(1)

إبّان الفترة التي قضيتها في جامعة هارفارد، كان المطلوب مني ليس فقط تدريس موضوع الثورات الديمقراطية العربية، وإنما قبول كل الطلبة والباحثين الذين يطلبون مقابلتي وتخصيص وقت كاف للردّ على أسئلتهم.

هكذا تتابع على مكتبي طلبة وكبار باحثين من أميركا والصين وفنزويلا وأوروبا. كنت أغتنم الفرصة لأسألهم عن أوضاع بلدانهم، والحق أنني تعلّمت بقدر ما علّمت، وهذه اللقاءات كانت هي مكافأتي الكبرى من الجامعة العريقة.

ذات يوم كان الموعد مع مهندسة إعلامية فرنسية هي الدكتورة مانون ريفيل من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا الشهير "إم آي تي" (MIT). قالت لي إنها بصدد المشاركة في بحث جماعي كبير عن عوامل اتخاذ أحسن القرارات في الانتخابات -أي اختيار الشخص المناسب- سواء كان لرئاسة الدولة أو للنيابة في البرلمان وفق مؤشرات موضوعية مثل الإيفاء بالوعود الانتخابية، وعدم الانقلاب على النظام الديمقراطي، والضلوع في الفساد، إلخ.

أدهشني قولها إن البحث يشمل أكثر من مئة عملية انتخاب من كل بلدان العالم، وإن تحليل النتائج يتم بخوارزميات مبنية على معادلات حسابية معقدة. طبعا كنت متلهفا لسماع ردها. قالت إن النتائج الأولية تظهر أن النجاح في الاختيار لا علاقة له لا بالجنس، أو العرق، أو الثقافة، أو العمر، أو الطبقة الاجتماعية، أو درجة التعليم.

العامل الوحيد في حسن أو سوء الاختيار هو: كمية ونوعية المعطيات التي توفرها وسائل الإعلام للناخبين.

ويحدثونك عن الإعلام كسلطة رابعة وهو اليوم السلطة الأولى…عفوا أقصد ظلّ السلطة الأولى!

(2)

لم يعد سرا عسكريا أن جلّ الإعلام وأكثره انتشارا وتأثيرا هو في أغلب الدول الديمقراطية أو النامية بيد الخواص.

على سبيل الذكر الإمبراطور المالي روبرت مردوخ الذي يملك قناة فوكس نيوز رافعة لواء ترامب وكل اليمين المتطرف المعادي للديمقراطية، بجانب امتلاكه ثلثي وسائل الإعلام في أستراليا وأكبر الجرائد الشعبية في بريطانيا وغيرها.

الشيء نفسه عن يانيك بولوري الذي يملك في فرنسا عددا كبيرا من المجلات والجرائد (حتى النسوية) ونصف دور النشر وقنوات تلفزيونية منها قناة "CNews"، وهي قناة اليمين المتطرف المختصة في تأليب الرأي العام ضدّ العرب والمسلمين.

حدث الشيء نفسه في تونس بعد الثورة، حيث تحكّمت حفنة من رجال الأعمال في الإعلام الخصوصي الذي كان الأداة الأساسية لإجهاض الثورة.

القاعدة: كل الإعلام في البلدان الاستبدادية في قبضة الدكتاتور، لكن جلّه في البلدان الديمقراطية في قبضة المال الخاص.

الأخطر من هذا أن المال الخاص لا يتحكم فقط في الإعلام وإنما في بقية أدوات الديمقراطية.

ثمة تناقض جذري بين أهداف الديمقراطية التي تسعى لتحرير الإنسان سياسيا، وأهداف الليبرالية التي تسعى لاستغلاله اقتصاديا. وجذور التناقض مطمورة عميقا في طبقة قيم الديمقراطية التي هي قيم الإنسان الفارس، وقيم الليبرالية التي هي قيم الإنسان المفترس

(3)

عودة لهذه الأدوات، ولننظر إليها بعيون أولئك الذين قال عنهم المخرج والكاتب الأميركي وودي آلن إنهم الأوغاد الذين فهموا "شيئا هاما عن الحياة" لم نفهمه نحن.

أتصوّرهم جالسين حول خارطة كالعسكريّين ليلة معركة فاصلة، يبحثون عن مناطق الضعف في دفاعات العدوّ والثغرات التي يمكنهم النفاذ منها للاستيلاء على هذه الديمقراطية التي يكرهون.

أتخيّل نقاشهم (ونوبات الضحك بين الحين والآخر):

آه.. حرية الرأي والتعبير التي صدّعوا بها رؤوسنا وفضحونا بها! سنأخذهم بكلامهم ونطالب نحن أيضا بحرية الرأي والتعبير، وسنرى من سيربح معركة العقول والقلوب، هم بإمكانياتهم ونحن بإمكانياتنا.

آه.. هم على يقين أن كل السياسيين والإعلاميين والقضاة والناخبين لا يشترون بالمال! ولا حتى جلّهم، فقط عدد كافٍ وزيادة لنصل إلى ما نريد.

آه.. صدّعوا رؤوسنا احتجاجا على الحزب الواحد. يريدون حرية تنظيم الأحزاب والجمعيات! فكرة عظيمة، سنموّل كل الجمعيات وكل الأحزاب حتى التي تدّعي محاربتنا.

آه.. يريدونها انتخابات حرة ونزيهة لتعبّر عن سيادة شعبهم المقدس الذي لا يأتيه الباطل من خلفه ومن أمامه! بأي مال سيخوضون معاركهم الانتخابية؟ سترونهم كالشحاذين الخجلانين يدقّون على أبوابنا بمنتهى اللطف.

صحيح أن حشو الصناديق الانتخابية تقنية تجاوزها الزمن، سنحشو بدل ذلك أدمغة ناخبيهم بما نملك من وسائل غسل دماغ لا فكرة لناخب ولا لمنتخب عن فعاليتها.

آه.. لهم الثقة المطلقة في حكمة الشعب وقدرة المواطن على التفريق بين الغث والسمين! سنريهم كيف سنجعل النساء يصوتن في الانتخابات لزير نساء يحتقر النساء، وكيف سنجعل الفقراء يصوتون لملياردير، والشباب لكذاب في الثامنة والثمانين، ومثقفين لنكرة يقول لهم بكل وضوح إنه ليس له أي برنامج للحكم.

آه.. يسمّون مالنا المستثمر في ديمقراطيتهم "المال الفاسد"! ليضيفوا أيضا لعنة الله عليه، وليرفعوا أكفهم يتضرعون لله لكي يهوي بأسهمنا في البورصة إلى القاع.

(ضحكات استهزاء وشماتة)

نعم لماذا لا يضحك علينا الأوغاد، والقضية ليست فساد هذا المال المنتصر على الديمقراطية، بقدر ما هي فساد منطق المدافعين عنها!

(4)

أشعر دوما بالاستغراب عندما أسمع الديمقراطيين في المشرق العربي، وخاصة مصر، يصفون أنفسهم بأنهم ليبراليون كما لو كانت كلمة ديمقراطية مرادفة لكلمة الليبرالية.

كتبت في بداية الألفية في كتاب عنوانه "عن أي ديمقراطية تتحدثون؟" أنه إذا كانت الدكتاتورية الشيوعية ألدّ أعداء الديمقراطية في القرن العشرين، فإن ألدّ أعدائها في القرن الواحد والعشرين ستكون الليبرالية.

لماذا؟

(5)

لا أبرع من النظام الاقتصادي الليبرالي في خلق الثروة، ولا أكثر ظلما في توزيعها من ذلك النظام وإنجازه العظيم الذي يجعل 1% من المجتمع يملك أكثر مما يملكه 90% منه.. خاصة بأي ثمن وبأي وسائل!

كم من فضائح للشركات الرأسمالية الكبرى التي حققت أرباحا خيالية على حساب صحة مئات الملايين من البشر. واليوم ها هي تواصل تدمير المناخ، لا تعبأ بأننا كلّنا بصدد الانتحار الجماعي. كم من دراسات وتقارير أثبتت أن هذه الشركات موّلت أبحاثا علمية زائفة لتكذيب الدراسات العلمية الحقيقية التي أثبتت مثلا أن التهاب سرطان الرئة مرتبط بتجارة التبغ، وأن جائحة السكري مرتبطة بالمشروبات الغازية والأطعمة المصنّعة، واليوم أن الكارثة المناخية مرتبطة بسياسات شركات البترول والغاز.

ثمة، إذن، تناقض جذري بين أهداف الديمقراطية التي تسعى لتحرير الإنسان سياسيا، وبين أهداف الليبرالية التي تسعى لاستغلاله اقتصاديا. وجذور التناقض مطمورة عميقا في طبقة قيم الديمقراطية التي هي قيم الإنسان الفارس، وقيم الليبرالية التي هي قيم الإنسان المفترس.

(6)

سبق أن قلت إنه إذا واجهك مخادع أو مخدوع بالعلكة القديمة: "الشعب بحاجة للخبز لا للحرية، للتقدم الاقتصادي لا لحريتكم المزعومة"، فلا بد من الصراخ في وجهه: "كفى!"، ترددون هذه البلاهة منذ 70 سنة، وقد خسرنا الحرية ولم نربح أي تقدم. يكفي الديمقراطية فخرا أنها تضمن الحرية، وفي كل الحالات هي ليست مكتب تشغيل.

لكنني قلت أيضا إنه عندما نجتمع بيننا نحن الديمقراطيين الخُلّص، فلا بد أن نعترف بأن هذا الغبيّ قال كلمة حق أريد بها باطل، وأن الديمقراطية لا يمكن أن تتنصل من مسؤولياتها الاقتصادية والاجتماعية لسبب بسيط هو استحالة دوامها في ظل تفاقم الفقر والظلم في توزيع الثروات.

معنى هذا أن الليبرالية تسحب البساط من تحت الديمقراطية وتفرشه للاستبداد والشعبوية.

القاعدة كانت وستبقى أنه لا نصير للعدالة الاجتماعية أكبر من الحريات. لا دوام للحريات إلا بقاعدة صلبة من العدالة الاجتماعية.

العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية ليست، كما يقول المنظرون اليمينيون، علاقة تكامل، وإنما صراع في الخفاء والعلن على السلطة.. والشيء الوحيد الذي أحبّه في الدكتاتورية أن نظامها السياسي هو الذي يعطي الأوامر للنظام الاقتصادي وليس العكس!

 

(7)

لفهمٍ أعمق للعلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، يجب وضعها في إطارها التاريخي، أي في إطار صراع الطبقات في مجتمعات غرب القرن الثامن والتاسع. من جهةٍ، برجوازية صاعدة تمتلك مقومات سلطة المستقبل أي الصناعة والتجارة، وفي مواجهتها أرستقراطية متشبثة -عبر الاستبداد- بسلطة فقدت مقوماتها الجديدة التي جاء بها العلم والتكنولوجيا. هكذا فرضت البرجوازية الغازية الحقوق السياسية التي تشكل قاعدة النظام الديمقراطي على أرستقراطية عجوز متهالكة، لكنها لم تكن معنية بفرض الحقوق الاقتصادية، وثرواتها مبنية أساسا على استغلال الطبقات الفقيرة.

لهذا شكّل لها توسيع رقعة الحريات لعامة الناس مشكلا حقيقيا. هنا يجب العودة لكتابات أحسن مؤرخ للديمقراطية الغربية وهو الفرنسي بيار روزنفالون. ستصاب بالصداع وأنت تتابع على امتداد قرن الصراع المعقّد والمدّ والجزر في تحديد رقعة الذين لهم حق الانتخاب. حاولت البرجوازية الفرنسية حصره أطول وقت ممكن في نخبة من الرجال. ولم تسلّم بحق جميع الذكور في الانتخاب إلا في نهاية القرن التاسع عشر. يروي روزنفالون أن هذه البرجوازية التي كانت مرعوبة من وصول الفقراء إلى أعلى مراكز القرار نتيجة توسيع حق الانتخاب للعامة، تنفست الصعداء وهي تكتشف أن الرعايا يصوتون للرعاة، إلا في فترات نادرة من التاريخ لا تدوم طويلا. وتنتهي كما حدث في فرنسا، بعد فوز الجبهة الوطنية سنة 1936، بالسجون والمنافي نتيجة تحالف أعداء الديمقراطية في الداخل والخارج.

السبب البارحة واليوم وغدا: قدرة المال والإعلام على منع كل قوى التغيير أو تعطيلها أو شرائها لكي تتواصل علاقات الهيمنة والاستغلال، وإنْ بأشكال مقنّعة وبتوزيع بعض فتات الثروة والسلطة والاعتبار، كي لا تنفجر الثورات المصححة لأوضاع لم تعد تحتمل.

(8)

كل المجهودات الخارقة التي تبذلها الشركات الكبرى ورجال الأعمال النافذون للتحكم في الإعلام والأحزاب السياسية والانتخابات، لا هدف لها إلا التسلط على السلطة أو إيجاد سلطة داخل السلطة، لتحقيق أهداف هذه الشركات وأصحابها، أي مزيد من الأرباح والثروة لمزيد من السلطة اقتصاديا وسياسيا.

أقدس مقدسات النظرية الليبرالية هو الدور السلبي أو على الأقل غير المرغوب فيه للدولة في الدورة الاقتصادية. لمنظّريها ثرثرة طويلة عريضة حول كيف أن هذا التدخّل يضرّ بالعمل العبقري لليد الخفية للسوق التي تعرف وحدها من أين تؤكل الكتف (خاصة كتف المستهلك). وراء هذه الثرثرة هدف واحد: إبعاد السلطة السياسية عن الدفاع عن المصلحة العامة، لكي يترك المجال كله للسلطة الاقتصادية لتحقق المصالح الخاصة، ولو على حساب صحة وحقوق مئات الملايين من البشر، والآن على حساب حقوق وصحة الطبيعة.

هم لا يتذكرون الدولة إلا عندما يتسببون في كوارث مالية اقتصادية كما حدث سنة 2008. آنذاك يصرخون يطلبون دعم الدولة.

في المقابل، سترى الدولة الديمقراطية حتى في أميركا في صراع دائم مع اللوبيات، على الأقل للمحافظة على استقلالها أو للحد من غلوائها، عندما تكون الغلبة للحزب الديمقراطي في أميركا أو للديمقراطيين الاشتراكيين في أوروبا.

العلاقة بين الليبرالية والديمقراطية ليست، كما يقول المنظرون اليمينيون، علاقة تكامل، وإنما صراع في الخفاء وفي العلن على السلطة.

الشيء الوحيد الذي أحبّه في الدكتاتورية أن نظامها السياسي هو الذي يعطي الأوامر للنظام الاقتصادي وليس العكس!

(9)

مجمل القول، إن تفحّص الهرم في مستوى طبقة الموارد المالية للنظام يظهر خللا كبيرا في هذه الطبقة يمكن أن يهدّد بطول الزمان صلابة الهرم وحتى انهياره وذلك نتيجة تضافر عاملين:

الأول: هو أن تمويل النظام، سواء اعتبرنا مكوّناته (الأحزاب السياسية أو المدنية) أو أدواته (الإعلام بكل أنواعه) أو آلياته (الانتخابات)، يأتي بالأساس من القطاع الخاص. والأمر هنا يشبه ترك النظام القضائي أو الجيش والشرطة يمولون جلّ نشاطهم من كبرى الشركات وكبار رجال الأعمال، مع التغطية على الأمر بالفتات الذي يأتي من الدولة أو من المحسنين. الثاني: هو أن النظام الاقتصادي الليبرالي يعمل في اتّجاه معاكس لأهداف الديمقراطية، حيث ينمّي اللامساواة، ويعتدي على كرامة البشر بالإفقار، وكرامة الطبيعة بالتلويث والتدمير والقبح. ويخلق حالة عدم الاستقرار التي تعيد شهوة حلّ الصراعات بالعنف، لأن القاعدة هي أنه لا سلامة ولا دوام لأي نظام سياسي، إن لم توجد الحرية لتخدم العدالة، والعدالة لتدعم الحرية.

الوسيلة الوحيدة التي تملكها الديمقراطية للدفاع عن مكوناتها وأدواتها وآلياتها من سطوة المال، ولإجبار النظام الاقتصادي على الالتزام بالحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية، هي التشريعات التي يسنّها البرلمان ويفرضها القضاء.

الحلقة المقبلة: ما مدى قدرة القوانين والمؤسسات الديمقراطية على التحكم في القوة الرهيبة التي تسعى للتحكم فيها؟

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssجميع الحقوق محفوظة © 2023 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الدیمقراطیة التی اللیبرالیة التی التی تسعى

إقرأ أيضاً:

الصراع حول إعادة تعريف ما يمثله الإسلام في عالم القرن 21.. قراءة في كتاب

لقد بدأت المعركة على الإسلام مع نزول الوحي. وتنوعت صورها والمشاركين فيها عبر العصور المختلفة، وتعددت أهدافها ووسائلها؛ لكنها اتخذت في هذا القرن والقرن الماضي صورا جديدة تغلفها مسميات جديدة للإسلام. وفي هذا الإطار نقدم عرضا لكتاب د. جيمس دوروسي "المعركة على روح الإسلام: تعريف العقيدة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين"، والذي صدر عن دار باليغراف ماكميلان بلندن في يوليو 2024.

وللكاتب مجموعة من الدراسات والمقالات حول هذا الموضوع منشورة بمركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية، والذي عرفه بأنه متخصص في خطوط الصدع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم الإسلامي، وهو تعريف يفسر لنا سر اهتمام المركز والصحافة الإسرائيلية والمراكز البحثية الغربية بما يكتبه، وخطورة ما تضمنه الكتاب الذي نقدم عرضا له في هذا المقال.

أهمية الكتاب

يأتي الكتاب في وقت تُرسم فيه الخرائط الإقليمية والدولية، وتتنافس القوى الدولية والإقليمية على السيطرة والهيمنة، وتتبارى الأنظمة المستبدة على تقديم الولاءات والتنازلات ومبررات البقاء في الحكم عبر محاولة السيطرة على القوة الناعمة لهذا الدين وتطويعها لمصالحهم، يقول مؤلف الكتاب:

ـ "المعركة على  روح الإسلام" هي صراع لإعادة تعريف ما يمثله الإسلام في عالم القرن الحادي والعشرين. وهي أكبر بكثير من مجرد مواجهة وقمع الإسلام السياسي. إنها معركة طويلة الأمد منذ عقود من أجل القوة الدينية الناعمة، تتنافس فيها دول من الشرق الأوسط وآسيا على: الاعتراف بها كزعيمة للعالم الإسلامي، وأن تكون محركات لتفسير "معتدل" ومتسامح وتعددي للإسلام.

إن جهود السعودية والإمارات لتعريف "الإسلام المعتدل" على أنه أكثر ليبرالية اجتماعيا مع خضوعه لحاكم استبدادي، هي محاولة: لضمان بقاء النظام، وتعزيز تطلعاته لقيادة العالم الإسلامي، ودرء التحديات المتجذرة في فروع متنوعة من التيارات الدينية المحافظة المتطرفة.ـ يستخدم المتنافسون الدين لكسب التأييد والتعاطف في أروقة السلطة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك بين المجتمعات اليهودية والمسيحية المؤثرة.

ـ إن جهود السعودية والإمارات لتعريف "الإسلام المعتدل" على أنه أكثر ليبرالية اجتماعيا مع خضوعه لحاكم استبدادي، هي محاولة: لضمان بقاء النظام، وتعزيز تطلعاته لقيادة العالم الإسلامي، ودرء التحديات المتجذرة في فروع متنوعة من التيارات الدينية المحافظة المتطرفة.

ـ تكتسب المعركة أهمية إضافية في الشرق الأوسط، حيث يحاول الخصوم تخفيف حدة التوترات الإقليمية من خلال إدارة نزاعاتهم وصراعاتهم؛ بدلا من حلها. ويركز الخصوم على التنافس على القوة الناعمة؛ بدلا من مواجهة القوة الصلبة التي غالبا ما تشمل وكلاء بالمنطقة كأطراف فاعلة.

عرض موجز للكتاب

عندما ألغى أتاتورك الخلافة العثمانية، قال عبد الله بن الحسين مؤسس الأردن: "لقد انتحر الأتراك. فقد كانت الخلافة أعظم القوى السياسية لديهم. أود أن أشكر مصطفى كمال، فالخلافة عربية، كان النبي عربيا، والقرآن باللغة العربية، ويجب أن يكون الخليفة عربيا من قريش. وقد عادت الآن إلى الجزيرة العربية". لكن ذلك لم يحدث، إذ لم يُظهر القادة العرب اهتمامًا بعودتها، وركزت الحركات السياسية الإسلامية المبكرة على إحياء خلافة طموحة كهدف بعيد المدى بدلاً من كونها هدفًا فوريًا.

وبعد مرور قرن، لم تعد الخلافة هي محور الصراع الإسلامي العالمي. بدلاً من ذلك، تتورط القوى الإسلامية في الشرق الأوسط وآسيا في صراع ديني متعمق "على روح الإسلام"، للسيطرة على قوته الناعمة، وتوظيفه لتحقيق النفوذ والهيمنة الجيوسياسية. والمتنافسون في هذا الصراع متعددون، منهم: تركيا والسعودية والإمارات وقطر وإندونيسيا والمغرب، دون فائز واضح؛ لكن مسار المعركة يدور حول:

ـ تعريف الإسلام وشكل الإيمان في القرن الحادي والعشرين.

ـ الطاعة المطلقة للحكام، وتحويل المؤسسات الدينية إلى أدوات للدولة.

ـ جوهر العلاقة بين الدولة والدين، والدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في تطبيق الأخلاق الدينية.

ـ مكانة الدين في التعليم والقضاء والسياسة.

ونظرا لأنه صراع على القوة الناعمة للدين، فقد أصبحت الحدود بين الدولة والدين أكثر غموضًا من أي وقت مضى خاصةً في البلدان الأكثر استبدادًا. وقد صمم المستبدون الاعتدال الديني للحفاظ على سيطرتهم مع تلبية متطلبات التنويع الاقتصادي، وتطلعات الشباب إلى تجربة دينية أقل تقييدا وطقوسا، مع الحفاظ.

السعودية اللاعب الرئيسي منذ الستينيات

بدأت "المعركة على روح الإسلام" على يد السعوديين خلال الستينيات، إذ وضعوا الأساس الأكثر تركيزًا وتمويلًا لحملة الدبلوماسية العامة الإسلامية لتعزيز الإسلام المحافظ. وقد اعتبرت القوى الغربية آنذاك هذه الجهود جزءًا من جهودها العالمية لاحتواء الشيوعية.

قامت السعودية بهذه العملية من أعلى إلى أسفل كمبادرة ممولة من الحكومة إلى حد كبير. ونجحت، بمرور الوقت، في الحصول على دعم شعبي واسع النطاق. وذهب الجزء الأكبر من الأموال السعودية إلى مؤسسات دينية وثقافية محافظة للغاية وغير عنيفة في بلدان متعددة. وكان بعض المتلقين للسخاء السعودي سياسيين؛ والبعض الآخر لم يكونوا كذلك. وقد امتد الجهد الديني السعودي، بعد الثورة الإيرانية عام 1979، لمواجهة المد الشيعي الإيراني، عبر الاستعانة الانتقائية بوكلاء في مختلف دول الشرق الأوسط، ومولت المملكة بشكل مباشر الجماعات المسلحة ردًا على ظروف محددة: أفغانستان ضد السوفييت في الثمانينات، وباكستان لدعم الجماعات المعادية للشيعة والمناهضة لإيران، والعراق الذي شهد تمردًا مناهضًا للشيعة، وإيران في محاولات لإثارة الاضطرابات العرقية. وتم نقل الأموال يدويًا، أو عبر رجال الأعمال والصرافين والبنوك المختارة، أو عبر أسماء تجعل من الصعب تعقب المتبرعين.

محمد بن سلمان ونهج جديد

مع صعود محمد بن سلمان، تبنت المملكة نهجًا جديدًا. قلل الأمير محمد بشكل كبير من دور الشخصيات والمؤسسات الدينية المحافظة للغاية، وخفض التمويل العالمي للنشاط الوهابي، وعزز حقوق المرأة، وبنى قطاع ترفيه على النمط الغربي، في سعى لتصوير المملكة وتقديم إسلامها كمتسامح طموح منفتح يهدف إلى فتح أبوابها. وعلى سبيل المثال، كانت "رابطة العالم الإسلامي" سابقا وسيلة للترويج عالميا ل"لإسلام المحافظ"؛ لكنها الآن تبني علاقات أقوى مع الجماعات اليهودية والمسيحية الإنجيلية، وحولها بن سلمان إلى منبر لنشر رؤيته حول "الإسلام المعتدل". وفي الوقت نفسه، تراجعت تبرعات المملكة الموجهة دينيًا، ويتم تنقية الكتب المدرسية، وهناك تغيير في لغة هذه الكتب فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل.

وبينما تطبق المملكة قوانين صارمة بشأن التبرعات الخيرية للخارج، فإن تمويل المقاتلين الذين يخدمون أهدافها الجيوسياسية يظل غامضًا. وقد ذكر متشددون باكستانيون تدفق أموال كبيرة إلى المدارس الدينية المحافظة على الحدود الباكستانية مع إيران وأفغانستان. وذكروا أن هذه الأموال كانت تُوجه عبر مواطنين سعوديين من أصول بلوشية، وغالبًا ما تُنقل في حقائب، في وقت كان صانعو السياسة الأمريكيون يقترحون  فيه زعزعة استقرار النظام الإيراني عن طريق دعم الحركات الانفصالية العرقية.

الدور الإيراني بعد ثورة 1979

كانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بمثابة الشرارة التي أطلقت مرحلة جديدة من التنافس السعودي الإيراني الذي اجتاح تدريجيا الشرق الأوسط ومناطق آخرى، مع الاختلاف بينهما في مفاهيم القوة الدينية الناعمة. كان التركيز الأساسي للسعودية عقائديا؛ بينما ركزت إيران الثورية على الحصول على القوة الصلبة، ومحاولة تصدير الثورة، ثم اتجهت إيران إلى رعاية وتجنيد الجماعات الشيعية بالمنطقة كخط دفاع أول بالنسبة لها. وفي جنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا، ركزت إيران على القضايا الدينية والاجتماعية.

المعركة تصبح أكثر تعقيدا

بعد التنافس السعودي الإيراني على القوة الدينية الناعمة و"المعركة على روح الإسلام"، دخل معهما لاعبون جدد: الإمارات وتركيا وقطر وإندونيسيا، مما أدى إلى زيادة الخطوط الفاصلة بين القوة الناعمة الدينية والثقافية والقومية البحتة، والصراع داخل المجتمعات الإسلامية على القيم والحريات والحقوق والأنظمة السياسية المفضلة، والجمع بين القوتين الناعمة الدينية والقوة الصلبة، واستخدام الوكلاء:

ـ الحرب التي تقودها السعودية والإمارات لمواجهة إيران في اليمن.

ـ الدعم الإماراتي والمصري والتركي للأطراف المتصارعة في ليبيا والسودان.

ـ التورط التركي والخليجي في سوريا.

هذه التدخلات تكشف عن الانتهازية التي يتبناها معظم اللاعبين. فالإمارات داعية الاعتدال، لا تزال تدعم قوات خليفة حفتر  في ليبيا التي تضم صفوفها عددا كبيرا من المقاتلين السلفيين.

اللاعبون والتعامل مع الإسلام السياسي والربيع العربي

كان انبعاث "الإسلام السياسي" نتيجة لثورات الربيع العربي سببا في تغذية أسوأ مخاوف قوى المنطقة سواء في الخليج أو العسكر في مصر. وخلقت الاضطرابات فرصة لتحرك مضاد قادته الإمارات، فأطلقت مشروعا لتسويق "مشروع الإسلام المعتدل المتسامح" الذي يحترم التنوع والحوار بين الأديان. وفي الوقت نفسه، رضخ بن زايد للسلفيين الذين سعوا إلى فرض الشريعة الإسلامية الصارمة على معقل حفتر في شرق ليبيا، بما يتناقض مع وجهة نظره القاتمة حول التيارات والتفسيرات الإسلامية المحافظة. وهي وجهة نظر عبر عنها يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن عندما قال: "خاضت أبوظبي 200 عام!! من الحروب مع السعودية بسبب الوهابية".

الإسلام المسيس

لعب بن زايد دورا رئيسيا في تشكيل سياسات بن سلمان ضد الوهابية والانحياز إلى ما يطلق عليه "الإسلام المسيس"، أو "الاتجاه الثالث في الإسلام السياسي"، وهو اتجاه مرتبط ارتباطا وثيقا بسلطة الدولة وخاضع لها. وقد آتت جهوده ثمارها في الترويج لهذا النوع من الإسلام، والترويج الدعائي للإمارات عبر جماعات الضغط الغربية على أنها مجتمع تعددي مستنير متسامح دينيا. كما قدمت نفسها كدولة علمانية على الرغم من أن دستورها يتطلب أن يكون التشريع متوافقا مع الشريعة الإسلامية. وسجلت واحدة من أهم نجاحاتها مع الزيارة البابوية الأولى لها وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر، والتي صاغها قاض مصري. وسعى بن زايد إلى نشر أفكاره عبر إنشاء منظمات دينية خاصة به، وإطلاق برامج تدريب للأئمة غير الإماراتيين، وتشجيع تبني الأزهر للغة معتدلة لمكافحة التطرف والتعصب. وقد حققت الإمارات نجاحات أولية بتدريب الآلاف من رجال الدين الأفغان، وعرضت تقديم خدمات مماثلة للأئمة الهنود.

الإٍسلام الإماراتي والثورة المضادة

النسخة الإماراتية من الإسلام "الإسلام المسيس" عززت الثورة المضادة لمواجهة الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين وفروع أخرى من الإسلام السياسي. وساعد بن زايد في تدبير انقلاب عسكري بمصر في 2013 أطاح بالرئيس الذي فاز في الانتخابات الحرة والنزيهة الأولى والوحيدة في مصر. وفي 2017، هندست الدبلوماسية الإماراتية السعودية البحرينية المصرية المقاطعة الاقتصادية والسياسية المُنهِكة لقطر التي تُتهم بأنها ركيزة من ركائز الإسلام السياسي.

أدوات التغلل الإماراتي

كان التأثير العالمي المتنامي للإمارات واضحا في قائمة الأشخاص الذين شاركوا في مؤتمر غروزني عاصمة الشيشان 2016 ، الذي حرم الوهابية. كان من بين المشاركين: شيخ الأزهر، ومفتي مصر شوقي علام، وصوفي السلطة علي جمعة المؤيد القوي للرئيس السيسي، وأسامة الأزهري مستشاره للشؤون الدينية، ومفتي سوريا عبد الفتاح بزم المقرب من بشار، والحبيب علي الجفري رئيس "مؤسسة طابة الإسلامية" التي تتخذ من أبوظبي مقرا لها، ومفتي الهند الشيخ أبو بكر أحمد؛ ونظيره الأردني عبد الكريم الخصاونة.

النسخة الإماراتية من الإسلام "الإسلام المسيس" عززت الثورة المضادة لمواجهة الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين وفروع أخرى من الإسلام السياسي. وساعد بن زايد في تدبير انقلاب عسكري بمصر في 2013 أطاح بالرئيس الذي فاز في الانتخابات الحرة والنزيهة الأولى والوحيدة في مصر. وفي 2017، هندست الدبلوماسية الإماراتية السعودية البحرينية المصرية المقاطعة الاقتصادية والسياسية المُنهِكة لقطر التي تُتهم بأنها ركيزة من ركائز الإسلام السياسي.وتمول الإمارات أيضا "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية"، الذي أُنشئ ليواجه اتحاد علماء المسلمين الموجود بالدوحة. ويتبني المنتدى مفهوم مكيافيلي للدين كأداة قوية في يد الأمير. وبدأ أفراد الأسرة الحاكمة في مغازلة عبد الله بن بيه نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين في أوائل 2013 الذي قبل دعوة الإمارات  في نفس الشهر الذي أطاح بمرسي. ويرأس بن بيه مجلس الفتوى، ويتحدث نيابة عن حكومة الإمارات.

تأتي مغازلة الإمارات للشخصيات الدينية المؤثرة في العالم الإسلامي من إدراك بن زايد أنه بحاجة إلى القوة الدينية الناعمة لتبرير استخدام الإمارات للقوة الصلبة في بلدان مثل اليمن وليبيا.  وسوف يقرر النفوذ المالي والسياسي للإمارات درجة نجاحها في حملة نشر الفكر السياسي الإسلامي المضاد للثورة. يقول يحيى بيرت، وهو باحث بريطاني مسلم من رجال الدين المدعومين من الإمارات: "ثمن الرعاية الإماراتية للعلماء مرتفع للغاية. إذ أن أي انتقاد لانتهاكات حقوق الإنسان فيها يبدو مستحيلا".

هذا لتغليف الأنيق لحملة العلاقات العامة يمنح الإمارات ميزة تنافسية مع السعودية المكبلة بصورتها كدولة متشددة محافظة تحاول التخلص من السجل المتضخم المشوه بشدة لحقوق الإنسان.

تركيا والتوق إلى المجد الإمبراطوري

تتمتع حملة القوة الناعمة الدينية التركية بميزة قومية وهي الشوق إلى المجد الإمبراطوري الماضي. فأعاد أردوغان مسجد آيا صوفيا الذي حوله آتاتورك إلى متحف، وشرع في حملة دعم المساجد والمجتمعات المسلمة التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية. كما يشير إلى نيته استعادة المجد التركي وموقع بلاده كزعيمة للعالم الإسلامي، وكمدافعة عن المسلمين في جميع أنحاء العالم. وجعل لمؤسسة الديانة التركية دورا رئيسيا في السياسة الخارجية والمساعدات ونشر الشكل المعتدل من الإسلام، وزادت ميزانيتها 27 ضعفا أثناء حكمه. وبذلك غرس نسخته من الإسلام السياسي ضمن مكونات مهمة في استراتيجية تركية متعددة الجوانب لتقوية النفوذ عبر التنمية، والمساعدات الإنسانية، ومشروعات البنية التحتية، والاستثمار، وفتح الجامعات.

ليس أردوغان هو أول زعيم تركي يربط الهوية الإسلامية لتركيا بماضيها العثماني. فقد سبقه رئيس الوزراء تورغوت أوزال في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، إذ كان رائدا في الانفتاح على آسيا الوسطى، وتشجيع الاستثمار التركي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

جمعية نهضة العلماء و"الإسلام الإنساني"

إندونيسيا هي المنافس الجديد على القوة الدينية الناعمة، مستفيدة في ذلك بجمعية "نهضة العلماء" وقدرتها على الوصول إلى ممرات السلطة في عواصم العالم، بما في ذلك واشنطن ولندن وبرلين والفاتيكان ودلهي، وما أقامته من علاقات عمل وثيقة مع القاعدة الشعبية المسلمة في مختلف أنحاء العالم، والجماعات اليهودية والمسيحية البارزة. كان هذا الوصول من خلال تبنيها عام 2015 لمفهوم "الإسلام الإنساني"، والذي يقوم على أن هناك إشكالية في المفاهيم الإسلامية فيما يتعلق بالعلاقة مع غير المسلمين، وعلاقة المسلمين بالدولة  والنظام القانوني السائد في الدول التي يقيمون فيها، مما يجعلهم غير قادرين العيش بانسجام وسلام في إطار التعددية الثقافية، والمجتمعات متعددة الأديان في القرن الحادي والعشرين.

كان رئيس وزراء أندونيسيا يأمل في البداية، من خلال تبني "الإسلام الإنساني"، أن تصبح إندونيسيا منارة لتفسير معتدل للدين، فقال في احتفال وضع حجر الأساس للجامعة الإسلامية العالمية في جاوة الغربية: "إنه من الطبيعي والمناسب أن تصبح إندونيسيا المرجع الرسمي الذي يقدم الحضارة الإسلامية".

هناك مخاوف سعودية وإماراتية من أن تظهر إندونيسيا كمنافسة لقوتهما الناعمة الدينية عبر سعي نهضة العلماء إلى دفع مفهوم "الإسلام الإنساني" على مستوى العالم، وأعلى المستويات الحكومية في العواصم الغربية والهند، مدعومة في ذلك برئيس الوزراء الأندونيسي، مما أعطاها قدرة على المنافسة على القوة الناعمة للإسلام مع الإمارات والسعودية اللتين تحظران الأحزاب السياسية، ولا تعملان بالقواعد القائمة بعد الحرب العالمية الثانية: حقوق الإنسان، سيادة القانون، الديمقراطية، واحترام سيادة الدول الأخرى.

تستفيد الجمعية برفض "الوجه العربي للإسلام" الموسوم بالتطرف في الغرب. وهناك بعض العناصر الغربية مهتمة ب "الإسلام الآسيوي"، الذي يبدو لهم أكثر اعتدالا وتسامحا من الإسلام العربي.

بين التجاهل والتنسيق

خلال معظم العقد الماضي، اختارت دول الخليج تجاهل جمعية "نهضة العلماء"، المنافس الأقوى المحتمل لتفسيرهم للدين، ورفض أمين رابطة العالم الإسلامي الالتقاء بهم. لكن في 2018، وتلبية لاقتراح محاور أمريكي، تم اللقاء في مكة بين الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وزعيم جمعية نهضة العلماء.

إندونيسيا هي المنافس الجديد على القوة الدينية الناعمة، مستفيدة في ذلك بجمعية "نهضة العلماء" وقدرتها على الوصول إلى ممرات السلطة في عواصم العالم، بما في ذلك واشنطن ولندن وبرلين والفاتيكان ودلهي، وما أقامته من علاقات عمل وثيقة مع القاعدة الشعبية المسلمة في مختلف أنحاء العالم، والجماعات اليهودية والمسيحية البارزة.لا يمكن للسعودية والإمارات تجاهل الجمعية، فهي أكبر وأقدم جمعية إسلامية رسمية في العالم، عدد أعضائها 90 مليون على مستوى العالم، ولها حزب سياسي ممثل في الحكومة، وسلطة دينية خاصة بها، ووصول إلى أروقة السلطة في العالم، وبنية تحتية تعليمية واسعة النطاق، وميليشيا قوية يبلغ قوامها خمسة ملايين. لذا، قامتا بالتواصل معها في محاولة لاستمالتها، مع  منافستها في الوقت نفسه.

الخلاصة

يرى الكاتب أن المعركة الكبرى على القوة الناعمة للإسلام هي إلى حد كبير معركة حول تعزيز النفوذ العالمي والإقليمي؛ ولا علاقة لها بمفاهيم الإسلام المعتدل على الرغم من ادعاءات مختلف المنافسين، ومعظمها دول استبدادية مع القليل من الاهتمام بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات أو الحريات الأساسية. لكن تأتي إندونيسيا خارج الإطار التقليدي والمحافظ، فجمعية نهضة العلماء، حازت على الاحترام والاعتراف الدوليين باحتضانها "إسلام إنساني" يعالج المفاهيم الإسلامية التي تعتبرها قديمة كالخلافة، بما يشكل تحديا للجهات الفاعلة القوية في "المعركة على روح الإسلام". ولا تزال "نهضة العلماء" تواجه تحدي التغلب على وجهة النظر العربية التي عبر عنها عبد الله الأول ملك الأردن بعد نهاية الخلافة بأنها يجب أن تعود إلى العرب.

يثير المدح المبالغ فيه الذي كاله المؤلف ل"جمعية نهضة العلماء" الكثير من التساؤلات حولها: هل هي كيان مواز في أندونسيا وجنوب شرق آسيا على غرار جمعية فتح الله جولن في تركيا؟ ما هي حدود علاقتها بإسرائيل واليمين الصهيوني فقد زار زعيمها فلسطين المحتلة والتقى بنتنياهو؟ وهل هي محاولة لتدجين الإٍسلام وإخراج نوع منه متوافق مع الغرب قيما وسلوكا، ومنفصل عن قضايا العالم الإسلامي، وفاقد لأسباب المقاومة؟ وهل هي محاولة أيضا لاختراق الجاليات المسلمة بالغرب وإضعاف دورها في نصرة قضايا العالم الإسلامي؟ وهل يكون الإسلام الإنساني الذي تدعو إليه الجمعية مدخلا لشرق أوسط جديد تكون إسرائيل عضوا مقبولا وفاعلا فيه؟ هذا على الرغم من أن القاعدة الأساسية للجمعية مؤيدة لفلسطين مثل باقي الشعب الأندونيسي.

مقالات مشابهة

  • المال بين السلطة والشعب
  • تعود إلى عام 1532.. نسخة نادرة من كتاب لماكيافيلّي إلى المزاد
  • الصراع حول إعادة تعريف ما يمثله الإسلام في عالم القرن 21.. قراءة في كتاب
  • بعد إعصار دانيال: الكشف عن قنوات مائية تاريخية في شحات والعمل جارٍ لترميمها
  • شاهد الشخص الذي قام باحراق “هايبر شملان” ومصيره بعد اكتشافه وخسائر الهايبر التي تجاوزت المليار
  • كم من المال قد توفر إن أصبحت نباتياً؟
  • بيع أغلى عملة أمريكية غير ذهبية بملايين الدولارات.. ما سرها المذهل؟
  • وزير الاستثمار: الحكومة تعمل على إزالة التحديات التي يواجها مجتمع الأعمال
  • في ذكرى وفاتها.. سهير البابلي نجمة الفن التي أضاءت المسرح والشاشة
  • حرب السودان والارتدادات الإقليمية.. روسيا وأبعاد جديدة للنفوذ في القرن الإفريقي