الأتو ثانية.. أداة كشف العلم المخفي التي كرمتها نوبل للفيزياء
تاريخ النشر: 4th, October 2023 GMT
بعد نحو 24 عاما من فوز العالم المصري الراحل أحمد زويل بجائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، عن نجاحه في تصوير التفاعل الكيميائي بين الذرات والجزيئات في زمن "الفيمتو ثانية"، أي ما يعادل "مليون مليار جزء من الثانية"، كرّمت جائزة نوبل هذا العام، ولكن في فرع الفيزياء، ثلاثة من العلماء، أخذوا خطوة أكثر تقدما.
هذه الخطوة المتقدمة هي إنتاج نبضات ضوئية قصيرة جدا يتم قياسها بـ"الأتو ثانية"، أي "مليار من مليار جزء من الثانية"، مما يعني أنه يمكن استخدامها لتوفير صور للعمليات داخل الذرات والجزيئات.
والفائزون الثلاثة هم "بيير أغوستيني" من جامعة ولاية أوهايو في الولايات المتحدة، و"فيرينك كراوس" من معهد ماكس بلانك للبصريات الكمومية وجامعة لودفيغ ماكسيميليان في ميونخ بألمانيا، و"آن لويلييه" من جامعة لوند بالسويد.
وقد أنتجت تجاربهم نبضات ضوئية قصيرة جدا تم قياسها بـ(الأتو ثانية)، وهو زمن قصير جدا لدرجة أن عدده في الثانية الواحدة هو نفس عدد الثواني التي انقضت منذ ظهور الكون قبل 13.8 مليار سنة، مما يدل على أنه يمكن استخدام هذه النبضات لتوفير صور للعمليات داخل الذرات والجزيئات.
يقول صلاح عبية، المدير والمؤسس لمركز الفوتونات والمواد الذكية بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا في تصريحات هاتفية للجزيرة نت إنه "لفهم الفرق بين ما توصل له زويل والعلماء الثلاثة، يجب أولا معرفة أن شعاع الليزر يتكون من مجموعة نبضات، ويكون المدى الزمني للنبضة مؤثرا على سرعة التقاط الصورة، فكلما كان قصيرا، ساعد على زيادة السرعة، ومن ثَم تصوير الأجسام الأصغر والأسرع".
وبينما تمكن زويل من الوصول لمدى زمني قليل للنبضة بسرعة "الفيمتو ثانية"، وهي مليون مليار جزء من الثانية، فإن العلماء الثلاثة وصلوا إلى زمن (الأتو ثانية) الذي يفوق الفيمتو ألف مرة، أي ما يعادل مليار من مليار جزء من الثانية.
ويضيف أن "نجاح زويل في استخدام النبضات الضوئية في زمن (الفيمتو ثانية) لتصوير التفاعل الكيميائي بين الذرات والجزيئات، أهّله للحصول على الجائزة منفردا في فرع الكيمياء، حيث بدأ قصة هذا الاكتشاف من البداية إلى النهاية، وكان له تطبيق كيميائي".
ويتابع "أما في زمن (الأتو ثانية) فذهبت الجائزة إلى فرع الفيزياء، حيث اقتصر الإنجاز على إتاحة الأداة فقط، وهي إنتاج النبضات في هذا الزمن الذي يتعدى ما توصل له زويل، ولكن لا توجد له تطبيقات عملية واضحة حتى الآن، ولكن الأمل في أنه قد يؤدي إلى تحسين تشخيص الأمراض على سبيل المثال، عن طريق توفير تصوير على المستوى الخلوي".
ورغم أن زمن "الأتو ثانية" لا توجد له تطبيقات واضحة حتى الآن، كما أكد عبية، وهو المعنى نفسه أيضا الذي أكدت عليه لجنة منح جائزة نوبل في الفيزياء هذا العام، فإن باحثا مصريا حصل على الدكتوراه تحت إشراف فيرينك كراوس، أحد الحائزين على نوبل هذا العام، قد وضع بذور أحد التطبيقات في دراسة له نشرتها دورية "نيتشر فوتونيكس" في 20 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وتمكن من استخدام زمن (الأتو ثانية) لجعل الزجاج موصلا للكهرباء.
ويعمل الباحث محمد ثروت حسن حاليا أستاذا للفيزياء والضوء بجامعة أريزونا بالولايات المتحدة الأميركية، وعمل لفترة ضمن الفريق البحثي للدكتور زويل في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتك).
ويقول حسن، في تصريحات هاتفية للجزيرة نت، إنه "تمكن ليس فقط من رصد حركة الإلكترونات داخل الزجاج، بل والتحكم في خواصها لتحويل الزجاج من مادة عازلة إلى مادة موصلة للتيار الكهربائي، وهو ما يمكن أن تكون له انعكاسات في تطوير الحاسب الآلي الضوئي والهواتف النقالة لجعل سرعتها تفوق السرعة الحالية 100 مليون مرة".
وأضاف الباحث المصري أن اكتشافه يمكن أن يساعد في نقل المعلومات باستخدام شعاع الليزر، وهو ما من شأنه أن يزيد سرعة الاتصالات بين الدول، وسرعة الاتصال بين الأرض والأقمار الصناعية.
وكان حسن قد توقع قبل عامين، عبر صفحته على فيسبوك، فوز مشرفه في الدكتوراه بجائزة نوبل، وهو ما تحقق هذا العام.
ولم يكن حسن هو الوحيد الذي توقع فوز رواد هذا العلم، بل شاركه الكثير من الفيزيائيين، ومنهم بدوي أنيس، أستاذ مساعد فيزياء الأطياف بالمركز القومي للبحوث بمصر. يقول أنيس في تصريحات هاتفية للجزيرة نت إن ما فعله الفائزون بجائزة نوبل، أنهم جعلوا العلم المخفي واضحا وظاهرا.
ويوضح أنه "قبل الأتو ثانية كنت تستطيع أن ترى تأثير حركة الإلكترون، لكنك لا تستطيع أن تعرف ماذا حدث بالضبط، بمعنى أنك إذا كنت تقود سيارتك، وقمت بتشغيل الضوء المرتفع للسيارة على جسم ما في الطريق، يمكنك أن ترى لونا مختلفا، وهذا هو تأثير حركة الإلكترون، ولكن تفاصيل تلك العملية هي العلم المخفي الذي أظهره علماء الأتو ثانية".
ويستعير أنيس مقولة دائما ما يرددها زميله الباحث محمد ثروت حسن، وهو أن "علماء الأتو ثانية يلعبون بالإلكترون"، ويعني ذلك، أنهم يستطيعون رؤيته والتحكم في حركته لتغيير خواص المواد، كما فعل حسن في الدراسة المنشورة في دورية "نيتشر فوتونيكس"، عندما استطاع التحكم في حركة الإلكترونات بالزجاج لتحويله من مادة عازلة إلى موصلة للكهرباء.
ويضيف "هذا البحث يظهر قيمة ما فعله الفائزون بنوبل، فهم قد فتحوا الباب لعلم جديد (الأتو الثانية)، كما سبقهم زويل الذي فتح الباب لعلم (كيمياء الفيمتو ثانية)".
قصة الأتو ثانيةيسمح علم "الأتو ثانية" وفق هذا المفهوم الذي أوضحه الباحثون، بمعالجة الأسئلة الأساسية على المستوى الذري، حيث تحدث حركات الإلكترونات والنوى عادة على هذا النطاق الزمني، كما أوضحت إيفا أولسون، رئيسة لجنة نوبل للفيزياء، في مؤتمر صحفي ظهر أمس الثلاثاء 3 أكتوبر/تشرين الأول.
وقالت إنه "في أواخر القرن التاسع عشر، استخدم المصورون الأوائل الكاميرات لتحديد ما إذا كان الحصان يرفع جميع حوافره عن الأرض أثناء العدو، وهي عملية سريعة جدا بحيث لا يمكن للعين البشرية رؤيتها، ويأمل الباحثون اليوم في القيام بشيء معادل في نطاقات زمنية تبلغ الأتو ثانية باستخدام أشعة الليزر فائقة السرعة للحصول على رؤية أكثر وضوحا للعمليات الذرية التي قد تكون ضبابية".
ولسنوات عديدة كانت نبضات الضوء عالقة في نظام الفيمتو ثانية، وهذا جيد بما فيه الكفاية لرصد الجزيئات في التفاعلات الكيميائية، وكسرت الفائزة "آن لويلييه" بعض الحواجز الأولى في عام 1987، عندما اكتشفت أن تمرير ليزر الأشعة تحت الحمراء عبر غاز خامل، مثل الأرجون، أدى إلى نمط في الضوء المنبعث (استقرار في التردد).
وكانت هذه النقطة حيوية للعمل الذي تم إنجازه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما أنشأ الفائز الثاني (بيير أغوستيني)، نبضات ضوئية متعددة يبلغ طولها (250 أتو ثانية) بينما قام الفائز الثالث (فيرينك كراوس) الذي كان يعمل بشكل مستقل عنهما، بتوليد نبضات بطول (650 أتو ثانية).
وبفضل المجسات المكتشفة حديثا، التي طوّرها أغوستيني وكراوس ولويلييه، يستطيع الباحثون الآن توليد نبضات ليزر لا تتجاوز بضع عشرات من الأتو ثانية، وستؤدي المزيد من التحسينات لهذه التقنيات إلى توليد نبضات أقصر من أي وقت مضى، وهو ما يَعِد بتعميق فهم العلماء لحركة الإلكترون، ويمكن أن يؤدي إلى اختراقات في التشخيص الطبي، فضلا عن تطوير أشباه الموصلات الجديدة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: بجائزة نوبل هذا العام وهو ما
إقرأ أيضاً:
جيل اشترِ الآن وادفع لاحقا.. دَين مريح أم مرآة لأزمة اقتصادية أعمق؟
في زحمة العروض الإلكترونية ومغريات التسوّق الرقمي، لم يعد الأمر يقتصر على اختيار منتجك فحسب، بل بات يشمل طريقة الدفع أيضا. إذ تبرز أمامك خيارات مثل "كلارنا" و"آفتر باي" و"فينمو"، لتقسم المبلغ على 4 دفعات دون فوائد أو فحص ائتماني فوري.
هذه الخدمات، التي كانت حتى سنوات قليلة محصورة بفئات محدودة، أصبحت اليوم خيارا شائعا في معظم المتاجر الإلكترونية في أميركا.
وقد أشار تقرير فوكس إلى أن هذه الظاهرة، التي تنتشر بسرعة بين فئات الجيل زد والجيل الميليني، تحوّلت إلى وسيلة استهلاكية مفضّلة، لا سيما أن معظم هذه الخدمات لا تُحتسب ضمن التقييم الائتماني الرسمي، ما يمنحها جاذبية خاصة للذين يخشون تبعات بطاقات الائتمان التقليدية.
دَين بلا فائدة.. وواقع اقتصادي مأزومووفقا للتقرير، فإن شركة "كلارنا" -إحدى أبرز منصات الدفع بالتقسيط- قد سجّلت في الربع الأول من عام 2025 ارتفاعا حادا في خسائرها بسبب تخلّف المستهلكين عن السداد، إذ تضاعف صافي الخسائر المرتبطة بالقروض المتعثرة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وقد ربطت الكاتبة والمعلّقة الاقتصادية كايلا سكانلون هذا النمو المقلق بما سمّته "اقتصاد ضعف السيطرة على الاندفاع"، مشيرة إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد أداة استهلاكية، بل انعكاس مباشر لهشاشة بنيوية يعانيها الاقتصاد الأميركي، خاصة في أوساط الشباب.
وقالت سكانلون، في مقابلة مع برنامج "إكسبليند" على منصة فوكس: "ما يقلقني هو أن هذه الخدمات، عبر سهولتها واندفاعيتها، تسمح بتوسيع اقتصاد الخداع، حيث يُنفق الناس أموالهم على أشياء لا يحتاجونها فعلا، ويقعون في دورة من الديون غير الواعية".
من قروض الجامعة إلى أقساط البرغرالتقرير يشير إلى أن شباب الجيل "زد" نشؤوا في ظل أزمات متلاحقة، أبرزها الأزمة المالية عام 2008، وارتفاع كلفة التعليم الجامعي، وتراجع فرص التوظيف. كل هذه العوامل ساهمت في تطبيع فكرة الدَين لديهم.
إعلانفخدمة "اشترِ الآن وادفع لاحقا" لا تُعتبر شيئا مختلفا بقدر ما هي امتداد منطقي لمجتمع يتعامل مع الدين كجزء لا يتجزأ من الهوية الفردية.
وتوضح سكانلون: "الدين ليس شرا مطلقا. هو أداة، ولكن المشكلة في النظام الذي يشجّع على هذا النوع من المنتجات، في وقت تراجعت فيه الأجور الحقيقية، وارتفعت فيه كلفة الإيجارات، وتضخّمت فيه أسعار البقالة إلى مستويات غير مسبوقة".
سهولة الاقتراض.. وغياب السُلم الاقتصاديومن أبرز ما تناوله التقرير هو التشكيك في النصيحة التقليدية التي تقول "إذا لم تملك ثمن الشيء الآن، فلا تشتريه". إذ ترى سكانلون أن هذه النصيحة قديمة وغير واقعية في ظل ما سمّته "السُلم الاقتصادي المكسور"، إذ إن فرص الترقّي المهني وتحقيق الاستقرار المالي أصبحت شبه معدومة بالنسبة لكثيرين.
وتضيف: "قد يبدو استخدام خدمة اشتر الآن وادفع لاحقا لشراء كريم ترطيب من متجر فاخر تصرّفا غير مسؤول، لكنه -بالنسبة للكثير من الشباب- يشكّل نوعا من التعويض النفسي في ظل غياب البدائل الاقتصادية المستقرة".
وتُشير إلى أن الأدوات المالية الحديثة أصبحت وسيلة للتكيّف مع ظروف اقتصادية صعبة، وليست نتيجة طيش استهلاكي كما يصوّرها البعض.
بين الاندفاع المالي ونقص الخياراتويرى التقرير أن استخدام هذه الخدمات لا ينبع فقط من حب التملك أو الرغبة في الاستهلاك، بل هو أحيانا آلية دفاع نفسي أمام واقع مأزوم، إذ لا يملك الشاب الوسيلة لتأمين حاجاته سوى عبر الاقتراض المؤجَّل.
وقد وصفت سكانلون هذه الظاهرة بأنها "توازن هشّ بين الرغبة والضرورة، والبحث عن لحظة مؤقتة من الراحة وسط اقتصاد يزداد تعقيدا".
وفي ظل غياب إصلاحات جذرية لسوق العمل أو سياسات إسكانية فعّالة، تبقى خدمات "اشترِ الآن وادفع لاحقا" أداة يستخدمها ملايين الأميركيين، وربما قنبلة مؤجّلة داخل الاقتصاد الاستهلاكي الأميركي.