجابية أن تُلهم القادة السياسيين من أجل صياغة سياسة بيئية مرغوبة تزيد من رفاهية الفرد والمجتمع، من خلال تحسين الميزات العلائقية للناس على أساس الاعتراف.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: من أجل

إقرأ أيضاً:

رمضان.. الأيام السعيدة

 

محمد بن رامس الرواس

رمضان يُعد رحلة إيمانية قصيرة لكنها مليئة بمحطات من السعادة، وتُعد أيام شهر رمضان الفضيل التي قال عنها المولى عزَّ وجلَّ في محكم التنزيل (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ)؛ هي بالتأكيد أيام مباركة مليئة بالبهجة النفسية والروحية والجسدية برغم مرورها سريعا.

أيام رمضان تجمع بين الروحانية النفسية والسعاد الحقيقية للصائم من خلال شعائر التقرب إلى الله من عبادات وصلوات وخلوات هذا بجانب زيادة جرعة التواصل الاجتماعي المباشر ، كل ذلك وغيرها تولد بالنفس الشعور بالراحة النفسية والسكينة الروحية التي تحدث بسبب الإقبال والمواظبة على الصلاة وقراءة القرآن والصدقة والإنفاق في سبيل الله وغيرها من العبادات الجسدية والروحية التي تؤدي إلى شعور الصائم بالرضا النفسي والفرح الداخلي؛ ويكتمل هذا الفرح بما يقبل عليه المسلم في الشهر الفضيل من أعمال الخير والبر والإحسان  مما ينعكس إيجابا على راحته النفسية وزيادة نشاطه مما يعزز الشعور بالسعادة فالجود والعطاء ملازمان لبعضهما البعض في ظل شهر رمضان شهر العطاء.

وخلال شهر رمضان المبارك هناك خمسة اسباب نكتسب من خلالها السعادة؛ أولها: ان هناك زيادة تحدث في الجرعة الإيمانية عبر تقوية علاقتنا مع ربنا سبحانه وتعالى مما افترضه علينا واتباع أوامره ونواهيه مما ينعكس إيجاباً على قلوبنا وأفئدتنا خاصة عند كثرة واستمرارية الدعاء الذي هو لب العبادة. ثانيها: ما يقوم به الصيام من تتحرر لأنفسنا من الشهوات في الشهر الفضيل فينتج عن ذلك شعور براحة نفسية تسري في الجسد والروح طوال شهر الصيام المبارك.

ثالثها: علاقتنا مع قرآننا الكريم حيث نقبل عليه ونتلوه صباحا ومساء طالبين الأجر والثواب من المولى عز وجل والتقرب إليه خاصة في ظل وجود أوقات فسيحة ومتسعة في ايام الشهر الفضيل وساعاته المباركة فتنعكس نفحاته المباركة على أخلاقنا تصرفاتنا وسائر شؤون حياتنا.

رابع هذه الأسباب هو قيامنا بواجب العطاء والصدقة والإحسان إلى الفقراء فمن خلال صدقاتنا في الشهر الفضيل شهر الخير والعطاء نستحضر إخواننا المعسرين فتقبل أنفسنا وايدينا بالمد لهم بما يسره الله لنا من خير فنشاركهم بما استطعنا من مد يده العون لهم وفعل الخيرات.

أما خامس أسباب السعادة في شهر رمضان صلة الرحم وزيادة علاقاتنا الأسرية مع الأهل والإخوان والأصحاب والجيران وكل من له حق علينا عبر التواصل معهم؛ فتحدث بأنفسنا موجات من السعادة الإيجابية تتلقاها أنفسنا وقلوبنا وأرواحنا بكل بهجة وفرح.

وينعكس ذلك بلا شك على من حولنا فلله الحمد من قبل ومن بعد على هذا الشهر الاستثنائي شهر القران والصلوات شهر الخيرات شهر الفضائل شهر الأرحام شهر الصدقات شهر لا يمكن أن يقارن به شهر من الشهور لما له من فضيلة كبيرة عند الله وعند نبيه عليه الصلاة والسلام الذي قال:" للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه"، رواه مسلم.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • «استشاري»: تطوير أنظمة المطارات يُعزز الأمن القومي
  • بدء اكتتاب الأفراد في أكثر من 13 مليون سهم من أسهم “أم القرى للتنمية والإعمار” في تاسي
  • الشرقية.. مبادرة لتعزيز السلوكيات الإيجابية في المساجد خلال رمضان
  • ما الذي يجعل القطايف مقرمشة؟‎
  • كيف تصنع السعادة . . !
  • جمال شعبان: الصبر يجعل هرمونات السعادة ترتفع بالمخ
  • فيديو| "صحتك في رمضان" تصحح السلوكيات الخاطئة لدى الصائمين بالشرقية
  • منعطف إجباري
  • رمضان.. الأيام السعيدة
  • هل يجوز الجمع بين أكثر من معاش؟.. قانون التأمينات الاجتماعية يجيب