«مهندس معماري ناجح ومشهور، سَئِم من إنجازاته المهنية، ولم يعد يرى المعنى والغاية من عمله بالهندسة أو في الحياة، قرر أن يسافر في رحلة طويلة للاستشفاء، غادر بريطانيا قاصدا مستعمرة الجذام في الكونغو التي يشرف عليها المبشرون الكاثوليك، بدأ حياته الجديدة دون الكشف عن هويته الحقيقية، بدا عليه اليأس والملل، وشخَّصه الطبيب المقيم على أن المعادل العقلي لـما يمر به هو «حالة احتراق»، وهو نوع من الإنهاك العقلي، والعصبي، والنفسي، وأنه لا يختلف كثيرا عن حالة المجذومين الذين يمرون بمختلف مراحل التشويه الجسدي، حيث إن هذا المهندس قد بُتر شغفه مثلما تسقط أطراف المصابين بالجذام، وتنتظرهم حياة مليئة باللامبالاة المرهقة، مع الوقت وجد المهندس الغاية من مهنته، فقرر بناء مشفى مجهز لضحايا الجذام، ودون أن يشعر أغرق نفسه مرة أخرى في العمل لأجل المرضى، وبدأت حالة الاحتراق في الاقتراب ببطء من العلاج».
هذا جزء من رواية «حالة احتراق» للكاتب البريطاني جراهام جرين التي نشرت في عام 1960م، وإن كان للكاتب مقاصد روائية أخرى في القصة، إلا أنها تُعد من المرات الأولى التي يذكر فيها «الاحتراق المهني» في الأعمال الأدبية، ونجحت الرواية في تصوير حالة إنسانية من الإرهاق المتجذر في الظروف الثقافية، وقناعات الحياة المهنية، وإن شاع الحديث عن الاحتراق منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، إلا أنه تاريخيا يمتد إلى قرون طويلة من وجود الإنسان على الأرض، وقد دُوّن ما أطلق عليه «حالة الضجر العالمي» في العديد من المراجع، والكتب القديمة، ولعل أشهر حالات الضجر في التاريخ الحديث هو ما خيَّم على البشرية أثناء جائحة كورونا كوفيد -19 وبعدها، والسؤال هنا: إذا كان الاحتراق الوظيفي يُعد مرضًا مستوطنًا في وتيرة الحياة العصرية وضغوطها، فماذا وضعت البشرية في المقابل من تدابير واستراتيجيات لمواجهة هذا الزحف الواسع لأحد أهم سمات الحياة المهنية التي نشهدها اليوم مع ثورة التقنيات، والتكنولوجيا الرقمية؟ دعونا في البداية نقترب أكثر إلى الظاهرة، نجد أن طبيعة العمل لها دور كبير في دعم نشوء الاحتراق، إذ تنتشر ثقافة الإرهاق المزمن في العديد من المهن، وعلى رأسها الأعمال المصرفية، والوظائف المرتبطة بالشؤون المالية، تليها وظائف القانون، والإعلام، والصحة، والتعليم، وأخيرا المهن المتعلقة بالخدمات العامة، مما يعني بأن هناك مهنا ذات طبيعة «مفرطة في التحفيز»، وهذا ما أظهرته نتائج دراسة مشهورة أجرتها جامعة جنوب كاليفورنيا عام 2012م، وقامت بتتبع عينة من (24) مصرفيا مبتدئا خلال عقد من الزمن، أكدت المخرجات بأن موظفا واحدا من هذه العينة قد أصيب بمرض عضوي مرتبط بالتوتر والإرهاق الناجم عن ضغوطات وأعباء الأعمال المالية، وإن كان حجم عينة الدراسة صغيرا إلا أن هذه الدراسة استمرت لفترة زمنية مقبولة وكافية لإظهار الأثر، وألهمت هذه الدراسة المجتمع البحثي والعلمي بسبر أغوار حالة الاحتراق، ومدى انتشارها حسب طبيعة المهن والوظائف، وأجرت شركة الإي فيننشال كارييرز (e-Financial Careers) في عام 2014 دراسة مسحية استطلاعية شملت مجتمعا دراسيا مكونا من (9.000) موظف مالي في أنشط مراكز الأنشطة المالية والمصرفية لمدن منتقاة حول العالم، بما في ذلك هونج كونج، ولندن، ونيويورك، وفرانكفورت، وأظهرت نتائج المسوحات أن المصرفيين يعملون عادةً ما بين (80) إلى (120) ساعة أسبوعيًا حسب متطلبات العمل، وأن غالبيتهم قد مروا بتجربة الاحتراق في لحظة ما، ويشعرون بالإرهاق «جزئيًا» على فترات متباعدة، في حين وصف ما يتراوح بين (10%) و (20%) من المشاركين حالتهم الصحية، والمهنية بأنهم «منهكون تماما»، في المقابل نجد أن جائحة كوفيد-19 أدت إلى زيادة مستويات الاحتراق الوظيفي بين العاملين في مجال الرعاية الصحية، مقارنة بالعاملين في الصناعات الأخرى، وشهد القطاع أعلى مستوى دوران وظيفي تاريخيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
من الناحية النظرية، فإن فرص الاحتراق تتزايد مع تغلغل العمل أكثر فأكثر في تفاصيل حياتنا اليومية، فرسائل البريد الإلكتروني تصلنا على هواتفنا المحمولة أينما كنا، وجداول الأعمال، والاستفسارات يتم مشاركتها ومناقشتها في مجموعات تطبيقات الدردشة الاجتماعية، ناهيك عن نزول وابل التنبيهات على الهواتف، والأجهزة اللوحية بالمطالب المجتمعية مثل المتابعة، ووضع الإعجاب، وإعادة النشر، والتحميل، ولذلك فإن محاولات التعافي المفترضة بالطرق التقليدية مثل ممارسة رياضة المشي، أو قضاء إجازة قصيرة غالبا ما تُحبط بسبب ذلك الشعور المزعج بكونك «ملاحقا» من قبل متطلبات الوظيفة، وهنا تنشأ معضلة الاحتراق؛ وهي إما أن يستمر الموظف في تلقي جرعة القلق والتوتر من رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية والصوتية المتعلقة بالعمل وهو بعيد جغرافيا عن المكتب، أو أن يتخذ قرارا حاسما في إغلاق قنوات التواصل، ويتعرض حينها لقلق لا يتزعزع بشأن كمية الأعمال التي تنظره حين يعود للمكتب، أي بعبارة أدق: نجح الموظف في الوقوع سريعًا فريسة فيروس الاحتراق الذي حاول في الأساس الابتعاد عن المكتب لمكافحته، إذن ما الحل على ضوء التغييرات المتلاحقة في سوق العمل، ونشوء الوظائف التي يمكن إنجازها عن بعد، ودخول العمل إلى المنزل من بعد تجربة إغلاقات الوباء؟ تعالوا أولا نفكر بوعي وتركيز في تعريف الاحتراق الوظيفي من الناحية العلمية، والفلسفية، لكي لا يلتبس المفهوم مع الإرهاق العرضي، إذ تشير الأدبيات إلى أنه متلازمة صحية ناتجة عن الإجهاد المزمن في مكان العمل، والتي لم تُدار بالشكل المطلوب، وهي تمس ثلاثة أبعاد أساسية؛ أولا الأعراض البدنية المرتبطة باستنزاف الطاقة، والإرهاق الجسدي، وثانيا زيادة المسافة العقلية بين المصاب بالاحتراق الوظيفي وعمله، وثالثا انخفاض الكفاءة في السياق المهني، وضُمّن الاحتراق أيضًا في الإصدار الحادي عشر من التصنيف الدولي للأمراض، وذلك كظاهرة مهنية، ولا تُصنّف كحالة طبية إكلينيكية، وتوشك منظمة الصحة العالمية على الشروع في وضع مبادئ توجيهية قائمة على الأدلة بشأن الصحة العقلية، والرفاهية في محيط العمل كمتطلب أساسي للحياة الصحية المتوازنة.
وتُعد الثقافة المحيطة من أهم محفزات الاحتراق الوظيفي، فالمصاب بهذه الحالة هو نتاج القلق من التقييم الخارجي، فهو غالبا يرى ويحكم على نفسه من منظور ثقافة تنظر بازدراء إلى أي شيء ينم عن التقاعس عن تحقيق السمعة المهنية اللامعة، وبذلك فهو يُخضع نفسه للتدقيق الذاتي المستمر فيما إذا كان منتجًا بدرجة كافية ومقبولة، وهنا يكمن المأزق الأساسي لضحايا الاحتراق الوظيفي، وهو الشعور بالإرهاق المصحوب بإكراه عصبي للاستمرار والإنتاج، فقد صار العالم قرية صغيرة، ويعيش جميع البشر في ظل سهولة الاتصالات في «مجتمع عالي الأداء»، وبذلك فإن مشاعر عدم الكفاءة هي أساس الصراع الذاتي المؤدي لحالة النشاط بشكل قهري، إلى الحد الذي يكون فيه تخصيص وقت الراحة يعادل في أذهانهم «إضاعة الوقت»، وهذا ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي آلان إهرنبرغ في كتابه «ضجر الذات» الذي نشر في عام 1998م، وأحدث نقلة نوعية في فهم الاحتراق الوظيفي كأحد أنماط الاكتئاب الحديث، حيث أشار إلى أنه في ظل المجتمع المهني العصري الذي ظهر منذ ستينيات القرن العشرين، يتشكل الصراع من الشعور الذاتي بالذنب الذي يرافق عدم تحقيق الطموحات المهنية، إذ تؤدي قيم ومعايير «مجتمع الإنجاز» دورا كبيرا في تكوين الذات، مما أسهم في طمس الفهم الفعلي للدافع الحقيقي للعمل الذي يجب أن يكون تحت شعار «ما أستطيع إنجازه» وليس «ما يجب تحقيقه».
إن الاحتراق الوظيفي ليس مؤشرا للعمل الجاد الدؤوب، وليس وشاح التفوق المهني، ويجب على المؤسسات تفادي تمجيد هذا النمط غير المتوازن، فهي في أبسط معانيها نداء الجسد والعقل من أجل حاجة إنسانية أساسية، وهي توفير مساحة الهدوء بعيدا عن أجواء العمل المتطلبة، ولكن مع الإدراك الكامل بأنه في حين أن اللجوء إلى الراحة، والاسترخاء، والتجديد يمكن أن يخفف من الاحتراق الوظيفي، ويحد من الإرهاق، ويعزز الكفاءة والإنتاجية، إلا أنه لا يعالج بشكل كامل الأسباب الجذرية للاستنزاف المؤدي للاحتراق، لا بد من وضع المعالجات الشاملة بجدولة أعباء ومهام العمل، ورسم حدود واقعية لتوقعات الإنجاز، وكذلك للطموحات المهنية الشخصية، ويجب إلقاء نظرة فاحصة على طريقة إدارة المهام داخل فرق العمل، والتقسيمات الإدارية للبحث عن مفتاح إيقاف حلقة العمل اللامتناهي، وتطوير استراتيجيات وقائية لمواجهة مختلف أنماط الإرهاق والاحتراق، وذلك بتوجيه الموظفين نحو المهام المرتبطة بأهداف استراتيجية تحفزهم على رؤية تأثيرهم على الصورة الكبيرة، وخلق الشغف لديهم، مع تنمية قدراتهم على إدارة الوقت، وضغوطات العمل، وكذلك وضع أولويات الرعاية الذاتية، لخلق بيئات عمل متوازنة، وداعمة للتعافي من الاحتراق الوظيفي من جهة، ومن جهة أخرى، بناء خريطة الطريق نحو الوقاية، والتعلم من التجارب السابقة كنقطة التحول إلى رحلة مهنية أكثر استدامة، وإنتاجية، وسعادة وصحة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاحتراق الوظیفی إلا أن
إقرأ أيضاً:
ستيفاني وليامز: اللامركزية قد تكون مفتاح حل الأزمة السياسية في ليبيا
رأت المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، ستيفاني وليامز، أن هناك إجماعًا واسعًا بين الليبيين على ضرورة تبنّي نظام حكم لامركزي، معتبرة أنه قد يكون الحل الأمثل لإنهاء الأزمة السياسية المستمرة منذ أكثر من عقد. وأشارت في مقال نشره معهد “بروكينغز” الأميركي إلى أن الحكم المركزي ساهم في تفاقم الأزمات التي تعيشها البلاد، داعية إلى منح السلطات المحلية صلاحيات أوسع لتعزيز الاستقرار والحكم الرشيد.
وقالت في مقال مطول نشره معهد «بروكينغز» الأميركي الجمعة: “التنافس المستمر بين أعضاء الطبقة الحاكمة في ليبيا منذ أكثر من عشر سنوات لم يسفر عن أي تقدم أو نتائج ملموسة. علينا البدء من نقطة ما، وأقترح وضع تركيز أكبر على الجهود التي تقودها المجتمعات المحلية”.
أشارت ستيفاني إلى أنه بعد عقد أكثر من 70 اجتماعًا مع سبعة آلاف ليبي داخل البلاد وخارجها خلال فترة التحضيرات للمؤتمر الوطني بالعام 2019، اتفق الغالبية منهم على “أن نظام الحكم المركزي في ليبيا قد سبب كثيرًا الأزمات التي تعانيها البلاد اليوم”.
نتيجة ذلك، اقترح هؤلاء أن “يكون هناك نقل تدريجي لحصص كبيرة من المهام والمسؤوليات الوزارية إلى الدوائر الانتخابية والمجالس المحلية بالنهاية”.
وهنا أشارت وليامز إلى ضرورة تنفيذ قانون اللامركزية الحالي رقم 59، الذي جرى تمريره كإجراء موقت بالعام 2012، وقالت: “في العام 2022، أسفرت المفاوضات الدستورية التي قمت بتيسيرها بين المجلسين التشريعيين عن اتفاق بشأن إنشاء 13 محافظة باستخدام الدوائر الانتخابية الـ13 الموجودة، إلى جانب التقسيم الدقيق للموارد على المستويات المركزية والإقليمية والمحلية”.
وأضافت: «جادل البعض بشأن إنشاء غرف منتخبة على ثلاث مستويات: برلمان وطني وغرفة أعلى، والهيئات التشريعية الإقليمية المنتخبة، والبلديات المنتخبة».
في حين أشارت وليامز إلى انتخاب غالبية المجالس البلدية في ليبيا منذ العام 2011، باستثناء بعض البلديات في شرق وجنوب البلاد، أكدت أن «المجالس البلدية تمثل براعم مهمة للديمقراطية في بيئة سياسية قاحلة».
وقالت: “نظام الحكم اللامركزي في ليبيا سيمنح مستوى أعلى من الحكم الذاتي والسلطات في يد المسؤولين المحليين، وبالتالي يسمح بمستوى أعلى من المحاسبة”.
وأضافت: “لعديد الأسباب ينبغي الدفع صوب نموذج حكم أكثر تفويضًا. سيخفف ذلك من الضغوط على طرابلس، ويقلل تعرضها للهجمات المستمرة. كما أن نظام الحكم اللامركزي سيخلق مستوى أكبر من المحاسبة”.
كما أكدت ستيفاني أن التأثير غير المباشر لتفويض السلطات المركزية إلى المستوى المحلي يمكن تحقيقه، ومتابعته في جهود نزع السلاح، وتسريح التشكيلات المسلحة، وإعادة دمج أفرادها في المجتمعات المحلية.
وقد أشارت عديد الدراسات السابقة إلى حقيقة أن التشكيلات المسلحة في ليبيا ليست متجانسة، وأن عددًا كبيرًا منها مندمج بالفعل في المجتمعات المحلية، وتلك المجتمعات هي الأقدر على تحديد كيفية إعادة دمج وتأهيل أعضاء التشكيلات المسلحة الذين لجأوا إلى استخدام السلاح.
وقالت وليامز: “في هذه اللحظة، حيث تتعرض المؤسسات الدولية للتهديد، ونشهد لحظة من إعادة تشكيل النظام العالمي، يتعين علينا العمل من أجل حل النزاعات مثل تلك المشتعلة في ليبيا، فهي بلد يملك مواهب ضخمة وسكانا قادرين ويرغبون في بناء دولة فاعلة”.
الوسومستيفاني وليامز