لجريدة عمان:
2024-07-06@19:10:29 GMT

هل ماتت فكرة «السلام عبر التجارة»؟

تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT

منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية، انطلق الساسة الألمان في جولة اعتذار عن اعتماد بلادهم في الماضي على الهيدروكربونات الروسية والدعوة إلى التكامل بين الاتحاد الأوروبي وروسيا في مجال الطاقة. وجاء رد المستشار الألماني أولاف شولتز على الاعتداء الروسي بإعلان «نقطة تحول» واتخاذ القرار أخيرا بإغلاق خط أنابيب نورد ستريم 2.

مع ذلك، لا يزال كثيرون ينظرون إلى المشروع باعتباره لطخة لوّثت شرف ألمانيا وفطنتها السياسية.

بعد مرور عام ونصف العام على بداية الحرب، لا يزال القادة الألمان يتصارعون مع أخطاء الماضي السياسية ويناضلون لاستخلاص دروس واضحة منها. ولأن اقتصاد ألمانيا القائم على التصدير يظل معتمدا بشدة على السوق الصينية، فإن النهج الذي تسلكه في التعامل مع الصين متضارب ومتناقض بدرجة كبيرة. ومن ثَـمّ، في أواخر يونيو، وبينما رفض الرئيس الأمريكي جو بايدن الاعتذار عن وصفه الرئيس الصيني شي جين بينج بالـ «دكتاتور»، قام رئيس الوزراء الصيني لي تشيانج بزيارة ودية إلى ألمانيا، حيث احتفل هو وشولتز بالدور الذي قد تلعبه العلاقات التجارية الصينية الألمانية في موازنة المنافسة الصينية الأمريكية المتزايدة التوتر. ولكن في سبتمبر، كررت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك ذلك الوصف المهين، في حين أوضح مفوض الاتحاد الأوروبي التجاري فالديس دومبروفسكيس أن «الاتحاد الأوروبي ليس لديه أي نية للانفصال عن الصين».

ترى هل يبالغ الألمان، والأوروبيون في عموم الأمر، في الاعتذار، ولا يتعمقون في التفكير؟ قد يوافق على هذا منتقدو السياسة الألمانية ــ التي كثيرا ما يُـسـخَـر منها الآن باعتبارها «تجارية النزعة» (مركنتيلية)، وهو مصطلح لا يخلو من التورية هنا، حيث يُـقـصَـد به سياسات المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. ومع ذلك فإن المبدأ القائل بأن الاقتصاد قادر على تشكيل السياسة بطرق مفيدة يستحق قدرا من الاحترام أكبر مما كان يتلقاه. كان هذا هو المبدأ الأساسي وراء السياسة الشرقية الألمانية «الـمعيبة»، التي رأت في تطبيع العلاقات الاقتصادية وسيلة لتأمين السلام أثناء الحرب الباردة وبعدها. وهي أيضا الفكرة الأساسية وراء العولمة الحديثة.

يزعم بعض المنتقدين أن السياسة الشرقية كانت دوما عاجزة بسبب عيوب شابت بعض أفراد بعينهم ــ مثل سعي المستشار الألماني جيرهارد شرودر الحثيث وراء المال، والذي تسبب في تحويله برغبته إلى دُمية في يد شركة جازبروم؛ أو حذر ميركل الـمُـفرِط، الذي يرجع في حد ذاته إلى نشأتها في ألمانيا الشرقية. لكن آخرين يرون في النهج الألماني نقيصة أكبر ترجع إلى السذاجة. على حد تعبير روبرت كاجان في مناسبة شهيرة قبل عشرين عاما، «الأوروبيون المغرمون العاطفيون» ينتمون إلى كوكب الزهرة، في حين ينتمي الأمريكيون (والروس والصينيون في الأرجح) الجامدون العمليون إلى كوكب المريخ. في أي الأحوال، تنتمي المجموعة الحالية من القادة في ألمانيا إلى تقليد قديم يشمل أيضا المستشارين كونراد أديناور (1949-1963)، وهيلموت شميت (1974-1982)، وهيلموت كول (1982-1998). بدأت عملية تمديد خطوط الأنابيب لتحسين العلاقات مع روسيا (أو الاتحاد السوفييتي) في أواخر خمسينيات القرن العشرين، وقوبِـلَـت بالتشكك من جانب الولايات المتحدة منذ ذلك الحين. لكن التعاون الاقتصادي الذي نشأ عن مثل هذه المشروعات كان أيضا الأساس الذي قام عليه انفتاح الاتحاد السوفييتي في عهد ميخائيل جورباتشوف.

لكن فِـكرة أن التجارة تُـفضي إلى السلام، والسلام يُـفضي إلى التجارة، ليست جديدة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، رأى كثيرون من الألمان أن الوحدة الوطنية مرغوبة في المقام الأول بسبب الفوائد الاقتصادية التي قد تجلبها. وكما أوضح أوجست لودفيج فون ريتشاو، وهو الرجل الذي صاغ مصطلح «السياسة الواقعية» في ذلك الوقت، فإن توحيد ألمانيا لم يكن «مسألة عاطفية؛ بل كان من منظور الألمان في الأساس عملا تجاريا بحتا».

بعد قرن من الزمن، خلقت ذات الفلسفة أوروبا الحديثة. بدأ مشروع الاتحاد الأوروبي في أوائل خمسينيات القرن العشرين باعتباره «جماعة» لربط الفحم الألماني وخام الحديد الفرنسي. وكان التكامل الاقتصادي أول خطوة نحو نزع فتيل العداء القديم الذي أدى إلى ثلاثة صراعات كارثية خلال الفترة من 1870 إلى 1945. في ضوء نجاح هذا المشروع، ليس من المستغرب أن تُـرشِـد التجربة ذاتها استجابة أوروبا لانهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط الشيوعية. وقد دعا هذا التحدي الجيوسياسي الكبير إلى لفتة كبيرة بالقدر ذاته من جانب أوروبا. كان التنسيق الدفاعي أحد الخيارات (والذي باتت فوائده واضحة عندما نسترجع أحداث الماضي)، لكن الساسة الأوروبيين اختاروا المال والعملة الموحدة -اليورو- لاستعراض التزامهم تجاه بعضهم بعضا. ولأن هذا المشروع الاقتصادي نجح في دمج أوروبا والحفاظ على السلام بين أعضائها، فمن المفهوم أن يحاول كثير من الأوروبيين تطبيق النموذج ذاته على نطاق عالمي أكبر. الواقع أن إيمان ألمانيا بالترابط الاقتصادي يعكس موقعها الجغرافي.

تاريخيا، كان الموقع المتوسط الذي تحتله في شمال أوروبا، مع افتقارها إلى الجبال التي لا يمكن اختراقها وغير ذلك من الحدود الطبيعية الواضحة، سببا في إنتاج نوع من الهشاشة لا تعرفه القوى المنعزلة الواقعة على المحيط مثل المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة. فمن السهل أن تتقدم الجيوش عبر سهل مفتوح بقدر ما يسهل على التجار استخدام الطرق الساحلية والبرية للربط بين الناس. وعلى هذا فقد كان الألمان دوما منجذبين بين مارس (إله الحرب) وعطارد (إله التجارة). يعني هذا التأطير بين «إما أو» ضمنا أن كل شيء سيعتمد على الاقتصاد إذا أصبحت الحرب احتمالا غير وارد. لكن العكس أيضا صحيح؛ فإذا تعثرت قصة التنمية، تصبح العودة إلى الصراع أكثر ترجيحا.

برغم أن الحرب في أوكرانيا كانت مدمرة، فإن الاستجابة لها بالحظر المالي وحظر الطاقة، وليس التصعيد النووي، تشكل في حد ذاتها انتصارا للبشرية. حتى الآن، كان التدمير المادي الشديد القسوة محصورا في دولة واحدة. وعلى هذا فإن الحرب تنطوي على دروس مهمة لمن يفكر في الكيفية التي ينبغي بها لأوروبا ــ وأمريكا ــ أن تستجيب للصين. هل ينبغي للمخاوف من تكرار الأخطاء التي ارتُـكِـبَـت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن توجه استراتيجية التعامل مع شي جين بينج، أو أن الاستمرار في التعامل مع الصين يقدم أفضل فرصة لكبح جماح روسيا؟ بما أن الإجابة ليست واضحة بأي حال من الأحوال، فلا ينبغي للأوربيين أن يعتذروا عن إجراء مثل هذه الحسابات الاستراتيجية. في وقت سابق من هذا العام، عندما احتفل كبار الساسة وصناع الرأي بالذكرى المئوية لميلاد هنري كيسنجر، أكدوا على حقيقة مفادها أن كيسنجر ــ وواقعيته الأصيلة ــ كان مُـنـتَـجا ألمانيا أمريكيا مشتركا أسهم بشكل حاسم في تشكيل ألمانيا الديمقراطية المستقرة. وكانوا محقين في الاحتفال بتلك المناسبة. فقد صاغ كيسنجر نموذجا قادرا على تحقيق نتائج قوية وعظيمة الفائدة ــ حتى وإن كان يحمل في طياته دوما احتمال الفشل.

كانت السياسة الألمانية الأوروبية «المعيبة» السابقة رهانا على العولمة، والعولمة دائمة التغير. ورغم أنها ستستمر دون شك في التطور في اتجاهات جديدة وغير متوقعة، فإن هذا ليس سببا لرفض فكرة أن الاتكالية المتبادلة تدعم غالبا السلام والرخاء.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی

إقرأ أيضاً:

بالبرهان السودان في كف عفريت

عبد الفتاح البرهان هو رئيس الدولة السودانية، والقائد العام للجيش السوداني منذ نيسان/ أبريل من عام 2019، وطوال السنوات الخمس الماضية، ظل السودان "يقوم من نقرة يقع في دحديرة"، كما يقول المثل المصري، عمن ينهض من كبوة ليقع في كبوة أفدح، ثم دخل الجيش السوداني في حرب ضد قوات الدعم السريع، التي أشرف الجيش على تشكيلها وتدريب عناصرها، حتى انقلب السحر على الساحر في 15 نيسان/ أبريل من العام الماضي، فاشتعلت الحرب، وما زالت رحاها تهرس عظام السودان وأهله.

في جميع بلدان العالم يعتبر الجيش أقوى مؤسسات الدولة، لأنه يتسم بالانضباط في أداء مهامه، ولأنه يملك القوة الفيزيائية (العتاد الحربي)، التي لا تملكها مؤسسات الدولة الأخرى، ولكن وقائع حرب السودان تشي بأن الجيش شديد الهشاشة، بدليل أنه عاجز عن الدفاع عن نفسه، وها هي قلاعه تتهاوى كقطع الشطرنج أمام قوات الدعم السريع، التي لا تملك طائرات مقاتلة أو دبابات أو مدفعية ميدان، وتتألف في معظمها من شباب دون الثلاثين، لم ينالوا تدريبات كتلك التي يتلقاها عناصر الجيش النظامي، الذين يتخرجون من مدارس عسكرية، وينخرطون في مناورات تدريبية، وبعضهم يحمل شهادة "أركان حرب"، التي هي درجة الماجستير في العلوم العسكرية.

أسفرت الحرب في السودان حتى الآن، عن خضوع نحو ثلثي مساحة البلاد لسيطرة قوات الدعم السريع، التي غنمت العاصمة وإقليم دارفور بأكمله (ما عدا مدينة الفاشر كبرى مدن الإقليم، والتي دعا مجلس الأمن الدولي قوات الدعم السريع لعدم اقتحامها)، وولاية غرب كردفان، وولاية الجزيرة، ثم سقطت حاضرة ولاية سنار، وإذا بالجيش ينسحب طوعا من بلدة المزموم، ثم فُجع السودانيون بسقوط اللواء 92 في الميرم في كردفان، يوم الأربعاء الماضي (3 تموز / يوليو الجاري) وبهذا سقطت منطقة غنية بالغاز والنفط في أيدي قوات الدعم السريع.

لم يكن للبرهان ما يقوله عن كل تلك الانكسارات للجيش سوى: خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، وهي المقولة التي نطق بها الجنرال الفرنسي شارل ديغول، في حزيران/ يونيو من عام 1940، عن انهزام بلاده أمام جيش المانيا النازية، ودارت الدوائر على النازيين، وعاد ديغول إلى فرنسا الحرة، ثم صار رئيسا لها، ومن ثم لا يجوز للبرهان النطق بتلك المقولة، لأنه لم يخسر معركة بل خسر جميع المعارك، وصار السودان مرشحا للوقوع بالكامل في قبضة قوات الدعم السريع، التي ولاؤها الأول لقادتها من آل دقلو وعلى رأسهم محمد حمدان (حميدتي) وشقيقه عبد الرحيم، وبقية أبناء العمومة والخؤولة.

حرب السودان، كما كل الحروب، ستقف بالتفاوض، وما لم يدرك قادة الجيش أن خير التفاوض عاجله، يبقى الاحتمال القوي بأنه سيأتي يوم يكون فيه التفاوض، وقوات الدعم السريع في موقع قوة، يجعلها الطرف الذي يملي الشروط، والبرهان يتحمل وزر كل ما هو حادث، وكل ما سيحدث من ويلات، فهو الذي أدخل حميدتي القصر الجمهوري، نائبا له في مجلس السيادة، وأعطاه شيكا على بياض كي يزيد عديد قواته ويزودها بالسلاح كيفما أراد، وها هو السودان يحصد الهشيم الذي تسبب فيه البرهان.ودون أدنى مزعة من حياء تباهى البرهان في مخاطبة لجنوده قبل أيام، بأن "السودانيين كُثْر"، ويساندون القوات المسلحة، ولا عليه أن الجيش رفع يده تماما عن حماية المواطنين، ثم صار يدعو المواطنين لحماية تلك القوات، وقد سبق له ان قال ان 75% من عناصر الجيش حاليا من المستنفرين (المتطوعين)، ولم يقل أين ذهب ال75% من عناصر الجيش "الأصليين"، ليحل محلهم متطوعون. ثم أضاف في أيار/ مايو الماضي خلال جولة في الولاية الشمالية: "الحرب بدت يا داب"، أي الحرب بدأت الآن، وهو بهذا يريد إلغاء 13 شهرا من القتال من ذاكرة المواطنين، لأنها مثقلة بالهزائم.

أكثر العسكريين السودانيين اعتلاء للمنابر، هو الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للجيش وعضو مجلس السيادة منذ عام 2019، الذي يستعرض عضلاته الخطابية في جيب صغير شمال مدينة ام درمان، لا يخضع لسيطرة قوات الدعم السريع، وقبل أيام قليلة حدد العطا شروط الجيش للتفاوض على وقف الحرب، وأولها استسلام قوات الدعم السريع، مع جلائها من جميع المواقع التي تحتلها، ليتم نقل عناصرها الى خمسة معسكرات "مع التعهد بعدم التعرض لها"، وخروج تلك القوات نهائيا من العمل العسكري والسياسي، وأكّد العطا في نفس الوقت ان مجلس السيادة بعضويته من الجنرالات، سيبقى على رأس السلطة الحاكمة لفترة انتقالية، تسبق قيام الانتخابات العامة.

وبهذا فإن الفريق العطا يدعو قوات الدعم السريع، للتنازل طوعا عما حققته من انتصارات، لتصبح تحت حماية الجيش في معسكرات "إيواء"، وهذا كأن يطالب فريق كرة قدم منهزم، من الفريق الخصم الفائز في مباراة، بسحب لاعبيه من الملعب كي تنقلب الآية، فيصبح المنتصر مهزوما بانسحابه.

منذ انتقال الحرب في السودان من العاصمة إلى الأطراف، ظلت المبادرة والمبادأة في يد قوات الدعم السريع، فهم من يحددون بوصلة المعارك، ويحققون الانتصار تلو الانتصار، بعد أن انكشف حال الجيش، من حيث افتقاره للقوة من حيث عدد الجنود والعتاد، وبهذا صار السودان بكامله في كف عفريت، فقد كانت المخاوف في بدايات الحرب، واشتداد وطيسها في دارفور، بأن آل دقلو سيعلنون دولتهم في غرب البلاد، كما فعل أهل جنوب السودان "القديم"، فإذا بوقائع الحرب تكشف عن ارتفاع سقف طموحهم، بعد أن تمددوا في الإقليم الأوسط ثم زحفوا شرقا.

وحرب السودان، كما كل الحروب، ستقف بالتفاوض، وما لم يدرك قادة الجيش أن خير التفاوض عاجله، يبقى الاحتمال القوي بأنه سيأتي يوم يكون فيه التفاوض، وقوات الدعم السريع في موقع قوة، يجعلها الطرف الذي يملي الشروط، والبرهان يتحمل وزر كل ما هو حادث، وكل ما سيحدث من ويلات، فهو الذي أدخل حميدتي القصر الجمهوري، نائبا له في مجلس السيادة، وأعطاه شيكا على بياض كي يزيد عديد قواته ويزودها بالسلاح كيفما أراد، وها هو السودان يحصد الهشيم الذي تسبب فيه البرهان.

مقالات مشابهة

  • ضياء الدين بلال في نسخته البرهانية
  • بالبرهان السودان في كف عفريت
  • حزب الله بعد حرب الإسناد.. تغييرات مُنتظَرة تشمل التحالفات؟!
  • أمين عام الناتو يرفض دعوات إجبار أوكرانيا على قبول مبدأ "الأرض مقابل السلام" لإنهاء الحرب
  • رئيس وزراء المجر: مهمتمنا الأساسية هي إحلال السلام
  • أوروبا بحاجة قصوى للسلام.. رئيس وزراء المجر: زيارتي لروسيا لمعرفة الطريق الأقصر لنهاية الحرب
  • نائبة مدير "فوجيان" الصينية: إنتاج فيلم مشترك عن طريق الحريق بين مصر والصين
  • جوتيريش يدعو لإحلال السلام في الشرق الأوسط بدءًا من وقف الحرب على غزة
  • مصر ماذا تريد !!
  • وقف الحرب والقرار الإنتحاري