جريدة الرؤية العمانية:
2025-01-30@13:17:27 GMT

ذوبان اللغة

تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT

ذوبان اللغة

 

 

د. صالح الفهدي

 

اللغة قوامُ الهُويَّة؛ إذ ليست مُجرَّد أحرفٍ تُكتب، وكلماتٍ تُنطق، وعباراتٍ تُنقش، وإِنِّما هي قبل كل شيء مشاعرَ تُنقل، وأحاسيس تُوصل، وأفكار تُبادل، وما نقوله هنا ليس بدعًا في القول، ولا نسطِّرهُ لأوَّل مرة، إنما قلناهُ مرارًا وتكرارًا، لما نشهده من ميول تفضيل التواصل في الجيل الحالي صغيره وكبيره إلى اللغة الإنجليزية أكثر من العربية، وهذا الأمر له عواقبَ خطيرة على مُستقبل هذا الوطن.

فالطفل الذي يتحدَّث الإنجليزية مُتقنًا إيّاها على حساب اللغة العربية؛ لغته الأم، لن يقتصر الأمر عليه في جانب التحدث وحسب؛ بل إنه يسهلُ عليه الاقتداء بأخلاق الشعوب المتحدثة بالإنجليزية، ويتقبَّل ما يأتي منهم أكان ذلك تقدمًا أم انحطاطًا!!

اُنظر إلى من يلبسُ لباسًا عسكريًا على سبيل المثال ستجده وقد تغيَّرت شخصيته ليتوافق مع طبيعة اللباس، وانظر إلى من يلبس ملابس أجنبية غير لائقة ستجدهُ وهو يتصرف بما يتوافق مع ما لبِس، فكيف بمن تكون اللغة الأجنبية هي لسانه التي يتحدث به، أَوَلا يكون أدعى أن يتلفَّظ بما يسمعه من كلماتٍ نابيةٍ تُحسب من الأسلوب العفوي والطبيعي لمتحدثي تلك اللغة؟!

فرنسا أدركت هذا الأمر في البلدان التي استعمرتها سابقًا، فأبقت احتلالها النفسي والعقلي بترسيخ اللغة الفرنسية في ما يقارب الثلاثين دولة وأنشأت رابطة أسمتها "الفرانكفونية" وتشمل الدول المتحدثة باللغة الفرنسية، حتى كان لهذه السياسة أثرها في الانتماء إلى الفرنسية عبر لغتها أكثر من الانتماء إلى الأوطانِ ذاتها، حتى استفاقت بعض الدول الأفريقية مؤخرًا ووعت أنها واقعة تحت تخدير اللغة الفرنسية، وأن فرنسا تنهبُ ثرواتها عبر اللغة التي تسوَّق لها على أنَّها لغة التحضُّر والأدب والفن، بينما هي في الحقيقة أداة استعمار ونهب للدول التي يُراد لها أن تعيش فقيرة..! على سبيل المثال: في النيجر وبعد الانقلاب بدأت الدولة في عرض مادة اليورانيوم بسعر (200) دولار للكيلو الواحد، في حين كانت فرنسا تدفع لها (80) بنسًا فقد كانت شركة "أورانو" الفرنسية تُهيمن على مُعظم احتياطيات البلاد!!

على كل حال أردتُ فقط أن أُبيِّن مآلات الانتماء اللغوي، وبيان أثرٍ من آثاره الوخيمة على الدول التي تظن أن اللغة الأجنبية إنما هي سلاح بين هي أداة استعمار، ولا تكونُ سلاحًا إلا عندما تكون اللغة الأم هي المتصدرة الأولى، وهذا ما فعلته دولة مالي بعد انقلابها وتحررها من الهيمنة الفرنسية بأن جعلت العربية- بصفتها دولة إسلامية- لغتها الأولى قبل الفرنسية وهو ما سيردُّ إليها هويتها التي فقدتها بسبب هيمنة الفرنسية على لسانها. وهنا أذكر أن مُعلِّما مغربيًا قال لي ذات مرة: أنه أوشك على الزواج من امرأة مغربية، وقد كان مدرسًا للغة العربية، فلمَّا عرفت أنَّه لا يتحدث الفرنسية رفضت الارتباط به مع أنهما يتحدثان اللهجة المغربية!! وهذا يُبيِّن أثر اللغة حتى في تفضيل من يتحدث الفرنسية على من يتحدث العربية في مجتمع عربيٍّ في الأساس، وكم يردد أبناء العربية هذه الأُنشودة:

بلادُ العُربِ أوطاني

منَ  الشّامِ لبغدانِ

ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ

إلى مِصرَ فتطوانِ

 فلا حدٌّ  يباعدُنا

ولا دينٌ يفرّقنا

لسان الضَّادِ يجمعُنا 

بغسَّانٍ وعدنانِ

وتطوان مدينة مغربية، يُفترضُ أن تجمع العروبة لسان الضادِ بها، ولكن وضع الفرنسيون أياديهم على مستعمراتهم فاستعمروا العقول فكانت تلك غنيمتهم الكُبرى!

إنَّنا إن لم نُدرك خطر تفضيل هذه الأجيال للغة الأجنبية على العربية فإِننا سنقع في نفس مأزق هذه الشعوب التي لم تنتبه إلاَّ بعد عقودٍ وربما قرون، فالاعتزاز باللغة هو اعتزاز بالهوية التاريخية، والانتماء الوطني، وهذا يستدعي منَّا أن نقوم بخطواتٍ عملية في سبيل جعل اللغة العربية هي:

أولًا: ترسيخ اللغة العربية بصفتها مبعث فخر لأبنائها قبل قيمتها اللغوية

ثانيًا: نشر التوعية لدى الوالدين بأثر اللغة الأم على شخصية الأبناء.

ثالثًا: التأكيد على فكرة أن اللغات الأجنبية مهمة جدًا ولكن ليس على حساب اللغة العربية.

رابعًا: تقريب اللغة العربية من أبنائها من خلال المنهج الدراسي.

خامسًا: إقامة الفعاليات والمسابقات المحفزة للغة العربية وما يرتبط بها من فنون وآداب وعلوم في المجتمع.

سادسًا: جعل اللغة العربية هي لغة التواصل في المؤسسات إذا لم يكن استخدامها مؤثرًا على نظام العمل.

ويُمكن زيادة هذه المقترحات التي تهدف إلى تعزيز اللغة العربية، والاعتزاز بها لدى أبنائها، حتى لا نرى أجيالنا القادمة وقد خلعت عنها رداء الهوية العربية وتلبَّست رداء الأجنبية فكانت كالشعوب التي تعتقد أنها قد تحررت من الاستعمار بينما يرطنُ لسانها بلغته، وتفتخرُ بأنها تنتسبُ إليه لسانًا، والانتسابُ لسانًا يعني الانتماء هويةً، والتعلُّق قلبًا.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

«أبوظبي للغة العربية» يطلق الدورة الخامسة من برنامج المنح البحثية 2025

أبوظبي (الاتحاد) أعلن مركز أبوظبي للغة العربية بدء استقبال طلبات المشاركة والأعمال المرشحة للاستفادة من برنامج المنح البحثية في دورته الخامسة 2025، اعتباراً من 23 يناير الجاري إلى نهاية فبراير المقبل.ويتوجب على الباحثين الراغبين في المشاركة تعبئة استمارة التقدم للمنح البحثية عبر الموقع الإلكتروني للمركز www.alc.ae.
يدعم البرنامج تأليف الكتب العلمية، ويهدف إلى تحفيز الباحثين في مجال اللغة العربية وعلومها، وتشجيعهم على تقديم مشروعات بحثية نوعية تسهم في تعزيز مكانتها، وتنهض بوعي القرّاء وفكرهم، وترتقي بمجالات البحث العلمي، وبناء قاعدة بحثية راسخة في مجال اللغة العربية، ودعم تطور إصدار البحوث والدراسات العربية.
يقدّم البرنامج سنوياً ما بين ست وثماني منح تصل قيمتها الإجمالية إلى 600 ألف درهم في مجالات عدة تضمّ المعجم العربي، والمناهج الدراسية، والأدب والنقد، وتعليم العربية للناطقين بغيرها، واللسانيات التطبيقية والحاسوبية، وتحقيق المخطوطات في مجال علوم اللغة العربية. ومنذ إطلاق البرنامج، بلغ عدد المنح المقدمة للباحثين 28 منحة بحثية في مختلف المجالات.
وقال الدكتور علي بن تميم، رئيس مركز أبوظبي للغة العربية: «يعزّز برنامج المنح البحثية توجه المركز نحو بناء قاعدة بحوث ودراسات عربية منضبطة، وتطوير البحث العلمي باللغة العربية وتوسيع آفاقه مع التركيز على عناصر الجدة والابتكار والتفرد».
وأضاف: «نثق في أن هذه الدورة ستنجح في استقطاب مشاركات ذات طبيعة فريدة، لأن برنامج المنح البحثية، خلال دوراته الأربع السابقة أرسى معايير مهمة في عملية الكتابة والبحث العلمي باللغة العربية وصار نقطة جذب للباحثين الجادين الذين يعملون في دأب وصمت، ليضيفوا ما يرونه جديداً إلى حقل الدراسات العربية».
يأتي برنامج المنح البحثية في صميم الخطة الاستراتيجية للمركز، ويهدف إلى دعم الباحثين الإماراتيين والعرب والناطقين باللغة العربية من أجل إنجاز بحوث ترتقي بالعربية، وتدعم انتشارها محلياً وعالمياً بوصفها لغة علم وثقافة وإبداع. كما يمثل حافزاً قوياً للباحثين في مجال اللغة العربية، ويعكس حرص المركز على الارتقاء بالبحث العلمي في مجال اللغة العربية، ويكرّس مكانة إمارة أبوظبي الثقافية، ودورها الرائد في دعم اللغة العربية، وتعزيز حضورها.
توفّر المنح البحثية فرصة للباحثين للمشاركة في تطوير اللغة العربية، وتدعم مركز أبوظبي للغة العربية في تعزيز تأثيره الثقافي الريادي. وتشمل شروط التقديم أن يكون البحث باللغة العربية حصراً، وألا يقل عن 50 ألف كلمة، مع الالتزام بالمعايير الأكاديمية. كما يجب أن يتسم البحث بالجدة والمنهجية، وألا يكون منشوراً أو مقدماً لأي جهة أخرى. كما يُشترط أن يمتلك المركز جميع حقوق النشر الورقية، والإلكترونية للبحوث التي تُقدَّم لها المنح، سواء أكانت نظرية أم تطبيقية لمدة غير محدّدة، وذلك في فئات البحوث الست المتنوعة التي يدعمها البرنامج، والتي تحظى بمعايير تقييم عالمية حول مدى جدارة البحث وحداثته الفكرية، ومستوى التأثير المُتوقع لمُخرَجات المُقترَح البحثي، ومدى ارتباط المُقترَح البحثي بإستراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، والمؤهلات والمسار البحثي للباحث الرئيس، ولكل باحث مساعد، أو شريك في المُقترَح البحثي، إضافة إلى مدى مساهمة المُقترَح البحثي في مجاله.
وبفضل زيادة الوعي بالبرنامج وأهميته في دعم البحوث العربية، من المتوقع أن يرتفع عدد المشاركات في هذا العام، وكان البرنامج استقبل في دورة الدورة الماضية 270 مشاركة من 31 دولة، وجاءت أعلى نسبة مشاركة من مصر، تلتها المغرب، ثم سوريا، ثم الأردن.

أخبار ذات صلة «أبوظبي للغة العربية» يطرح برنامجاً ثقافياً متكاملاً في «القاهرة الدولي للكتاب» جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي تفتح باب التسجيل في برنامج التدريب البحثي

مقالات مشابهة

  • عبدالحميد مدكور: العربية ظلت بفضل القرآن لغةً حيةً قادرةً على استيعاب كل جديد مع الحفاظ على رصانتها
  • أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون معضلة اللغة
  • مجمع الملك سلمان العالمي يُطلق «تقرير مؤشر اللغة العربية»
  • عضو «كبار العلماء»: اللغة العربية تهيأت على مدى قرون لتحمل أنوار القرآن
  • "أبوظبي للغة العربية" يستقبل طلبات "المنح البحثية"
  • «أبوظبي للغة العربية» يطلق الدورة الخامسة من برنامج المنح البحثية 2025
  • معرض الكتاب يناقش تاريخ الأدب البولندي وحركة الترجمة إلى العربية
  • الشِّعر ديوان العربية الفصحى
  • موارد الترجمة الآلية بين اللغة العربية والإنجليزية.. كتاب متخصص في حوسبة اللغات
  • «السياحة»: توقيع اتفاقية لتعليم مفتشي الآثار والعاملين بالمتاحف اللغة الفرنسية