الشعبوية ضد العلم: جوائز نوبل في زمن التغير المناخي وما بعد كورونا
تاريخ النشر: 3rd, October 2023 GMT
لا يوجد سوى عدد محدود من الجوائز التي تتمتع بمكانة أكبر من جوائز نوبل. تُكرم مثل هذه الجوائز في الغالب باحثين في فئات علمية مختلفة بعد أن اكتسبوا مكانة في تخصصاتهم على مدار عقود. لكن على مستوى المجتمع اهتزت هذه المكانة التي يحظى بها العلم في السنوات الأخيرة: إذ أصبحت الأصوات الشعبوية في السياسة والمجتمع المدني تشكك علناً بشكل متزايد في النتائج العلمية، مثل تلك المتعلقة بأزمة المناخ وجائحة كورونا، وذلك دون أن تقدم حججاً مضادة محددة.
في مثل هذه الأوقات قد تصبح جوائز نوبل أكثر أهمية. ومن المقرر الإعلان عن الفائزين بها هذا العام ابتداء من يوم الاثنين المقبل (2 تشرين الأول/أكتوبر 2023) في ستوكهولم وأوسلو، بدءاً من الفئات العلمية الخاصة بالطب والفيزياء والكيمياء.
وإذا ذهبت الجوائز هذه المرة إلى نتائج حول موضوعات راهنة نسبياً تمس المواطنين مثل تطوير لقاحات كورونا، فقد يعزز ذلك أيضاً الثقة في الحقائق العلمية. ودائما ما تظل أسماء الفائزين بجوائز نوبل سراً حتى لحظة الإعلان الرسمي عنهم.
مقارنة بين ألمانيا وأمريكا
يقول عالم الاتصالات ماتياس كورينغ من جامعة مانهايم الألمانية: "لقد أصبحت الشعبوية المناهضة للعلم بالفعل أداة تعبئة سياسية"، موضحاً أن النخب السياسية - أو كما يُطلق عليهم في اللغة الشعبية "أولئك الذين في الأعلى" - تحاول استغلال قضايا علمية من أجل توليد صدى سياسي.
يقول كورينغ: "ما يمكنك ملاحظته هو الاستقطاب بين السكان، وهو ما يسعى إليه السياسيون الشعبويون، ويوسعونه قدر الإمكان، ويستغلونه باستمرار"، مشيراً إلى أن هذا الاستقطاب في الولايات المتحدة وصل إلى مدى أكثر حدة مما هو عليه في ألمانيا.
كانت أيضاً الثقة في النتائج العلمية ومكافحة المعلومات المضللة موضوعاً يشغل فلك جوائز نوبل منذ سنوات. فقد حذرت مؤسسة نوبل خلال قمة جوائز نوبل حول موضوع "الحقيقة والثقة والأمل" التي عقدت في واشنطن في نهاية أيار/مايو الماضي قائلة: "المعلومات الكاذبة تضر بثقتنا في العلوم وتمثل خطراً بأن تصبح واحدة من أكبر التهديدات لمجتمعنا اليوم". وفي ذلك الوقت دعت المؤسسة فائزين بجوائز نوبل وخبراء لاستكشاف كيفية مكافحة هذه الاتجاهات.
"العالم لديه مشكلة"
وقال المدير التنفيذي لمؤسسة نوبل، فيدار هيلجيسن: "نرى في جميع أنحاء العالم أن هناك جهوداً ممنهجة للغاية لتقويض العلوم والحقيقة وتمزيق أجزاء كبيرة من النسيج الاجتماعي للمجتمع... نحن إذن أمام مشكلة. العالم لديه مشكلة".
ودعمت عالمة الجيوفيزياء ورئيسة الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم، مارسيا ماكنوت، تحذيرات هيلجيسن قائلة: "عندما ننظر إلى تأثيرات المعلومات الكاذبة والمضللة، نجد أنها لا تقتصر على العلم. نراها في السياسة، وفي الصحة، ونراها في المجتمع بأكمله". وأضافت في تصريحات أخرى: "العلم لا يكتمل أبداً، ولا يكون مثاليا أبداً، لكنه أفضل ما لدينا".
عندما يُجرى الإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل هذا العام لتكريمهم على اكتشافاتهم الاستثنائية، سيصبح كبار العلماء مرة أخرى في مرمى اهتمام الجمهور العالمي. وبحسب وصية مخترع الديناميت ومؤسس الجائزة ألفريد نوبل (1896-1833)، فإن الهدف من الجائزة هو تكريم أولئك الذين قدموا للإنسانية أكبر فائدة من خلال اكتشافاتهم. تبلغ قيمة جوائز هذا العام أحد عشر مليون كرونة سويدية (حوالي 930 ألف يورو) لكل فئة، أي بزيادة قدرها مليون كرونة عن العام الماضي.
طقس منعزل عن الواقع؟
يشكك عالم الاتصالات كورينغ فيما إذا كانت الجوائز الشهيرة يمكن أن تكون مصدراً للثقة في العلوم، مشيراً إلى أن جوائز نوبل يمكن أن تضطلع بالتأكيد بدور في تسليط الضوء على أهمية العلم، فهي تكرم في نهاية المطاف إنجازات تاريخية، لكنه يرى أن منح جوائز نوبل صار يمثل طقساً "منعزلاً عن الواقع إلى حد ما" بالنسبة لأولئك الذين يؤمنون بالعلم في كل الأحوال، وقال: "سوف ينظر الأشخاص المتشككون إلى هذا باعتباره تربيتة تأكيدية على ظهر المعسكر المضاد"، موضحاً بعبارة أخرى أن من لا يؤمن بالعلم، فلن يكون مهتماً بجوائز نوبل.
ويرى كورينغ أن عدم ذهاب جائزة نوبل في الطب السنوات الماضية إلى مطوري لقاحات كورونا، الذين أنقذوا في النهاية أرواحاً لا حصر لها حول العالم، يمثل فرصة ضائعة. وكان مطورو لقاحات تقنية الرنا المرسال (mRNA) من بين أبرز المرشحين للفوز بالجائزة منذ أزمة كورونا عام 2020، لكنهم حتى الآن يخرجون خاليي الوفاض من الجائزة. يقول كورينغ إنه حتى لو تم تكريمهم هذه المرة، "لن يتم اكتساب ثقة منكري كورونا ومعارضي اللقاحات المتشددين".
المصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: جوائز نوبل
إقرأ أيضاً:
محمد بن يزيد المبرّد
ولد الشاعر واللغوي والنحوي الكبير "محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الثمالي" في البصرة عام 210 للهجرة، ويعود محمد بن يزيد في جدوره إلى (مُقاعس) إحدى قرى الباطنة، سافر أهله إلى البصرة التي كانت في تلك الفترة عاصمة الفكر والثقافة والاقتصاد، حيث كانت البصرة تضم بين أروقة مساجدها عددا كبيرا من حلقات العلم، وكان علماء وأدباء البصرة قد تصدروا العلماء والأدباء، وصارت لهم رئاسة العلم في العالم الإسلامي، وكانت العديد من العائلات في شبه الجزيرة وبلاد فارس تهاجر للبصرة للاشتغال في التجارة، وتحصيل العلم ومجالسة العلماء.
كان محمد بن يزيد الأزدي حافظًا لأشعار العرب، ونبغ في علم النحو، وامتلك مهارة في المناظرة والحِجَاج، وكان لا يناظر أحد إلا غلبه، فلقبه أستاذه المازني بالمُبَرِّد أي المثبت للحق، وسبب في هذا اللقب أن المازني حين كتب كتاب "الألف واللام"، أخذ يناقش تلميذه محمد بن يزيد في كثير مما جاء في الكتاب، وكان المبرد يجيبه على كل ما يسأله، فلقبه بالمبرد. أي أن جوابه يُبَرد القلب، ويبعث فيه الطمأنينة. ويقدم السيوطي سببًا آخر لتسمية محمد بن يزيد بالمُبَرِّد، فيقول" لأنه كان يسكت مخالفيه بالحجة الدامغة، فكأن الحيرة والجهل نار تشتعل في صاحبها، فإذا جاءه برد اليقين والعلم تبرد به". أما المُصْحَفِّيُّ فيقول:" إن المبرَّد بفتح الراء، لحسن وجهه، ويقال رجل مُبَرَّد ومُقَسَّم ومُحَسَّن إذا كان حَسُنَ الوجهِ".
تعلم محمد بن يزيد الأزدي في طفولته القرآن والحساب وعلوم اللغة على يد معلمي الكتاتيب في البصرة، ووجدت أسرته فيه ذكاء متقد ولديه رغبة شديدة لتحصيل العلم، فجعلته يتفرغ للدراسة والقراءة على يد مجموعة من علماء البصرة من أمثال: بكر بن محمد بن عثمان البصري المازني، وصالح بن إسحاق البصري، وأبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان الجشمي وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وإبراهيم بن سفيان الزيادي، والعباس بن الفرج الرياشي. وقرأ على يديهم مجموعة من كتب النحو مثل كتاب سيبويه، وكتب الخليل بن أحمد الفراهيدي.
اشتهر المبرد أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي ببلاغته وحسن جوابه، ونجابة تصرفه في المواقف وكان المبرد يحب أن يستعرض مهاراته في الجدال وتقديم الحجج والأدلة على صحة رأيه، فيدخل في نقاشات نحوية كثيرة مع شيخ علماء الكوفة النحوي أبي العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار الشيباني المعروف بلقب ثعلب، ويكنى بأبي العباس، وهو إمام المدرسة الكوفية في النحو، والمبرد إمام المدرسة النحوية البصرية، وكان ثعلب يتحاشى المبرد، ويتجنب الدخول معه في أي حوارات؛ لأن المبرد يمتلك مهارة الجدال ولديه سرعة بديهة في الرد، وكثيرا ما كان ينتصر عليه مما يسبب لثعلب الإحراج بين طلابه. وحكى أبو بكر بن السراج عن محمد بن خلف، قال: كان بين أبي العباس المبرد وأبي العباس ثعلب من المنافرة ما لا خفاء به؛ ولكن أهل التحصيل يفضلون المبرد على ثعلب، وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام:
رأيت محمد بن يزيد يسمو... إلى الخيرات في جاه وقدر
جليس خلائف وغذيّ ملكٍ... وأعلم من رأيت بكل أمر
وكان الشعر قد أودى فأحيا... أبو العباس دارس كل شعر
وقالوا ثعلب رجلٌ عليم... وأين النجم من شمس وبدر!
وقالوا ثعلبٌ يفتي ويملي... وأين الثعلبان من الهزبر!
وبالإضافة إلى ما تميز به المُبرِّد من فصاحه وبيان، عرف عنه أنه صاحب خط جميل، قال عنه القَفْطِّي:" كان أبو العباس محمد بن يزيد من العلم، وغزارة الأدب، وكثرة الحفظ، وحسن الإشارة، وفصاحة اللسان، وبراعة البيان، وملوكية المجالسة، وكرم العشرة، وبلاغة المكاتبة، وحلاوة المخاطبة، وجودة الخط، وصحة القريحة، وقرب الإفهام، ووضوح الشرح، وعذوبة المنطق، على ما ليس عليه أحد ممن تقدمه أو تأخر عنه".
يعد كتاب المبرد الكامل في اللغة والأدب، أحد ركائز علوم اللغة العربية وأحد أسباب تطور علومها، قال عنه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون:" وقد سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى ذلك فتبع لها وفروع عنها". وكان طلاب العلم يحرصون على دراسته ومناقشة ما جاء فيه من معلومات ودارستها، قال عن ذلك القاضي الفاضل: " طالعته سبعين مرة، وكل مرة ازداد منه فوائد". ولا يتخرج طالب العلم إلا بعد أن قرأ كتاب الكامل ووعى ما فيه من علوم ومعارف.
يكشف الكتاب الكثير من جوانب المبرد الثقافية، فالكتاب يعكس موسوعية المبرد وثقافته الواسعة، وذخيرته الفكرية، ليخلد هذا الكتاب وغيره من مؤلفات المبرد في التاريخ الإنساني، وتجعل من المبرد علامة فارقة في علوم اللغة العربية.
قرر المبرد التفرغ لتدريس طلاب العلم، فتعلم على يديه مجموعة كبيرة من محبي النحو والأدب العربي، وكانت الرحال تُشَقُ إليه، والنفوس المحبة للمعرفة تهفو إليه، وتخرج على يدي المبرد مجموعة كبيرة من العلماء ممن لهم إسهامات جليلة في الحقل المعرفي، من أبرزهم إبراهيم الزَجَّاج البغدادي النحوي، الذي يُعَد أحد أبرز علماء اللغة وصاحب وزير المعتضد بالله، عبيدالله بن سليمان بن وهب، وله مؤلفات أهمها كتاب الأنواء، وكتاب العروض، ووكتاب القوافي، وكتاب خلق الإنسان. وممن تعلم على يد المبرد محمد بن السَّري بن سهل ويعرف بابن السرَّاج، الذي تولى رئاسة العلم بعد المبرد، وكتب كتاب الأصول في النحو. ومحمد بن أحمد بن كِيسان أبو الحسن النحوي، أحد أبرز علماء النحو في بغداد جمع بين آراء المدرستين البصرية والكوفية، كتب كتاب المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه البصريون والكوفيون، قال عنه أبو حيان التوحيدي: "ما رأيت مجلسا أكثر فائدة وأجمع لأصناف العلوم وخاصة ما يتعلق بالتحف والطرف والنتف من مجلس ابن كِيسان". وقال أبو بكر مجاهد عن أبي الحسن كيسان" أبو الحسن بن كيسان أنحى من الشيخين يقصد المبرد وثعلب". وممن نال شهرة واسعة من تلامذة المبرد أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل العسكري، شرح مؤلفات سيبويه والأخفش وكتب كتاب النحو المجموع على العلل وكتاب شرح الكتاب الأوسطي. ومن تلامذة المبرد النجباء إبراهيم بن محمد الكلابزي، الذي لمع نجمه في العلم والأدب وتولى قضاء الشام.
ترك المبرد أكثر من أربعين مصنفا بعضها لا زال موجودا طبع أكثر من مرة مثل كتاب المقتضب وكتاب المقصور والممدود وكتاب المذكر والمؤنث وكتاب طبقات النحويين البصريين وأخبارهم وكتاب شرح لامية العرب وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد. أما الكثير من كتب المبرد فلا تزال مفقودة.
توفي المبرد بعد حياة حافلة غنية بالعلم والمعرفة في عام 285 هـ ودفن في مقابر باب الكوفة ببغداد. قال عنه البحتري:
ما نالَ ما نالَ الأَميرُ مُحَمَّدٌ إِلّا بِيُمنِ مُحَمَّدِ بنِ يَزيدِ
وَبَنو ثُمالَةَ أَنجُمٌ مَسعودَة فَعَلَيكَ ضَوءُ الكَوكَبِ المَسعودِ
شَفَعَت خُراسانُ العِراقِ بِزَورَةٍ مِن زائِرٍ طَرِفِ اللِقاءِ جَديدِ
ذاكَ المُبارَكُ خِلَّةٌ وَلَرُبَّما مُنِيَ الجَليلُ بِأَشأَمٍ مَنكودِ
أما العالم الكبير ثعلب فلقد قال حين بلغه موت المبرد:
ذهب المبرد وانقضت أيامه... وليذهبن مع المبرد ثعلبا
بيتٌ من الآداب أضحى نصفه... خربًا وباقي النصف منه سيخرب
فتزدوا من ثعلب فبكأس ما... شرب المبرد عن قريب يثرب
أوصيكمو أن تكتبوا أنفاسه... إن كانت الأنفاس مما يكتب