زمن الإبداع المتصل والمنقطع
تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT
لم أتفق مع المفكر المغربي محمد عابد الجابري في نقده لنظام التفكير العربي في أربعة كتب خطيرة غير حقيقة واحدة من اطروحاته سلمت بها في تاريخ التفكير العربي وهي اتصال زمن الإبداع أي أنه لم يشهد محطات فارقة.. وقفزات تطورية ذات عمر محدد ليأتي جيل إبداعي جديد بفتوحات كبرى أخرى.. مع أنها لاتعود إلى تكوين الفكر ولا إلى بنية العقل بل إلى التهيب العلمي في تجاوز المألوف الذي ينظر إليه كمقدس وعلى ذلك عدة أمثلة:
- انتظر علم التفسير ما يزيد عن قرنين حتى ظهر شيخ المفسرين ابن جرير الطبري (ت 310) وألف جامع البيان ولم يكن ذلك سهلا عليه فقد تعرض للإيذاء الشديد لأنه أتى بشيء غير مسبوق.
ثم احتجنا للبقاء سبعة قرون بعده في حدود علمي حتى أتى سيد قطب بجديد في كتابه (في ظلال القرآن). وهو القيم الإبلاغية والرسالية والتصويرية لآيات القرآن الكريم .
- واستمر علم التاريخ سبعة قرون حتى جاء ابن خلدون الذي قال في المقدمة ما ملخصه أتيت فيه بما ترى لأرفع من التقليد يدا، أي أنه نبذ النمط المتبع فكان جديده ليس مجرد سرد للوقائع والأحداث ولكنه نظر فيها أسبابها وعللها وشروط قيام الدول وظروفها فقدم بذلك أول نظرية في علم الاجتماع.
ثم استمر عمر التجديد متصلا على محطة واحدة وإلى الآن ومن جاء بعده استمروا عالة عليه كأنه مجرد فلتة لا تتكرر وكان بالإمكان أن يكون أول الفاتحين لعلماء اجتماع جدد نقود به العالم غير ان الغربيين التقطوا الفكرة وداعوا ريادتها.
- وعندما سجل سيبويه تلك الوثبة العملاقة في علم النحو ممثلا بكتابه (الكتاب) استمر النحاة عالة عليه قرونا متطاولة حتى قالوا من أراد أن يؤلف بعد الكتاب فليستح.. وليت أنهم أبقوا على علله الدلالية بل ما لبث النحو أن تحجر في قواعد جافة وخلت من تلك اللمسات..حتى جاء عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس وحقق قفزة هائلة في إخراج النحو من نمطية القواعد والأمثلة إلى عالم الدلالة وفلسفة هندسة الجملة بلاغيا وأسلوبيا في كتابيه (أساس البلاغة) و(دلائل الإعجاز) لتتوقف المحطة عند جهوده إلى أن جاء الدكتور فاضل السامرائي في عصرنا الراهن وأحسن الجمع بين جناحي النحو القواعد ودلالاتها في كتابه (معاني النحو) وذلك في ستة مجلدات ضخمة وهذا يشير إلى أن نظرية النحو لم تكتمل بعد فلايمكن تعميم ستة مجلدات إلى كل العالم كنحو عربي متكامل فلم يؤلفه ككتاب نهائي مغن بل كمرجع من المراجع كما أن كتبه في الدلالة كثيرة.
أن البطء في الحركة العلمية حتى في العلوم الإنسانية ليس أساسه بنظري اختلاف الإنسان بل يعود إلى عوامل اجتماعية كثيرا وهو ما ندد الله بها في كتابه كثيرا (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على إثارهم مقتدون).
المصدر: المشهد اليمني
إقرأ أيضاً:
شـواطئ.. سفيرة النجوم فيروز وسوسيولوجيا الإبداع (1)
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تأثرت أعمال الرحبانية بمظاهر الطبيعة والبيئة تأثرا بالغا، مما جعل هذه الأعمال أكثر إقناعا ومصداقية، وبشكل أو بأخر عززت مدركاتهم الحسية ودعمت أفكارهم الفنية، فالبيئة وما فيها من كل خصائص ومميزات أعطتهم تسليما بأن الثقافة والفن وليد البيئة والإنسان معا، وهذا ما يجعلهم يتميزون بأعمالهم وفقا للظروف الاجتماعية في الحقب الزمنية التالية لهم.
إن هذه العوامل البيئية بتعدد مفهومها وتنوع اختصاصاتها، تعد مصدرًا من مصادر التذوق الإجمالي انطلاقا من القيمة الأخلاقية في بيئة الرحبانية، وبالتالي اكتسبت ثقافة الرحبانية ديمومتها من خلال الصلة الوثيقة التي ربطتهم بكل مظاهر وظواهر المجتمع، وهذه الظواهر أعطت انعكاسات وتطورات حدثت نتيجة تحول اجتماعي في بيئتهم ارتبطت بواقع بلادهم بكاملها في ماضيها وحاضرها، ولذلك فقد فهموا واقعهم ركزوا فيه وأبرزوا مظاهره الإيجابية وانطلقوا من مبادئ حيوية جعلوها ضمن حالة التوازن مع متطلبات بيئتهم الاجتماعية الجديدة ومفاهيمها الحديثة.
وكذلك كان للثقافة أثر كبير في طرائق التعبير والتفكير الأكاديمي عند الرحبانية، فقد ساهمت في تطورهم الاجتماعي وانعكاسه من خلال المتغيرات والنزعات والميول الخيالية التي صادفتهم، وكانت سببا في الاتجاهات المتطورة في أساليبهم الفنية. وتأتى سوسيولوجيا الرحبانية في الإمعان بما تولده البيئة في أشعارهم من الحديث عن المكان والزمان وآثر ذلك على الفصول في ظل الإحساسات المتباينة بين الوحدة والتوحش والضجر، والفرح والضحك والتأمل والحب ومناجاة لكل ما في الطبيعة من تأثير مباشر. من هنا تأتى أهمية كتاب "فيروز وسوسيولوجيا الإبداع عند الرحبانية 1960 – 1980" للدكتور محمد الشيخ والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ولد الأخوان رحبانى عاصي 1923 ومنصور 1925 في ظل المكان الذي استأجره والد الطفلين (حنا الياس الرحبانى) والذي يقع في منطقة "الفوار" على تخوم بلدة انطلياس شمال لبنان، حيث الطبيعة الجبلية والمناخ اللبناني المعروف، مما جعله مكانا شعبيا لأولئك الذين يبحثون عن جلسة هادئة وسعيدة فى بيئة ريفية محاطة بمكونات الطبيعة الجميلة، من خلال تربيتهم في البيئة الجبلية المحاطة بجبال عالية خضراء ومناخ شهير بالجمال وهارمونية الألوان ومياه الجداول ومناطق خلابة ومزارع وأنهار وسواحل أضافت إليها أيادي البشر ما يزيد من متعة الالتصاق بها ومبادلتها المشاعر والاهتمام بمصداقية العطاء.
أما فيروز فقد ولدت فيروز لأب كاثوليكي سرياني من مدينة ماردين في تركيا حاليا، وأم مارونية، فى منطقة جبال الأرز، التي تعتبر أعلى قمة في بلاد الشام وتقع في شمال لبنان على سلسلة الجبال الغربية وتمتد على طولها بشكل يوازى البحر الأبيض المتوسط وهى أحد أبرز المناطق السياحية هناك حيث تشتهر بوجود شجر الأرز المُعمر الذي هو رمز لبنان وتسمى منطقة الدبية، وقد ولدت فيروز باسم نهاد حداد وهى المولودة الأولى لرزق وديع حداد ووالدتها ليزا البستاني، فى 21 نوفمبر 1935، أي في السن الذي ولد فيه عاصي رحبانى، كانت البنت الكبرى لوالدها لثلاثة أخوه هما (هدى وآمال وجوزيف) انتقلت بعد عامين إلى بيروت وسكنوا في زقاق البلاط الحي القديم المجاور لبيروت، حيث كان يعيش الناس من جميع الطوائف من زمن بعيد ولأجيال في حياة مشتركة وآمنة، ويعتبر هذا الحي التي سكنته فيروز وعائلتها من الأحياء المهمة في تاريخ لبنان.
عاشت فيروز في منزل متواضع مكون من غرفة واحدة، وكانوا يتشاركون في المطبخ والأدوات الأخرى، وكان وديع حداد متواضع الحال، يعمل عاملا في مطبعة وكان هادئًا، حسن الأخلاق مُحب لجيرانه ومحبوب منهم.
نشأت في معاناة معيشية ربما لم تشعر بها لوجود الجيرة التي انتسبت بها وتبادلا معزة خاصة، كما أن التركيبة الإنسانية لديها مسقوفة بالرضا والبساطة وهى لم تتطلع إلى مستويات عالية لم ترها أو تشعر بها ربما لانشغالها بشئون المنزل وبتربية أخواتها وبهوايتها اليومية، فكانت تقضى حياتها راضية غير قنوطة، بل العكس كانت تصف هذه الأيام أنها أيام سعيدة، والواقع أن هذه المعاناة لها معادل داخل النفس، فقد تركت نوعًا من الآسي والخنوع لشدة الحال، وأشعلت الشعور بالوحدة الداخلية والاستسلام كنوع من الرضا، ولكن هذه المشاعر أضاءت لها طريق العصامية، فأصبحت تُقدر معنى المعاناة وأصبح عندها حٍس معنوي وحٍس صوتي للتعبير عن كافة أنواع المشاعر، كما خلق بداخلها دوافع الجلد والإيثار، وأصبحت قدراتها الصوتية مُسلحة بهذه المعاني، وهذا هو المعنى الحقيقي لمعاناة الفنان المبدع أن تكون ظروف الحياة وملابساتها في ظل حياة كادحة بسيطة دافعًا قويًا في تكوينه الداخلي، حيث أنه لمس بحسه كل المشاعر إن كانت مادية أو معنوية. إن العلامات السوسيولوجية في حياة فيروز شكلت بداخلها نوعًا من المعاناة الإيجابية أثقلت مفهومها الإبداعي الصوتي في طرح الغناء بتلوين بسيط وسلس دون تكلف حتى في الحالات التي كانت تستدعى غناء تطريبيًا.
وللحديث بقية