«مهندس معماري ناجح ومشهور، سَئِم من إنجازاته المهنية، ولم يعد يرى المعنى والغاية من عمله بالهندسة أو في الحياة، قرر أن يسافر في رحلة طويلة للاستشفاء، غادر بريطانيا قاصدا مستعمرة الجذام في الكونغو التي يشرف عليها المبشرون الكاثوليك، بدأ حياته الجديدة دون الكشف عن هويته الحقيقية، بدا عليه اليأس والملل، وشخَّصه الطبيب المقيم على أن المعادل العقلي لـما يمر به هو «حالة احتراق»، وهو نوع من الإنهاك العقلي، والعصبي، والنفسي، وأنه لا يختلف كثيرا عن حالة المجذومين الذين يمرون بمختلف مراحل التشويه الجسدي، حيث إن هذا المهندس قد بُتر شغفه مثلما تسقط أطراف المصابين بالجذام، وتنتظرهم حياة مليئة باللامبالاة المرهقة، مع الوقت وجد المهندس الغاية من مهنته، فقرر بناء مشفى مجهز لضحايا الجذام، ودون أن يشعر أغرق نفسه مرة أخرى في العمل لأجل المرضى، وبدأت حالة الاحتراق في الاقتراب ببطء من العلاج».
هذا جزء من رواية «حالة احتراق» للكاتب البريطاني جراهام جرين التي نشرت في عام 1960م، وإن كان للكاتب مقاصد روائية أخرى في القصة، إلا أنها تُعد من المرات الأولى التي يذكر فيها «الاحتراق المهني» في الأعمال الأدبية، ونجحت الرواية في تصوير حالة إنسانية من الإرهاق المتجذر في الظروف الثقافية، وقناعات الحياة المهنية، وإن شاع الحديث عن الاحتراق منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنه تاريخيا يمتد إلى قرون طويلة من وجود الإنسان على الأرض، وقد دُوّن ما أطلق عليه «حالة الضجر العالمي» في العديد من المراجع، والكتب القديمة، ولعل أشهر حالات الضجر في التاريخ الحديث هو ما خيَّم على البشرية أثناء جائحة كورونا كوفيد -19 وبعدها، والسؤال هنا: إذا كان الاحتراق الوظيفي يُعد مرضًا مستوطنًا في وتيرة الحياة العصرية وضغوطها، فماذا وضعت البشرية في المقابل من تدابير واستراتيجيات لمواجهة هذا الزحف الواسع لأحد أهم سمات الحياة المهنية التي نشهدها اليوم مع ثورة التقنيات، والتكنولوجيا الرقمية؟ دعونا في البداية نقترب أكثر إلى الظاهرة، نجد أن طبيعة العمل لها دور كبير في دعم نشوء الاحتراق، إذ تنتشر ثقافة الإرهاق المزمن في العديد من المهن، وعلى رأسها الأعمال المصرفية، والوظائف المرتبطة بالشؤون المالية، تليها وظائف القانون، والإعلام، والصحة، والتعليم، وأخيرا المهن المتعلقة بالخدمات العامة، مما يعني بأن هناك مهنا ذات طبيعة «مفرطة في التحفيز»، وهذا ما أظهرته نتائج دراسة مشهورة أجرتها جامعة جنوب كاليفورنيا عام 2012م، وقامت بتتبع عينة من (24) مصرفيا مبتدئا خلال عقد من الزمن، أكدت المخرجات بأن موظفا واحدا من هذه العينة قد أصيب بمرض عضوي مرتبط بالتوتر والإرهاق الناجم عن ضغوطات وأعباء الأعمال المالية، وإن كان حجم عينة الدراسة صغيرا إلا أن هذه الدراسة استمرت لفترة زمنية مقبولة وكافية لإظهار الأثر، وألهمت هذه الدراسة المجتمع البحثي والعلمي بسبر أغوار حالة الاحتراق، ومدى انتشارها حسب طبيعة المهن والوظائف، وأجرت شركة الإي فيننشال كارييرز (e-Financial Careers) في عام 2014 دراسة مسحية استطلاعية شملت مجتمعا دراسيا مكونا من (9.000) موظف مالي في أنشط مراكز الأنشطة المالية والمصرفية لمدن منتقاة حول العالم، بما في ذلك هونج كونج، ولندن، ونيويورك، وفرانكفورت، وأظهرت نتائج المسوحات أن المصرفيين يعملون عادةً ما بين (80) إلى (120) ساعة أسبوعيًا حسب متطلبات العمل، وأن غالبيتهم قد مروا بتجربة الاحتراق في لحظة ما، ويشعرون بالإرهاق «جزئيًا» على فترات متباعدة، في حين وصف ما يتراوح بين (10%) و (20%) من المشاركين حالتهم الصحية، والمهنية بأنهم «منهكون تماما»، في المقابل نجد أن جائحة كوفيد-19 أدت إلى زيادة مستويات الاحتراق الوظيفي بين العاملين في مجال الرعاية الصحية، مقارنة بالعاملين في الصناعات الأخرى، وشهد القطاع أعلى مستوى دوران وظيفي تاريخيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
من الناحية النظرية، فإن فرص الاحتراق تتزايد مع تغلغل العمل أكثر فأكثر في تفاصيل حياتنا اليومية، فرسائل البريد الإلكتروني تصلنا على هواتفنا المحمولة أينما كنا، وجداول الأعمال، والاستفسارات يتم مشاركتها ومناقشتها في مجموعات تطبيقات الدردشة الاجتماعية، ناهيك عن نزول وابل التنبيهات على الهواتف، والأجهزة اللوحية بالمطالب المجتمعية مثل المتابعة، ووضع الإعجاب، وإعادة النشر، والتحميل، ولذلك فإن محاولات التعافي المفترضة بالطرق التقليدية مثل ممارسة رياضة المشي، أو قضاء إجازة قصيرة غالبا ما تُحبط بسبب ذلك الشعور المزعج بكونك «ملاحقا» من قبل متطلبات الوظيفة، وهنا تنشأ معضلة الاحتراق؛ وهي إما أن يستمر الموظف في تلقي جرعة القلق والتوتر من رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية والصوتية المتعلقة بالعمل وهو بعيد جغرافيا عن المكتب، أو أن يتخذ قرارا حاسما في إغلاق قنوات التواصل، ويتعرض حينها لقلق لا يتزعزع بشأن كمية الأعمال التي تنظره حين يعود للمكتب، أي بعبارة أدق: نجح الموظف في الوقوع سريعًا فريسة فيروس الاحتراق الذي حاول في الأساس الابتعاد عن المكتب لمكافحته، إذن ما الحل على ضوء التغييرات المتلاحقة في سوق العمل، ونشوء الوظائف التي يمكن إنجازها عن بعد، ودخول العمل إلى المنزل من بعد تجربة إغلاقات الوباء؟ تعالوا أولا نفكر بوعي وتركيز في تعريف الاحتراق الوظيفي من الناحية العلمية، والفلسفية، لكي لا يلتبس المفهوم مع الإرهاق العرضي، إذ تشير الأدبيات إلى أنه متلازمة صحية ناتجة عن الإجهاد المزمن في مكان العمل، والتي لم تُدار بالشكل المطلوب، وهي تمس ثلاثة أبعاد أساسية؛ أولا الأعراض البدنية المرتبطة باستنزاف الطاقة، والإرهاق الجسدي، وثانيا زيادة المسافة العقلية بين المصاب بالاحتراق الوظيفي وعمله، وثالثا انخفاض الكفاءة في السياق المهني، وضُمّن الاحتراق أيضًا في الإصدار الحادي عشر من التصنيف الدولي للأمراض، وذلك كظاهرة مهنية، ولا تُصنّف كحالة طبية إكلينيكية، وتوشك منظمة الصحة العالمية على الشروع في وضع مبادئ توجيهية قائمة على الأدلة بشأن الصحة العقلية، والرفاهية في محيط العمل كمتطلب أساسي للحياة الصحية المتوازنة.
وتُعد الثقافة المحيطة من أهم محفزات الاحتراق الوظيفي، فالمصاب بهذه الحالة هو نتاج القلق من التقييم الخارجي، فهو غالبا يرى ويحكم على نفسه من منظور ثقافة تنظر بازدراء إلى أي شيء ينم عن التقاعس عن تحقيق السمعة المهنية اللامعة، وبذلك فهو يُخضع نفسه للتدقيق الذاتي المستمر فيما إذا كان منتجًا بدرجة كافية ومقبولة، وهنا يكمن المأزق الأساسي لضحايا الاحتراق الوظيفي، وهو الشعور بالإرهاق المصحوب بإكراه عصبي للاستمرار والإنتاج، فقد صار العالم قرية صغيرة، ويعيش جميع البشر في ظل سهولة الاتصالات في «مجتمع عالي الأداء»، وبذلك فإن مشاعر عدم الكفاءة هي أساس الصراع الذاتي المؤدي لحالة النشاط بشكل قهري، إلى الحد الذي يكون فيه تخصيص وقت الراحة يعادل في أذهانهم «إضاعة الوقت»، وهذا ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي آلان إهرنبرغ في كتابه «ضجر الذات» الذي نشر في عام 1998م، وأحدث نقلة نوعية في فهم الاحتراق الوظيفي كأحد أنماط الاكتئاب الحديث، حيث أشار إلى أنه في ظل المجتمع المهني العصري الذي ظهر منذ ستينيات القرن العشرين، يتشكل الصراع من الشعور الذاتي بالذنب الذي يرافق عدم تحقيق الطموحات المهنية، إذ تؤدي قيم ومعايير «مجتمع الإنجاز» دورا كبيرا في تكوين الذات، مما أسهم في طمس الفهم الفعلي للدافع الحقيقي للعمل الذي يجب أن يكون تحت شعار «ما أستطيع إنجازه» وليس «ما يجب تحقيقه».
إن الاحتراق الوظيفي ليس مؤشرا للعمل الجاد الدؤوب، وليس وشاح التفوق المهني، ويجب على المؤسسات تفادي تمجيد هذا النمط غير المتوازن، فهي في أبسط معانيها نداء الجسد والعقل من أجل حاجة إنسانية أساسية، وهي توفير مساحة الهدوء بعيدا عن أجواء العمل المتطلبة، ولكن مع الإدراك الكامل بأنه في حين أن اللجوء إلى الراحة، والاسترخاء، والتجديد يمكن أن يخفف من الاحتراق الوظيفي، ويحد من الإرهاق، ويعزز الكفاءة والإنتاجية، إلا أنه لا يعالج بشكل كامل الأسباب الجذرية للاستنزاف المؤدي للاحتراق، لا بد من وضع المعالجات الشاملة بجدولة أعباء ومهام العمل، ورسم حدود واقعية لتوقعات الإنجاز، وكذلك للطموحات المهنية الشخصية، ويجب إلقاء نظرة فاحصة على طريقة إدارة المهام داخل فرق العمل، والتقسيمات الإدارية للبحث عن مفتاح إيقاف حلقة العمل اللامتناهي، وتطوير استراتيجيات وقائية لمواجهة مختلف أنماط الإرهاق والاحتراق، وذلك بتوجيه الموظفين نحو المهام المرتبطة بأهداف استراتيجية تحفزهم على رؤية تأثيرهم على الصورة الكبيرة، وخلق الشغف لديهم، مع تنمية قدراتهم على إدارة الوقت، وضغوطات العمل، وكذلك وضع أولويات الرعاية الذاتية، لخلق بيئات عمل متوازنة، وداعمة للتعافي من الاحتراق الوظيفي من جهة، ومن جهة أخرى، بناء خريطة الطريق نحو الوقاية، والتعلم من التجارب السابقة كنقطة التحول إلى رحلة مهنية أكثر استدامة، وإنتاجية، وسعادة وصحة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاحتراق الوظیفی إلا أن
إقرأ أيضاً:
لماذا لا يستطيع اليسار الوظيفي أن يكون ديمقراطيا؟
إن الحديث عن يسار وظيفي (وهو يسار متشكل من كيانات ماركسية وقومية ناصرية وبعثية) يعني منطقيا وجود يسار غير وظيفي، أي وجود يسار قد نختلف في توصيفه؛ فهو عند البعض يسار وطني وعند آخرين يسار ثوري أو يسار جديد، ولكننا لن نختلف في أنه لن يكون متذيلا للمنظومة الحاكمة ولا خادما لها بالمعنى التقليدي الذي تحدث عنه بول نيزان (كلاب الحراسة الذين كانوا يتشكلون زمن نشر الكتاب -سنة 1932- من الفلاسفة والمنظرين والمثقفين)، وبالمعنى الذي وضعه من بعده سيرج حليمي (كلاب الحراسة الجدد الذين يتشكلون من الإعلاميين والصحفيين والخبراء والمحللين).
فحراسة النظام والتقاطع الاستراتيجي مع نواته الصلبة ومع الخيارات التأسيسية للدولة-الأمة، ولو رافق ذلك أحيانا اتخاذ مسافة نقدية من الواجهة السياسية لمنظومة الاستعمار الداخلي أو التحرك ضدها في بعض القضايا الخلافية، تجعل من اليساري وظيفيا بالضرورة، أي فاعلا جماعيا يحدد مواقفه واقعيا ويتحرك في مختلف القطاعات -مهما كانت دعاويه نظريا- لخدمة تلك المنظومة ومنع أي مشروع ثوري/إصلاحي قد يُعرّض مصالحها المادية والرمزية لأي خطر وجودي. وهو أمر أكدته الثورات العربية بما فيها الثورة التونسية.
الديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي
ليس الهدف من هذا المقال شيطنة اليسار أو بطر حقه باعتباره حاملا لمشروع ثوري أساسه العدالة الاجتماعية وعنوانه الأكبر التحرر الوطني، وليس هدفنا أيضا أن نختزل اليسار في البعد "الوظيفي" الغالب على مكوناته وترذيل تلك الأصوات الفردية التي تتحرك ضد الاتجاه العام للفكر اليساري "المُتَونس" على أعين اليمين، ولكن هدفنا هو طرح بعض الأسئلة مشفوعة ببعض النقاط التي قد تصلح لتعميق النقاش العمومي فيها: لماذا تحوّلت أغلب مكونات اليسار إلى أجزاء وظيفية في منظومة الاستعمار غير المباشر/ منظومة الاستعمار الداخلي منذ عهد المخلوع واستمرت كذلك حتى بعد "الثورة"؟ لماذا ارتضت أغلب مكونات اليسار أن تكون "وكيلا مؤقتا" للمنظومة السابقة خلال المرحلة التأسيسية وطيلة ما يسمى بـ"عشرية الانتقال الديمقراطي" المجهضة؟ ما الذي دفع أغلب مكونات اليسار إلى إنضاج الشروط الفكرية والموضوعية لإنهاء "الفسحة الديمقراطية" والانقلاب عليها؟ ولماذا ساندوا "تصحيح المسار" رغم أنه ينهي الحاجة إلى "الديمقراطية التمثيلية" وإلى أجسامها الوسيطة في كل المجالات؟ هل يمكن لاستصحاب ثنائية التناقض الرئيس والتناقض الثانوي أن ينتج حقلا سياسيا طبيعيا يمكّن اليسار وغيره من الانعتاق -ولو بعد حين- من هيمنة النواة الصلبة لمنظومة الحكم بصرف النظر عن واجهتها السياسية؟
رغم دوران تعبير "الجمهورية الثانية" على ألسنة بعض النخب بعد الثورة، فإن مصيرها لم يختلف عن مصير الشخصية السياسية المعارضة التي ارتبطت بها، أي المرحوم طارق المكي؛ زعيم "حركة الجمهوية الثانية". فهذه الشخصية المعارضة لم تستطع أن تتموقع في الحقل السياسي الجديد، وكان مصيرها التهميش حتى بعد وفاتها. فقد غابت عن جنازته -بعد وفاته بـ"سكتة قلبية"- كل الوجوه السياسية والحقوقية والنقابية المعروفة، ولكنّ أغلب تلك الوجوه حضرت "جنازة" الجمهورية الثانية بإجماعها على إدارة الثورة بمنطق "استمرارية الدولة"، وهو منطق جعل الخروج من "الجمهورية الأولى" بلحظتيها الدستورية والتجمعية ضربا من أحلام اليقظة التي تشرعن نفسها وتتلبس بلبوس الحقيقة عبر شعار "الاستثناء التونسي".
ورغم أن اليسار الوظيفي لم يكن هو الطرف الأوحد الذي "طبّع" مع المنظومة القديمة ومع رموزها تحت غطاء "استمرارية الدولة"، فإن هذه المقولة كانت تسمح له بتحقيق مكسبين: أولا، منع أي إعادة تفاوض جذري على "المشترك الوطني"،أي الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة، وجعل تلك الأساطير خارج النقاش العمومي ورفعها إلى مستوى "المقدس الوطني" الذي يُخون كل مُطالبٍ بمراجعته؛ ثانيا، فتح مجال أمام ورثة المنظومة القديمة -باعتبارهم جزءا من "العائلة الديمقراطية- لتقلد أهم مناصب الدولة في المرحلة التأسيسية، وذلك لمواجهة مشروع "أسلمة الدولة" الحقيقي أو المتخيل، وللاستقواء بهم ضد "العدو الوجودي" المتمثل في حركة النهضة ومجمل حركات الإسلام السياسي.
مهما كانت الأسباب التي دفعت بحركة النهضة إلى القبول بمنطق "استمرارية الدولة" -أي إدارة المرحلة التأسيسية بالرأسمال البشري التابع للمنظومة القديمة- فإنها قد حددت مسارها ووضعها الحالي منذ تلك البداية "التوافقية". ونحن هنا نتحدث عن خيار "استمرارية الدولة" باعتباره أصل كل سياسات التوافق اللاحقة، وذلك على الضد من كل الأطروحات التي تؤرخ للتوافق بالتحالف البراغماتي بين حركة نداء تونس وحركة النهضة بعد انتخابات 2014. فتوافق باريس بين "الشيخين" هو مجرد لحظة من لحظات إعادة التوازن للخيار التأسيسي: قبول النهضة بأن تتحول هي الأخرى إلى جسم وظيفي في خدمة منظومة الاستعمار الداخلي، أي تحولها إلى جناح "محافظ" داخل تلك المنظومة بمنطق "الشريك"، والتخلي عن أي مشروع لهدم تلك المنظومة وإعادة بنائها بمنطق "البديل". وهكذا تحولت النهضة -بصرف النظر عن نواياها وتقديراتها السياسية تكتيكيا واستراتيجيا- إلى "وطد متدين"، أي إلى يمين وظيفي يعد بأن يقدم للمنظومة ما قدمه لها اليسار الوظيفي، خاصة الوطد" من موقع مختلف أساسه "القوة الشعبية" التي ترفد/تتجاوز القوة النوعية لليسار الوظيفي. ولكن هل يجعل هذا الخيار من حركة النهضة "عائقا" من عوائق بناء الجمهورية الثانية كما هو شأن اليسار الوظيفي؟
إن الإجابة الأقرب إلى الموضوعية عن هذا السؤال هي النفي. فالاختلاف الجذري بين النهضة "الوظيفية" واليسار الوظيفي ليس في الدور الذي يلعبانه الآن-وهنا في خدمة النواة الصلبة للمنظومة القديمة، بل في الدور الذي يمكن أن يلعبه وجودهما في المستوى الاستراتيجي. ذلك أن وجود النهضة في الحقل السياسي القانوني يكسر التجانس القسري الذي فرضته منظومة الاستعمار الداخلي بين المكونات المعترف بها داخل السلطة وداخل المعارضة القانونية زمن المخلوع. كما أنه يخلخل احتكار النخب "اللائكية" بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية للفضاء العمومي، وهو -فضلا عن ذلك- يدفع إلى إعادة التفكير في معنى "العائلة الديمقراطية" بعيدا عن ادعاءاتها الذاتية. فوجود حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية -حتى وإن كان هذا التعريف مجرد معطى نظري لا محصول تحته- يعيد هندسة الفضاء العام، ويعمل بمنطق التراكم على استئناف التفكير في معنى "المشترك الوطني" وفي سياسات التحديث الفوقي وفي منطق "التنوير" وفلسفته السياسية الكامنة. وهي معطيات يمكن في المستوى "الاستراتيجي" أن تخلخل الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة وأن تنتج الشروط الفكرية والموضوعية للتفكير "معا"، بعيدا عن إملاءات منظومة الاستعمار الداخلي وعن أدوار "الوكالة" التي ارتضى بها كل الوظيفيين يمينا ويسارا بعد الثورة.
إذا ما أردنا صياغة ما تقدم بصورة أكثر وضوحا فإننا سنقول بأن اليسار الوظيفي هو جوهريا ضد بناء الجمهورية الثانية، على خلاف النهضة التي تضادد تلك الجمهورية "سياقيا" أو نتيجة تقديرات سياسية خاطئة. فالديمقراطية لا تتعارض مع مصلحة النهضة، بل إن ما يتعارض مع مصلحتها هو الانقلاب عليها واختزالها في مقاربة أمنية قضائية، أما اليسار الوظيفي فإن الديمقراطية تجعله يواجه حقيقته: قوة نوعية "برجوازية" بلا أي عمق شعبي. ولذلك لا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي وراء كل الدعوات الانقلابية منذ المرحلة التأسيسية، الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسارولا غرابة في أن يكون اليسار الوظيفي ذاته خادما لممثلي المنظومة القديمة في حركة نداء تونس وغيرها (وما الانتخاب المفيد للمرحوم الباجي قائد السبسي وشيطنة الرئيس منصف المروزقي ببعيد)، ولا غرابة أخيرا في أن يكون اليسار الوظيفي -بشقيه القومي والماركسي- هو من عفّن "الفسحة الديمقراطية" وأوجد الشروط الفكرية والموضوعية لـ"تصحيح المسار"؛ باعتباره نفيا للديمقراطية التمثيلية وعودة لما تسميه حنا أرنت بـ"الوحش البيروقراطي المسلّح"، ذلك الوحش الذي يلغي الحاجة لأنصاره "النقديين" قبل خصومه الراديكاليين.
ختاما، فإن الحديث عن يسار وظيفي هو في الحقيقة حديث عن الذراع الأيديولوجية للمنظومة القديمة قبل الثورة وبعدها، وهو أمر يؤكده استقراء مسار الانتقال الديمقراطي وما سبقه زمن المخلوع. فاليسار غير الوظيفي كان دائما مجرد هامش يمكن اختزاله في بعض الشخصيات الاعتبارية غير المتحزبة، أو بعض الكيانات الحزبية الهامشية وغير المتماهية مع "الخط العام" لليسار في المجتمع المدني وفي المركزية النقابية وفي "الخطوط التحريرية" الغالبة على الإعلام العمومي والخاص. أما "النهضة الوظيفية" فإنها تجربة تؤكد الحاجة إلى إدارة ملف التوافق بعيدا عن الانتهازية والحسابات الضيقة، ولكنها تجربة لا تلغي الحاجة إلى الأجسام السياسية المحافظة باعتبارها ممثلا لشرائح واسعة من المواطنين الذين لا يجدون أنفسهم في أطروحات اليسار، ولا في البورقيبية أو الأجسام التجمعية الجديدة.
ولا شك عندنا في أن ما تقدم يجعلنا أمام مسألة التمثيلية أو مصادر الشرعية وعلاقتها بالرأي العام، وهي مسألة ما زال اليسار الوظيفي يصر على إدارتها بالاستقواء بالدولة العميقة بعيدا عن أي حراك مجتمعي عفوي لا تحكمه "القوة النوعية" أو "القوة العارية" ومراكز النفوذ الداخلي والخارجي. ولا شك عندنا في أن هذا الوعي السياسي يجعل من الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع مجرد فاصلة في "الجمهورية الأولى"، بصرف النظر عن واجهاتها السياسية وعن السرديات السياسية الموظفة لحماية نواتها الصلبة وما يدور في فلكها من شبكات زبونية.
x.com/adel_arabi21