جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-18@05:09:50 GMT

المجتمع ومنظومة القيم

تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT

المجتمع ومنظومة القيم

محمد العاصمي

يُعرِّف ابن خلدون "الرقابة الاجتماعية" أو كما أطلقَ عليها في مقدمته "الضبط المجتمعي" بأنها "الأسس التي يرجع إليها أيّ تجمّع بشريّ إما يكون لها أساس عقدي ديني شرعي ويتم تطبيقها بناء على الإيمان بالثواب والعقاب، أو أساس سياسيّ عقلي وضعي يوجب عليهم اتباعه بعد معرفة ما يترتب على هذا الأساس من مصحلة مترتبة"، ويرى ابن خلدون أن أهم المقومات الضابطة للمجتمع تتمثل في: "الدين، والقانون، والآداب العامة، والأعراف، والعادات، والتقاليد".

وأي مجتمع بشري يتفاعل أفراده فيما بينهم وفق هذه المنظومة والمحددات التي تضبط العلاقات فيما بين الأفراد والتي عرفت بالأعراف المجتمعية والتي ترتبط بالأطر التي يضعها أفراد المجتمع بأنفسهم والتي تهدف إلى جعل الحياة أكثر سهولة وتنظيمًا وتحديدًا للحقوق والواجبات.

ما يدعو للحديث عن منظومة القيم المجتمعية هو التسارع الكبير في وتيرة الحياة والتغييرات التي تطرأ على سلوكيات الأفراد باستمرار وبشكل سريع جدًا، وكثرة المصادر التي أصبحت تغذي المجتمعات والأفراد بسلوكيات لم تكن موجودة من قبل، وحتى اللغات واللهجات التي كانت سمة مميزة لكل مجتمع أضحت هي الأخرى ضحية لهذا التغيير الذي لم يعد يوقفه أي حاجز.

لقد اكتسبت المجتمعات العديد من السلوكيات التي أثرت على منظومة القيم فبعد أن كانت مصادر السلوك أو لنقل القيم محددة فيما ذكره ابن خلدون دخلت العديد من المصادر لتشكل منبعا جديدا يصب في مجرى القيم، وهذا التغيير مصدره هو تغير وسائل الاتصال بين المجتمعات؛ حيث إن التواصل البشري هو الأصل في نقل كل شيء من معارف وعادات وأطباع ومهارات وغيرها، وقد كان هذا التواصل في القديم محصورا بمجموعة من الوسائل البدائية جعلت من عملية انتقال القيم عملية بطيئة مسيطر عليها وتستغرق فترات زمنية طويلة ليحدث التأثير.

وتطورت وسائل الاتصال بين البشر وحدثت الهجرات الجماعية وتعددت وسائل النقل الحديثة وكل هذا جعل من التواصل أكثر سرعة وأتسعت الدائرة لتشمل أعدادا كبيرة من البشر وأثر هذا على سرعة نقل العادات والقيم وأصبح التأثير يحدث في فترة زمنية أقل من السابق، ومع حدوث الثورة الصناعية الرابعة وظهور وسائل التواصل الاجتماعي انتشر بشكل واسع ما يعرف بـ"المجتمعات الافتراضية"، والتي هي عبارة عن ساحات فضائية يلتقي فيها البشر بمختلف أجناسهم ويتفاعلون فيما بينهم ويتبادلون الأفكار والآراء دون الحاجة للتنقل والسفر والتواجد في مكان واحد، ويُعد هذا التحول الكبير الذي حدث في وسائل الاتصال سببًا مباشرًا في تأثر المجتمعات بعضها ببعض وتدفق المعارف والسلوكيات فيما بينها مما جعل كثيرا من المجتمعات مستوردة ومتقبلة لعديد من القيم التي لم تكن يومًا ما جزءًا من ثقافتها.

إنَّ أكثر المجتمعات تضررًا من هذا الدفق الحاصل هي تلك التي لا تمتلك ركائز وأساسات ودعائم تستند عليها لمواجهة هذه الموجات ومقاومة الزخم العالي من المدخلات التي تصل إلى أفرادها نتيجة احتكاكهم وتواصلهم مع أفراد من مجتمعات أخرى، ولقد أثر هذا التداخل في تغيير كثير من السلوكيات والعادات والتقاليد والأعراف وفي جميع المستويات وشمل اللغة واللبس ونمط الحياة وحتى أثر في اعتناق البعض لأديان أخرى لم يكونوا على علم بها.

وأمام هذه التحولات المتسارعة التي لا يمكن إلّا القبول بها والتعاطي معها كواقع لا يمكن تجاهله، يبرُز اتجاه مُهم يدعو للتفاعل والتعامل مع الوضع والتحضير له، حتى يتجنب المجتمع الوصول إلى مرحلة فُقدان الهوية والانصهار والذوبان، وسط هذا الكم الهائل من الغزو القيمي والثقافي، وحتى نتمكن من ذلك لا بُد من تقوية الركائز والدعائم التي يقوم عليها بناء القيم المجتمعة والتي تتمثل في ثلاث أساسيات تقع عليها هذه المسؤولية؛ وهي: المدرسة والمسجد والأسرة؛ حيث تُشكِّل هذه المنظمات المجتمعية الثلاثة رأس الحربة التي يمكنها حماية المجتمع من هذه التحولات التي قد تقضي على هويته وتجعله نسخة مكررة من مجتمعات لا ترتبط معها جغرافيًا يعيش أفرادها الاغتراب داخل أوطانهم.

إنَّ الحديث عن هذه المؤسسات الثلاث يحتاج إلى تفاصيل مستقلة في قادم المقالات، لكن يبقى أن أشير إلى أن المجتمعات التي نجحت في الحفاظ على قِيَمها هي التي تحقق الريادة في العالم، وخاصة تلك القيم المرتبطة بالإخلاص والأمانة والعطاء.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

القيم المؤثرة على سلوك المنظمات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

 في كتابه "السعادة الحقيقية"، استعرض مارتن سيلجمان القيم الأساسية التي تؤثر على السلوك الأخلاقي للمنظمات وتبدأ بالحكمة والمعرفة، ويشير إلى القدرة على أخذ المعلومات وتحويلها إلى شيء مفيد. تأتي الحكمة من الاستفادة من الخبرات لتفسير المعلومات بطريقة مستنيرة لإنتاج قرارات حكيمة. إن الشرط الأساسي للقيام بالشيء الصحيح عند مواجهة معضلة أخلاقية هو معرفة ما يجب فعله ومعرفة الفرق بين الصواب والخطأ.

كذلك ضبط النفس ويشير هذا إلى القدرة على تجنب الإغراءات غير الأخلاقية. وتتطلب القدرة على اتباع المسار الأخلاقي الالتزام بقيمة التصرف باعتدال. إذ يقول الأشخاص الأخلاقيون "لا" للمكاسب الفردية إذا كانت تتعارض مع المنفعة المؤسسية وحسن النية.

أيضًا العدالة والتوجيه العادل وتتعلق هذه القيمة بالمعاملة العادلة للناس. وتتحقق العدالة عندما يشعر الأفراد بأنهم يحصلون على عائد عادل مقابل الطاقة والجهد المبذولين من أجل غرض معين.

كذلك التسامي وهو قيمة روحية تعترف بوجود شيء ما وراء الذات أكثر ديمومة وقوة من الفرد. وبدون هذه القيمة، قد يميل المرء إلى الانغماس في الذات. إن القادة الذين يحركهم في المقام الأول المصلحة الذاتية وممارسة السلطة الشخصية لديهم فعالية محدودة ومصداقية.

مع ضرورة توافر اللطف داخل المنظمة بين الزملاء، وتسمح المنظمة "ذات القلب" بالتعبير عن الحب والرحمة واللطف بين الناس، والنوايا الحسنة التي يمكن الاستعانة بها عندما يواجه المرء تحديات أخلاقية. وأخيرًا الشجاعة والنزاهة أو الشجاعة اللازمة للتصرف بأخلاق ونزاهة. وتتضمن هذه القيم التمييز بين الصواب والخطأ والتصرف وفقًا لذلك. وهي تدفع الشخص إلى القيام بما هو صحيح باستمرار دون الاهتمام بالعواقب الشخصية، حتى عندما لا يكون ذلك سهلًا.

مقالات مشابهة

  • المنيا تستعد لانطلاق امتحانات الشهادة الإعدادية غداً.. والمحافظ يشدد على توفير بيئة مناسبة أعلن اللواء عماد كدواني، محافظ المنيا، عن جاهزية مدارس المحافظة لانطلاق امتحانات منتصف العام للشهادة الإعدادية للعام الدراسي 2024/2025، والتي تبدأ غدًا السبت 18 ينا
  • القيم المؤثرة على سلوك المنظمات
  • وكيل وزارة الأوقاف سابقًا: الكلمة سلاح قوي في المجتمع
  • دماء داخل البيوت.. الجرائم الأسرية عرض مستمر.. خبراء: من أخطر الظواهر التي تهدد المجتمعات الحديثة وغياب الأدوار الثقافية والتربوية سبب رئيسي
  • وكيل محافظة مأرب يناقش مع مؤسستي العون ومنظومة دعم القطاع التعليم الفني والمهني
  • فيما يختص المرتزقة الجنوبيين.. حكاية بالتفاصيل المؤلمة
  • مدبولي: أعلنا عن خطة الطروحات لـ 2025.. ومنظومة الإصلاح مستمرة
  • لدعم خطة الدولة في بناء المواطن.. النائب حازم الجندي يُطلق حملة لإعادة إحياء القيم المجتمعية وتنشئة الصغار عليها
  • بشري: محمد سامي مخرج مميز وفاهم اللى بيحبه الشارع .. وهذا رأي فيما يحدث بالوسط الفني|حوار
  • باحثة بـ«مرصد الأزهر»: الشائعات الإلكترونية تهدد استقرار المجتمعات