كل شخص يحتاج إلى شيء مغاير وبالنسبة للعديد من الذين يركزّون على المناخ والاستدامة، فإن النمو الاقتصادي -الرأسمالية- يشكل هدفا مناسبا، وهذا أمر مفهوم. إنَّ التوسع الاقتصادي هو جوهر الضرورة الرأسمالية، لكن النمو المادي المستمر إلى ما لا نهاية على كوكب محدود الموارد هو أمر مستحيل فعليًا، ومن هنا ظهر مصطلح «تراجع النمو»، و«إعطاء الأولوية للرعاية الاجتماعية مقارنة بالنمو»، و«ما بعد النمو»، وغير ذلك من المفاهيم التي نشأت لدعم الانتقادات المعقدة ظاهريا للنموذج الاقتصادي «القياسي».
لو تعمقنا في هذا الموضوع سنجد أن هذا الصدام في وجهات النظر العالمية يدور حول النقاشات الكلامية بدلا من السياسات الفعلية وهو أيضا يعدّ إلهاء عن جوهر الموضوع. وبدلا من ذلك يجب أن يكون التركيز على خفض الكربون وغيره من أشكال التلوث، وفي حين أن الأنشطة الاقتصادية عالية الكربون ومنخفضة الكفاءة ــ وبعض القطاعات بأكملها ــ لابد أن تتقلص، فإن الأنشطة والقطاعات منخفضة الكربون وعالية الكفاءة لابد أن تنمو. إن الاستفادة من هذه العملية الطبيعية من «التدمير الخلاق» لا تعني تبني سياسة عدم التدخل بحيث يكون صناع السياسات على الهامش ويراقبون الأمور دون أدنى اهتمام. لو نظرنا إلى التكاليف المجتمعية السلبية الهائلة المرتبطة بحرق النفط والفحم والغاز لوجدنا أنه وفقًا لأفضل التقديرات المتوفرة لدينا، فإن التكلفة الاجتماعية للكربون في الولايات المتحدة الأمريكية تضاعفت أربع مرات تقريبًا في العقد الماضي، وذلك من حوالي 50 دولارا للطن من ثاني أكسيد الكربون الذي يُبثّ في الجو إلى ما يقرب من 200 دولار ــ وحتى هذا الرقم ليس سوى تقدير جزئي للتكلفة الحقيقية. بالإجمال يتسبب حرق كل برميل من النفط وكل طن من الفحم في أضرار خارجية أكبر من تلك التي يضيفها إلى الناتج المحلي الإجمالي ــ ونحن لم نأخذ في الحسبان حتى الآن العوامل البيئية المهمة الأخرى مثل استخدام الأراضي والتنوع البيولوجي، ونظرًا لهذه التكاليف المرتفعة والمتصاعدة، فإن الوصفة السياسية كانت واضحة منذ فترة طويلة: تحديد سعر للكربون أو أسلوب أفضل يتمثل في تسعير جميع العوامل الخارجية السلبية، وتقديم إعانات الدعم للعوامل الإيجابية. يتحرك قانون خفض التضخم في الولايات المتحدة في العام الماضي في كلا الاتجاهين، ولكن في حين يتضمن القانون سعرا مباشرا غير معروف كثيرا لانبعاثات غاز الميثان الناجمة عن عمليات النفط والغاز، فإن تركيزه الأساسي ينصب على إعانات الدعم والإعفاءات الضريبية، ومن خلال تسخير إمكانات الأسواق وتحفيز النمو الاقتصادي في مجالات محددة، فإن هذا القانون يعكس كيفية عمل «السياسة الصناعية الخضراء» بشكل عملي.
تثير مثل هذه المشاركة الحكومية النشطة في الاقتصاد مجموعة من الأسئلة ومما لا شك فيه هو أن مئات المليارات من الدولارات من الإعانات الحكومية سوف تزيد من انتشار الطاقة المتجددة وتخزين البطاريات والنقل النظيف وغير ذلك من التقنيات المهمة في القطاعات غير المتطورة. علاوة على ذلك، فإن كل هذه التنمية سوف تؤدي إلى تحقيق النمو الاقتصادي، إذا ما قِيسَ بأضيق الطرق ذلك ومن خلال الناتج المحلي الإجمالي التقليدي والقيمة المضافة الاقتصادية وإحصاءات تشغيل العمالة.
هل هذا يعني أن النمو بأي ثمن أمر جيد؟ بالطبع لا، كما أن «النمو الأخضر» وحده ليس مرغوبًا بالضرورة عندما ننظر إليه من خلال أي تصورات أخرى.
إنَّ الانتشار السريع للطاقة المنخفضة الكربون وغيرها من تقنيات المناخ لن يضمن النمو الشامل أو العمل اللائق أو الصحة الأفضل أو الحد من الفقر أو أي من أولويات السياسة العالمية المهمة الأخرى. إن «الطاقة النظيفة وبأسعار معقولة» لا تمثل سوى هدف واحد من أهداف الأمم المتحدة السبعة عشر للتنمية المستدامة وهذا يرجع لسبب وجيه. كما أن نشر المزيد من الطاقة النظيفة لا يكفي حتى كحلّ لمشكلة المناخ، وتؤدي تدابير كفاءة استخدام الطاقة أيضًا دورًا مهمًا ولهذا السبب يتضمن قانون خفض التضخم، على سبيل المثال، «برنامج الخصم للكهرباء المنزلية عالية الكفاءة»، وسوف تسهم المباني المعزولة بشكل أفضل ووسائل النقل الأكثر كفاءة في الحد من انبعاثات الكربون قبل فترة طويلة من إزالة الكربون من الطاقة والكهرباء بشكل كامل، وهذا يعني أن الكفاءة تقلل من التلوث الكربوني. كما يعمل العزل الأفضل على تحسين نوعية الحياة وذلك من خلال إضافة الحماية ضد دخان حرائق الغابات وغيره من تلوث الهواء الخارجي.
إن منع تسرب المواد السامة إلى المنزل من خلال النوافذ والأبواب والجدران ذات العزل السيئ يعمل على تحسين صحة الإنسان وفواتير الكهرباء وقيمة العقارات في الوقت نفسه. صحيح أن وضع نمو الطاقة النظيفة من ناحية إلى جانب إجراءات الكفاءة من ناحية أخرى يبدو وكأنه يعكس «النمو الأخضر» في مقابل «تراجع النمو». لكن هذا وهم. إن الكفاءة تعني القيام بالمزيد بموارد أقل وهو ما يجعلها فعليًا تعكس الإنتاجية الاقتصادية وهي واحدة من المكونات الرئيسية لنماذج نمو الاقتصاد الكلي القياسية. إن هذه النقطة الدلالية تفيد الجانبين، فهناك دول نامية في الجنوب العالمي ومناطق محددة في الاقتصادات المتقدمة لا تزال تعتمد بشكل كبير على استخراج وتصدير الوقود الأحفوري. سوف تتقلص هذه القطاعات والاقتصادات بالضرورة، مع تحول بقية العالم إلى مصادر أنظف للطاقة، وقد ينتهي الأمر بها إلى أن تكون أكثر فقرًا وأقل استقرارًا ولكن ليس هذا ما يدور في أذهان أغلب أنصار تقليص النمو. صحيح أن بعض الشركات والأفراد استفادوا بشكل كبير من استغلال موارد الكوكب، والضغط على صناع السياسات، والتغطية على الأضرار التي أحدثوها، وهذا في كثير من الأمور هو الدافع وراء معظم التفكير في «تقليص النمو». يمكننا جميعًا أن نشير إلى أنشطة محددة نفضّل أن تصبح أقل، لكن السؤال إذن يتعلق بالتأطير والاستراتيجية. أعتقد أن المسار المثمر للأمام يتلخص في التركيز على الفرص التجارية التي تبلغ قيمتها تريليون دولار التي توفرها عملية إزالة الكربون السريعة والقصص الإيجابية العديدة للتحول التي تصاحبها. وفي النهاية هناك توازن دقيق يجب تحقيقه بين إطلاق العنان لروح «القدرة على الإنجاز» الخاصة برواد الأعمال وبين توجيهها في الاتجاه الصحيح، أي بين شعار وادي السليكون «تحرك سريعًا وحطّم الأرقام» وبين قسم الطبيب «أولا، لا ضرر ولا ضرار».
وبطبيعة الحال، فإن هذا الأخير يسير جنبا إلى جنب مع دفع ثمن التلوث الخاص بك. ولابد أن يكون هذا التلوث هو الشيء المغاير الحقيقي، وليس النمو الاقتصادي الناتج عن محاولات رواد الأعمال والشركات والحكومات كبح جماحه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النمو الاقتصادی من خلال ذلک من
إقرأ أيضاً:
هل يمكن الوثوق بتقنيات إزالة الكربون من المحيطات؟ تقرير أوروبي يطرح تساؤلات
أكد التقرير أن تحقيق "الصفر الصافي" بحلول عام 2050 ــ وهو الهدف العالمي الذي تبنّته أكثر من 140 دولة ــ لا يمكن أن يتحقق إلا عبر خفض الانبعاثات أولاً، ثم التفكير في إزالة ما تبقى من كربون لا يمكن تجنبه.
حذر تقرير أوروبي من التسرع في تبني تقنيات إزالة ثاني أكسيد الكربون من المحيطات، مشدداً على أن أي توسيع لهذه الحلول يُعد مخاطرة غير مقبولة دون أنظمة رصد وإبلاغ وتحقق موثوقة.
ودعت مجموعة خبراء مستقلة، مكلفة من قبل المجلس الأوروبي للمحيطات، إلى وقف أي خطوة نحو التوسع التجاري أو الحكومي في تقنيات "إزالة ثاني أكسيد الكربون البحرية"، حتى يتم تأسيس إطار دولي موحد للرصد والإبلاغ والتحقق.
التقرير، الذي صدر اليوم بالتزامن مع قمة المناخ COP30 في البرازيل، لم ينفِ إمكانية هذه التقنيات، لكنه أكد أن استخدامها كأداة مناخية يتطلب شروطاً لا تقبل التأويل.
وفي افتتاحية القمة، حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الحاضرين من أن "تجاوزاً مؤقتاً لحدود 1.5 درجة مئوية ــ بدءاً من أوائل الثلاثينيات على أبعد تقدير ــ لا مفر منه"، مؤكداً أن هذه النقطة "خط أحمر للإنسانية" يجب الحفاظ عليها، وأن "هذا لا يزال ممكناً" — لكن فقط إذا تمت أولوية خفض الانبعاثات فوراً.
وأكد التقرير أن تحقيق "الصفر الصافي" بحلول عام 2050 ــ وهو الهدف العالمي الذي تبنّته أكثر من 140 دولة ــ لا يمكن أن يتحقق إلا عبر خفض الانبعاثات أولاً، ثم التفكير في إزالة ما تبقى من كربون لا يمكن تجنبه. فحتى مع التحول الكامل للطاقة النظيفة، ستبقى انبعاثات متبقية من قطاعات مثل الشحن البحري والطيران، لا تزال تفتقر إلى حلول خالية تماماً من الكربون.
من جهتها قالت الدكتورة هيلين موري، الباحثة الأولى في المعهد النرويجي لأبحاث الهواء ورئيسة الفريق: "نحن نعرف كيف نخفض الانبعاثات، ولدينا العديد من الطرق التي تعمل، يجب أن تكون هذه أولوية قصوى."
التحقق لا يمكن ان يتم دون رصد موثوقلكن ماذا عن الكربون الذي لا يمكن إزالته؟ التقرير يُجيب: لا يمكن الاعتماد على تقنيات المحيط إلا إذا أُثبتت فعاليتها بآليات صارمة.
وتضيف موري: "تُرصد الحالة الأساسية للكربون (في المحيط)، ثم يُنفَّذ المشروع، وتُراقب كمية الكربون التي أُزيلت، ومدة بقائها بعيداً عن الجو، ثم تُبلغ النتائج لجهة مستقلة تتحقق من صحتها".
وأِوضحت، "إذا كنت تخزن الكربون في المحيط ــ بأي شكل من الأشكال، وليس في خزان جيولوجي ــ فسيكون التحكم فيه ورصده أصعب بكثير. المحيط لا يبقى في مكانه."
وحذرت موري من أن "جزء الاعتماد أيضًا يجب أن يعمل بشكل صحيح"، مشيرة إلى أن "أنظمة الاعتماد يجب أن تكون موثوقة، وشفافة، وقابلة للدفاع العلمي". بدون ذلك، لا يُعد أي ادعاء بخفض الانبعاثات عبر هذه التقنيات أكثر من حملة تسويقية — لا أكثر، ولا أقل.
Related كوب 30: هل يساعد صندوق البرازيل الجديد "الغابات الاستوائية للأبد" للحد من إزالة الغابات؟لوبيهات الوقود الأحفوري حاضرة بقوة في كوب 30 بالبرازيل وتفوق في العدد معظمَ الوفود المشاركةقادة العالم يجتمعون في بيليم البرازيلية لمواجهة أزمة المناخ.. وواشنطن تتغيّب عن القمة تقنيات بحرية لا تزال في مراحلها الأوليةوقد بدأت بعض الشركات بالفعل في بيع اعتمادات كربون مرتبطة بمشاريع بحرية، دون وجود معايير عالمية تسمح بالتحقق من صحة ما تم إزالته.
وعلقت موري على الأمر، "لا يمكن استخدام هذه الأساليب إذا لم نتمكن من التحقق من الآثار، أو وجهة الكربون، أو مدة بقائه بعيداً عن الجو".
أما على اليابسة، فهناك نماذج عملية موثوقة ــ أبرزها إعادة التشجير، ومحطات "كليم ووركس" في أيسلندا، حيث تمتص مراوح ضخمة الهواء عبر فلاتر، وتُحول ثاني أكسيد الكربون إلى مزيج مع الماء، ثم تُحقنه في طبقات الصخور، حيث يتحول إلى حجر دائم. وتعتبر هذه التقنيات لا تزال محدودة النطاق، لكنها الأقرب إلى الموثوقية اليوم.
الإزالة المطلوبة: 5 إلى 10 مليارات طن سنوياً بحلول 2100ورغم وجود تجارب ميدانية بعدة تقنيات ــ مثل زراعة الطحالب، أو تخصيب المياه بالحديد لتحفيز نمو العوالق ــ فإن كثيراً منها لا يزال في مراحله الأولية.
وأشارت موري إلى أن "جميع سيناريوهات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) تُظهر أننا سنحتاج إلى إزالة كبيرة من ثاني أكسيد الكربون من الجو للوصول إلى 1.5 درجة مئوية".
وأضافت، "نتحدث عن إزالة صافية تتراوح بين 5 إلى 10 مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً بحلول نهاية القرن."
ولوضع هذا الرقم في سياقه: بلغ إجمالي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية 42.4 مليار طن في عام 2024، وفقاً لمركز CICERO للأبحاث المناخية الدولي في أوسلو.
ونوهت موري إلى أن "إزالة الكربون ضرورية، لكن ليس كذريعة لتأخير خفض الانبعاثات".
وشددت في حديثها "لا يوجد حل سحري في المحيطات. بعض الناس يأملون في العثور على إجابة هناك، لكننا لم نصل بعد. ولا نعلم إن كان بالإمكان تنظيم هذا كحل مناخي يُدار علمياً. لكن إذا أردنا السير في هذا الطريق، فعلينا توضيح المعايير وتأسيسها قبل التوسع".
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة