في كتابه نظام التفاهة يشير الكاتب آلان دونو إلى أن أحد أشكال الانحدار في الحرف والإبداع هو تحويل الإنتاج إلى خط من العمليات المكررة وفق قوالب محددة مسبقا. ليس فيما تقدمه الصناعة وإنما تعداه كل ما ينتجه البشر حتى في الفن والثقافة والتي يفترض أنها مجالات تعتمد على الفرادة والاختلاف. ناقش الكتاب قضايا مختلفة في وصفه وتفسيره للعالم المعاصر الاستهلاكي وسيادة النزعة المادية والسطحية في إنتاجه الحضاري ونظام علاقاته وأساليب عمله بشكل عام.
هو الروتين إذن الذي يحكم أعمالنا في العصر الحالي. تلك الترتيبات الجاهزة من عمليات أو آليات أو قوانين نتبعها حتى نصل إلى ما نريد. حيث تضيع فكرة الأصالة في مقابل أنماط من السلوك والإنتاج المرتبط بها ووجود نماذج جاهزة أو محددة ومعروفة لكيفية أداء الأعمال.
في تصور مغاير لهذه الجزئية الأخيرة هناك من يطرح أن هذا الروتين هو نوع من التنظيم. أسلوب عمل يضمن إنتاجية أقرب للوضع المثالي وتساعد على تجنب الأخطاء وتكون أشبه بدليل عمل في بعض الحالات أو وسيلة إنتاج آمنة. هكذا طالما ظلت هذه النماذج وسائل يهتدى بها ولا تؤدي إلى إلغاء العقول وما يمكن أن تقدمه من تجديد أفكار حرة.
من هذا الجدل يبدو جليا أن الإشكالية تكمن في كيف يمكن أن نحقق الأصالة والاختلاف والتفرد خصوصا في الأعمال الإبداعية ونحافظ على توازن العمل المنظم الذي ينشد قدرا من الكمال. يشير مالك بن نبي في كتابه «مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي» إلى أننا بعد الاستعمار في خطأ حضاري عللنا حالة الضعف بالنقص المادي (القوة الاقتصادية والعسكرية) بأن شيّأ المسلمون النقص ولم ينتبهوا لقوة الأفكار -رغم أن ابن نبي يتبنى فكرة النماذج لكنه يعنيها كنماذج للمثل العليا والمعايير وهو مجملا ينحاز للفكرة كمنطلق حضاري- وربما الآن شيّأنا الأفكار مجملا وقولبناها في قوالب تعصى على التغيير لأنها ضمنت لنا (هذه الآلية) إنتاجا مقبولا يغطي الحاجة في كل الأحوال وسهلت علينا التعاطي مع مسألة الإنتاج برمتها وأصبحنا في منطقة الراحة.
الحقيقة أننا ننشأ ومن ثم نتعامل في أوساط تفترض سلفا أن ثمة مراحل محددة أشبه بالقوانين لا يمكن اختراقها أو تجاوزها. فيضعف فينا حس النقد والقدرة على التحليل أو يخبو ذاك التوق ونكون محكومين بالمعتاد، فتصبح مقارباتنا كلها نمطية في كل مناحي الحياة سواء تعلق ذلك بالإدارة والتخطيط أو حتى في ممارستنا لأعمالنا اليومية.
أتذكر أني في بداية حياتي العملية عملت لفترة وجيزة في مهنة التدريس. من المواقف العالقة في ذهني والتي لا أستطيع نسيانها أبدا أني عملت جاهدة أن أعلم طلابي وأزرع فيهم تلك الرغبة، أن يتقنوا المهارات لا أن يحفظوا نصوصا وإجابات جاهزة. لم يكن عملا يسيرا وتطلب جهدا مضاعفا مني ومنهم حتى تبنوا الفكرة وبدأوا تطبيقها. وصادف أن زارني موجه المادة قادما من الوزارة يتفقد سير العملية التعليمية ويقيم هذه المعلمة الجديدة ليرى إن كانت تقوم بدورها كما يجب. في ختام الدرس وبعد أن أتممت الشرح قام بتوجيه سؤال، ورغبة من الطالبات في تبييض وجه (معلمتهن) سارعن برفع الأيدي وكلما قدمت إحداهن إجابة ما بدا غير راض فيختار أخرى لتعيد صياغة الإجابة وقد تضيف جزئية أخرى..لكنه في كل مرة يرفض قبول الإجابة أو وصفها بالصحيحة حتى يئست الفتيات، حينها أعلن أن الإجابة الصحيحة هي الإجابة النموذجية وقام بفتح الكتاب وقرأ عليهن جملة محددة من الكتاب. طبعا دار نقاش حاد بيني وبين الموجه خارج غرفة الصف وخلاف لم ينته بالاتفاق أبدا وعدت لطالباتي أشرح لهن ما هو الفرق بين الطريقتين وأن لهن حرية الاختيار في كيفية التعلم.
أذكر هذا المثال لأنها أحد الأساليب التي يتم فيها تقييد التفكير وبالتالي نصل إلى نمطية الإنتاج، ولأن التنشئة والتعليم هي الحلقة الأهم ويبدو أننا ما زلنا نتعامل مع مسألة التعليم في معظم جوانبها بأسلوب يبطئ من قدرة العقل على التكون خارج القوالب الجاهزة، لا أدل من ذلك أننا نجد أن الطالب يعد علميا ليتجاوز الاختبار وربما يأخذ دروسا إضافية ويحضر دورات تعليمية تعلمه فقط كيف يقدم الإجابات النموذجية المناسبة لنيل الدرجة وتجاوز المرحلة. ويقضي سنوات من عمره يعبأ بمعلومات ينسى معظمها ولا يعلم إلا القليل في طرق التفكير والتحليل والبحث وإعادة الإنتاج والابتكار.
من التعليم إلى الإعلام وكلاهما قطاعان في صناعة الثقافة. كلاهما مجالان يعتمدان على الإبداع والبحث عن زوايا جديدة في المقاربة والتحديث والمعاصرة والتأثير بالتميز... ليس دائما!. تجد نفسك تصبح جزءا من منظومة عمل روتيني ويمكن أن تقدم لك أدلة مطبوعة من الجهة المشرفة لكيفية إدارة الأزمات أو كتابة التقارير بحيث يتعامل البعض معها وكأنها صالحة لكل زمان ومكان وحدث، وتجيب عن كل الأسئلة وتغيب عن الأذهان ضرورة إضافة الحس الشخصي وتطبيق أدوات التحليل والتقييم والتنبؤ. حدث مثلا أن بعث إلي زميل من إحدى المديريات يقترح خطة تغطية أو حملة إعلامية لموضوع أو مشروع مهم حيث يعمل، وقد بادر بإعداد جدول حدد فيه مقابلات إذاعية وتلفزيونية ونشر أخبار على مدى فترة زمنية! بالضبط هكذا أن تضع خطة إعلامية هي أن تعبئ نموذجا جاهزا يشبه أو يتطابق مع جدول سابق تم إعداده من قبل محترفين. فكرت في عدد المرات التي أجهدت فريق العمل معي بإعادة صياغة الخطط الإعلامية لنصل لنتيجة تدرس كافة الجوانب قدر الإمكان..يا لي من شخص معقد!
وحدث أن دخلت في نقاش مع أحدهم حين كان منزعجا لعدم نشر خبر ما.. «تأخرتم جدا في توفير المعلومات».. كان متعجبا لأنه مقتنع أنه يفترض أن يتوفر لدينا نموذج جاهز للأخبار نغير فيه فقط بعض المعلومات، وكأن المادة الصحفية هي مجرد نسخ لما هو قديم، ورغم حنقي الشديد من اقتراحه إلا أني أفهم مبرراته.
لأننا في نظرة سريعة للإنتاج أصبحنا جميعا محكومين بخطاب موحد. متكرر متناسخ. جميعنا حتى من ندعي أننا ننتصر للاختلاف والتجديد. إن تناولنا بشيء من التفصيل أدوات إنتاج الخبر مثلا فلا شك من أن هناك قواعد تحكم العمل ولكن المادة التي تصبح شكلا مكررا في شكل النشر ولغته وأسلوب العرض وزوايا التناول لا يمكن أن تحقق الغاية المرجوة منها في الوصول إلى المتلقي وتصبح مع الوقت خطابا عائما لا ينفذ إلى العقول. بحوث عديدة في مجال الصحافة تدعم أن هذا العمل قابل للتشكيل والتغيير وإضفاء حس الإبداع الشخصي فيه. فحتى في قواعد ظلت ثابتة لسنوات من مثل القيم الإخبارية أو اشتراطات الكتابة الصحفية، فهناك دائما إعادة مراجعة يفرضها الواقع والتغير التكنولوجي واختلاف الوسائط وتغير مزاج الجمهور وأسباب لا تحصى. من الممكن جدا أن يجد الصحفي نفسه واقعا في فخ التكرار حين تتشابه القصص والموضوعات التي يكتب عنها لكن الاحتراف يقتضي أن يفكر في زوايا جديدة في الطرح، أو قالب مختلف عما عرض سابقا. أو لغة كتابة وعرض لا يكرر وينسخ أخبارا شبيهة سابقة.
فالكتابة الصحفية هي فعل إبداعي بالدرجة الأولى، هذا ما يقود إليه العديد من الدراسات والتي تتحدى الفكرة السائدة بأن الإنتاج الصحفي إنتاج محدد الأطر ومقولب لاحتكامه إلى قوى سياسية واقتصادية وثقافية توجه ما ينشر، ورغم ذلك التزم فريق العمل بروتين الإنتاج الدوري وتنظيمات العمل والإنتاج الرتيب إضافة إلى اهتمامه في موضوعات النشر بالحقائق ووجوب تحري الموضوعية التي تلزم الصحفي بالحذر فيما يمكن أن يكون ذاتيا وشخصيا في تناوله للأخبار قصصا وتقارير وتحقيقات صحفية. لكن كل هذه المفاهيم تجري معاودة مقاربة البحث فيها وتحليلها فما هي الموضوعية بصدق. كما أن الكتابة الصحفية وقيام العمل الصحفي ككل على التفكير والعصف الذهني لإيجاد القصة الجيدة أو الزاوية المختلفة والتي تقدم منظورا جديدا للموضوع ربما أكثر قربا للناس هي فعل إبداعي بحد ذاته ناهيك عن أساليب السرد الصحفي المختلفة. لكن هناك انسياق للتماهي في نمط محدد ومتواتر يصعب علينا الفكاك منه ينتج عنه تسطيح المعلومات وفقدان الصلة مع المتلقي.
تكمن المشكلة حين يتخلى الصحفي عن حريته ووجود الخيار أن يتناول الموضوع بشكل (إبداعي) لأن ذلك يتطلب جهدا مضاعفا ويتطلب حرية وتوفر طرق الحصول على المعلومات وربما قدرا من التحدي والإصرار والبحث عن منافذ لهذه الحرية ويركن إلى مواد جاهزة. تصبح مادة الأخبار أشبه بزجاجات مشروبات الصودا، حتى في استخدامنا لبعض وسائل العرض الحديثة فنحن نستهلكها في ذات سياق النمذجة.
تتيح وسائل النشر الإلكتروني للصحف المطبوعة (المواقع) فرصة هائلة لاستخدام وسائط نشر متعددة تمنح المادة المنشورة جاذبية وعمقا إذا تم الحفاظ على المبدأ الأساسي بأن العمل الصحفي هو حالة إنتاج إبداعي.
فعلى سبيل المثال من الأساليب الحديثة في العرض والتي بدأت تجد طريقها بشكل واضح في النشر سواء على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الصحف هو الإنفوجرافيك. حيث أثبتت الدراسات أن معظم الناس بصريون في التلقي ويمكن عبر الإنفوجرافيك تقديم معلومات معقدة وشرحها بطريقة مبسطة تشد المتابع وتختصر عليه فهم الكثير من المعلومات. لكن حتى في هذه الأداة علينا أن نستحضرها في وقتها وبإبداع واختيار الملائم منها، ولا بد من توفر ذاك الحس الذي يقيس مدى فاعليتها في موقف دون غيره ولا تستخدم لأنها ضمن النموذج. بحيث تصبح مثل الترند الذي يجمل العرض ويدل على الحداثة كونه وضع في تلك الخانة. فالمهم حين نتعامل مع النماذج ونفكر في كيفية تطبيقها ألا نتخلى عن تلك الحساسية الأخلاقية والجمالية التي أوجدتها في الأساس. يقول ابن نبي في كتابه مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: ((..الأفكار التي خانها أصحابها تنتقم ))
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
السيسي يتابع مستجدات الموقف التنفيذي لمحطة الضبعة النووية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تابع الرئيس السيسي عدد من المشروعات الجارية على رأسها مستجدات الموقف التنفيذي لمحطة الضبعة النووية، في ظل ما يمثله المشروع من أهمية قصوى لعملية التنمية الشامة بمصر، خاصة مع تبنى الدولة استراتيجية متكاملة ومستدامة للطاقة تهدف إلى تنويع مصادرها من الطاقة المتجددة والجديدة، بما يسهم في تحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين
واجتمع الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم مع الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، والمهندس محمود عصمت، وزير الكهرباء والطاقة المتجددة، والمهندس كريم بدوي، وزير البترول والثروة المعدنية.
وصرح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية أن الرئيس اطلع خلال الاجتماع على خطة العمل الحكومية لضمان توفير احتياجات قطاع الكهرباء من المنتجات البترولية، وانتظام ضخ إمدادات الغاز للشبكة القومية للكهرباء، بما يحقق استدامة واستقرار التغذية الكهربائية على مستوى الجمهورية وخفض الفاقد.
كما اطلع الرئيس في هذا الإطار على جهود الحكومة لزيادة الإنتاج المحلى من الثروة البترولية، وتنمية الآبار الجديدة المكتشفة ووضعها على خريطة الإنتاج، وتكثيف أعمال البحث والاستكشاف في مناطق مصر البرية والبحرية، وكذا مستجدات العمل مع الشركاء على زيادة الإنتاج من الشركات العالمية والمستثمرين المحليين، وصياغة خطط عمل جديدة لزيادة جاذبية الاستثمارات في قطاع البترول في ظل ما يملكه القطاع من فرص واعدة في هذا الصدد