المجتمع ومنظومة القيم
تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT
محمد العاصمي
يُعرِّف ابن خلدون "الرقابة الاجتماعية" أو كما أطلقَ عليها في مقدمته "الضبط المجتمعي" بأنها "الأسس التي يرجع إليها أيّ تجمّع بشريّ إما يكون لها أساس عقدي ديني شرعي ويتم تطبيقها بناء على الإيمان بالثواب والعقاب، أو أساس سياسيّ عقلي وضعي يوجب عليهم اتباعه بعد معرفة ما يترتب على هذا الأساس من مصحلة مترتبة"، ويرى ابن خلدون أن أهم المقومات الضابطة للمجتمع تتمثل في: "الدين، والقانون، والآداب العامة، والأعراف، والعادات، والتقاليد".
وأي مجتمع بشري يتفاعل أفراده فيما بينهم وفق هذه المنظومة والمحددات التي تضبط العلاقات فيما بين الأفراد والتي عرفت بالأعراف المجتمعية والتي ترتبط بالأطر التي يضعها أفراد المجتمع بأنفسهم والتي تهدف إلى جعل الحياة أكثر سهولة وتنظيمًا وتحديدًا للحقوق والواجبات.
ما يدعو للحديث عن منظومة القيم المجتمعية هو التسارع الكبير في وتيرة الحياة والتغييرات التي تطرأ على سلوكيات الأفراد باستمرار وبشكل سريع جدًا، وكثرة المصادر التي أصبحت تغذي المجتمعات والأفراد بسلوكيات لم تكن موجودة من قبل، وحتى اللغات واللهجات التي كانت سمة مميزة لكل مجتمع أضحت هي الأخرى ضحية لهذا التغيير الذي لم يعد يوقفه أي حاجز.
لقد اكتسبت المجتمعات العديد من السلوكيات التي أثرت على منظومة القيم فبعد أن كانت مصادر السلوك أو لنقل القيم محددة فيما ذكره ابن خلدون دخلت العديد من المصادر لتشكل منبعا جديدا يصب في مجرى القيم، وهذا التغيير مصدره هو تغير وسائل الاتصال بين المجتمعات؛ حيث إن التواصل البشري هو الأصل في نقل كل شيء من معارف وعادات وأطباع ومهارات وغيرها، وقد كان هذا التواصل في القديم محصورا بمجموعة من الوسائل البدائية جعلت من عملية انتقال القيم عملية بطيئة مسيطر عليها وتستغرق فترات زمنية طويلة ليحدث التأثير.
وتطورت وسائل الاتصال بين البشر وحدثت الهجرات الجماعية وتعددت وسائل النقل الحديثة وكل هذا جعل من التواصل أكثر سرعة وأتسعت الدائرة لتشمل أعدادا كبيرة من البشر وأثر هذا على سرعة نقل العادات والقيم وأصبح التأثير يحدث في فترة زمنية أقل من السابق، ومع حدوث الثورة الصناعية الرابعة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي انتشر بشكل واسع ما يعرف بـ"المجتمعات الافتراضية"، والتي هي عبارة عن ساحات فضائية يلتقي فيها البشر بمختلف أجناسهم ويتفاعلون فيما بينهم ويتبادلون الأفكار والآراء دون الحاجة للتنقل والسفر والتواجد في مكان واحد، ويُعد هذا التحول الكبير الذي حدث في وسائل الاتصال سببًا مباشرًا في تأثر المجتمعات بعضها ببعض وتدفق المعارف والسلوكيات فيما بينها مما جعل كثيرا من المجتمعات مستوردة ومتقبلة لعديد من القيم التي لم تكن يومًا ما جزءًا من ثقافتها.
إنَّ أكثر المجتمعات تضررًا من هذا الدفق الحاصل هي تلك التي لا تمتلك ركائز وأساسات ودعائم تستند عليها لمواجهة هذه الموجات ومقاومة الزخم العالي من المدخلات التي تصل إلى أفرادها نتيجة احتكاكهم وتواصلهم مع أفراد من مجتمعات أخرى، ولقد أثر هذا التداخل في تغيير كثير من السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف وفي جميع المستويات وشمل اللغة واللبس ونمط الحياة وحتى أثر في اعتناق البعض لأديان أخرى لم يكونوا على علم بها.
وأمام هذه التحولات المتسارعة التي لا يمكن إلّا القبول بها والتعاطي معها كواقع لا يمكن تجاهله، يبرُز اتجاه مُهم يدعو للتفاعل والتعامل مع الوضع والتحضير له، حتى يتجنب المجتمع الوصول إلى مرحلة فُقدان الهوية والانصهار والذوبان، وسط هذا الكم الهائل من الغزو القيمي والثقافي، وحتى نتمكن من ذلك لا بُد من تقوية الركائز والدعائم التي يقوم عليها بناء القيم المجتمعة والتي تتمثل في ثلاث أساسيات تقع عليها هذه المسؤولية؛ وهي: المدرسة والمسجد والأسرة؛ حيث تُشكِّل هذه المنظمات المجتمعية الثلاثة رأس الحربة التي يمكنها حماية المجتمع من هذه التحولات التي قد تقضي على هويته وتجعله نسخة مكررة من مجتمعات لا ترتبط معها جغرافيًا يعيش أفرادها الاغتراب داخل أوطانهم.
إنَّ الحديث عن هذه المؤسسات الثلاث يحتاج إلى تفاصيل مستقلة في قادم المقالات، لكن يبقى أن أشير إلى أن المجتمعات التي نجحت في الحفاظ على قِيَمها هي التي تحقق الريادة في العالم، وخاصة تلك القيم المرتبطة بالإخلاص والأمانة والعطاء.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
"هنو" يترأس الاجتماع الـ 71 للمجلس الأعلى للثقافة لبحث آليات تطوير الأداء ومنظومة العمل بالوزارة
ترأس الدكتور أحمد فؤاد هَنو، وزير الثقافة - رئيس المجلس الأعلى للثقافة - الاجتماع الـ 71 للمجلس الأعلى للثقافة والذي ناقش عددًا من الآليات التي تهدف إلى تعزيز فعالية وكفاءة أداء لجان المجلس، وتحديث أساليب العمل، بما يتناسب مع المستجدات الثقافية المحلية والدولية.
حيث استهل الاجتماع بالتصديق على محضر الاجتماع السابق رقم 70، كما تناول الاجتماع مناقشة آليات إعادة تنظيم لجان المجلس، من خلال الاستحداث النوعي لها، أو إعادة النظر بشأن عددها حذفًا أو إضافة، ووضع آليات ومعايير لتقييم الأداء بها، وكذلك وضع معايير لاختيار أعضائها، بما يتسق مع طبيعة الأهداف المرجوة منها، مع أهمية التفعيل الأمثل لعدد من الإجراءات التي تكفل التنسيق الشامل بين مختلف لجان المجلس، بما يحقق التكاملية التي تخدم مجموعة الرؤى والأهداف والرسائل التي تنتهجها وزارة الثقافة لنشر التنوير وإرساء دعائم الوعي المجتمعي بقيمة وريادة مصر الثقافية إقليميًا ودوليًا.
كما تضمن الاجتماع التطرق لمناقشة أهمية اضطلاع لجان المجلس بدورها البناء، إزاء التعرف على المشكلات، وكذلك رصد التحديات المتعددة التي تواجهها قطاعات وزارة الثقافة في تطوير المجال الثقافي والفني، ومن بينها المساهمة الجادة في وضع حلول مبتكرة تعمل على تسويق المنتج الثقافي بشكل فعال، يعود بالنفع على مختلف مفردات منظومة العمل الثقافي ككل، وتعزيز القيمة الاقتصادية والتنويرية للمنتج الثقافي كمنتج قابل للتصدير، للمساهمة في تحقيق استدامة الريادة الثقافية المصرية.
ونوقش بالاجتماع ضرورة تحديث استراتيجيات العمل الثقافي، ورسم السياسات الثقافية التي تتوافق مع الاتجاهات التكنولوجية الحديثة التي يشهدها العالم في مجال العمل الثقافي، والتي تتسق مع رؤية شاملة ومستدامة، وذلك بهدف تحقيق أكبر استفادة من الموارد المتاحة، وتطوير الأداء في مختلف المجالات الثقافية.
وتم استعراض عدد من المقترحات التي تتعلق بتطوير الأنشطة الثقافية، والمشاريع المستقبلية التي تهدف إلى إثراء المشهد الثقافي المحلي، وتعزيز دور لجان المجلس في التنسيق بين نوعية هذه الأنشطة، بشكل يتناسب مع احتياجات وتطلعات المجتمع.
وأكد وزير الثقافة، على أهمية تكامل الجهود بين طبيعة عمل اللجان ومختلف الهيئات الثقافية بالوزارة، مشددًا على ضرورة العمل الجماعي المستمر لتطوير الأداء الثقافي، مشيرًا إلى انفتاح وزارة الثقافة على توسيع دائرة المشاركة المجتمعية في الأنشطة الثقافية والفنية، من خلال دعمها ورعايتها لأية مبادرات أو أفكار ابتكارية من شأنها المساهمة في رفع الوعي وبناء الإنسان.
كما أكد وزير الثقافة أن مصر تزخر بمقومات ومفردات ثقافية وحضارية تدعو للفخر والاعتزاز بمقدرات هذا الوطن التي يجب الحفاظ عليها وصونها، والبناء عليها لصنع مستقبل مشرق لبلادنا. مؤكدًا أن مصر زاخرة كذلك بمواهب شبابية واعدة متفردة في مختلف مجالات العلم والمعرفة، والتي يجب استثمارها ورعايتها وصقلها بما يحقق التقدم التنموي للمجتمع المصري، وهو ما تسعى إليه وزارة الثقافة في مختلف أنشطتها وفعالياتها المتنوعة والتي تحقق رواجًا جماهيريًا كبيرًا بمختلف قرى ونجوع مصر، ومنها الصعيد والمناطق الحدودية. مناشدًا وسائل الإعلام ضرورة تسليط الضوء على هذه الفعاليات وتقديمها للمجتمع المصري، للتعريف بهويتنا الثقافية، وإحداث المزيد من الترويج لما تمتلكه مصر من إرث حضاري ومواهب متجددة.
وفي ختام الاجتماع، تم الاتفاق على وضع خطة عمل متكاملة مشتركة بين اللجان، لتنفيذ المقترحات المطروحة، وتحقيق أهداف الوزارة في تطوير العمل الثقافي، مع التأكيد على أهمية المتابعة المستمرة لضمان تحقيق النتائج المرجوة.