كشف الوزير الأول، أيمن بن عبد الرحمان، عن فتح بنك جزائري جديد بدولة ساحل العاج قبل نهاية سنة 2023.
وذكر بن عبد الرحمان في كلمة القاها على هامش ترأسه رفقة رئيس الحكومة التونسي أشغال افتتاح المنتدى الاقتصادي الجزائري-التونسي، بالهياكل والمنشآت القاعدية الحديثة التي ما فتئت الجزائر تعمل على تطويرها، بشكل ممنهج خدمة للتكامل الاقتصادي مع الدول الافريقية، مشيرا الى أهمية فتح بنوك جزائرية و معارض دائمة بهذه الدول، كشفا عن افتتاح بنك جزائري بكوت ديفوار قريبا، بعد افتتاح بنكين في نواكشط و داكار مؤخرا.
أكد بالمناسبة حرص الحكومة الجزائرية على المضي قدما نحو تجسيد فعلي وميداني للأهداف التنموية والخطة الشاملة التي رسم معالمهما رئيس الجمهورية وفق برنامج اقتصادي واعد وطموح، يصبو إلى النهوض بالصادرات وتنويعها وتعزيز تنافسية المنتوج الوطني في الأسواق الدولية، مرورا باستغلال أفضل لفرص الشراكة مع الدول الشقيقة والصديقة.
المصدر: الخبر
إقرأ أيضاً:
حدود واقعية الائتمانية ومحدودية النقد للفاعل الديني عند طه عبد الرحمن
يصنف كثير من الباحثين كتاب "روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية" للدكتور طه عبد الرحمن ضمن الكتابات العربية التي اضطلعت بنقد جذري لأسس الفلسفة العلمانية، ويعتبرون أن جهد الكتاب انصرف بالأساس إلى مهمتين: النقد والتجاوز، إذ كان هم المؤلف في الأصل أن يؤسس لأطروحته "الائتمانية" على نقيض العلمانية، فلم يكتف بذكر أسس هذه الأطروحة، والأجوبة التي قدمتها سواء لرؤيتها للعالم، أم تفصليها لحقيقة الإنسان ودوره في الوجود، وإنما حاول أن يجيب عن سؤال التحقق في خاتمة الكتاب، وذلك حينما اضطر إلى مساجلة جزء من الباحثين الذين طالما طرحوا سؤال واقعية الأطروحة الائتمانية ومدى قدرتها على الانسحاب على أرض الواقع.
لكن هؤلاء جميعا، سايروا عنوان الكتاب، الذي أظهر التقابل بين الأطروحتين العلمانية والائتمانية، وأوحى بجدل النقد والتجاوز في المنهج المعتمد، ولم ينتبهوا في المقابل لموضوع مهم في متن الكتاب، لم يشر إليه في العنوان، مع أنه كان أيضا موضوع النقد والتجاوز، فالكتاب في جوهره، كما تظهر ذلك مختلف فصوله، يباشر نقدين متوازيين، نقد لأسس العلمانية، ونقد آخر، موجه لأسس أطروحة "الديانية"، والتي رمز فيها طه عبد الرحمان إلى أطروحات الفاعل الديني (الإسلاميون) للعلاقة بين الدين والدولة، وحاول تعديدها إلى ثلاث أطروحات، تنتظمها صيغتان، صيغة التماثل بين الدين والدولة، وصيغة التداخل، قاصدا أن يتناول مختلف الطيف المذهبي الحركي، السني والشيعي.
يحاول هذا المقال، أن يقترب من هذا الموضوع الذي غيبه الباحثون في تعاطيهم مع كتاب "روح الدين"، ويشتبك نقديا مع التأسيسات التي طرحها طه عبد الرحمان بهذا الخصوص، ويضع في الآن ذاته، معارف طه بإزاء أدبيات الإسلاميين بخصوص العلاقة بين الدين والدولة على المحك، على اعتبار أن ممارسة النقد على أطروحة معينة، تقتضي استيعابا واسعا لأدبياتها، وفهما دقيقا للفروق التي تخترقها، فضلا عن قدرة على صياغة النسق التصنيفي الذي ينتظم شكل تعاطيها مع العلاقة بين الدين والدولة.
في سياق تأليف الكتاب
لا شيء في مقدمة الكتاب يوحي بوجود سياق مرتبط بالواقع برر تأليف طه عبد الرحمان لهذا الكتاب، فعادة الرجل أن يشتبك مع الواقع بشكل فلسفي نظري مجرد دون أن يكشف نوع العلاقة معه، لكن، زمن تأليف الكتاب، فضلا عن موضوعاته، يكشف عن هذا السياق، فالتاريخ المثبت في مقدمة الكتاب يشير إلى أجواء الربيع العربي، وخلافات ترتيب الانتقال الديمقراطي في كل من تونس ومصر، والاحتقان الذي ساد بين الإسلاميين والعلمانيين على خلفية صياغة الدستور في هذين البلدين بالإضافة إلى المغرب.
ومن ثمة، يمكن أن تنهض هذه المؤشرات السياقية دليلا على أن كتاب طه عبد الرحمان "روح الدين" لم يكن مجرد نقد نظري للعلمانية وجهد تأسيسي لأطروحته الائتمانية، بل كان في الجوهر اشتباكا مع سياق واقعي، كان محكوما بالصراع بين تيارين رئيسين داخل الأمة حول علاقة الدين بالدولة: العلمانيين والإسلاميين، لاسيما على مستوى صياغة الوثيقة الدستورية، وتأطير دور الدين في الفضاء العام. وما يفسر ذلك، كما سبقت الإشارة، أن الكتاب لم يوجه فقط إلى نقد العلمانية، كما يظهر في عنوانه، وإنما هو أيضا موجه لنقد أطروحة الفاعل الديني، الذي ذكره طه عبد الرحمان بهذا الاسم والتوصيف مترادفا مع توصيف "الدياني" أو "التدبير الديني" أو "التدبير الدعوي".
في نقد الأطروحة العلمانية
يصعب أن نستقصي كل أسس العلمانية التي وجه طه عبد الرحمان نقده لها، لكن في المجمل، يمكن أن نحصر هذه الأسس في الطرح الوجودي للعلمانية، والذي يقوم على مبدأ وجود عالم واحد، هو العالم المحسوس، ثم "تسيد" الإنسان في هذا الموجود المرئي، بما ترمز له على القدرة ليس فقط على إدراك القوانين التي تحكم هذا الوجود المحسوس، بل وأيضا التحكم فيها، وتوجيهها لخدمة الإنسان، وانتقال هذا "التسيد" من إدارة العالم المرئي، إلى محاولة تغييبه، أي إضفاء طابع القداسة (الألوهية) على إنجازات الإنسان.
يصعب أن نستقصي كل أسس العلمانية التي وجه طه عبد الرحمان نقده لها، لكن في المجمل، يمكن أن نحصر هذه الأسس في الطرح الوجودي للعلمانية، والذي يقوم على مبدأ وجود عالم واحد، هو العالم المحسوس، ثم "تسيد" الإنسان في هذا الموجود المرئيفي الفصل الأول، قدم طه عبد الرحمان نقدا تأسيسيا لفكرة وجود عالم واحد هو الوجود المرئي، أتى على جميع مسلماته، محاولا إبطالها واحدة تلو الأخرى، مستندا في ذلك إلى مبدأ اختلاف الجسمية في مبدأ الاتصال بالعالم المرئي، بين مراتب الكثافة والنعومة، مؤكدا بهذا الخصوص، بأن الإنسان، هو ألطف المخلوقات في علاقته بالوجود المرئي، وأنه كلما قلت الكثاف في العلاقة بهذا العالم، صار بالإمكان تصور وجود عالم مقابل لعالم الشهادة (عالم الغيب) تؤكده القدرات والاستعدادات المودعة في كينونة الإنسان، فالعقل، والذاكرة، والشعور، والتخيل، وما تختزنه من طاقات، تنبئ بأن قصر العالم فقط على الوجود المرئي، فيه تجن على فعالية هذه القدرات، ومحاولة تبخيس لوظائفها، وسوء تصنيف لمجال حركتها، كما يؤكد طموح الإنسان لطلب أفضل العوالم، نزوعا لصورة مثالية معيارية تنتمي لعالم آخر غير عالم الشهادة، فيما تعكس الازدواجية في تكوين الإنسان (الروح والجسد) خصوصية الروح في تجاوز العالم المرئي وارتياد مساحات داخل عالم الغيب.
المفهوم المقابل الذي بنى عليه طه عبد الرحمان نقده للرؤية العلمانية الأحادية للعالم، هو مفهوم تعدية الإنسان، بما تتسم به هذه التعدية من انفتاح، وبما تعنيه من تشكل الوجود الإنساني من ازدواجية العالم المرئي والعالم الغيبي، وتفاوت الناس بإزاء هذا التشكل.
في نقده لمفهوم التسيد، أبحر طه عبد الرحمان عميقا في أبعاد هذا التسيد، وقاعدته الفلسفية (سيادة الإنسان واستقلاله بوضع القوانين وتدبير الحياة العامة) والمآلات التي انتهى إليها، والأشكال التي تمظهر عليها هذا المفهوم، لاسيما عند مقاربته لشكل سيادة الإنسان على تدبير الحياة العامة، وكيف تبددت الصورة الوردية عن التمثيلية الشعبية الديمقراطية، لتنتهي في واقع الأمر إلى تسيد الفرد (المستبد) أو تسيد الدولة (الشمولية) أو تسيد المال (سيطرة لوبيات رجال الأعمال على القرار السياسي) أو تسيد الإعلام.
في الواقع، لم يقدم طه عبد الرحمان جديدا كبيرا في هذا الموضوع سوى ما كان من التأسيس النقدي في بعده النظري، أما أشكال "التسيد" وصورها، فقد تواترت الكتابات النقدية بالتدقيق فيها عند نقدها لأعطاب الديمقراطية في التجربة الغربية، وكتب نعوم تشومسكي كتابات كثيرة في تشريح هذه الأعطاب، ليبقى البعد الأهم في نقد طع عبد الرحمان هو البعد النسقي في صياغة مقولات العلمانية وأسسها، والتدليل على فعالية البعد التزكوي في معالجة داء "التسيد" من خلال تفصيل الأسس التصورية والفلسفية التي يقوم عليها، لاسيما مبدأ الأمانة، والحرية والاختيار.
في نقد أطروحات الفاعل الديني
يضع طه عبد الرحمان أطروحة الفاعل الديني في مقابل الأطروحة العلمانية، فإذا كان العلماني، ينطلق من العالم المرئي وينتهي إلى عالم الغيب، من خلال محاولة إضفاء طابع القداسة على إنجازاته في واقع السياسة، فإن الفاعل الديني ينطلق على العكس من ذلك، من واقع الغيب ليصل إلى عالم الشهادة، فهو ينطلق من مبادئه الدينية (مبدأ الفطرة والقدرة على التشهيد، ومبدا التفاضل وكمال التشهيد، ومبدأ التكامل وشمول التشهيد)، ويسعى لكسب رهان تحقيقها على واقع الأرض (الشهادة)، فتكون بذلك أطروحة العلمانية تمارس "التغييب"، في مقال "التشهيد" الذي يمارسه الفاعل الديني.
ينتقد طه عبد الرحمان المقولات الأساسية الثلاث التي انطلق منها الفاعل الديني في تأسيس تصوره للعلاقة بين الدين والدولة (مقولة الإسلام دين ودولة، ومقولة الإسلام دين ودنيا، ومقولة مدنية الدولة في الإسلام) ويعدد ثلاثة نماذج للفاعل الديني في إدارته للعلاقة بين الدين والدولة، تنتظمهم جميعا صيغتان هما التداخل والتماثل، فيتحصل من أطروحة التداخل صيغتان، صيغة يعتبر فيها بعض الفاعلين الدينيين أن "الدين هو جزء من السياسة"، وصيغة مقابلة، يرى فيها فاعلون دينين آخرون أن "السياسة هي جزء من الدين". في النموذج الآخر، أي التماثل، تبرز صيغة أن "الدين هي عين السياسة"، وأن "السياسة هي عين الدين".
ضمن هذين النموذجين (التداخل والتماثل) ناقش طه عبد الرحمان أطروحتين أساسيتين، أطروحة الحاكمية وحاول التمييز بين الحاكمية والآمرين، بالاستناد إلى مفهوم "الشاهدية"، وأطروحة ولاية الفقيه من خلال بيان العلاقة بين الفقه والأخلاق، ونقد مفهوم تفقيه السياسة، ليجمع بذلك في نقده بين فاعلين دينيين مختلفين في مرجعيتها المذهبية: السني والشيعي، أو بالأحرى المدرسة الإخوانية في تشكيلها العام (مفهوم التداخل) وفي تشكيها الخاص القطبي(الحاكمية)، ثم المدرسة الشيعية التي تلتزم كبرى مدارسها بأطروحة ولاية الفقيه في إدارة العلاقة بين الدين والسياسة.
في الواقع، ثمة أهمية كبيرة في تتبع نقد طه عبد الرحمان لمقولات كل أطروحة على حدة ضمن نموذجي التداخل والتماثل، وثمة جهد مهم في استقراء مقولات أطروحة الحاكمية وأطروحة ولاية الفقيه، وثمة إضافة إلى ذلك جهد مواز في نقد مقولات هاتين الأطروحتين، لا يسع المجال كثيرا للتفصيل فيه، لكن، ما يهم في هذا المقال بالأساس، هو التركيز على البعد الفلسفي التأسيسي في هذا النقد، والفروق التي أقامها طه عبد الرحمان بين أسس أطروحة الفاعل الديني وأسس الأطروحة الائتمانية التزكوية، وهل نجح في هذه المهمة أم أنه أبقى على مساحات رمادية كثيرة تفترض التجسير لفهم النموذج الذي يروم طه عبد الرحمان تأسيسه على أنقاض طرحين متقابلين في إدارتهما للعلاقة بين الدين والدولة: الطرح العلماني وطرح الفاعل الديني.
في تنقيبه عن العطب في نظرة الفاعل الديني للعلاقة بين الدين والسياسية (أطروحة التشهيد) توقف طه عبد الرحمان على ثلاثة أسس فلسفية: أولها النسبة أو التملك، وثانيها التحقق، وثالثها التكيف.
يتمثل عطب "النسبة" أو "التملك" في رؤية الفاعل الديني، في تصوره للوظيفية "التشهيدية"، بنقل الغيب إلى واقع الشهادة من خلال تنزيل المبادئ الغيبية على واقع الأرض (الوظيفة الاستخلافية في تصور الفاعل الديني) إذ تحضر في هذه الرؤية نسبة الأعمال إلى الفاعل الديني (مبدأ النسبة).
ويتمثل عطب "التحقق" في رؤية الفاعل الديني، بمراهنته على تحقق مشروعه "التشهيدي" على واقع الأرض، واعتقاده بأن الإنجاز على أرض الواقع مرتبط بكسبه في الواقع.
ويتمثل عطب "التكيف" في رؤية الفاعل الديني، في اضطراره خلال تجربة الاندماج الاجتماعي والسياسي إلى التكيف مع الآليات والتدابير التي أنتجها الطرح العلماني، ومحاولة إضفاء الطابع لديني والشرعي عليها.
ملاحظات نقدية على تعاطي طه عبد الرحمان مع أطروحة الفاعل الديني
لا يسع هذا المقال إلا الإشارة إلى مآخذ مجملة تلخص جوهر الملاحظات التي ستأتي دراسة مفصلة على ذكرها، ولذلك سنقتصر بهذا الخصوص على رؤوس هذه الملاحظات التالية:
المأخذ الأول، ويتعلق بالمصادر المرجعية المعتمدة في استقصاء متن أو أدبيات الفاعل الديني، فالمفترض بالباحث الذي يستقضي النماذج الممثلة للطيف الديني في تعاطيه مع موضوع علاقة الدين بالدولة، أن يستقصي مختلف ألأدبيات التي تعبر عن تشكيلاته الأساسية، في حين تظهر لائحة المراجع التي اعتمدها طه عبد الرحمان قصورا كبيرا على مستوى هذه المهمة الاستقصائية، إذ اكتفى ضمن الطيف السني على الإفادة من بعض كتابات الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ محمد الغزالي، ومحمد عمارة. ومع أهمية هذه المراجع، خاصة كتابات القرضاوي ومحمد عمارة التي خصصت حيزا مهما للمساجلة مع العلمانيين، ضمن كتب مستقلة، فإن هذه الكتابات لا تمثل إلا مقاربة واحدة ضمن مقاربات الفاعل الديني، أو هي بالأحرى تعكس التيار الديني ألأكبر في العالم العربي والذي يرمز إليه بالتيار أو الوسطي، في حين، بقيت مقاربات عدة، خارج التغطية المرجعية، علما أنها تمثل وجهة نظر مختلفة عما قدمته أدبيات التيار الإخواني.
في الطرح الصوفي الذي ينتظم فيه الدكتور طه عبد الرحمان، هناك تجربة الشيخ، أو تجربة الزاوية التي كان لها أدوار سياسية، أحيانا إصلاحية، وأحيانا أخرى ثورية، وأحيانا كثيرة محافظة وتقليدية، لكن، في "روح الدين" ليس هناك أي صورة لهذا المقترحالمأخذ الثاني: وقد ترتب عن ضعف الاستقصاء أثر كبير على مستوى التصنيف، إذ جمعت مقاربات الفاعل الديني ضمن أطروحة الوصل: وصل الدين بالسياسة (التداخل أو التماثل)، في مقابل أطروحة الفصل العلمانية (فصل الدين عن الدولة) وتم إهمال مقاربة أخرى مهمة نضجت لدى طيف من الفاعل الديني، تقترح صيغة التمييز بين وظائف الدين ووظائف السياسة، وهي الأطروحة التي تبلورت بشكل أكثر نضجا مع تداعيات الربيع العربي، واضحت تعتبر مقولة أن السياسة هي جزء من الدين، أو مقولة أن من مهام الدعوة الاشتغال بالسياسة وتأطيرها وترشيدها، مقولات الفترة التأسيسية أو التبشيرية، فيما أضحت مقولة التمييز بين الوظائف والأدوات والخطاب هي المقولة المركزية التي أطرت أدبيات جزء مهم من أطياف الفاعل الديني.
المأخذ الثالث: وتتعلق بوظيفة التشهيد، والنقد الموجه للفاعل الديني بإزائها، إذ اعتبر طه عبد الرحمان مفاهيم الاستخلاف في الأرض أو عمارة الأرض التي اشتغل الفاعل الديني على مد مفاهيمها إلى عالم السياسة، أنها ساهمت في تثبيت مبدا النسبة والتحقق في سلوك الفاعل الديني، وأنه أضحى يراهن على تحويل مبادئه الغيبية إلى كسب سياسي وتحقق واقعي يبرهن من خلاله على صدق مرجعيته، وصوابية اختياره، والجدوى من انتظامه فيه، في حين جعل من خواص المقاربة الائتمانية، الانطلاق من مفهوم الأمانة بأبعاده المبدئية الثلاثة (الاختيار، الحرية، المسؤولية) بما يعنيه ذلك من أداء الواجب، دون انتظار التحققات، لأن ترتيب ذلك يعتبر من خواص الألوهية.
واضح من هذا النقد أنه نقد جزئي، ولا يمتلك صفة التعدية، فأدبيات الفاعل الديني، وبالأخص، التيار الوسطي الذي استقرأ جزءا من نصوصه، لا تساير هذا الطرح، فلا الشيخ يوسف القرضاوي، ولا الغزالي، ولا حتى سيد قطب، يدعمون فكرة النسبة والتحقق، التي انتقدها طه عبد الرحمان، بل أدبيات هؤلاء وغيرهم خصوصا منها التربوية، تؤكد على مفهوم بذل الأسباب، وترك النتائج لرب الأسباب، ونصوص في ظلال القرآن كلها خاصة تلك المتعلقة بتفسير معارك بدر وأحد وغيرها، تؤكد على هذه المعاني، التي نسبها طه عبد الرحمان للأطروحة الائتمانية وسحبها عن أطروحة الفاعل الديني.
قد يكون قصد طه عبد الرحمان من هذا النقد الإحالة إلى الفعل السياسي للفاعل الديني، لا مرجعياته وأدبياته، وذلك من قبيل ما حصل من التماهي مع سلوك غيرهم في التنافس على المنجز وعلاقة المرجعية به، وهو التقابل الذي حصل حتى في تجربة الصحابة الكرام، حينما كانوا يعرضون كسب الكفار ومصيرهم في مقابل كسبهم مصيرهم، بل عن النص الديني الذي يعتمد مرجعية طه عبد الرحمان في التأصيل للطرح الائتماني، يقوم على فكرة التقابل بين كسب أهل الإيمان وكسب أهل الكفر، بل كسب أهل الطاعة في مقابل كسب أهل المعصية، بما في ذلك آثار تتعلق بالدنيا والمعاش.
فالحاصل أنه لا مرجعية الفاعل الديني وأدبياته، تثبت مبدأ النسبة والتحقق للذات، ولا سلوكه داخل الحقل السياسي تنسبه للذات، وأقصى ما في الأمر أن الفاعل الديني يربط التحقق أو المنجز بالمرجعية أو المبادئ الغيبية التي يؤمن بها، وهو أمر مسوغ بمقتضى النص الشرعي الذي يؤسس بناء عليه أطروحته الإئتمانية.
المأخذ الرابع: ويتعلق بحدود التباين بين أطروحة الفاعل الديني والأطروحة الائتمانية التي خصها طه عبد الرحمان بالتأصيل باعتبارها أطروحة نقدية تجاوزية، فكل الجهد الذي بذله في التأسيس لمقولات الأطروحة الائتمانية بالارتكاز على مفهوم الأمانة، وابعادها المبدئية الثلاثة (الاختيار والحرية والمسؤولية) هي قضايا مسبوق إليها في كتابات الفاعل الديني، وليس ثمة أدنى إضافة كبيرة بهذا الخصوص إلا ما كان من جهد الصياغة والتركيب، وبالناء النسقي المنطقي. ولذلك، لم أفهم كيف يتم بناء نسق على أنقاض نسق آخر، دون أن يتم توضيح أشكال "الاحتواء"، أي عملية أصحاب ما هو صالح في الأطروحات المتجاوزة، مع الإشارة لذلك، لا توصيفها باعتبارها أمور جديدة، لم تكن واردة في السابق.
المأخذ الخامس: ويتعلق بمنهجية التغيير، إذ ينتقد طه عبد الرحمان منهجين التزم بهما الفاعل الديني، هما منهج الاحتجاج في صوره المختلفة (الثورة، والتمر والانقلاب) ومنهج الانتخاب (التغيير من خلال لآلية الانتخابية) ويعتبر أنه كليهما يزكي منطق التسيد، بتغيير تسيد بمثله سواء بأداة القوة والتخويف (بالسلطان) أو الانتخاب (بالبرهان)، ويقترح منهجا آخر، سماه بمنهج الزعج والإزعاج، والذي يقوم أساسا على الفعل التزكوي وصناعة الإنسان من وحيه، دون أن يبين الكيفية الي تتم بها هذه الصناعة، ولا الجسر العابر بين تغيير داخل الإنسان وتغيير الواقع السياسي.
في الواقع، ليست هناك صورة واقعية ولا متخيلة عن منهجه المقترح، إذ يمكن أن نتصور دولة يجري داخلها التغيير من خلال العملية السياسية الانتخابية، ويمكن أن نتصور تغييرا بالانقلاب أو الثورة أو التمرد، لكننا ابدا لا نملك تصورا عن إمكانية تغيير يمس بنيات الدولة، من خلال تغيير داخل الإنسان، من غير أن تتبين صورة هذا التغيير وكيفياته، والعنصر الموجه فيه، والأداة التي تديره.
في الطرح الصوفي الذي ينتظم فيه الدكتور طه عبد الرحمان، هناك تجربة الشيخ، أو تجربة الزاوية التي كان لها أدوار سياسية، أحيانا إصلاحية، وأحيانا أخرى ثورية، وأحيانا كثيرة محافظة وتقليدية، لكن، في "روح الدين" ليس هناك أي صورة لهذا المقترح، ولا كيف نستبدل المناهج الثورة والإصلاحية (المراهنة على العملية السياسية السلمية من خلال الانتخاب) بمنهاج يراهن على الفعل التزكوي، دون أن نتعرف على قضية القيادة في سواء في بعدها الروحي أو السياسي.
المأخذ السادس: ومع أن الدكتور طه عبد الرحمان اجتهد في خاتمة كتابه أن يبعد طابع الوهم عن أطروحته الائتمانية، ويبين واقعيتها وإمكان تحققها، إلا أن سؤال القيادة، وسؤال منهج صناعة الإنسان، والمنهاج التربوي التغيير، وغيرها من الأسئلة المتعلقة بتنهيج الفعل التغييري لم يقدم بشأنها طه عبد الرحمان أي سؤال، وهو ما يبقي غموضا كثيفا حول إمكان تحقق المقاربة الائتمانية في صورة حركة تغيير شاملة، تنطلق من الدين، وتمس الدولة وبيناتها، ومختلف السياسات العمومية.